ج7 - ف185
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
185- (يسوع في حقل الجليليّين مع ابنيّ عمّه الرّسولَين)
10 / 09 / 1946
«يوضاس ويعقوب، تعاليا معي.»
ابنا حلفى لا يدعانه يكرّر كلامه مرّتين. إنّهما ينهضان على الفور ليخرجا مع يسوع مِن منزل صغير في ضاحية جنوب أورشليم، حيث هم مستضافون اليوم.
«إلى أين نذهب يا يسوع؟» يَسأَل يعقوب.
«لإلقاء التحيّة على الجليليّين على جبل الزيتون.»
يسيرون لبعض الوقت باتّجاه أورشليم، ثمّ يُحاذون تِلالاً صغيرة حيث توجد منازل بين الخُضرة، بالتأكيد منازل معلّمين، يقطعون الطريق إلى بيت عنيا وأريحا، ذاك الّذي إلى أقصى الجنوب، الّذي ينتهي إلى ما بين توفيت وسلوان، يَدورون وراء تلّة أخرى هي ساندة لجبل الزيتون، يقطعون الطريق الأخرى الّتي تمضى مباشرة إلى بيت عنيا مِن جبل الزيتون، وعبر درب ثانويّة بين الزيتون يصعدون إلى حقل الجليليّين، حيث الخيام نادرة جدّاً، وحيث يبقى، كذكرى عن الجمع، غُصينات ذابلة ملقاة على الأرض، بقايا مواقد بدائيّة أَحرَقَت العشب، رماد، جمرات، مخلّفات، كما يبقى دائماً حينما يكون هناك تخييم.
إنّ الفصل البارد والأمطار المبكّرة قد عَجَّلَت في رحيل الحجّاج. قوافل النساء والأطفال آخذة في المغادرة حتّى الآن. الرجال، خصوصاً الأصحّاء، قد بقوا لاستكمال العيد.
الجليليّون المؤمنون بالربّ ربّما تمّ إخطارهم مِن قِبَل بعض التلاميذ، لأنّني أراهم كلّهم ومِن كلّ بلدة معروفة بالنسبة لي. الناصرة مع تلميذين، حلفى، ذاكَ الّذي غَفَرَ له يسوع بعد وفاة أُمّه، وآخر. إنّما لا أرى يوسف ولا سمعان ابنيّ حلفى. بينما بالمقابل لا ينقص آخرون، مِن بينهم رئيس المعبد، الّذي يبدو مُحرَجاً بشكل جليّ لتحيّة يسوع باحترام بعدما أعاقه كثيراً. إنّما يتخلّص مِن الإحراج بقوله بأنّ قريبَيّ يسوع ينزلان عند "ذاكَ الصديق الّذي تعرفه"، بسبب الأولاد الّذين عانوا مِن ريح الليل. وقانا حاضرة بزوج سُوسَنّة، والده وآخرين، وأيضاً نائين بالقائم فيها مِن الموت وآخرين، وبيت لحم الجليل بسكّان كُثُر، والمدن الغربيّة للبحيرة بسكّانها…
«السلام لكم! السلام لكم!» يحيّيهم يسوع مارّاً بينهم، مداعباً الأطفال الّذين لا يزالون حاضرين، أصدقاءه الصغار مِن المناطق الجليليّة، منصتاً إلى يائير الّذي يقول له كم يأسف لعدم وجوده في المرّة الأخيرة.
يسوع يستعلم عمّا إذا كانت الأرملة التي مِن أَفِيقَ قد استقرّت في كفرناحوم وفيما إذا كانت قد قَبِلَت يتيم جيسكالا. «لا أَعلَم يا معلّم. ربّما كنتُ قد غادرتُ قبلاً...» يقول يائير.
