ج2 - ف5
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
5- (الشيطان يجرّب يسوع في البرّية)
24 / 02 / 1944
أرى المكان الـمُوحِش كثير الحجارة الذي كنتُ قد رأيتُه على يساري في رؤيا عماد يسوع في الأردن. في هذه الأثناء يجب أن أكون قد توغّلتُ أكثر، إذ بالفعل لم أعد أرى النهر الجميل ذا المياه البطيئة واللازورديّة، ولا الوريد الأخضر الذي يحدّه على ضفّتيه والذي يتغذّى مِن هذا الشريان المائيّ. هنا، لا شيء سوى الوحشة، حجارة وأرض محروقة تحوَّلَت إلى غبار مصفرّ يحمله الهواء في كلّ حين على شكل زوابع صغيرة. تحسبها الأنفاس الخارجة مِن فم مَحموم لشدّة جفافها وحرقتها، ومُنهِكة هي كذلك بفعل الغبار الذي تحمله معها إلى الأنف والبلعوم. بعض الأعشاب الشائكة القليلة جدّاً تنتشر هنا وهناك، ولستُ أدري كيف تستطيع الصمود في تلك الظروف القاسية. تبدو وكأنّها باقات نادرة مِن الشَّعر على رأس أصلع. ففي الأعلى سماء زرقاء قاسية، وفي الأسفل أرض قاحلة تحيط بها صخور، ويخيّم عليها الصمت. هذا هو كلّ ما أرى كطبيعة.
صخرة كبيرة تُشَكِّل ما يشبه المغارة، يَجلس يسوع داخلها على صخرة جُرّت إليها مُسنِداً ظهره إلى حافتها. إنّه يحتمي فيها مِن الشمس الـمُحرِقة. والصوت الذي ينبّهني داخليّاً أنبَأَني أنّه يستخدم تلك الصخرة التي يجلس عليها مَركَعاً أثناء الصلاة ووسادة في فترات راحته، متدثّراً معطفه، تحت ألق النجوم وفي رياح الليل الباردة. فِعلاً، رأيتُ إلى جانبه الخِرج الذي رأيتُه يأخذه لدى انطلاقه مِن الناصرة. وهذا هو كلّ ما يملك، وبما أنّه متهدِّل، أُدرِك أنّه قد فَرَغَ مِن القليل مِن الطعام الذي وَضَعَته مريم بداخله.
يسوع نحيل جدّاً وشاحب. إنّه يَجلس مُسنِدَاً مِرفَقَيه على ركبتيه مادّاً ساعِديه إلى الأمام، ضامّاً يديه، شابِكاً أصابعه. إنّه يتأمّل. مِن حين إلى آخر يَرفَع نظره ويَجول به حوله ويتطلّع إلى الشمس التي تكاد تكون في أوجها في السماء اللازورديّة. وبين الفينة والفينة، خاصّة بعد النَّظَر حوله ورفع عينيه صوب نور الشمس، يُغمض عينيه ويتّكئ على الصخرة التي يتّخذها ملجأ وكأنّه أُصيبَ بدوار.
أرى فم الشيطان الفظيع يَظهَر. فهو لا يَظهَر بالشكل الذي نعرضه فيه بقرنين وذَنَب الخ... الخ... بل إنّه الآن مثل بدويّ يتدثّر ثوبه ومعطفه الذي يشبه معطف المهرّج. على رأسه عمامة تتدلّى أهدابها على كتفيه لتحميهما، وكذلك على طرفي وجهه، بحيث لم يعد يُرى منه سوى مثلّث ضيّق، إنّه أسمر داكن ذو شَفَتين ناعمتين ومُعوجّتين، وعينين سوداوين غائرتين، ينطلق منهما وميض مغناطيسيّ، وحدقتين تخترقان أعماق القلب ولا يُقرأ فيهما سوى عبارة واحدة: غموض. بعكس عين يسوع التي تفتنكَ كذلك بدفقها المغناطيسيّ الذي يَلِج القلب، إنّما يُقرأ فيها أنّ لا محلّ في قلبه لغير الصلاح والحبّ لكَ. عين يسوع تَوَدُّد للنَّفْس، بينما عين الشيطان خنجر مزدوج يخترقكَ ويحرقكَ.
يدنو مِن يسوع: «أأنتَ وحدكَ؟»
يَنظر إليه يسوع ولا يجيبه.
