ج7 - ف220

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

220- (التبشير في أريحا)

 

02 / 11 / 1946

 

يَخرج يسوع مِن منزل زكّا. الصبيحة متقدّمة. بصحبته زكّا، بطرس ويعقوب بن حلفى. الرُّسُل الآخرون ربّما يكونون متفرّقين في الأرياف للإعلان بأنّ المعلّم في المدينة.

 

خلف مجموعة يسوع مع زكّا والرسولين، هناك مجموعة أخرى، كثيرة… التنوّع في الملامح، العمر، اللباس. ليس صعباً التصريح بيقين أنّ هؤلاء الرجال ينتمون إلى أعراق مختلفة، ربّما حتّى معادين لبعضهم البعض. إنّما أحداث الحياة قد قادتهم إلى هذه المدينة الفلسطينيّة وجمعتهم، كيما يرتقوا مِن أعماقهم نحو النور. إنّها بمعظمها وجوه ذابلة لأشخاص استَهلكوا الحياة وأفرطوا في استهلاكها بطرق عديدة، عيون متعبة بالنسبة للأغلبيّة، وفي آخرين، نظرات جعلها الاعتياد الطويل على امتهان… السلب الضريبي أو القيادة الشرسة، جشعة وقاسية، وأحياناً نظرتهم القديمة تلك تعاود الظهور مِن تحت حجاب متواضع ومتأمّل أسدلته الحياة الجديدة، وذلك يحدث خصوصاً عندما ينظر إليهم أحد ما مِن أريحا باحتقار، أو يتمتم ببعض الكلمات الوقحة ضدّهم، ثمّ يعود نظرهم متعباً، متواضعاً، وتعاود رؤوسهم الانخفاض بمذلّة.

 

يسوع يلتفت مرّتين كي ينظر إليهم، وإذ رآهم إلى الوراء، وقد جَعلوا خطواتهم أكثر تباطؤاً كلّما اقتربوا مِن الموضع المختار للتحدّث، وقد امتلأ بالناس، فإنّه يبطئ سيره لانتظارهم، وأخيراً يقول لهم: «تقدّموني ولا تخافوا. لقد تحدّيتم العالم عندما كنتم ترتكبون الشرّ، فيجب ألاّ تخافوا الآن وقد تجرّدتم منه. إنّ ما استخدمتموه آنذاك لترويضه: اللامبالاة حيال حكم العالم، السلاح الوحيد الّذي يعييه عن الحكم، استخدموه كذلك الآن، وهو سوف يسأم مِن الانشغال بكم، وهو سوف يتشرّبكم، ولو على مهل، مُبدّداً إيّاكم في الكتلة الكبيرة المجهولة الّتي هي هذا العالم البائس، الّذي يُعطى، في الحقيقة، الكثير مِن الأهميّة.»

 

الرجال، الخمسة عشر، يطيعون ويتقدّمون.

 

«يا معلّم، ها هم مرضى الريف هناك.» يقول يعقوب بن زَبْدي وهو يمضي لملاقاة يسوع، ومشيراً إلى زاوية جعلتها الشمس دافئة.

 

«أنا قادم. أين هم الآخرون؟»

 

«بين الناس. لكنّهم رأوكَ وسوف يأتون. معهم أيضاً سليمان، يوسف الذي مِن عِمّاوس، يوحنّا الذي مِن أفسس، فيلبّس الذي مِن أربيلا. إنّهم يمضون إلى منزل هذا الأخير، ويأتون مِن يافا، اللدّ ومودين. بصحبتهم رجال ونساء مِن الساحل. كانوا يبحثون عنكَ، حيث أنّ هناك خلافاً فيما بينهم حول الحكم على امرأة. لكنّهم سوف يتحدّثون معكَ...»

 

وبالفعل سرعان ما يحيط بيسوع بقيّة التلاميذ الّذين يحيّونه بإجلال. خلفهم أولئك الّذين تمّ جذبهم حديثاً إلى مذهب يسوع. إنّما يوحنّا الذي مِن أفسس غير موجود، ويسوع يَسأَل عن سبب ذلك.