«نعم، نعم، لقد جاءت امرأة تعطي الأولاد الكثير مِن العسل والملاطفات. وتُعدّ لنا الفطائر. وكان أولئك الأطفال الّذين كانوا يأتون إليكَ يذهبون دوماً إليها ليأكلوا. وفي اليوم الأخير أرتنا طفلاً صغيراً صغيراً. لقد اشترت عنزتين لأجل الحليب. وقالت لنا أنّه طفل مِن السماء والربّ. ولم تأتِ إلى العيد كما كانت تريد، لأنّه لم يكن بمقدورها أن تصطحب معها طفلاً صغيراً بهذا القَدر. وقالت لنا، نحن، أن نقول لكَ بأنّها سوف تحبّه ببرّ وبأنّها تبارككَ»
أطفال كفرناحوم يغرّدون كما العصافير حول يسوع، فخورين بأنهم يَعلَمون، هم، ما لا يَعلَمه حتّى رئيس المعبد، وبأنّهم قاموا، هم، مقام سفراء تجاه المعلّم الطيّب، الّذي يصغي إليهم بذات الانتباه الّذي كان ليعيره إلى راشدين، والّذي يجيب: «وأنتم قولوا لها بأنّني أباركها كذلك وبأن تحبّ الأطفال لأجلي. وأنتم أحبّوها، لا تستغلّوها لطيبتها، لا تحبّوها فقط لأجل العسل والفطائر، بل لأنّها طيّبة. طيّبة إلى درجة أنّها أدركت أنّ مَن يحبّ طفلاً باسمي يجعلني سعيداً. واقتدوا بها كلّكم، صغاراً كنتم أم كباراً، مفكّرين على الدوام بأنّ مَن يَقبَل طفلاً باسمي له مكانه المحدّد في السماء. لأنّ للرحمة مكافأتها على الدوام، حتّى ولو لكأس ماء واحدة مقدّمة باسمي، لكن الرحمة تجاه الأطفال، بإنقاذهم ليس فقط مِن الجوع، العطش، البرد، وإنّما مِن فساد العالم، لها مكافأة بلا حدود… لقد أتيتُ كي أبارككم قبل أن تغادروا، احملوا بركتي إلى نسائكم، إلى بيوتكم...»
«إنّما ألن تعود إلى عندنا يا معلّم؟»
«سأعود… إنّما ليس الآن. بعد الفصح...»
«آه! إن تأخّرتَ كثيراً، حتماً ستنسى الوعد...»
«لا تخافوا. فقد تتوقّف الشمس عن السطوع قبل أن ينسى يسوع مَن يرجونه.»
«سيكون الوقت طويلاً!...»
«وكئيباً!»
«إذا ما مرضنا...»
«إذا واجهتنا المصاعب...»
«إذا نزل الموت في بيوتنا...»
«مَن سيعيننا؟» يقول كُثُر مِن مناطق مختلفة.
«الله. إنّه معكم إذا ما لبثتم فيَّ بإرادتكم.»
«ونحن؟ نحن نؤمن بكَ منذ وقت قصير. إنّنا نقرّ بذلك. ألن نحظى بتعزية عندئذ؟ ومع ذلك، فالآن، بعد أن رأيناكَ تجترح المعجزات وسمعناكَ في الهيكل، آه! إنّنا نؤمن بكَ...»
«وبي لذلك فرح عظيم، فأن يكون مواطنيَّ على درب الخلاص، هي رغبتي الأشدّ حرارة.»
«أتحبّنا إلى هذه الدرجة؟ لكنّنا أسأنا إليكَ وسَخِرنا منكَ لفترة طويلة!...»
«إنّه الماضي. ولم يعد له وجود. كونوا أوفياء للمستقبل، والحقّ أقول لكم فإنّ ماضيكم قد مُحِيَ على الأرض كما في السماء»
«أتبقى معنا؟ سوف نتقاسم الزَّاد كما في مرّات كثيرة في الناصرة، حيث كنّا كلنا سواسية، وكنّا نرتاح في أيّام السبت تحت أشجار الزيتون، أو حينما كنتَ فقط يسوع وكنتَ تأتي معنا ومثلنا إلى أورشليم للأعياد...» هناك تأسُّف وحنين إلى الأزمنة الماضية في أصوات الناصريّين الّذين هم يؤمنون الآن.
«كنتُ أودُّ الذهاب إلى يوسف وسمعان. لكنّني سأذهب فيما بعد. إنّكم كلّكم إخوة لي في الله، وبالنسبة لي فإنّ للروح والإيمان قيمة أكبر مِن اللحم والدمّ، لأنّ هذين الأخيرين يفنيان فيما الآخران خالدان»
وفيما يسارع البعض إلى تجهيز النار لشيّ اللحوم، وإلى وضع أغصان زيتون فيها لإعداد الطعام، فإنّ الأكبر سنّاً والأرفع منزلة، مِن كلّ أنحاء الجليل، يحتشدون بشكل دائرة حول يسوع، سائلين إيّاه لماذا لَم يكن في الهيكل صباح هذا اليوم واليوم الفائت، وفيما إذا كان سيذهب في الغد، اليوم الأخير للعيد.