«كيف وصلتَ إلى هنا؟ هل أنتَ تائه؟»
يَنظر إليه يسوع ثانية ويبقى صامتاً.
«لو كان معي ماء في قربتي لكنتُ أعطيتُكَ. إنّما لم يبق. فلقد نَفَقَ حصاني، وأنا الآن أمضي سيراً على الأقدام إلى المخاضة. هناك سوف أشرب وأجد مَن يعطيني خبزاً. أنا أعرف الطريق، تعال معي وسوف أدلّكَ.»
لم يرفع يسوع نَظَره.
«ألا تجيب؟ هل تعلم أنّكَ لو بقيتَ هنا فسوف تموت؟ الرياح تهبّ الآن، وسوف تهبّ العاصفة. هيّا.»
يشدّ يسوع يديه في صلاة صامتة.
«آه! هو إذن أنتَ؟ منذ زمن وأنا أبحث عنكَ! والآن صار لي مدّة وأنا أراقبكَ. منذ أن اعتمدتَ. أأنتَ تستدعي الأزليّ؟ إنّه بعيد جدّاً. الآن أنتَ على الأرض وبين البشر. وعند البشر أنا الـمَلِك. ومع ذلك فأنتَ تثير شَفَقَتي، أريد مساعدتكَ لأنّكَ طيب وقد أتيتَ لتضحّي بنفسكَ مِن أجل لا شيء. سيخونكَ البشر لصلاحكَ، فَهُم لا يستوعِبون سوى الذهب والطعام والمتعة، أمّا تضحية، ألم، طاعة، فهذه ليست سوى كلمات ميتة بالنسبة لهم، ميتة أكثر مِن هذه الأرض وما يحيط بها. إنّهم أكثر جدباً مِن هذا الغبار. وهنا لا مكان سوى للأفعى تختبئ لتلسعكَ وكذلك ابن آوى ليمزّقكَ إرباً. هيا تعال. إنّهم لا يستحقّون أن تتألّم مِن أجلهم. أنا أعرفهم أكثر منكَ.»
ويَجلس الشيطان قبالة يسوع ينظر إليه نظرات رهيبة ويضحك بفمه، فم الحيّة. يظلّ يسوع صامتاً ويُصلّي ذهنياً.
«ترتاب فيَّ. إنّكَ مخطئ. أنا حكمة الأرض. يمكنني أن أكون معلّماً لكَ لأساعدكَ على بلوغ النصر. انظر: المهمّ هو الغَلَبَة. ثمّ عندما تفرض وجودكَ على العالم، وعندما تأخذ بمجامع قلوبهم، عندئذ تتمكّن مِن قيادته حيث تشاء. إنّما في البدء يجب أن تكون كما يروق لهم أن تكون، مثلهم، أن تسحرهم بجعلهم يعتقدون أنّنا معجبون بهم وأنّنا نتماشى مع أفكارهم.
إنّكَ شاب ووسيم. ابدأ بالمرأة. فعلينا أن نبدأ بها دائماً. لقد أخطأتُ عندما جَرَرتُها إلى العصيان. كان عليَّ أن أنصحها بطريقة أخرى. كنتُ سأجعل منها أداة ممتازة وكنتُ سأتغلّب على الله. لقد كنتُ متسرّعاً جدّاً. إنّما أنتَ! فَأُعَلِّمكَ لأنّني نظرتُ إليكَ يوماً بفرح ملائكيّ، وما يزال في داخلي بقيّة مِن هذا الحبّ. إنّما اسمعني واستفد مِن تجربتي. اتّخذ لنفسكَ رفيقة. وحيث لا تنجح أنتَ ستنجح هي. أنتَ آدم الجديد: يجب أن تكون لكَ حوّاؤكَ.
ثمّ كيف تستطيع إدراك وشفاء أمراض الحواسّ إذا لم تكن تعرف ماهيّتها؟ ألا تعرف أنّ المرأة هي النواة التي تُولَد منها نبتة العاطفة والكبرياء؟ لماذا يريد الرجل أن يُسَيطِر؟ لماذا يريد أن يكون غنيّاً وذا نفوذ؟ حتّى يمتلك المرأة. إنّها كالقبّرة. إنّها في حاجة إلى البَريق كي يجذبها. الذهب والسلطان هما وجها المرآة التي تجذب النساء وسبب شرور العالم. انظر: خلف ألف جريمة بمظاهر مختلفة هناك تسعمائة منها على الأقلّ تجد جذورها في الجوع إلى تَملُّك المرأة أو في إرادة امرأة تتأجّج في رغبة لم يُشبِعها الرجل بعد، أو لن يُشبِعها أبداً. اذهب إلى المرأة إذا أردتَ معرفة ماهيّة الحياة، وبعدها فقط تتمكّن مِن معالجة وشفاء أوجاع الإنسانيّة.
