ج6 - ف77
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
77- (إلى جلجالا)
18 / 02 / 1946
لست أدري كيف هي جلجالا الآن. في اللحظة التي يَلِجها يسوع، إنّها قرية فلسطينيّة عاديّة، سكّانها ليسوا بالكثيرين، وهي على رابية قليلة الارتفاع، تغطّيها الكروم والزيتون. ولكنّ شمسها قويّة لدرجة أنّ القمح يجد له فيها مكاناً، وقد نُثِرت تحت الأشجار أو بين صفوف الكروم. وينضج رغم الإيراق لأنّ الشمس التي بدأ الإحساس بوهجها بفعل مجاورة الصحراء أدّت إلى شَيّه بحسب المرام.
غُبار، جَلَبة، قذارة، فوضى يوم تسوّق. وممّا لا بدّ منه كالقدر، الفرّيسيّون كالعادة والكَتَبَة المتشدّدون وغير المقتنعين، الذين، وبحركات مبالغ فيها يتناقشون بِحَبريّة في أفضل ركن مِن الساحة، والذين يتظاهرون بعدم رؤية يسوع أو عدم التعرّف إليه. يمضي يسوع مباشرة ليتناول طعامه في ساحة ثانويّة أخرى، بعيدة عن الوسط، مُظلَّلة بتشابُك أغصان أشجار مِن كلّ نوع. لديَّ انطباع أنّها قطعة مِن جبل أصبحت جزءاً مِن التجمّع السكنيّ منذ وقت قريب وما تزال تحتفظ بذكرى وضعها الطبيعيّ.
أوّل مَن تقدّم مِن يسوع الذي يتناول الخبز والزيتون كان رجلاً رثّ الثياب. يطلب القليل من الخبز. فيقدّم له يسوع رغيفه مع كلّ الزيتون الذي كان في حوزته.
«وأنتَ؟ ليس لدينا مال، أنتَ تعرف.» يقول بطرس. «لقد تركناه كلّه لحنانيا...»
«لا يهمّ. أنا لستُ جائعاً. بل عطشان أنا...»
يقول المستجدي: «هنا في الخلف بئر. ولكن لماذا أعطيتَني الكلّ؟ كان بإمكانكَ إعطائي نصف رغيفكَ... إذا كنتَ لا تشمئزّ مِن استرجاعه...»
«كُل، كُل. أنا يمكنني الاستغناء عنه. إنّما كي لا تظنّ أنّني أشمئزّ، أعطني مِن يدك لقمة واحدة، وسوف آكلها كي أكون صديقاً لكَ...»
الرجل، ذو الوجه الحزين والقاتم، يُشرِق بابتسامة مندهشة ويقول: «آه! إنّها المرّة الأولى، مُذ أصبحتُ الفقير عقلة، التي يقول لي فيها أحد إنّه يريد أن يكون صديقي!» ويقدّم لقمة خبز ليسوع. ويَسأَل: «مَن تكون؟ ما هو اسمكَ؟»
«أنا يسوع مِن الناصرة، رابّي الجليل.»
«آه!... لقد سمعتُ آخرين يتحدّثون عنكَ... ولكن... ألستَ مَسيّا؟»
«أنا هو.»
«وأنتَ، يا مَسيّا، طيّب إلى هذه الدرجة مع الـمُستَجْدين؟ إنّ حاكم الربع لو وَجَدَنا على طريقه يَجعل خُدّامه يضربوننا...»
«أنا المخلّص. لا أضرب. أنا أحبّ.»
يُمعِن الرجل فيه النَّظَر. ثمّ يَشرع بالبكاء على مهل.
«لماذا تبكي؟»
«لأنّني... أودُّ أن أخلص... ألم تعد تشعر بالعطش، يا ربّ؟ يمكنني اصطحابكَ إلى البئر والتحدّث إليكَ...»
يُدرك يسوع أنّ الرجل يريد البوح بأمر ما، ويَنهَض قائلاً: «هيّا بنا.»
«آتي أنا أيضاً.» يُعلِن بطرس بحماس.
«لا. سوف أعود في الحال، فضلاً عن ذلك... يجب احترام التائب.»
يذهب مع الرجل خلف بيت يبدأ بَعده امتداد الريف.
«هنا البئر... اشرب، ثمّ أَنصِت إليَّ.»
