ج2 - ف87

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

87- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "لا يكن لكَ إله غيري")

 

28 / 02 / 1945

 

«قيل: "لا يكن لكَ إله غيري. لا تتّخذ لكَ منحوتاً ولا صورة شيء ممّا في السماء ولا ممّا على الأرض أسفل أو ممّا في جوف المياه أو تحت الأرض. لا تسجد لها ولا تعبدها، لأنّني أنا، الربّ إلهكَ، إله غَيور أَفتَقِد ذنوب الآباء في البنين، إلى الجيل الثالث والرابع مِن مُبغِضيَّ. وأصنع رحمة إلى ألوف مِن مُحِبيَّ وحافِظي وصاياي". يُدوّي صوت يسوع في الغرفة التي تغصّ بالجموع، لأنّ المطر يهطل، وقد لجأ إليها الجميع. في الصف الأوّل أربعة مرضى: أعمى تقوده امرأة، وطفل تغطّيه القشرة، وامرأة مصابة باليَرْقان أو تعاني مِن الملاريا، ورابع محمول على مِحَفّة.

 

يتكلّم يسوع وهو متّكئ على الـمِذوَد الخالي. ويوحنّا وابنا العمّ ومتّى وفليبّس إلى جانبه، بينما يهوذا مع بطرس وبرتلماوس ويعقوب وأندراوس عند الباب يُنظّمون دخول الوافِدِين الجُدد، توما وسمعان يَجولان بين الناس، يُسكِتان الأطفال ويتقبّلان الصَّدَقات وهما يستمعان إلى الالتماسات.

 

«"لا تصنع لكَ آلهة بحضوري".

 

لقد سمعتم كيف أنّ الله موجود في كلّ مكان بنَظَرِه وكلمته. في الحقيقة إنّنا في حضرته على الدوام. داخل غرفة مُغلَقَة أو وسط الجمهور في الهيكل على السواء، فنحن في حضرته. إن كنّا مُحسِنين في الخفاء ونخفي وجهنا عمّن نُساعِد، أو كنّا مجرمين نسطو على المسافر وحيداً في ممرّ ضيّق ونقتله، فإنّنا كذلك في حضرته. ففي حضرته هو الـمَلِك وسط قصره، والجنديّ على أرض المعركة، واللاويّ داخل الهيكل، والعالِـم الـمُنكبّ على كُتُبه والفلّاح على ثَلمِه، والبائع في متجره، والأُمّ المنحنية على المهد، والعروس في مَخدَع الزوجيّة، والفتاة الشابّة في سرّ البيت الأبويّ، والطفل الذي يَدرس في المدرسة، والعجوز الـمُستلقي ينتظر الموت، جميعهم في حضرته، وكذلك أفعال الإنسان هي في حضرته.

 

كلّ أفعال الإنسان! عِبارة رهيبة! وعِبارة معزّية! فهي تكون رهيبة إذا ما كان الهدف مِن الأفعال هو الخطيئة، وتكون معزّية إذا ما كان الهدف اتِّباع القَداسة. معرفة أنّ الله يرى، هي الكابِح للسلوك السيّئ، والـمُشجِّع على الأعمال الحسنة. الله يرى مَن يتصرّف حسناً. أَعلَم أنّه لا ينسى ما يَرَى. واثِق أنّه يُكافِئ الأعمال الحسنة. إذن فأنا أكيد مِن تلك المكافأة، وأَستَنِد إلى هذا التأكّد. إنّه يمنحني حياة صافية وموتاً هادئاً، لأنّ نفسي في الحياة وفي الممات ستكون تعزيتها مِن خلال نجمة صداقة الله الـمُشِعّة. هكذا يُفَسِّر الأمور مَن يتصرّف بشكل حَسَن وخَيّر. إنّما مَن يتصرّف بشكل سيّئ وشرّير، فلماذا لا يُفكّر أنّ في ما بين الأفعال الـمُحَرَّمة توجد العبادة الوثنيّة؟ لماذا هذا الأخير لا يقول لنفسه: "الله يرى أنّني، بينما أتظاهر بالعِبادة المقدّسة، أعبُد إلهاً أو آلهة كاذِبة قد شَيَّدتُ لها مذبحاً خفيّاً عن عيون البشر، ولكنّه غير خفيّ، بل هو معلوم لدى الله"؟

 

وتقولون أيّة آلهة، إذا كان، حتّى في الهيكل، لا توجد صورة لله؟ فأيّ وجه لهذه الآلهة، إذا كان مستحيلاً رسم وجه للإله الحقيقيّ؟ نعم، مستحيل رسم وجه له، إذ إنّ الكامل والكلّيّ الطُّهر لا يمكن أن يُصوّره بَشَر بما هو أهل له. فالروح وحده هو الذي يَستَشفّ جماله الروحيّ والسامي، يَسمَع صوته ويتذوّق حنانه، عندما يتجلّى لقدّيس مُستَحِقّ لهذا اللقاء الإلهيّ. ولكنّ العين والأذن ويد الإنسان لا يمكنها رؤية أو سماع وبالتالي التعبير بصوت القيثار أو بالمطرقة والإزميل على الـمَرمَر عَمّا هو الربّ.