«كنتُ في مكان آخر… إنّما في الغد فسأكون بالتأكيد.»
«وستتكلّم؟»
«إذا ما استطعتُ...»
حلفى بن سارة يخفض صوته، وفيما يتلفّت حوله، يهمس للمعلّم: «أخواكَ قد ذهبا ليؤمّنا لكَ عَوناً في المدينة… إنّ ذاكَ يَعلَم الكثير مِن الأمور كونه قريب مِن طرف نسائيّ لأحد رجال الهيكل… إنّ يوسف يهتمّ لأمركَ، أَتَعلَم؟ في العمق… هو طيّب»
«أَعلَم ذلك. وسيصبح أفضل على الدوام عندما يصبح طيّباً روحيّاً.»
يصل المزيد مِن الجليليّين مِن المدينة، عددهم حول يسوع يزداد، الأمر الّذي يثير استياءً شديداً لدى الأطفال الّذين يبعدهم الراشدون، والّذين لا يتمكّنون مِن الاقتراب مِن يسوع إلى أن يلاحظ حشدهم البريء والمتجهّم ويقول باسماً: «دعوا أطفالي يأتون إليَّ»
آه! عندئذ، وفيما تنفصم الدائرة، يركضون، بغبطة متجدّدة، كما سرب مِن الطيور إلى يسوع، الّذي يداعبهم فيما يواصل التحدّث إلى الراشدين. ويده، الطويلة والّتي لا تزال مُسْمَرّة بفعل شمس الصيف، تمرّ وتعاود المرور فوق الرؤوس الصغيرة السمراء والكستنائيّة، مع بعض رؤوس صغيرة شقراء ضائعة بين الرؤوس الداكنة. يلتصق به الأولاد بأكثر ما يستطيعون، والوجوه الصغيرة مختفية في ملابسه، تحت الرداء، متعلّقين بركبتيه، بجنبيه، توّاقين لمداعباته، والمسرورين لحصولهم عليها.
يأكلون وهم على شكل دائرة بعدما بَارَكَ يسوع الطعام ووزّعه، في اتّحاد قلوب ملؤه الصفاء والودّ.
الآخرون، الّذين لا يتبعون يسوع، ينظرون مِن بعيد، ساخرين ومشكّكين، إنّما لا أحد يبالي بهم…
الوجبة انتهت. يسوع ينهض أوّلاً وينادي يائير، وحلفى، ودانيال الّذي مِن نائين، وإيليا الذي مِن كورازيم، صموئيل (الـمُقعَد السابق الّذي لا أعرف مِن أين)، ومِن ثمّ أوريا، ثمّ أحد اليوحنّات الكثيرين، أحد السمعانات الكثيرين، ولاوي، وإسحاق، وهابيل الذي مِن بيت لحم، وآخرين. واحد مِن كلّ بلدة، إلى حدّ ما. وبمعاونة ابني عمّه، يقسم حصصاً كثيرة متساوية مِن كِيسَين ملآنين جيّداً، ويعطي حصّة لكلّ واحد ممّن ناداهم ليستخدمها مِن أجل فقراء بلدته.
ثمّ، وبعدما لم يبقَ معه أيّ فلس، يبارك الجميع ويودّعهم. إنّه يودّ المغادرة للتوجّه صوب جَثْسَيْماني كي يعاود دخول المدينة مِن باب الغنم. إنّما يتبعه الجميع تقريباً، خصوصاً الأطفال الّذين لا يتركون ثوبه وأهداب ردائه، إنّهم يضايقونه بالتأكيد، إنّما هو يدعهم يفعلون…
وذاكَ الطفل الّذي مِن مجدلا، بنيامين، الّذي قال يوماً رأيه بصراحة ليهوذا الاسخريوطيّ، يشدّ ثوبه إلى أن ينحني يسوع ليستمع إليه على وجه التحديد.
«أما تزال تصحب معكَ ذاكَ الشرّير؟»
«أيّ شرّير؟ ليس معي أشرار...» يقول يسوع وهو يبتسم له.