 

«لقد توقّف مع امرأة ومع أهلها في أحد المنازل بعيداً عن الناس. أمّا المرأة فلا أحد يعلم إذا ما كانت ممسوسة أم نبيّة. هي تقول أموراً مذهلة، على حدّ قول أهل بلدتها. لكنّ الكَتَبَة الّذين سمعوها حكموا بأنّها ممسوسة. أهلها قد استدعوا طاردي الأرواح عدّة مرّات، لكنّهم لم يستطيعوا طرد الشيطان الّذي يستحوذ عليها ويجعلها تنطق. إلّا أن أحدهم قال لوالد المرأة (إنّها أرملة عذراء قد بقيت في عائلتها): "لابنتكَ يلزم المسيا يسوع، هو سيفهم كلامها وسيعرف مِن أين مصدره. أنا قد حاولت أن أفرض على الروح الّذي يتكلّم فيها بأن يرحل باسم يسوع المدعوّ المسيح. فلطالما هربت أرواح الظلمات حين استخدمتُ هذا الاسم. هذه المرّة لا. لهذا أقول أنّه إمّا بعلزبول بذاته الّذي يتكلّم، ويتمكّن مِن مقاومة حتّى هذا الاسم الّذي أتلفّظ به، وإمّا أنّه روح الله ذاته، وبالتالي لا يخاف كونه واحداً مع المسيح. أنا مقتنع بهذا أكثر مِن الأمر الأوّل. إنّما، كي أكون متأكّداً مِن ذلك، فوحده المسيح يستطيع أن يحكم. هو يفهم الكلام وأصله". وقد أساء الكَتَبَة الحاضرون معاملته، حيث قالوا بأنّه ممسوس مثل المرأة ومثلكَ. اغفر لي إذا كان عليَّ أن أقول ذلك… وبعض الكَتَبَة ما عادوا أفلتونا، وهناك مَن يحرس المرأة لأنّهم يريدون التأكّد فيما إذا كانت قد أُخطِرَت بوصولكَ. لأنّها تقول بأنّها تعرف وجهكَ وصوتكَ، وبإمكانها أن تتعرّف عليكَ مِن بين الآلاف، فيما هو ثابت أنّها لم تخرج أبداً مِن بلدتها، ولا حتّى مِن منزلها، مِن الوقت الّذي مات فيه زوجها عشيّة حفل العرس، منذ خمسة عشر عاماً مضت، وثابت أيضاً أنّكَ لم تمرّ أبداً ببلدتها الّتي هي بيت ليخي. والكَتَبَة ينتظرون هذا الإثبات الأخير لإعلانها ممسوسة. هل تريد أن تراها في الحال؟»

 

«لا. عليَّ أن أتحدّث للناس. وسيكون صاخباً جدّاً اللقاء هنا، وسط الحشد. اذهب وقل ليوحنّا الذي مِن أفسس ولأهل المرأة، وأيضاً للكَتَبَة، أنّني أنتظرهم عند بداية غياب الشمس في الأحراج على طول النهر، عند مَسلَك المخاضة. اذهب.»

 

ويسوع، بعد صرف سليمان، الّذي تكلّم باسم الجميع، يقصد المرضى الّذين يطلبون الشفاء ويشفيهم. هناك امرأة عجوز قد صَلَّبها التهاب المفاصل، مشلول، شاب معتوه، فتاة أقول إنّها مسلولة، واثنان عيونهما مريضة.

 

الناس يُطلِقون صيحات فرح مدوّية.

 

لكنّ سلسلة المرضى لم تنته بعد، تتقدّم أُمّ، قد شَوّهها الغمّ، تسندها صديقتان أو قريبتان، وتركع لتقول: «ابني يحتضر، لا يمكن جلبه إلى هنا… ارحمني!»

 

«هل يمكنكِ الإيمان بغير حدّ؟»

 

«كلّ شيء يا ربّي!»

 

«إذن عودي إلى منزلكِ.»

 

«إلى منزلي؟… مِن دونكَ؟...» المرأة تنظر إليه لبرهة بقلق، ثمّ تفهم. الوجه المسكين يشرق. تصيح: «إنّني ذاهبة يا ربّ. مبارك أنتَ والعليّ الّذي أرسلكَ!» وتمضي راكضةً، بأكثر رشاقة مِن رفيقتيها نفسيهما…

 

يسوع يستدير نحو شخص وقور مِن أريحا. «هل هذه المرأة عبرانيّة؟»

 

«لا. أقلّه ليس بالولادة. إنّها آتية مِن ميليت، إلّا أنّها تزوجت مِن واحد منّا، ومذ ذاك تُشاركنا إيماننا.»