 

آه! إنّها لَسعادة لا نهاية لها، حينما تَرى أرواح الصدّيقين الله! وسوف تكون النَّظرة الأولى فَجر غِبطة ترافقكم إلى أبد الدهور. وفي الوقت ذاته، ما لا يستطيع الإنسان فِعله للإله الحقيقيّ، تَراه يَصنعه لآلهة زائفة. فيُشيد الواحد مذبحاً للمرأة، وآخر للذَّهَب، وآخر للسُّلطة، وآخر للعِلم، وآخر للانتصارات العسكريّة. الواحد يَعبد الرجل ذا السُّلطان الـمُشابِه له في النظام الطبيعيّ، الذي لا يتجاوزه سوى بالقوّة أو الحظّ. وآخر يَعبد ذاته قائلاً: "ما مِن إنسان مُساوٍ لي". هي ذي آلهة مَن ينتمون إلى شعب الله.

 

لا تَندَهِشوا لرؤية الوثنيّين يَعبدون الحيوانات والزواحف أو الكواكب. فكَم مِن الزواحف! كَم مِن الحيوانات! كَم مِن الكواكب الـمُطفَأة تَعبدون في قلوبكم! الشّفاه تَنطق بكلام كاذب للتّفاخُر، للامتلاك وللإفساد. وهنا، ألا توجد صلوات لعبادة وَثن سريّة؟ فتحيط القلوبُ بعنايتها أفكار انتقام ومتاجرة وبغاء؟ أليست هنا صورة آلهة اللذّة الدَّنِسة والجَشَع والشرّ؟

 

قيل: "لا تَعبد سوى إلهكَ الحقيقيّ والوحيد والأزليّ". وقيل: "أنا الإله القويّ والغيور".

 

قَويّ: لا توجد قوّة أعظم مِن قوّته. الإنسان حُرّ في تصرّفه، والشيطان حُرّ في تجاربه. ولكن حينما يقول الله: "كفى"، لا يعود باستطاعة الإنسان القيام بتصرّف سيّئ، كما لا يعود بإمكان الشيطان التجربة. وهذا الأخير يَقبع مُنكَفِئاً في جحيمه مُنهاراً، والآخر في شَطَط أعماله السيّئة، إذ هناك حدود لا يسمح الله بتجاوزها.

 

غَيور: ممّن؟ أيّة غِيرة هي؟ غِيرة صغار الناس الخسيسة؟ لا، بل هي غِيرة الله المقدّسة على أبنائه. الغِيرة العادلة. الغِيرة الـمُحِبّة. لقد خَلَقَكم، وهو يحبّكم ويريدكم. يعرف ما يؤذيكم. ويَعلَم ما يؤدّي إلى انسلاخكم عنه. وهو غَيور ممّن أو ممّا يَحشر نفسه بين الأب وأبنائه، ويَحرفهم عن الحبّ الأوحد الذي هو خلاص وسلام: الله. ألا فأَدرِكوا وافهَموا هذه الغِيرة الإلهيّة غير الخسيسة، غير الرهيبة وغير الآسِرة، ولكنّها حبّ لا متناه، صلاح لا آخِر له، وحريّة لا حدود لها، تمنح ذاتها للخليقة المنتهية إلى الانجذاب إليه وفيه، وإلى صيرورتها شريكة في صلاحه اللامتناهي. فالأب الصالح لا يرضى بالاستمتاع بثرواته وحيداً، ولكنّه يبغي أن يشاركه أبناؤه بها. فهو، في الحقيقة، قد كَدَّسَها مِن أجلهم هم أكثر منه. والأمر ذاته بالنسبة لله. ولكنّه يُحمّل هذا الحبّ وهذه الرغبة كمال مُجمَل تصرّفه.

 

لا تَخونوا الربّ. فلقد وَعَدَ بالقصاص للمذنبين ولأبناء الأبناء المذنبين. والله لا يكذب أبداً في وعوده. ولكن لا تَدَعوا نفسكم تهوي، يا أبناء الإنسان والله. اصغوا إلى الوعد الآخَر وابتهجوا: "وأَصنَع رحمة إلى الجيل الألف مِن مُحِبيّ وحَافِظي وصاياي".

 

إلى الجيل الألف مِن الصالحين، وحتّى النَقيصة الأَلْف لأبناء الإنسان المساكين، الذين يَقَعون، ليس بخبث، بل إنّما بِطَيش وبسبب فِخاخ الشيطان. وأكثر مِن ذلك. أقول لكم إنّه يفتح ذراعيه، إذا ما قلتم بقلب تائِب وعينين دامعتين: "أَبَتِ، لقد خطئتُ. أَعلَم ذلك. إنّني أَتواضَع وأقرّ بذلك أمامكَ. فاغفر لي. وغفرانكَ سيكون قُوَّتي لأعود ’فأحيا‘ الحياة الحقيقيّة".

