ج10 - ف27
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
27- (مريم تقيم في جَثْسَيْماني مع يوحنّا)
21 / 08 / 1951
مريم لا تزال في منزل العلّية. وحدها في غرفتها المعتادة، تخيط بياضات ناعمة جدّاً، تشبه أغطية مائدة طويلة وضيّقة. ترفع رأسها بين الحين والآخر لتنظر إلى الحديقة لتخمّن الوقت مِن النهار استناداً إلى موقع الشمس على الأسوار. وإذا ما سمعت صوتاً في المنزل أو في الشارع فإنّها تصغي بانتباه. يبدو أنّها تنتظر أحداً ما.
هكذا يمرّ بعض الوقت. ثمّ يُسمَع قرع على باب المنزل، يتبعه وقع خُفَّين يهرعان لفتح الباب. وفي الممرّ تتردّد أصوات رجال تغدو أقوى وأقرب باطّراد. مريم تُنصِت... ثمّ تصيح: «هما هنا؟! ما الّذي يمكن أن يكون قد حدث؟!» وفيما هي لا تزال تقول تلك الكلمات، يقرع أحد ما على مدخل الغرفة: «ادخلا، يا أخويّ بيسوع ربّي.» تجيب مريم.
يدخل لعازر ويوسف الذي مِن الرّامة، يحيّيانها بإجلال عميق قائلين لها: «مباركة أنتِ بين كلّ الأُمّهات! خادما ابنكِ وربّنا يحيّيانكِ.» ويركعان ليُقبّلا طرف ثوبها.
«ليكن الربّ دوماً معكما. لأيّ سبب تقصدانني، فيما هياج مُضطهِدي المسيح وأتباعه لم يهدأ بعد؟»
«كي نراكِ قبل كلّ شيء. لأنّ رؤيتكِ هي أيضاً رؤيته هو، وبذلك فإنّنا نشعر بأنّنا أقلّ حزناً لرحيله عن الأرض. ومِن ثمّ لنعرض عليكِ ما قد عزمنا على القيام به، بعد أن عقدنا في منزلي اجتماعاً لأكثر الخدّام محبّة ووفاء ليسوع، ابنكِ وربّنا.» يجيبها لعازر.
«تكلّما. ستكون محبّتكما هي الّتي تكلّمني، وأنا سأنصت إليكما بمحبّتي.»
الآن يوسف الذي مِن الرّامة هو مَن يتكلّم، ويقول: «إنّكِ لا تجهلين يا امرأة، وقد قلتِ ذلك، أنّ الهياج، وما هو أسوأ بعد، لا يزال مستمرّاً حيال كلّ الّذين كانوا قريبين مِن ابنكِ والله، إمّا بالقرابة، أو بالإيمان، أو بالصداقة. ونحن لا نجهل بأنّكِ لا تنوين ترك هذه الأمكنة، حيث رأيتِ التجلّي الكامل للطبيعة الإلهيّة والبشريّة لابنكِ، وعذابه الكامل، ومجده التامّ، مِن خلال تألّمه وموته كابن الإنسان بحقّ؛ ومِن خلال قيامته المجيدة وصعوده. ونحن كذلك لا نجهل بأنّكِ لا تريدين أن تتركي الرُّسُل وحدهم، باعتباركِ ترغبين في أن تكوني أُمّاً ومُرشِدة لهم في اختباراتهم الأولى، أنتِ، كرسيّ الحكمة الإلهيّة، أنتِ، عروس الروح الّذي يكشف الحقائق الأبديّة، أنتِ، الابنة المحبوبة على الدوام مِن قِبَل الآب الّذي اختاركِ منذ الأزل أُمّاً لوحيده، أنتِ، أُمّ كلمة الآب هذا الّذي ثقّفكِ بالتأكيد بحكمته وعقيدته الأزليّتين والكاملتين بالتمام، حتّى قبل أن يسكن فيكِ، كمخلوق كان يتكوّن، أو حتّى قبل أن يكون معكِ ابناً نما بالعمر والحكمة، حتّى يصير معلّم المعلّمين. يوحنا أخبرنا بذلك غداة أوّل ظهور رسوليّ وأوّل كرازة مذهلة، بعد صعود يسوع إلى السماء بعشرة أيّام. وأنتِ، بدورِكِ، تعلمين، كونكِ قد رأيتِ ذلك في جَثْسَيْماني يوم صعود ابنكِ إلى الآب، ولعلمكِ بذلك مِن بطرس، يوحنّا والرُسُل الآخرين، كيف أنّ لعازر وأنا، وفوراً بعد الموت والقيامة، بدأنا