«لا، يا رجل. أَفضِ إليَّ أوّلاً بمعاناتكَ، وبعد ذلك... سأشرب. وثمّ ستكون لي مياه أكثر عذوبة لعطشي مِن تلك الأرضيّة.»
«أيّة مياه، يا معلّم؟»
«توبتكَ. هيّا بنا تحت هذه الأشجار. فهنا ترانا النساء. تعال.» ويضع يده على كتف ذاك ويدفعه صوب مجموعة مِن أشجار الزيتون.
«كيف تَعلَم أنّني خاطئ وأنّني أتوب؟»
«آه!... تكلّم ولا تَخَفْ منّي.»
«ربّي... كنّا سبعة إخوة مِن أب واحد، إنّما أنا كنتُ قد وُلِدتُ مِن امرأة تزوّجها أبي بعد ترمّله. وكان الستّة الآخرون يَحقدون عليَّ. وأبي تَرَكَ لنا أثناء نزاعه حصصاً متساوية. ولكنّه ما إن مات حتى انتَزَعَ منّي الستّة الآخرون كلّ ما أملك، وذلك بفعل رشوة دُفِعَت للقضاة. وطردوني وأُمّي بإطلاقهم علينا اتّهامات شائنة. وماتت أُمّي وأنا في السادسة عشرة... ماتت مِن الفاقة... ومنذ ذلك الحين لم أجد أحداً يحبّني...» ويبكي وقد انهار تماماً. يتماسك ويُتابع: «الستّة، أغنياء وسعداء، يزدهرون بفضل ما هو لي، وأنا كنتُ أموت جوعاً، ذلك أنّني مرضتُ وأنا أرى أُمّي الـمُنهَكة... ولكنّ الله ضربهم الواحد تلو الآخر. لقد لعنتُهم كثيراً، حقدتُ عليهم كثيراً، حتى إنّهم أصبحوا ضحايا السحر. هل كنتُ أصنع شرّاً؟ بالتأكيد. أعلم ذلك. وقد كنتُ أعلم. ولكن كيف كان يمكنني ألاّ أحقد عليهم وألعنهم؟ الأخير، وقد كان الثالث في الترتيب العُمري، كان يَصمد أمام كلّ اللعنات. بل كان يزدهر، بفضل ممتلكات الخمسة الآخرين، وكان قد ورث الثلاثة الأصغر سنّاً غير المتزوّجين، وكان قد تزوّج أرملة الأوّل، الذي مات بدون خَلَف، وبطريق الاحتيال، وعن طريق القروض والخداع، كان قد استولى على جزء كبير مِن إرث الثاني لأرملته وأيتامه. وعندما كان يقابلني صدفة في الأسواق حيث كنتُ أذهب كخادم لأحد الأغنياء لبيع الغِلال، كان يشتمني ويضربني... وذات مساء، قابلتُه... كنتُ وحدي، وكان بمفرده. هو كان ثملاً قليلاً مِن الخمر... وأنا كنتُ ثملاً مِن ذكريات الحقد... كانت أُمّي قد ماتت منذ عشر سنوات... شَتَمَني بشَتَمَ المائتة... أطلق عليها تسمية "العاهرة القذرة" ودعاني "ابن الضبعة..." ربّي، لو لم يكن قد مسَّ أُمّي... لكنتُ تحمّلتُ. ولكنّه شَتَمَها... فأمسكتُ بخناقه. تشاجرنا... كنتُ أريد ضربه فقط... ولكنّه تزحلَقَ على الأرض، وقد كانت الأرض مغطّاة باعشاب زلقة، وكانت منحدرة... وفي الأسفل كان هناك مجرى سيل وكان هناك سيل... تدحرَجَ، وبما أنّه كان ثَمِلاً، سقط... وما زال البحث عنه جارياً منذ سنين كثيرة... ولكنّه دُفِن في حجارة ورمال سيل مِن لبنان... أنا، لم أعد إلى معلّمي، وهو لم يعد إلى قيصريّة بانياد. سِرت بلا سلام... آه! لعنة قايين! الخوف مِن العيش... والخوف مِن الموت... مرضتُ... ثمّ... سمعتُ مَن يتحدّث عنكَ... ولكنّني كنتُ خائفاً... كان يقال إنّكَ ترى ما في قلب الإنسان. ورابّيو إسرائيل أشرار للغاية!... لم يكونوا يعرفون الرحمة... أنتَ، رابّي الرابّيين، كنتَ هَلَعي... وكنتُ أهرب أمامكَ. ومع ذلك كنتُ أريد المغفرة...» يبكي، ساقطاً أرضاً…
يَنظُر إليه يسوع ويُتمتم: «ولنأخذ على عاتقي كذلك هذه الخطايا!... يا بنيّ! اسمع. أنا الرحمة ولستُ الهَلَع. فَمِن أجلكَ كذلك أنا أتيتُ. لا تخجل منّي... أنا الفادي. هل تريد أن يُغفر لكَ؟ مِن أيّ شيء؟»
«مِن جريمتي. أتسألني؟ لقد قتلتُ أخي.»