 

«لقد أحسنت الإيمان بأفضل مِن عبرانيّين كثيرين.» يلاحظ يسوع.

 

ثمّ، إذ قد صعد إلى أعلى درج منزل، يقوم بحركة فتح ذراعيه المعتادة، الّتي تسبق كلامه وتفيد بفرض الصمت. وإذ بلغه، يجمع ثنايا ردائه، الّذي انفتح عند الصدر عند قيامه بحركته، ويثبّته باليد اليسرى فيما يخفض اليد اليمنى في حركة مَن يؤدّي قَسَماً، ويقول: «اسمعوا أيا سكّان أريحا أمثال الربّ، ومِن ثمّ ليتأمّل فيها كلّ واحد في قلبه، ويستخلص منها الدرس ليغذّي روحه. بإمكانكم فِعل ذلك لأنّكم لستم منذ الأمس، ولا منذ القمر الأخير، ولا حتّى منذ الشتاء الماضي تعرفون كلمة الربّ. فقبل أن أكون المعلّم، إنّ يوحنّا، سابِقي، قد أعدّكم لمجيئي، ومذ أصبحتُ كذلك، فإنّ تلاميذي قد حرثوا هذه الأرض سبع وسبع مرّات ليبذروا فيها كلّ البِذار الّتي أعطيتُهم إيّاها. وبالتالي يمكنكم أن تفهموا الكلمة والـمَثَل.

 

بِـمَن أُشبّه أولئك الّذين، بعد أن كانوا خطأة، قد اهتدوا؟ أُشبّههم بمرضى يُشفون.

 

بِـمَن أشبّه الآخرين الّذين لم يرتكبوا الخطايا الجسيمة جهاراً، أو الّذين، وهم أندر مِن اللآلئ السوداء، لم يرتكبوها أبداً، ولا حتّى في السرّ؟ أُشبّههم بأشخاص معافين.

 

العالم مؤلّف مِن هاتين الفئتين، سواء بالنسبة إلى الروح، أو بالنسبة للجسد والدمّ. لكن، إذا كان التشبيهان متماثلان، فمختلفة هي طريقة العالم في استخدامهما مع المرضى المبرئين، الّذين كانوا مرضى في جسدهم، عن تلك الّتي يستخدمها مع الخطأة المهتدين، أي مع مرضى الروح الّذين يعودون أصحّاء.

 

فما نراه: عندما حتّى الأبرص، الّذي هو المريض الأكثر خطورة والواجب عزله لأنّه خَطِر، ينال نعمة الشفاء، بعد أن يكون الكاهن قد فحصه وطَهَّره، فإنّه يُقبَل مجدّداً في المجتمع، لا وبل يحتفل أهل مدينته بشفائه، لأنّه عاد إلى الحياة، إلى العائلة، إلى الأعمال. إنّه احتفال عظيم في العائلة وفي المدينة، حينما ينجح شخص، كان أبرصاً، في نيل النعمة والشفاء! إنّه سباق بين أفراد العائلة والسكّان في جلب هذا أو ذاك مِن الأشياء، وفي تقديم سرير أو أثاث، إذا ما كان وحيداً وبلا منزل ولا أثاث، والجميع يقولون: "إنّه محبوب مِن الله. إنّ إصبعه قد شفاه. لنكرّمه إذاً، ولنكرّم مِن خلقه مِن جديد". فِعل ذلك صائب. وعندما، على العكس مع الأسف، تظهر لدى أحدهم الأعراض الأولى للبرص، فبأيّ محبّة قَلِقة يغمره الأهل والأصدقاء بالحنان، طالما أنه لا يزال مِن الممكن القيام بذلك، كما لمنحه دفعة واحدة، كلّ كنز العواطف الّتي كانوا ليمنحوه إيّاها في سنين عديدة، كي يأخذها معه إلى قبره الّذي للأحياء.