بأعمال بناء حول بستاني الّذي يقع قرب الجلجلة وفي جَثْسَيْماني على جبل الزيتون، وذلك لكي لا يُدنِّس أعداء يسوع هذه الأمكنة الّتي قَدَّسَها دم الشهيد الإلهيّ، الّذي سال، مع الأسف! ملتهباً بفعل الحمّى في جَثْسَيْماني، وجامداً ومتخثّراً في بستاني. الآن الأعمال قد انتهت، أنا كما لعازر، ومعه أختاه والرُّسُل، وعلى الرغم مِن أنّه مؤلم للغاية ألّا نحظى بكِ هنا، فإنّنا نقول لكِ: "اتّخذي منزِل يونان ومريم، حارِسَيّ جَثْسَيْماني، مسكناً لك."»
«ويونان ومريم؟ صغير هو ذاك المنزل، وأنا أحبّ العزلة. لطالما أحببتُها. والآن سوف أحبّها أكثر، لأنّني بحاجة لها كي أتوه في الله، في يسوعي، لكيلا أموت مِن معاناة عدم امتلاكه هنا ثانية. فعلى أسرار الله، ذلك أنّه الآن هو الله أكثر مِن أيّ وقت مضى، ليس مِن الصائب أن تقع عين بشريّة. أنا امرأة، ويسوع رجل. لكن إنسانيّتنا كانت، وستظلّ إنسانيّة مختلفة عن كلّ إنسانيّة أخرى، بالعصمة مِن الخطيئة، حتّى الأصليّة، وبالعلاقة مع الله الواحد والثالوثيّ. إنّنا متفرّدان في هذه الأمور وسط كلّ المخلوقات، السابقة، الحاضرة والآتية. إنّ الإنسان، حتّى الأفضل والأكثر احتراساً، هو بلا محالة فضوليّ بطبيعته، خصوصاً إذا كان على مقربة مِن مظهر فائق للطبيعة. وفقط أنا ويسوع، حين كان على الأرض، نعلم أيّ ألم، أيّ... نعم، أيّ خجل، أيّة مضايقة، أيّ سأم وأيّ عذاب كنّا نعاني حين الفضول البشريّ يتقصّى، يراقب، ويرصد روابطنا السرّيّة مع الله. إنّ الأمر أشبه بأن يضعونا عراة في وسط ساحة. فَكِّرا بماضيَّ، كيف كنتُ أسعى دوماً للاختفاء، للصمت، كيف كنتُ أحجب، تحت مظاهر حياة عاديّة لامرأة مسكينة، أسرار الله فيَّ. تذكّرا كيف أنّه وفي سبيل ألاّ أكشف تلك الأسرار حتّى لزوجي يوسف، فقد كنتُ على وشك أن أجعل منه، وهو البار، شخصاً ظالماً. وحده تدخّل أحد الملائكة منع هذا الخطر. فَكِّرا بالحياة المتواضعة جدّاً، الخفيّة، العامّة، الّتي عاشها يسوع خلال ثلاثين عاماً، بساطة تَنحّيه جانباً، انعزاله حين أصبح المعلّم. كان عليه أن يجترح المعجزات ويُعَلّم، لأنّ تلك كانت رسالته. إنّما، وكنتُ أعلم ذلك منه شخصيّاً، هو كان يتألّم -وذلك كان واحداً مِن الأسباب الكثيرة لصرامته والحزن اللذين كانا يلتمعان في عينيه الكبيرتين والقادرتين- كان يتألّم، كنتُ أقول، مِن حماسة الجموع، مِن الفضول الطيّب نوعاً ما الّذي مِن خلاله كانت تتمّ مراقبة تصرّفاته. كم مرّة قال لتلاميذه وأولئك الّذين نالوا المعجزة: "لا تُفصِحوا عمّا رأيتم. لا تُفصِحوا عمّا صنعتُه لكم"!... والآن أنا لا أودّ أن تَعمل عين بشريّة على معرفة أسرار الله فيَّ، وهي أسرار لم تنقطع مع عودة يسوع، ابني وإلهي إلى السماء، لا بل على العكس تستمرّ، وأقول إنّها تتعاظم، بفضل صلاحه، وكي يبقيني على قيد الحياة إلى أن تأتي الساعة، الّتي أتوق إليها كثيراً، وهي الانضمام إليه إلى الأبد. أودّ أن يكون فقط يوحنّا معي. لأنّه حَذِر، مُراع لواجبات الاحترام، مُـحِبّ معي مثل يسوع آخر. لكنّ يونان ومريم سوف يعلمان...»