 

لا تخافوا. فإنه، قبل أن تُخطِئوا نتيجة ضعف، كان يَعلَم أنّكم ستخطئون. ولكنّ قلبه لا ينغلق إلّا حينما تُصِرّون على الخطيئة، بقبولها حقيقة، وبأن تجعلوا مِن خطيئة أو مجموعة خطايا آلهتكم الفظيعة. فَحَطِّموا كلّ الأصنام، وأفسحوا المجال للإله الحقيقيّ. وهو سوف ينـزل بمجده ليُقدِّس قلبكم، حينما لا يَجد فيكم سِواه.

 

أعيدوا لله مَسكَنه. فمَسكَنه ليس في هياكل مِن حجارة، بل في قلب البشر هو. فاغسلوا عَتَبَته، وخَلِّصوا الداخل مِن كلّ ما لا فائدة منه أو مِن الأخطاء. فالله فقط، وهو وحده، كلّ شيء‍! فلا يَقلّ عن الفردوس بشيء قلب إنسان يُقيم الله فيه، قلب إنسان يُرَتِّل حبّه للضيف الإلهيّ.

 

اجعَلوا من قلوبكم كلّها سماء. ابدأوا بمشاركتكم العَليّ مَسكَنه. وفي غدكم الأزليّ، تكتمل هذه المشاركة بقُدرة وفرح تامَّين. إنّما هنا، في الدنيا، فيمكنها تجاوُز دهشة إبراهيم الـمُرتَعِدة، وكذلك دهشة يعقوب وموسى. لأنّها لن تكون، فعليّاً، اللقاء السّاطِع والـمُرعِب بالقَدير، إنّما الإقامة مع الأب والصديق الذي يَنـزل ليقول: "فرحي يَكمن في وجودي بين الناس. إنّكَ تُسعِدني. شكراً لكَ يا بنيّ.»

 

الجمهور الذي يتجاوز المائة شخص، يَخرُج بعد بعض الوقت مِن النَّشوة. فمنهم مَن وَجَدَ نفسه فجأة يبكي، ومنهم مَن يَضحك بذات الأمل السعيد. أخيراً، يبدو أنّ الجمع قد تَنَبَّه. فهناك ما يُشبِه اللَّغَط أو الزَّفرة القويّة، وفي النهاية، ما يُشبِه صرخة تَـحَـرُّر: «لتكن مباركاً! لقد فَتَحتَ لنا طريق السلام!»

 

يبتسم يسوع ويُجيب: «السلام يُقيم فيكم، إذا ما اتَّبَعتم طريق الصلاح منذ الآن.»

 

ثمّ يتوجّه صوب المرضى. يمرّر يده على الطفل المريض، وعلى الأعمى وعلى المرأة صفراء اللون. وينحني على المشلول ويقول: «أريد ذلك.»

 

يَنظُر إليه الرجل ويهتف: «الحرارة في جَسَدي الـمُنهَك!» ويَنهَض كما هو إلى أن يَضَعوا عليه غطاء الـمِحَفّة. الأُمّ تحمل طفلها الذي زالت عنه القشرة، والأعمى يفرك عينيه لِتَماسّهما الأوّل مع النور. ونساء يصرخن: «لم تعد دينا صفراء كالحوذان البرّيّ (نوع مِن النبات العشبيّ).»

 

الانفعال في ذروته. إنّهم يَهتفون، يُبارِكون ويتدافعون ليَروا، ويحاولون الخروج للانطلاق إلى البلدة يُخبِرون بما حَدَث. يتدافعون صوب يسوع مِن كلّ الأطراف والجهات. يرى بطرس أنّهم يكادون يَهرسونه فيصرخ: «أصدقائي! إنّهم يَخنقون المعلّم! تعالوا ننقذه!» وبدفعات مِن مَرافِقهم، وحتّى مِن سُوقِهم، ينجح الإثنا عشر بتخليص يسوع وتحريره والعبور به إلى الخارج. «غداً سوف أتدبّر أنا الأمر.» يقول بطرس «أنتَ أمام الباب والباقون في الصَّدر. هل آذوكَ؟»

 

«لا.»

 

«كانوا يَبدون كالمجانين! يا لهذه الأساليب!»

 

«دعهم يَفعلون. لقد كانوا سعداء... وأنا معهم. اذهبوا وعَمِّدوا الذين يَطلبون ذلك. إنّني عائد إلى البيت. أنتَ يهوذا، مع سمعان، وَزِّعا الصَّدَقَة على المساكين. كلّها. فلدينا أكثر مما ينبغي لرُسُل الربّ. اذهب يا بطرس، اذهب. لا تَخشَ مِن أن تفعلها كثيراً. فأنا أُبرّركَ لدى الآب، بما أنّني آمُركَ. الوداع يا أصدقائي.»

 

ويسوع مُنهَك ويتصبّب عَرَقاً، ينـزوي في البيت، بينما التلاميذ يؤدّي كلّ واجبه تجاه الزائرين.