 

ولكن لماذا إذن لا يتمّ التصرّف هكذا بالنسبة للمرضى الآخرين؟ شخص يشرع بارتكاب الخطيئة، ويراه أفراد عائلته وخصوصاً مواطنوه، فلماذا لا يسعون إذن لانتزاعه مِن الخطيئة بمحبّة؟ إنّ أباً، أُمّاً، زوجةً، أختاً، يقومون بذلك أيضاً، إنّما مِن الصعب أن يفعل الإخوة ذلك، ناهيكم عن أن يفعله أبناء شقيق الأب أو الأُمّ. وفي النهاية، المواطنون، الأكثر نزاهةً منهم لا يعرفون سوى الانتقاد، السخرية، الإهانة، الشعور بالخزي، المبالغة بخطايا الخاطئ، الدلالة إليه بالإصبع، إبقائه بعيداً كما لو كان أبرصاً، أمّا غير النزيهين فيغدون شركاء له، كي يستمتعوا على حسابه. إنّما مِن النادر جدّاً أن يوجد فم، وخصوصاً قلب، يقصد البائس بشفقة وحزم، بصبر ومحبّة فائقة الطبيعة، ويهتمّ بكبح الانحدار نحو الخطيئة.

 

وكيف؟ أليس يا ترى مرض الروح أكثر خطورة، أكثر خطورة ومميتاً بحقّ؟ ألا يَحرم، وعلى الدوام، مَن ملكوت الله؟ ألا يجب أن يكون رأس فِعل المحبّة تجاه الله وتجاه القريب هو شفاء خاطئ، لخير نفسه ومجد الله؟

 

وحينما يهتدي خاطئ، لماذا هذا التعنّت في الحكم عليه، هذه الحسرة لاستعادته العافية الروحيّة؟ أترونه دحض لتخمينكم بالإدانة الأكيدة لأحد مواطنيكم؟ إنّما عليكم أن تكونوا مسرورين لذلك، لأنّ مَن يدحضه هو الله الرحوم، الّذي يمنحكم مكيالاً مِن طيبته لجعلكم تستعيدون الشجاعة بعد خطاياكم بالغة أو قليلة الجسامة.

 

ولماذا الاستمرار في الرغبة بأن تروا قَذِراً، وضيعاً، مستحقّاً للبقاء في عزلة، ما قد جعله الله وإرادة قلب صالحة: نقيّاً، رائعاً، جديراً بتقدير الإخوة، لا بل بإعجابهم؟

 

لكنّكم تبتهجون كثيراً إذا ما شُفي ثوركم، حماركم أو جَمَلكم، أو نعجة مِن القطيع، أو الحمامة المفضّلة مِن مرض ما! تبتهجون كثيراً إذا ما أحد الغرباء، الّذي بالكاد تتذكّرون اسمه لأنّكم سمعتهم عنه في الحقبة الّتي كان فيها معزولاً كأبرص، قد عاد سليماً؟ فلماذا إذن لا تبتهجون لشفاءات الروح هذه، لانتصارات الله هذه؟ إنّ السماء تبتهج عندما يهتدي خاطئ. السماء: الله، الملائكة الأنقياء للغاية، الّذين لا يعرفون ما هي الخطيئة. وأنتم، أنتم أيّها البشر، تريدون أن تكونوا أكثر تشدّداً مِن الله؟

 

اجعلوا، اجعلوا قلبكم بارّاً، اعترفوا بحضور الربّ ليس فقط في سُحُب البخور وأناشيد الهيكل، في المكان حيث وحدها قداسة الربّ، المتمثّلة في الكاهن الأعظم، يجب أن تدخل، والّذي يجب أن يكون مقدّساً كما يشير لذلك اسمه، بل الحاضر كذلك في الأعجوبة الّتي هي هذه الأرواح الـمُقامة، في تلك المذابح المكرّسة مجدّداً، الّتي تنزل عليها محبّة الله بنيرانها لإيقاد الذبيحة.»

 

تتمّ مقاطعة يسوع مِن قِبَل الأُمّ الآنفة الذكر، الّتي تريد أن تعبده بصيحات بركات. يسوع يُنصت إليها ويباركها ويصرفها إلى منزلها، ليعاود استئناف موعظته الّتي تمّت مقاطعتها.

 

«وإذا مَنَحَكم خاطئ، فيما مضى، مشهد خزي، وتلقّيتم الآن منه مشهداً بَنّاءً، فلا تحتقروه، بل اقتدوا به. فما مِن أحد كامل لدرجة أنه مِن المستحيل أن يُعلّمه آخر. والخير هو دوماً درس يجب الإنصات إليه، حتّى وإن يكن مَن يمارسه قد كان فيما مضى موضع استنكار. اقتدوا وساعدوا. فإنّكم بفعلكم ذلك تمجّدون الربّ وتُظهِرون أنّكم قد فهمتم كلمته. لا تكونوا مثل أولئك الّذين تنتقدونهم في قلوبكم، لأنّ أفعالهم لا تتطابق مع أقوالهم. إنّما تصرّفوا بحيث تأتي أفعالكم الصالحة تتويجاً لكلّ أقوالكم الصالحة. وعندئذ بحقّ سينظر ويستمع إليكم الأزليّ بحُسن التفات.