لعازر يقاطعها: «لقد قُضي الأمر أيّتها المباركة! سبق لنا أن تدبّرنا الأمر. مرقس، ابن يونان، هو الآن مع التلاميذ. أمّا مريم، أُمّه، ويونان، أبوه، فإنّهما الآن في بيت عنيا.»
«لكن بستان الزيتون؟ إنّه بحاجة ماسة للاهتمام به!» تجيبه مريم.
«فقط عند التقليم والحرث والقطاف. بالتالي هي بضعة أيّام سنويّاً، وسيتطلّب الأمر أقلّ مِن ذلك بعد، لأنّني سأرسل خدّامي مِن بيت عنيا مع مرقس في تلك الحقب. وأنتِ، يا أُمّي، إذا شئتِ إسعادنا أنا وأختيّ، تعالي إلى بيت عنيا خلال أيّام العمل تلك، في منزل الغيور المنعزل. سنكون قريبين، إنّما أعيننا لن تكون متطفّلة على تواصلكِ مع الله.»
«ولكن معصرة الزيتون؟...»
«لقد نُقِلت إلى بيت عنيا. إنّ جَثْسَيْماني، الـمُسوّرة تماماً، والّتي هي ملكيّة أكثر تحفّظاً بعد للعازر بن ثيوفيلوس، بانتظاركِ أيا مريم. وأؤكّد لكِ أنّ أعداء يسوع لن يجرؤوا، خوفاً مِن روما، على انتهاك سلام الموضع وسكينتكِ.»
«آه! طالما الأمر كذلك!» تقول مريم. وتضغط بيديها على قلبها وتنظر إليهما، بوجه مُنتَشٍ تقريباً مِن فرط ما هي سعيدة، وترتسم ابتسامة ملائكيّة على شفتيها، ودموع فرح على رموشها الشقراء. وتتابِع الكلام: «أنا ويوحنّا! وحيدان! نحن الاثنان بمفردنا! سيبدو الأمر لي كما لو أنّني في الناصرة مجدّداً مع ابني! بمفردنا! في السلام! في ذاك السلام! هناك حيث هو، يسوعي، نشر كثيراً مِن الكلمات وروح السلام! هناك حيث، بحقّ، قد تعذّب إلى حدّ التعرّق دماً، وتلقّى العذاب الأعظم للقبلة الشائنة وأوّل...» شهقة وذكرى أليمة جدّاً تقطعان كلامها وتتسبّبان باضطراب وجهها، الّذي يستعيد للحظات قصيرة تعبير الألم الّذي كان يبدو عليه في أيّام آلام ابنها وموته. ثمّ تتمالك نفسها وتقول: «هناك حيث هو قد عاد إلى سلام الجنّة اللامتناهي! سوف أبعثُ مِن دون إبطاء بتوصياتي إلى مريم الّتي لحلفى لتحافظ على منزلي الصغير في الناصرة، العزيز جدّاً عليَّ حيث هناك تمّ السرّ، وحيث مات زوجي الطاهر جدّاً والقدّيس جدّاً، وحيث كبر يسوع. العزيز جدّاً! إنّما ليس بمقدار هذه الأمكنة حيث أنشأ طقس الطقوس، واستحال خبزاً، دماً، حياةً للبشر، وحيث تألّم، وافتدى، وأسّس كنيسته، وببركته الأخيرة جعل كلّ الأشياء المخلوقة خَيّرة ومقدّسة. سوف أبقى. نعم. سوف أبقى هنا. سوف أذهب إلى جَثْسَيْماني. ومِن هناك، إذا ما حاذيتُ الأسوار مِن جهتها الخارجية، يمكنني الذهاب إلى الجلجلة، وإلى بستانكَ يا يوسف، حيث بكيتُ كثيراً، والمجيء إلى منزلكَ يا لعازر، حيث حزتُ هناك دوماً على الكثير مِن المحبّة، لابني أوّلاً، ولي بعد ذلك. لكنّني أودّ...»