تَدري، جميلة هي المرأة! وليس في العالم ما هو أجمل منها. الرجل يمتلك الفكر والقوّة. إنّما المرأة! ففكرها عطر، ولمسها مُداعَبَة زهور، كياستها خمر يُسكِر، وضعفها مثل شلّة حرير أو تقصيبات طفل مجعّدة بين يدي الرجل. مُداعَبَتها قوّة تتّحد بقوّتنا وتُلهِبها، فيختفي الألم والتعب والهموم عندما يضع الرجل نفسه إلى جوار المرأة. إنّها بين أيدينا مثل طاقة زهر.
ولكن، يا لي مِن غبيّ! أنتَ جائع وأنا أحدّثكَ عن النساء. لقد خارت قوّتكَ. لهذا السبب تبدو لكَ عطر الأرض وزهرة الخَلق والثمرة التي تمنح الحبّ وتُحيِيه غير ذات قيمة. إنّما انظر إلى هذه الحجارة، كم هي مُدوّرة ومصقولة ومُذهّبة تحت أشعة الشمس المائلة إلى الغروب. ألا تحسبها خبزاً؟ أنتَ ابن الله، ولا حاجة بكَ إلّا إلى القول: "أريد ذلك"، حتّى تُصبح خبزاً رائحته منعشة، مثل ذاك الذي تُخرِجه ربّات البيوت مِن التنّور في مثل هذا الوقت مِن أجل الوجبة العائليّة. وهذه الأسناط (الأكاسيا) الـمُجدِبة جدّاً، لو أردتَ أفلا يمكن أن تغطيها ثمار لذيذة، بلح حلو مثل العسل؟ اشبع يا ابن الله. فأنتَ سيّد الأرض، إنّها تنحني لتضع نفسها عند قدميكَ وتُشبِع جوعكَ.
انظر كم أنتَ شاحب، وتترنّح لمجرّد سماع الكلام عن الخبز. يا يسوع المسكين! هل ضعفتَ إلى درجة أنّكَ أصبحتَ عاجزاً عن اجتراح المعجزة؟ هل تريدني أن أفعلها مِن أجلكَ؟ أنا لستُ في مستواكَ، إلّا أنّني أستطيع فعل شيء. سوف أحجب قوّتي لمدة عام، وأجمعها كلّها، وأنا راغب في أن أخدمكَ لأنّكَ صالح وأتذكّر دائماً أنّكَ إلهي حتّى ولو كنتُ الآن غير أهل لأن أُطلِق عليكَ هذا الاسم. فساعدني بصلاتكَ لأتمكّن مِن...»
«اصمت. "فليس بالخبز وحده يَحيَى الإنسان، بل بكلّ كلمة تَخرج مِن فم الله".»
يَقفز الشيطان مغتاظاً. يصرف أسنانه ويشدّ قبضتيه، لكنّه يعود ليتمالك نفسه ويكفّ عن صريف أسنانه ليَشرع في ابتسامة.
«أَفهَم ذلك. إنّكَ أسمى مِن الاحتياجات الأرضيّة وتشمئزّ مِن أن أخدمكَ أنا. لقد استحققتُ أنا ذلك. إنّما هلمّ وانظر إذاً ماذا يَحدُث في بيت الله. انظر كيف الكَهَنَة أيضاً لا يكفّون عن التوفيق بين الروح والجسد، لأنّهم في النهاية بَشَر وليسوا ملائكة. فاجتَرِح أنتَ معجزة روحيّة. سوف آخُذكَ إلى شرفة الهيكل في الأعلى، فتتجلّى بجمال رائع. ونادِ بعد ذلك طغمات الملائكة وقل لها أن تجعل مِن أجنحتها المتشابكة موطِئاً لقدميكَ، وأن تُنزِلكَ هكذا إلى الساحة الرئيسيّة ليَروكَ ويتذكّروا أنّ هناك إلهاً. هذه التجلّيات ضروريّة بين آونة وأخرى لأنّ ذاكرة البشر ضعيفة جدّاً، خاصّة في ما هو روحانيّ، وأنتَ تَعلَم كم يَسُرّ الملائكة تقديمهم لكَ موطئ قدم وسلّماً لتهبط!»