 

اسمعوا هذا المثل الآخر، لتدركوا ما هي الأمور الّتي لها قيمة في عينيّ الله. إنّه سيعلّمكم تصحيح فكرة فيكم غير صالحة، وهي في قلوب كثيرة. إنّ أغلب البشر يُصدِرون الأحكام على أنفسهم بأنفسهم، وبما أنّ إنساناً واحداً مِن ألف هو متواضع بحقّ، فيحصل هكذا أنّ كلّ إنسان يحكم على نفسه بأنّه كامل، هو وحده كامل، فيما يلاحظ لدى القريب مئات الخطايا.

 

في أحد الأيّام ذهب رجلان إلى أورشليم مِن أجل قضاء أعمال، صعدا إلى الهيكل، كما يجدر بكلّ إسرائيليّ صالح في كلّ مرّة تطأ قدمه أرض المدينة المقدّسة. أحدهما كان فرّيسياً. الآخر عشّاراً. الأوّل كان قد أتى لتحصيل إيجار بعض المتاجر، وكي يُجري حسابات مع وكلائه الّذين كانوا يسكنون في تخوم المدينة. والآخر قد أتى ليدفع الضرائب الّتي جباها، وليسترحم باسم أرملة لم تكن تستطيع دفع ضريبة القارب وشِباك الصيد، لأنّ الصيد الّذي يقوم به ابنها البكر، كان بالكاد يكفي لإطعام أطفالها الكُثُر الآخرين.

 

والفرّيسي، قبل أن يصعد إلى الهيكل، كان قد مرّ بشاغلي المتاجر، وألقى نظرة على تلك المتاجر، ورآها ممتلئة بالبضائع والمشترين، وسُرَّ في نفسه، ودعا المستأجر وقال له: "أرى أنّ تجارتكَ رائجة".

 

"نعم، بفضل الله. إنّني مسرور مِن عملي. لقد تمكّنتُ مِن زيادة البضائع وآمل بأن أفعل أكثر بعد. لقد قمتُ بتحسين المحلّ، وفي العام القادم لن تترتّب عليَّ مصاريف المناضد والرفوف، وبالتالي سوف أكسب أكثر".

 

"حسناً! حسناً! إنّني سعيد بذلك! كم تدفع لقاء هذا الموضع؟"

 

"مئة ديدرخما شهرياً. إنّه غالٍ، لكنّ الموقع جيّد..."

 

"أنتَ قلتَ ذلك. الموقع جيّد. بالتالي أضاعف الإيجار."

 

"إنّما يا سيّد" يصيح التاجر. "بهذه الطريقة تنتزع منّي كلّ الربح!"

 

"هذا صحيح. أيتوجّب عليَّ يا ترى أن أجعلكَ غنياً على حسابي؟ هيّا. إمّا أن تعطيني ألفان وأربعمائة ديدرخما، وفوراً، أو أطردكَ وأحتفظ بالبضاعة. إنّ المكان ملكي وأفعل به ما أريد".

 

هكذا فعل بالأوّل، بالثاني والثالث مِن المستأجرين لديه، مُضاعِفاً بدل الإيجار للجميع، صامّاً أذنيه حيال كلّ توسّل. ولأنّ الثالث، المثقل بالأبناء، كان يريد المقاومة، فقد نادى الحرّاس، ووضع أختام الحجز، طارداً البائس خارجاً.

 

ثمّ، في قصره، تفحّص سجلّات الوكلاء، لإيجاد سبب لمعاقبتهم كما لو كانوا متقاعسين، ومصادرة حصّتهم الّتي كسبوها بحقّ.

 

أحدهم كان لديه ابن يحتضر، وبسبب مصاريفه الكثيرة فقد باع قسماً مِن زيته كي يسدّد ثمن العلاجات. وبالتالي فلم يكن لديه شيء ليعطيه لربّ العمل المتطلّب.