«ماذا، أيّتها المباركة؟» يسألها الاثنان.
«أودّ التمكّن مِن العودة إلى هنا أيضاً. فقد كنّا قرّرنا أنا والرُّسُل، شرط أن يسمح لعازر بذلك...»
«كلّ ما تشائين يا أُمّاه. كلّ ما أملكه هو لكِ. سابقاً كنتُ أقول ذلك ليسوع. والآن أقوله لكِ. وإذا ما تقبّلتِ عطيّتي سأكون أنا مَن يتلقّى النعمة.»
«يا بنيّ، دعني أناديكَ هكذا، أودّ أن تأذن لنا بأن نجعل مِن هذا المنزل، أي مِن العلّية، موضعاً للاجتماعات والوليمة الأخويّة [الإفخارستيا].»
«هذا حقّ. ففي هذا المكان أسّس ابنكِ الطقس الأبديّ الجديد، وأنشأ الكنيسة الجديدة، رافعاً رُسُله وتلاميذه إلى الكهنوت والحَبريّة الجديدة. ومِن الحقّ أن تستحيل هذه الغرفة المعبد الأوّل للديانة الجديدة. البِذار الّذي يصبح غداً شجرة، وبعد ذلك غابة شاسعة، الجنين الّذي سيكون غداً كائناً نابضاً بالحياة، كاملاً، والّذي سوف ينمو أكثر فأكثر، يغدو أكثر عمقاً واتّساعاً، ليتمدّد على الأرض كلّها. وأيّة مائدة وأيّ مذبح سيكون أكثر قداسة مِن هذين اللذين كسر هو بذاته عليهما الخبز ووضع كأس الطقس الجديد، الّذي سيدوم طالما ستدوم الأرض؟»
«هذا صحيح يا لعازر. وهل ترى؟ من أجل ذلك أنا منهمكة بخياطة الأغطية النقيّة، لأنّني أؤمن، كما لن يؤمن أحد بقوّة مماثلة، بأنّ الخبز والخمر، هما هو، بجسده وبدمه، جسد كلّيّ القداسة وكلّيّ البراءة، دم فادٍ، ممنوحَين للبشر غذاء وشراب حياة. ليبارككما الآب، الابن والروح القدس، أنتما يا مَن كنتما بارّين، حكيمين، عطوفين على الدوام حيال الابن وأُمّه.»
«إذاً قُضِي الأمر. هاكِ. هوذا المفتاح الّذي يفتح مختلف أبواب سور جَثْسَيْماني، وها هو مفتاح المنزل. وكوني سعيدة بمقدار ما يمنحكِ الله أن تكوني، وما يودّ حبّنا المتواضع أن تكوني كذلك.»
الآن، وقد انتهى لعازر مِن الكلام، يوسف الذي مِن الرّامة يقول بدوره: «وهذا هو مفتاح سور بستاني.»
«إنّما أنتَ... أنتَ لكَ مطلق الحقّ في الدخول إليه!»
«لديّ مفتاح آخر يا مريم. البستانيّ إنسان بارّ، وكذلك ابنه. يمكنك فقط أن تجديهما وإيّاي هناك. وسنكون كلّنا محترسين ومتّسمين بالاحترام.»
