ج4 - ف137

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

137- (يسوع يمشي على المياه)

 

04 / 03 / 1944

 

تَقدَّمَ المساء. وأوشَكَ الليل أن يحلّ، إذ بالكاد تُرى الدروب الصاعدة على منحدر تُرى فيه، هنا وهناك، أشجار، تبدو لي أنّها أشجار زيتون، إنّما بسبب قلّة الضوء لا يمكنني التأكيد على ذلك. بالنتيجة، إنّها أشجار مِن الحجم المتوسط، إيراقها كثيف، وهي ملتوية كما هي عادة أشجار الزيتون.

 

يسوع وحده، يرتدي الأبيض مع معطفه الأزرق الداكن. يَصعَد ويتغلغل بين الأشجار. يسير بخطى واسعة ومطمئنّة، بدون عجلة، ولكن بسبب طُول خطواته فإنّه، بغير استعجال، يقطع مسافات طويلة. يسير حتّى يَصِل إلى شُـرفة طبيعيّة نوعاً ما، حيث يمتدّ النَّظر على البحيرة الساكنة تماماً تحت ضوء النجوم، والتي تتلألأ فيها الآن عيون النور في السماء. يلفّ الصمت يسوع بعناقه المريح. ينتزعه مِن الجموع ومِن الأرض، ويُنسيه إيّاها، موحِّداً إيّاه بالسماء، التي تبدو وكأنّها تنـزل لعبادة كلمة الله وملاطفته بنور نجومها.

 

يسوع يصلّي بوضعيته الاعتياديّة: واقفاً، وذراعاه على شكل صليب. خلفه شجرة زيتون ويبدو وكأنّه مصلوب على ذاك الجذع القاتم. الإيراق يتجاوزه قليلاً، لضخامته، ويَستَبدِل الكتابة التي على الصليب بكلمة تُناسِب المسـيح. فهناك: "مَلِك اليهود". أمّا هنا: "فأمير السلام". زيتون السلام يُعبِّر عن نفسه جيّداً لِمَن يَعرف الإنصات. يصلّي يسوع مطوّلاً، ثمّ يَجلس على الشُّرفة التي هي بمثابة القاعدة لشجرة الزيتون، على جذر ضخم، ويأخذ وضعيّته الاعتياديّة: اليدان مضمومتان والمرفقان على الركبتين. إنّه يتأمّل. مَن يدري أيّ حوار إلهيّ يتبادل مع الآب والروح في هذه اللحظة التي هو فيها وحيد، وقد يكون بِكُلّيته لله. الله مع الله!

 

يبدو لي أنّ ساعات كثيرة مرّت على هذه الحال، إذ إنّني أرى النجوم وقد تبدَّلَت أمكنتها، وكثيرة منها تكاد تغيب.

 

تماماً عندما يبدأ، في الأفق البعيد مِن الشرق، ارتسام ما يُشبه النور، أو بالأحرى الإشراق، لأنّه لا يمكن تسمية هذا نوراً بَعد، نسمة هواء تُحرِّك شجرة الزيتون. بعد ذلك، يُخيّم الهدوء. ثمّ يُعاوِد الهواء بأكثر شدّة. ومع وقفات مُختزلة يصبح أكثر فأكثر شدّة. نور الفجر الذي كان بالكاد قد بدأ، توقَّف تزايده بسبب كتلة مِن الغيوم السوداء التي تأتي لتغطّي السماء، مدفوعة بنفحات مِن الهواء الذي يشتدّ باستمرار. والبحيرة كذلك فَقَدَت سكونها. يبدو لي أنّ زوبعة سـتهب عليها مثل تلك التي رأيتُها في رؤيا العـاصفة. يملأ  المكان الآن حفيف الأوراق وصَخَب الأمواج، ثمّ تُخيّم لحظة سكون تام.

 

يَقطَع يسوع تأمّله. يَنهَض. يَنظُر إلى البحيرة. يبحث فيها، على ضوء النجوم الباقية مِن الفجر المريض، ويَرى مَركَب بطرس الذي يتقدّم بصعوبة صوب الشاطئ المقابل، ولكنّه لا يَصِل. يتدثّر يسوع بمعطفه رافعاً طَرَفه الذي يُجرّ، والذي يضايقه أثناء النـزول، ليضعه على رأسه وكأنّه قلنسوة، وينـزل مُسرعاً، ليس عَبْر الطريق التي كان قد سَلَكَها، بل عَبْر مَسلك سريع يَصِل مباشرة إلى البحيرة. إنّه يَمضي بسرعة لدرجة أنّه يبدو وكأنّه يطير.