«بلى يوجد منهم! ذاكَ الرجل الطويل والأسمر الّذي كان يضحكَ… تَعلَم، ذاكَ الّذي قُلتُ له بأنّه كان جميلاً مِن الخارج وبشعاً مِن الداخل… ذاكَ سيّئ هو»
«إنّه يتحدّث عن يهوذا.» يقول تدّاوس الّذي كان وراء يسوع ويسمعه.
«أعرف» يجيبه يسوع ملتفتاً إلى الوراء، ومِن ثمّ يقول للطفل: بالتأكيد ذاكَ الرجل هو معي. إنّه واحد مِن رُسُلي. إنّما هو الآن طيّب جدّاً… لماذا تهزّ رأسكَ؟ لا ينبغي التفكير شرّاً بالقريب، خصوصاً أولئك الّذين لا نعرفهم»
الطفل يحني رأسه ويصمت.
«ألا تجيبني؟»
«أنتَ لا تريدني أن أقول الأكاذيب… وأنا قد وعدتُكَ بألّا أقولها وقد فعلتُ ذلك. إنّما إن قلتُ لكَ الآن بأن نعم، بأنّني أعتقد بأنّه طيّب، فأكون أقول أمراً غير صحيح، لأنّني أعتقد بأنّه سيّئ. بإمكاني أن أُبقي فمي مقفلاً لإرضائكَ، إنّما لا يمكنني إبقاء عقلي مُقفَلاً كي لا أُفكّر.»
الـمَخرَج بغاية القطعيّة والمنطقيّة، في بساطته الّتي تبقى طفوليّة، بحيث أنّ كلّ الّذين يسمعونه يضحكون، كلّهم ما عدا يسوع الّذي يتنهّد ويقول: «إذن، عليكَ أن تقوم بأمر ما. الصلاة ليغدو طيّباً، إن كان حقّاً يبدو لكَ سيّئاً. عليكَ أن تكون ملاكه. هل ستفعل ذلك؟ فإذا ما غدا أفضل فسوف أحظى لذلك بفرح أكثر. وبالتالي فإنّكَ، عندما تصلّي لأجله، تكون تصلّي كي أكون سعيداً.»
«سأفعل ذلك. لكن إن كان هو سيّئاً ولم يصبح طيّباً وهو معكَ، فإنّ صلاتي لن تفعل شيئاً.»
يسوع يضع حدّاً للجِدال بالتوقّف والانحناء لمعانقة الأطفال. ثمّ يأمر الجميع بالعودة إلى الوراء…
حينما يصبح يسوع وابنا عمّه وحدهم، فإنّ يوضاس بن حلفى، بعد برهة صمت، كما لو أنّه كان يفكّر بينه وبين نفسه، يقول مستنتجاً: «معه حق! إنّه محقّ تماماً! إنّني أفكّر مثله.»
«إنّما عمّن تتحدّث؟» يَسأَله أخوه يعقوب، الّذي كان يسير إلى الأمام، مستغرقاً قليلاً، على الدرب الّذي لا تسمح سوى بمرور شخص واحد في ذات الوقت.
«عن بنيامين أتحدّث. وعمّا قاله. و… إنّما أنتَ لا تريد أن تَسمَعه، وأنا كذلك أقول لكَ بأنّ يهوذا هو… ليس رسولاً حقيقيّاً… ليس صادقاً، لا يحبّكَ، ليس...»
«يوضاس! يوضاس! لماذا تتسبّب لي بالألم؟»
«يا أخي، لأنّني أحبكَ. وأخاف الاسخريوطيّ، أخاف منه أكثر ممّا أخاف مِن حَيّة...»
«إنّكَ ظالم. لولاه لربّما كان قد قُبِض عليَّ»
«يسوع مُـحِقّ. يهوذا قد فعل الكثير. لقد جَلَبَ لنفسه كراهيات وتهكّمات بلا حدود، لكنّه عَمِل ويعمل لأجل يسوع.» يقول يعقوب.