«لقد قلتَ: "كنتُ أريد فقط أن أضربه" لأنّكَ في تلك الأثناء كنتَ قد أُهِنتَ وغَضبتَ. ولكنّكَ حينما حقدتَ ولعنتَ ليس واحداً، بل ستّة مِن إخوتك، لم تكن قد أُهِنتَ ولا غَضبتَ. كنتَ تفعل ذلك كما كنتَ تتنفّس، تلقائيّاً. الحقد واللعنة، الفرح لرؤيتهم قد ضُرِبوا، كان خبزكَ الروحيّ. أليس كذلك؟»
«نعم، يا ربّ. كان ذلك خبزي لمدّة عشر سنوات.»
«إذن، في الحقيقة، الجريمة الكبرى بَدَأَت منذ اللحظة التي حقدتَ فيها ولعنتَ. فأنتَ قاتل إخوتكَ ستّ مرّات.»
«ولكن، يا ربّ، كانوا قد حطّموني وحَقَدوا عليَّ... وأُمّي ماتت مِن الجوع...»
«تريد القول إنّكَ كنتَ تملك حقّ الانتقام.»
«نعم، أودُّ قول ذلك.»
«لستَ محقّاً. كان الله ليعاقب. أمّا أنتَ فكان عليكَ أن تُحِبّ. وكان الله سيبارككَ على الأرض وفي السماء.»
«إذن فلن يباركني أبداً؟»
«التوبة تعيد البركة. ولكن كم مِن الألم وكم مِن الضيقات جلبتَها لنفسكَ! فبالحقد جلبتَ على نفسكَ أكثر بكثير ممّا سبّب لكَ إخوتكَ!...»
«حقّاً! إنّها الحقيقة! كراهية دامت ستّاً وعشرين سنة. آه! اغفر لي، باسم الله. ترى أنّ فيَّ ألم خطيئتي! لستُ أطلب شيئاً لحياتي. أنا مستجدٍ ومريض. وأريد أن أبقى على هذه الحال، أتألّم وأُكفّر. إنّما امنحني سلام الله! قمتُ بتضحيات للهيكل معانياً الجوع، لأجمع قيمة المحرقة. ولكنّني لم أستطع الإفصاح عن جريمتي، ولا أدري إذا ما كانت تضحيتي قد قُبِلَت.»
«أبداً. حتّى ولو أتممتَ كلّ يوم واحدة، بماذا يفيد ذلك إذا ما كنتَ تكذب أثناء تقديمها؟ هو طقس خرافيّ وعديم النفع ذاك الذي لا يسبقه إفصاح صادق عن الخطأ. خطأ يُضاف إلى خطأ، وإذن هو أكثر مِن عديم النفع. تقدمة تدنيسيّة. ماذا كنتَ تقول للكاهن؟»
«كنتُ أقول: "أخطأتُ عن عدم دراية بفعل أشياء حرّمها الربّ وأريد أن أُكفّر عنها. كنتُ أُفكّر هكذا: "أعرف بماذا أخطأتُ والله يعلم. إنّما لا يمكنني أن أقوله لإنسان بوضوح. الله، الذي يرى كلّ شيء، يعلم أنّني أفكّر في خطيئتي".»
«تحفّظات ذهنيّة. مخارج مُخزِية. العليّ يمقتها. عندما يُخطئ المرء يُكفّر. لا تعد تفعل ذلك.»
«لا، يا ربّ. وهل سيُغفَر لي؟ أم عليَّ الذهاب للاعتراف بكلّ شيء؟ أن أدفع مِن حياتي مقابل الحياة التي أزهقتُها؟ يكفيني الموت مع غفران الله.»