 

يَصِل إلى الشاطئ الذي ضَرَبَته الأمواج التي تجعل على الرمل حاشية صاخِبَة ومُزبِدة. يُتابع طريقه مسرعاً كما لو لم يكن يسير على عناصر سائلة وهائجة، إنّما على دَفّ أملَس وصُلب. الآن يُصبِح هو نوراً. يبدو أنّ النور الذي ما زال يأتي مِن نجوم الفجر العاصف القليلة التي تنطفئ، يتركّز عليه، ويُشكِّل نوعاً مِن الوميض الفوسفوريّ الذي يُنير جسده الممشوق. يطير على الأمواج، على قمم الأمواج الـمُزبِدة، في الطيّات المظلمة بين الأمواج، والذراعان مَمدودان إلى الأمام، والمعطف مُنتَفِخ حول الخدين ويخفق قدر ما يسمح به وضعه المشدود حول الجسم، وهو يُرفرِف كالأجنحة.

 

يَراهُ الرُّسُل ويُطلِقون صَرخَة هَلَع تَحمِلها الرياح إلى يسوع.

 

«لا تخافوا. أنا هو.» صوت يسوع، رغم الريح المعاكسة، يَنتَشِر دون صعوبة على البحيرة.

 

«هل هذا حقاً أنتَ يا معلّم؟» يَسأَل بطرس. «إذا كنتَ أنتَ هو فمُرْني أن آتي إليكَ ماشياً مثلكَ على المياه.»

 

يبتسم يسوع: «تعال.» يقولها بكلّ بساطة، كما لو أن المشي على المياه كان الأمر الأكثر طبيعيّة في العالم.

 

وبطرس، على ما هو عليه، نصف عار بقميص قصير دون أكمام، يَقفز مِن فوق حافة الـمَركَب ويمضي صوب يسوع.

 

ولكنّه، ما أن يُصبح على مسافة حوالي خمسين متراً مِن الـمَركَب، وتقريباً مثلها مِن يسوع، يأخُذه الخوف. حتّى الآن كان محمولاً باندفاع حبّه. الآن تملَّكَه الحسّ الإنسانيّ، و... يَرتَعِد خوفاً على حياته. كَمَن وُجِدَ على أرض تَحتَجِب تحته، أو على رمال متحرّكة، يبدأ بالترنّح والاضطراب والغرق. وكلّما اضطَرَبَ وارتَعَدَ مِن الخوف كلّما غَرِق أكثر.

 

يتوقّف يسـوع ويَنظُر إليه. إنَّه جادّ وينتظر، ولكنّه لا يمدّ لـه حتّى يـده. يُبقي ذراعيه متصالبتين. ولا يعود يتقدّم خطوة ولا يتفوّه بكلمة.

 

بطرس يَغرَق. يَغيب الكَعبَان ثُمّ الساقان ثُمّ الركبتان. تَصِل المياه إلى الورك وتتجاوزه، تَصعَد صَوب الحِزام. وترتسم علائم الرعب على وجهه. الرعب الذي يَشلّ الفِكر أيضاً. لَم يَعُد سِوى جَسَد يَخشَى الغَرق. لم يفكّر حتّى أن يرتمي في الماء. لم يفكّر في شيء. فلقد أصابه البَلَه مِن الخوف.

 

في النهاية قرّر النَّظَر إلى يسوع. ويكفي أن ينظر إليه حتّى يبدأ روحه يُفكِّر ويُدرِك أين يَكمُن الخلاص. «يا معلّم، يا ربِّ نجّني.»

 

يفكّ يسوع ذراعيه، وكما لو كان محمولاً على الريح والماء، يُسرِع باتّجاه الرّسول ويمدّ له يده قائلاً: «آه! يا قليل الإيمان. لماذا شككتَ بي؟ لماذا أردتَ التصرّف بمفردكَ؟»

 

يتشبّث بطرس بيد يسوع، ولا يُجيب. يَنظُر إليه ليرى ما إذا كان غاضباً، يَنظُر إليه ببقيّة مِن خوف ممزوج بالندم الذي يَفيق.

 

ولكنّ يسوع يبتسم ويمسك به بشـدّة بقبضته إلى أن يَصِلا إلى الـمَركَب ويجتازا الحافّة ويَدخُلاه. ويأمر يسوع: «اذهبوا إلى الشاطئ. فإنّه مبلَّل تماماً.» ويبتسم لدى رؤيته التلميذ متصاغراً.

 

تهدأ الأمواج لِتُسهّل عمليّة الرسوّ، والمدينة التي شوهدت سابقاً مِن أعلى الرابية، تَظهَر خلف الشاطئ.

 

وهنا تتوقّف الرؤيا.