 

"أَشفِق عليَّ يا سيّد. إنّ ابني المسكين على وشك الموت، وسوف أقوم فيما بعد بأعمال إضافيّة كي أردّ لكَ ما يبدو لكَ عادلاً. إنّما تدرك أنّني الآن لا أستطيع".

 

"لا تستطيع؟ أنا سوف أريكَ إن كنتَ تستطيع أم لا تستطيع". وبذهابه مع الوكيل المسكين إلى المعصرة، فقد انتزع منه حتّى بقية الزيت الّذي احتفظ به الرجل لطعامه البائس ولتغذية المصباح الّذي كان يسمح له بالسهر على ابنه خلال الليل.

 

أمّا العشّار، إذ ذهب إلى عند رئيسه ودفع الضرائب الـمُحَصَّلة، فقد سمعه يقول له: "إنّما هنا ينقص ثلاثمائة وسبعون أسّاً. كيف ذلك؟"

 

"هو ذا، سأقول لكَ. في المدينة هناك أرملة مع سبعة أطفال. الأوّل هو الوحيد في سنّ العمل، لكنّه لا يستطيع الذهاب بالقارب بعيداً عن الضفّة، لأنّ ذراعيه لا يزالان ضعيفان بالنسبة للمجذاف والشراع، ولا يمكنه دفع أجر صبيّ قارب. وببقائه قرب الضفة، يحصل على سمك قليل، وما يتم صيده بالكاد يكفي لسدّ جوع هؤلاء الأشخاص الأشقياء الثمانية. لم يطاوعني قلبي أن أطالب بالضريبة".

 

"أفهم. لكنّ القانون هو القانون. الويل إذا ما عُرِف أنّه يشفق! فالكلّ سيجدون عذراً لعدم الدفع. ليبدّل الفتى المهنة وليَبِع القارب إذا كانوا لا يستطيعون الدفع".

 

"إنّه خبزهم للمستقبل… وهو ذكرى والدهم".

 

"أفهم. إنّما لا يمكن التساهل".

 

"حسناً. إنّما أنا لا يمكنني التفكير بثمانية تعساء محرومين مِن مصدر دخلهم الوحيد. أدفع أنا الثلاثمائة والسبعين أسّاً".

 

وبعد فِعل هذه الأمور، صعد الاثنان إلى الهيكل، وبمرورهما بقاعة الخزانة، سحب الفرّيسيّ بتباهٍ مِن صدره كيس مال ضخم، وأفرغه حتّى آخر قطعة في الخزانة. في كيس المال ذاك كان المال المأخوذ زيادةً مِن شاغلي المتاجر، وثمن الزيت المنتزع مِن الوكيل والمباع على الفور لأحد التجّار. أمّا العشّار، مِن جهته، فقد ألقى قبضة مِن قطع نقد صغيرة، بعد أن استبقى ما كان ضروريّاً له للعودة إلى منزله. فالواحد والآخر قد أعطى ما كان معه. وحتّى، ظاهريّاً، فإنّ الأكثر كرماً كان الفرّيسي، لأنّه أعطى حتّى آخر قطعة نقد كان يحملها. إنّما ينبغي التفكير بأنّه كان يملك في قصره مالاً آخر، وكانت له حسابات مفتوحة مع صرّافين أثرياء.

 

ومِن بعد، مضيا إلى أمام الربّ. الفرّيسي إلى الأمام، تماماً عند حدود فناء العبرانيّين، عند قدس الأقداس؛ والعشّار إلى الخلف، تقريباً تحت القبّة الّتي تفضي إلى فناء النساء، وكان منحنياً، لابثاً مسحوقاً لتفكيره بمدى بؤسه بالنظر إلى الكمال الإلهيّ. وكانا يصلّيان الواحد والآخر.