«عش لتُكفّر. فلا يمكنكَ ردّ الزوج للأرملة ولا الأب للأولاد... قبل القتل، قبل السماح للحقد بالسيادة، يجب إعمال الفكر! ولكن انهض وسر في دربكَ الجديد. وأثناء سيركَ، سوف تجد بعضاً مِن تلاميذي. جبال اليهوديّة، يجوبونها بالتأكيد. قل لهم إنّ يسوع أرسلكَ وقل لهم إنّه قبل العنصرة سيصعد إلى أورشليم مروراً ببيت صور وبِتّير. ابحث عن إيلي، يوسف، لاوي، متّياس، يوحنّا، بنيامين، دانيال وإسحاق. هل ستتذكّر هذه الأسماء؟ توجّه إليهم بشكل خاص. والآن هيّا بنا...»
«ألا تشرب؟»
«لقد شربتُ دموعكَ. نَفْس تعود إلى الله! ما مِن شيء أكثر عزاء لي منها.»
«هل غُفِر لي إذن؟ تقول: "تعود إلى الله"...»
«نعم غُفِر لكَ. ولا تعد تحقد أبداً.»
ينحني الرجل مِن جديد، ذلك أنّه كان قد انتَصَب، ويُقبّل قدميّ يسوع.
يعودان إلى حيث الرُّسُل ويجدانهم في نقاش مع الكَتَبَة.
«ها هو المعلّم. هو يمكنه إجابتكم والقول لكم إنّكم خطأة.»
«ماذا هناك؟» يَسأَل يسوع الذي لم يَلقَ سلامُه المحترم إجابة.
«يا معلّم إنّهم يضايقوننا بأسئلتهم وسخرياتهم...»
«تحمُّل المتاعب، هو فِعل رحمة.»
«ولكنّهم يسيئون إليكَ أنتَ. يجعلون منكَ موضوع احتقار... والناس يحتارون. أترى؟ كنّا قد نجحنا في جمع الناس... والآن مَن بقي؟ اثنتان أو ثلاث مِن النساء...»
«آه! لا! لديكم رجل آخر، رجل لطيف! وهذا أيضاً كثير بالنسبة إليكم! إنّما، يا معلّم، ألا يبدو لكَ أنّه يلوّثكَ كثيراً، أنتَ الذي تقول على الدوام إنّك تشمئزّ مِن القذارات؟» يهزأ كاتب شابّ مشيراً إلى المستجدي الذي إلى جانب يسوع.
«هو ليس قَذِراً. ليست لديه القذارة التي تُقرِفني. فهو "الفقير". الفقير لا ينفّرني. فينبغي أن يَفتح بؤسه النَّفْس على مشاعر رحمة أخويّة. أنا أنفر مِن البؤس الأخلاقيّ، بؤس القلوب النتنة، النُّفوس الخَرِقة، الأرواح المغطّاة بالقروح.»
«وهل تعرف أنتَ إذا لم يكن هو هكذا؟»
«أعرف أنّه يؤمن بالله ويرجو رحمته التي أصبح الآن يعرفها.»
«يعرفها؟ أين تقطن؟ قل لنا كي نتمكّن نحن أيضاً مِن الذهاب إليها والنَّظَر إلى وجهها. آه! آه! الإله الرهيب، الذي لم يكن موسى ليجرؤ على النَّظَر إليه، ينبغي أن يكون له وجه رهيب حتّى في رحمته، حتّى ولو خَفَّت حدّته بعد أجيال كثيرة!» يجيب الكاتب الشابّ ويضحك ضحكة أكثر إنكاراً مِن التجديف.