«أنا، لا يمكنني تصوّر أنّكَ أبله، وأنّكَ كاذب… وأتساءل إذن، لماذا أنتَ تدعم يهوذا. لا أتكلّم بدافع غيرة، ولا بدافع كراهية. أتكلّم لأنّني أشعر في داخلي بأنّه فاسد، وبأنّه غير صادق… ما يمكنني التسليم به، حبّاً بكَ، هو أن يكون مجنوناً. أنّه مجنون بائس، يهذي اليوم باتّجاه، وغداً باتّجاه آخر. إنّما صالح فلا، هو ليس كذلك. احذر يا يسوع! احذر… لا أحد منّا طيّب. إنّما انظر إلينا جيّداً. عيننا صافية. راقبنا جيّداً. سلوكنا لا يتغيّر. إنّما ألا تخبركَ شيئاً حقيقة أنّ الفرّيسيّين لا يجعلونه يدفع ثمن تهكّماته تجاههم؟ أنّ جماعة الهيكل لا يُبدون أيّ ردّ فِعل حيال كلامه؟ أَنَّ دوماً لديه أصدقاء بالضبط مِن أولئك الّذين يُسيء إليهم ظاهريّاً؟ أنّه يملك مالاً على الدوام؟ لا أتحدّث عنّا نحن الاثنين، إنّما حتّى نثنائيل الغنيّ، حتّى توما، الّذي لا تنقصه الإمكانات، ليس لديهم سوى الضروريّ. هو… آه!...»
يسوع يصمت…
يعقوب يلاحظ: «إنّ أخي على حقّ جزئيّاً. بالتأكيد أَنَّ يهوذا دوماً ما يجد ذريعة كي… يكون وحده، كي يذهب وحده… كي… لكنّني لا أريد أن أُوَسوِس أو أن أدين. أنتَ تَعلَم...»
«نعم. أَعلَم. ولذلك أقول بأنّني لا أريد إدانات. عندما تَحلّون محلّي في العالم، سَتَدنون مِن مخلوقات أغرب بكثير مِن يهوذا. أيّ رُسُل ستكونون إن تجنّبتموها لأنّها غريبة؟ بل لأنّها كذلك بالتحديد، عليكم أن تحبّوها محبّة صابرة لتجعلوا منها حِملاناً للربّ. الآن لنذهب إلى يوسف وسمعان. لقد سمعتما، أليس كذلك؟ هما يعملان في السرّ لأجلي. سوف تقولان: محبّة عائليّة. نعم. إنّ ذلك صحيح. لكنّها دوماً محبّة. لقد افترقتم على نحو سيّئ المرّة الماضية. تصالحوا الآن. أنتما وهما كنتم على خطأ وعلى صواب. ليعترف كلّ منكم بخطئه ولا يُقيّم جانبه بأنّه على صواب»
«هو أساء إليَّ كثيراً بإساءته الشديدة إليكَ.» يقول يعقوب.
«إنّكَ تشبه كثيراً يوسف أبي. ويوسف أخوكَ يشبه حلفى أباكَ. وعليه، فيوسف غالباً ما كان يُنتَقَد مِن قِبَل أخيه الأكبر، لكنّه كان متسامحاً ويغفر له على الدوام. ذلك أنّ أبي كان بارّاً عظيماً! فكن أنتَ كذلك»
«وإن وَبَّخني كما لو أنّني ما زلتُ طفلاً؟ إنّكَ تَعلَم أنّه عندما يكون مستاءً فإنّه لا يصغي للمنطق...»
«أنتَ التزم الصمت. الوسيلة الوحيدة لتهدئة الغضب. اصمت بتواضع وصبر، وإذا ما شعرتَ بأنّكَ ما عدتَ تستطيع أن تصمت دونما فظاظة، ارحل. معرفة الصمت! معرفة الهرب! لا جُبناً، لا عدم معرفة ماذا يقال، بل بدافع مِن فضيلة، مِن احتراس، مِن محبّة، مِن تَواضُع. في الِجدالات صعب جدّاً الحفاظ على الاستقامة! وسلام الروح. شيء ما يهبط دائماً ليُفسِد الأعماق، ليُعكِّر، ليُحدث ضوضاء. وصورة الله التي تنعكس في كلّ روح طيّب تُشَوَّش، تتلاشى. ولا يعود بالإمكان سماع كلامه. سلام! سلام بين الإخوة، سلام كذلك مع الأعداء. وإذا ما كانوا أعداء لنا، فهم أصدقاء للشيطان. فهل نحن أيضاً نودُّ أن نصير أصدقاء للشيطان، بأن نكره مَن يكرهوننا؟ كيف يمكننا جلبهم إلى المحبّة إن كنّا نحن مجرَّدين مِن المحبّة؟ تقولان لي: "يا يسوع، لقد سبق أن قلتَ ذلك مرّات كثيرة وتفعله، لكنّكَ على الدوام محلّ كراهية". سأقوله دائماً. وعندما لا أعود بعد معكما، فسوف أوحي به إليكما مِن السماء. وأقول لكما أيضاً ألّا تَحسبوا الهزائم، بل الانتصارات. لنسبّح الربّ على ذلك! فلا يمضي قمر مِن دون أن يُظهِر غَلَبَة ما. هذا يجب أن يلاحظه العامل لدى الله، مُهلِّلاً لذلك بالربّ، مِن دون ذاك الحنق الّذي ينتاب أهل العالم عندما يخسرون واحداً مِن انتصاراتهم البائسة. إذا تصرّفتم هكذا...»