 

الفرّيسي، المنتصب تماماً، الوَقِح تقريباً، كما لو أنّه كان سيّد المكان، وكأنّه كان هو الّذي يتنازل لتكريم زائر، كان يقول: "ها أنا ذا قد جئتُ لتبجيلكَ في المنزل الّذي هو مجدنا. لقد جئتُ على الرغم مِن أنّني أشعر بأنّكَ فيَّ، لأنّني بارّ. أعرف كيف أكون كذلك. إنّما، رغم علمي بأنّني هكذا بجدارتي، إلّا أنّني أشكركَ، كما تأمر الشريعة، على ما أنا عليه. أنا لستُ جَشِعاً، ظالماً، زانياً، خاطئاً، كما هذا العشّار الّذي ألقى معي في الخزانة مقدار قبضة يد مِن قطع نقديّة قليلة القيمة. أنا، وقد رأيتَ ذلك، قد أعطيتُكَ كلّ ما كان معي. وذاك البخيل، على العكس، قد قسم حصّتين وأعطاك الحصّة الأقل. والحصة الأخرى، حتماً، سيحتفظ بها للعربدة والنساء. إنّما أنا طاهر. لا ألوّث نفسي. إنّني طاهر وبارّ، أصوم مرّتين في الأسبوع، أدفع العُشْر مِن كلّ ما أملك. نعم. إنّني طاهر، بارّ ومبارك، لأنّني قدّيس. تذكّر ذلك يا ربّ".

 

العشّار، في زاويته البعيدة، لم يكن يجرؤ على رفع نظره نحو أبواب الهيكل الثمينة، وقارعاً صدره، كان يصلّي هكذا: "يا ربّ، لستُ مستحقّاً أن أكون في هذا المكان. لكنّكَ عادل وقدّوس، ولا تزال تسمح لي بذلك، لأنّكَ تعلم أنّ الإنسان خاطئ، وأنّه إن لم يأتِ إليكَ، يغدو شيطاناً. آه! يا ربّي! أودُّ أن أكرّمكَ ليلاً ونهاراً، ويجب أن أكون عبداً لعملي لساعات كثيرة، العمل القاسي الّذي يذلّني، لأنّه ألم لقريبي الأكثر شقاءً. إنّما عليَّ أن أطيع رؤسائي، لأنّه مورد قوتي. اجعل أيا ربّي، أن أُحسِن التوفيق بين واجبي تجاه رؤسائي والمحبّة تجاه إخوتي المساكين، كي لا أُدان بسبب عملي. كلّ عمل مقدّس هو إذا ما تمت ممارسته بمحبّة. احفظ محبّتكَ حاضرة دوماً في قلبي، كي أُحسِن أنا، البائس، الإشفاق على الخاضعين لي، كما أنتَ تشفق عليَّ، أنا الخاطئ الكبير. كنتُ أودُّ تكريمك أكثر أيا ربّي، أنتَ تعلم ذلك. لكنّني فكّرتُ بأنّ أخذ المال المخصّص للهيكل لإغاثة ثمانية قلوب بائسة، سوف يكون أفضل مِن سكبه في صندوق التقدمات، وجعل ثمانية أبرياء بائسين يسكبون دموع الأسى. مع ذلك إن كنتُ أخطأتُ فاجعلني أدرك ذلك يا ربّ، وأنا سأعطيكَ حتّى آخر قطعة نقد صغيرة، وسأعود إلى البلدة سيراً على الاقدام مستجدياً قوتي. أَفهِمني عدلكَ. ارحمني أيا ربّ، لأنّني خاطئ كبير".

 

هذا هو الـمَثَل. الحقّ، الحقّ أقول لكم أنّه فيما خرج الفرّيسي مِن الهيكل بخطيئة جديدة مضافة إلى تلك الخطايا الّتي سبق أن ارتكبها قبل أن يصعد إلى جبل موريا، بينما العشّار قد خرج مِن هناك مُبرَّراً، وبركة الله قد رافقته إلى منزله ومكثت فيه، لأنّه كان متواضعاً ورحوماً، وكانت أفعاله مقدّسةً أكثر بعد مِن أقواله. بينما الفرّيسي لم يكن صالحاً إلّا بالأقوال وظاهريّاً، بينما في داخله فقد كان عامل الشيطان ويقوم بأفعاله بدافع الكبرياء وقسوة القلب، وكان الله يمقته لهذا السبب.

 

إنّ مَن يرفع نفسه سوف يوضع دوماً، عاجلاً أم آجلاً. إن لم يكن هنا ففي الحياة الأخرى. ومَن يتواضع سوف يرتفع، خصوصاً فوق في السماء، حيث تُرى أفعال البشر على حقيقتها الصرفة.

 

تعال يا زكّا. تعالوا أنتم الّذين معه. وأنتم يا رسلي وتلاميذي. سوف أحدّثكم بعد على حدة.

 

ويعود إلى منزل زكّا، متدثّراً بردائه.