«أنا الذي أحدّثكَ، أنا رحمة الله!» يهتف يسوع، وقد انتصب، وسلطان نظرته وحركته ساطع. لستُ أدري كيف لم يخَف الآخر…
حينئذ، حتّى ولو لم يهرب، لم يعد يعرف الاستمرار في تهكّمه، ويَصمت بينما يحلّ آخر محلّه: «آه! كم مِن الكلام عَبَث هو! نودُّ فقط التمكّن مِن الإيمان. لسنا نطلب الأفضل. ولكن، للإيمان، يجب الحصول على إثباتات. يا معلّم، هل تعرف ما تكون جلجالا بالنسبة إلينا؟»
«وتعتبرني أحمقاً؟» يقول يسوع. وبنغمة ترتيل المزامير، بطيئة، بقليل مِن التمطيط، يبدأ: «"ويشوع، إذ قد نهض قبل الفجر، نهض المخيَّم. راحلين مِن سيتيم، هو وجميع أبناء إسرائيل، وصلوا الأردن حيث توقّفوا لثلاثة أيّام، في ختامها جاب المرسلون المخيَّم صائحين: ‘عندما تشاهدون تابوت عهد الربّ إلهكم، يحمله الكَهَنَة مِن سبط لاوي، امضوا أنتم كذلك واتبعوهم، ولكن ليكن بينكم والتابوت مسافة ألفيّ ذراع، بحيث تتمكّنون الرؤية مِن بعيد وتمييز الطريق التي عليكم سلوكها، ولم يسلكها أحد قطّ و...’"»
«كفى! كفى! الدرس تعرفه. حسناً، نريد، كي نؤمن، الحصول منكَ على معجزة مشابهة. في الهيكل، في عيد الفصح، شَنَّفوا آذاننا بنبأ حَمَلَه أحد العابرين، مفاده أنّكَ أوقفتَ فيضان النهر. إذن، إذا ما فعلتَ كلّ هذا مِن أجل إنسان عاديّ، فَمِن أجلنا نحن، الأكثر مِن أُناس عاديين، اجترح معجزة أن ننـزل مع أتباعك إلى الأردن ونجتازه بأقدام جافّة كما فعل موسى في البحر الأحمر، ويشوع في جلجالا. هيّا بنا! الشعوذات لا تصلح إلاّ للجَهَلَة، أمّا نحن فلن يغوينا تحضيركَ للأرواح، رغم أنّكَ، وهذا معلوم، تعرف أسرار مصر وصيغ السحر.»
«لستُ في حاجة إليها.»
«لننـزل إلى النهر وسنؤمن بكَ.»
«قيل: "لا تجرّب الربّ إلهكَ"!»
«أنتَ لستَ الله! أنتَ مجنون مسكين. أنتَ أحدٌ ما تُحرّض الجموع الجاهلة. فَمَعَها الأمر سهل، ذلك أنّ معكَ بعلزبول. أمّا معنا نحن الذين نَحسب حساب إشارات التعزيم (طرد الأرواح الشرّيرة)، فأنتَ أقلّ مِن لا شيء.» يقول أحد الكَتَبَة بلهجة عدوانيّة.
«لا تهنه! توسّل إليه فيُفرِحنا. فبالطريقة التي تُعامِله بها سوف يَضعف ويَفقد سلطته. هيّا، يا رابّي الناصرة! أعطنا دليلاً، ونحن سنعبدكَ.» يقول كاتب شيخ، ماكر أكثر مِن ثعبان، وهو أكثر عدوانيّة في تملّقاته الـمُراوِغة مِن الآخرين في وحشيّتهم الـمُعلَنة.
يَنظُر إليه يسوع. ثمّ يَنظُر إلى الجنوب-غرب ويفتح ذراعيه مادّاً إيّاهما إلى الأمام. يقول: «هناك صحراء يهوذا وهنا قيل لي بروح الشرّ أن أُجرِّب الربّ إلهي. وقد أجبتُ: "إليكَ عنّي يا شيطان! قيل يجب أن يعبَد الله لا أن يُجَرَّب. ولاتّباعه يجب تجاوز اللحم والدم". وهذا ما أقوله لكم.»
«أعلينا تُطلِق اسم شيطان؟ علينا؟ آه! أيّها الملعون!» وأَشبَه بأوغاد منهم لِعُلماء شريعة، يتناولون حجارة منتشرة على الأرض لضربه، ويَصيحون: «اذهب! اذهب! ولتكن ملعوناً إلى الأبد!»
يَنظُر إليهم يسوع، بدون خوف. يَشلّ حركتهم الـمُنتَهِكة للحرمات، يلمّ معطفه ويقول: «هيّا بنا! يا رجل، امشِ أمامي.» ويعود إلى البئر، صوب بستان زيتون الاعتراف، يَلِجه... ومُنهَكاً، يَخفض الرأس بينما دمعتان لم يستطع حبسهما تنهمران مِن جفنيه على وجهه الشاحب.