«السلام لكَ يا معلّم. ألم تتعرّف إليَّ؟» يقول شابّ عائد مِن المدينة صوب جَثْسَيْماني.
«أنتَ؟… اللّاوي الّذي كنتَ برفقتنا العام المنصرم مع الكاهن»
«هذا أنا. كيف تعرّفتَ إليَّ، أنتَ الّذي ترى عالَماً بأسره مِن حولكَ؟»
«إنّني لا أنسى الوجوه والنُّفوس في سِماتها.»
«ما السِّمة الّتي تَطبَع روحي؟»
«طَيّب. وغير راضٍ. متعب أنتَ ممّا يحيط بكَ. نفسكَ تطمح لأمور أفضل. تشعر بأنّها موجودة. تشعر أنّ الوقت قد حان لاتّخاذ قرار مِن أجل خير أبديّ. تشعر بأنّ ما وراء الغباش، هناك شمس، هناك النور. أنتَ تريد النور.»
الشاب يرتمي على ركبتيه: «يا معلّم، أنتَ قلتَها! ذلك صحيح. هذا ما يكنّه قلبي. ولم أكن أُحسِن عَقد العزم. إنّ الكاهن العجوز يوناثان قد آمن، ومِن ثمّ مات. لقد كان عجوزاً. أنا شاب. إنّما قد سمعتُكَ تتكلّم في الهيكل… لا تصدّني يا ربّ، فليس الكلّ يكرهونكَ هناكَ، وإنّني مِن أولئك الّذين يحبّونكَ. قُل لي ما عليَّ فِعله، كَوني لاويّاً...»
«واجبكَ، حتّى الزمن الجديد. أن تفكّر مليّاً، لأنّكَ لن تمضي نحو المجد الأرضيّ بمجيئكَ إليَّ، بل نحو الألم. وإذا ما ثابرتَ، فستنال مجد السماء. تثقّف بعقيدتي، ترسّخ فيها...»
«بأيّ شيء؟»
«السماء ذاتها سوف تثبّتكَ بعلاماتها. أعد تثبيت نفسكَ بمساعدة تلاميذي، وتعلّم ما عَلَّمتُه ومارِسه أكثر فأكثر. افعل ذلك وستنال الحياة الأبديّة.»
«سأفعل ذلك يا ربّ. إنّما… أيمكنني بعد متابعة الخدمة في الهيكل؟»
«لقد قلتُ لكَ: حتّى الزمن الجديد.»
«باركني يا معلّم. سيكون ذلك تكريسي الجديد.»
يسوع يباركه ويقبّله. يفترقان.
«أتريان؟ هكذا هي حياة عمّال الربّ. منذ عام مضى وَقَعَ البِذار في هذا القلب. ولم يَبدُ ذلك انتصاراً، لأنّه لم يأتِ إلينا على الفور. وبعد عام، ها هو يأتي ليُثبت كلامي الّذي قلتُه منذ قليل. أنّه انتصار. أليس لذلك أن يجعل النّهار جميلاً بالنسبة لنا؟»
«إنّكَ دائماً على حقّ يا يسوعي… إنّما ابقَ على حذر مِن يهوذا! إنّني أبله لقولي ذلك. أَعلَم هذا. أنتَ تَعلَم… إنّما في قلبي هذا الثّقل… ولا أقوله للآخرين، لكنّه موجود، وأنا متأكّد بأنّه كذلك موجود لدى الآخرين.»
يسوع لا يردّ. إنّه يقول: «إنّني مسرور لأنّ يوسف ونيقوديموس قد قاما بإعطائي هذا المال. فهكذا يمكنني أن أرسل مَعونة لفقرائي في الجليل...»
لقد وصلوا إلى الباب، ويدخلون ليضيعوا وسط الجمع.