«قيل أيضاً: "لا تجربنّ الربّ إلهكَ".»
«تُدرِك أن ظهوركَ ذاته لن يُغيّر شيئاً وأنّ الهيكل سيستمرّ في كونه سُوقاً ومَفسَدة. حكمتكَ الإلهيّة تعرف أنّ قلوب كَهَنَة الهيكل هي عشّ للأفاعي، يَفترس بعضها بعضاً كي تَصِل إلى النفوذ. وليس هناك سوى القُدرة البشريّة لقمعها.
هلم إذاً واسجد لي فأعطيكَ الأرض كلّها؛ ويكون الإسكندر وزائيروس وقيصر وأعظم منافِسِي الماضي، والذين ما يزالون أحياء، أشبه بقادة قوافل تافهين إذا ما قورنوا بكَ أنتَ الذي ستملك كلّ هذه الممالك الأرضيّة تحت صولجان سلطانكَ، ومع الممالك كلّ الثروات وكلّ أمجاد الأرض والنساء والجياد والجنود والمعابد. سوف تتمكّن مِن رفع شارتكَ أينما تشاء حينما تكون مَلِك الملوك وسيّد العالم. حينئذ سوف تُطاع وتُحتَرَم مِن قِبَل الشعب والكَهَنَة. كلّ الطبقات ستبجّلكَ وتخدمكَ لأنّكَ ستكون الـمُقتَدِر الوحيد، السيّد الربّ.
اسجد لي لحظة فقط! اروِ لي ظمأ أن أكون معبوداً! فهذا الظمأ هو الذي جَعَلَني أضيع. ولكنّه ما يزال فِيَّ ويحرقني. ونيران جهنّم تصبح بمثابة نسيم الصبح العليل إذا ما قورنت بهذه الحرارة التي تحرقني مِن الداخل. هذا الظمأ هو جحيمي. لحظة، لحظة واحدة، أيّها المسيح، أنتَ أيّها الصالح! لحظة فرح للمُعذَّب الأزليّ! اجعلني أختَبِر ماذا يعني أن أكون إلهاً وسأكون مُكَرَّساً لكَ، مُطيعاً مثل عبد مدى الحياة، وفي كلّ المساعي. لحظة! لحظة واحدة ولن أضايقكَ فيما بعد!» ويرتمي الشيطان على ركبتيه مُتضَرِّعاً.
أمّا يسوع، فعلى العكس، ينتصب واقفاً وقد نَحل أكثر بعد أيّام الصوم هذه وهو يبدو أكبر سنّاً. وجهه رهيب بصرامته وقُدرته. عيناه قطعتا سفير تقذفان لَهَباً. صوته رعد يتردّد صداه في تجويف الصخرة ثمّ ينتشر على صخور الأرض المعزولة، عندما يقول: «إليكَ عنّي يا شيطان، فإنّه مكتوب: "لله ربّكَ تَسجد وإيّاه وحده تَعبد".»
يَهبّ الشيطان واقفاً صارخاً صرخة هالِك تُفَتِّت القلب، وبكراهية مُبهَمَة ومَظهَر مُريع في هيجانه، بشخصيّته المتأجّجة. ثمّ يختفي وهو يُطلِق صيحة لعنة جديدة.
يَجلس يسوع بعدها مُتعَباً، مُسنِداً رأسه على الصخرة التي في الخلف، إنّه يبدو مُنهَكاً، يتصبّب عرقاً. إلّا أنّ كائنات ملائكيّة أتت تجدّد الهواء بأجنحتها في حرارة المغارة الخانقة، وتُطهّره وتُرطّبه. يفتح يسوع عينيه ويبتسم. لم أره يأكل. وكأنّي به يتغذّى بعطر الفردوس، ثمّ يَخرج منتعشاً.
تختفي الشمس في الغروب. يأخذ يسوع الخِرج الفارغ ويتوجّه صوب الشرق، أو بالأحرى الشمال الشرقيّ، تصحبه الملائكة التي بطيرانها فوقه تُرسِل نورها اللطيف بينما الليل يَهبط بسرعة. يعود إلى مظهره المعتاد ومشيته الواثقة. ولم يبق له كذكرى مِن صيامه الطويل سوى مَظهَر أكثر تقشفاً مع وجهه الناحل والشاحب وعينيه المشبَعَتَين فَرَحَاً ليس مِن هذه الأرض.