يَصِلون إلى طريق. يتوقّف يسوع ويقول للمستعطي: «لا يمكنني إعطاؤكَ المال. لا أملكه. أبارككَ. وداعاً. افعل ما قُلتُه لكَ.»
يَفتَرِقون... الرُّسُل محزونون. لا يتكلّمون. يَنظُرون إلى بعضهم مِن أسفل…
يَقطَع يسوع الصمت باستعادته لنغمة المزامير التي قَطَعَها الكاتب: «"وقال الربّ ليشوع: ’خذ اثني عشر رجلاً، واحد مِن كلّ سبط، وخذهم إلى منتصف مجرى الأردن، إلى حيث وقفت أقدام الكَهَنَة، اثنا عشر حجراً قاسياً جدّاً ستقيمونها في موضع المخيّمات، حيث ستنصبون الخيام الليلة‘. ويشوع، بعد استدعائه الاثني عشر رجلاً المختارين مِن أبناء إسرائيل، واحد مِن كلّ سبط، يقول لهم: ’امضوا أمام تابوت عهد الربّ إلهكم وسط الأردن وخذوا مِن هناك، على أكتافكم، كلّ واحد حجراً بحسب عدد أبناء إسرائيل، لإقامة نصب تذكاريّ وسطكم. وعندما يسألكم أبناؤكم في المستقبل قائلين: ماذا تعني هذه الحجارة؟ تجيبونهم: لقد توارت مياه الأردن أمام تابوت عهد الربّ الذي اجتازها، ووُضِعَت هذه الحجارة كنصب تذكاري أبديّ لأبناء إسرائيل‘".»
يرفع يسوع مجدّداً رأسه الذي كان قد خَفَضَه. يدير نظره صوب الاثني عشر الذين ينظرون إليه. يقول بنغمة أخرى، نغمة أوقات الحزن الأعظمي: «وكان تابوت العهد في النهر. ولم تكن المياه، بل السماوات، هي التي انفتحت إجلالاً للكلمة الذي كان متواجداً ليقدّسها، لجعلها أكثر قداسة ممّا كانت عليه بسبب توقّف التابوت في مجرى النهر. والكلمة اختار لنفسه اثنيّ عشر حجراً. قاسيةً للغاية، إذ ينبغي لها أن تدوم إلى نهاية العالم. ولأنّه ينبغي لها أن تكون أساسات الهيكل الجديد وأورشليم الأبديّة. اثنا عشر. تذكّروا هذا أنتم. ينبغي أن يكون هذا العدد. ثمّ أختار اثنيّ عشر آخرين لشهادة ثانية. التلاميذ الرُّعاة الأوائل، وهابيل الأبرص، وصموئيل الكسيح، وأوائل الذين برئوا... وعارفي الجميل... قساة جدّاً كذلك، إذ ينبغي عليهم أن يقاوموا ضربات إسرائيل التي تُبغِض الله!... تَكرَه الله!...»
يا له مِن صوت ممزَّق، ضعيف، واهن، بينما هو يبكي على قسوة إسرائيل. يُعاوِد: «في النهر، الأجيال والإنسان بَعثَروا الحجارة الذكرى... على الأرض، الكراهية ستشتّت الاثني عشر الذين هم لي. على ضفاف النهر، العصور والبشر هدموا الهيكل الذكرى... الحجارة الأولى والحجارة الأخرى، باستخدامها في كافة الاستعمالات بسبب كراهية الشياطين التي ليست فقط في جهنّم، ولكنّها كذلك في البشر، ما عادوا يعرفونها. بل قد تمّ استخدام بعضها حتّى للقتل. ومَن يقول لي إنّ بين الحجارة التي رُفعت في وجهي لم تكن ومضات الحجارة القاسية للغاية التي اختارها يشوع؟ قاسية للغاية! عدائيّة! آه! قاسية للغاية! حتّى وسط أتباعي، سيكون منهم مَن، بانفصالهم، سيكونون جسراً للشياطين في سيرهم إليَّ... وسيتحوّلون إلى حصى لضربي... ولن يعودوا الحجارة المختارة... بل الشياطين... آه! يعقوب يا أخي! إسرائيل قاسية للغاية مع ربّها!» وأمر لم يُرَ قط، يسوع المنهك لستُ أدري بأيّ فتور يهيمن عليه، ينحني على كتف يعقوب بن حلفى ويعانقه باكياً...