«ليبارككما الله مجدّداً.» تكرّر مريم.
«لكِ شكرنا أيّتها الأمّ. لكِ حبّنا وسلام الله، على الدوام.» يركعان بعد هذه التحيّة الأخيرة، ويُقبّلان مجدّداً طرف ثوبها ويمضيان.
ما أن خرجا مِن المنزل حتّى سُمَع طرق خفيف آخر على باب الغرفة حيث هي مريم.
«ادخل.» تقول مريم.
يوحنّا لا يجعلها تكرر كلامها. يدخل ويُغلِق الباب، وهو مضطّرب بعض الشيء: «ماذا كان يريد يوسف ولعازر؟ أهناك خطر ما؟»
«لا يا بنيّ. ليس هناك سوى استجابة لرغبتي. رغبتي ورغبة الآخرين. تعلم كيف أنّ بطرس، الحَبر الأوّل، ويعقوب بن حلفى الحبر، والرئيس الآخر لكنيسة أورشليم، حزينان لفكرة خسارتي، وخائفان مِن ألاّ يعرفا ما يتوجّب عليهما فِعله مِن دوني. خصوصاً يعقوب. فحتّى ظهور ابني الخاصّ له، اختياره بمشيئة يسوع، لا يعزّيانه ولا يشجّعانه. إنّما كذلك الآخرون!... لقد أرضى لعازر هذه الرغبة العامّة وجعلنا سيّدَي جَثْسَيْماني. أنتَ وأنا. بمفردنا هناك. ها هي المفاتيح. وهذا هو مفتاح بستان يوسف... سيكون بمقدورنا الذهاب إلى القبر، إلى بيت عنيا، مِن دون المرور بالمدينة... والذهاب إلى الجلجلة... والمجيء إلى هنا في كلّ مرّة تقام فيها الوليمة الأخويّة [الإفخارستيا]. إنّ لعازر ويوسف وافقا على كلّ شيء.»
«إنّهما بارّان حقيقيّان. لقد نال لعازر الكثير مِن يسوع. هذا صحيح. إنّما أيضاً، قبل أن ينال، فقد أعطى دوماً ليسوع كلّ شيء. هل أنتِ سعيدة يا أُمّي؟»
«نعم يا يوحنّا، كثيراً! سوف أحيا، بقدر ما يشاء الله، لأعاون بطرس ويعقوب، وأنتم كلّكم، وسوف أساعد المسيحيّين الأوائل بكلّ السبل. وإذا لم يكن اليهود والفرّيسيّون والكهنة وحوشاً ضارية أيضاً ضدّي كما كانوا بالنسبة إلى ابني، فسوف أتمكّن مِن لفظ روحي حيث هو صعد نحو الآب.»
«سوف تصعدين أيضاً أيا أُمّي.»
«لا. أنا لستُ يسوع، أنا وُلِدتُ بطريقة بشريّة.»
«إنّما مِن دون الخطيئة الأصليّة. إنّني صيّاد مسكين وجاهل. لا أعرف مِن العقائد والكتابات إلّا ما علَّمني إيّاه المعلّم. مع ذلك أنا مثل طفل لأنّني نقيّ. ولهذا السبب، ربّما، أنا أعرف منها أكثر مِن رابّيي إسرائيل، لأنّه هو قال ذلك، الله يخفي الأمور عن الحكماء ويكشفها للصغار، للأنقياء. وبسبب ذلك فأنا أفكّر، أو بالأحرى: أشعر بأنّكِ ستنالين المصير الّذي كانت حوّاء لتناله لو لم تخطئ. وأكثر بعد، لأنّكِ لم تكوني عروساً لآدم-إنسان، بل عروس الله، لِتَمنَحي الأرض آدم الجديد الوفيّ للنعمة. إنّ الخالق، عندما خلق الأبوين الأوّلين، لم يجعلهما خاضعين للموت، أي لفساد الجسد المثاليّ الّذي خلقه، وجعله أنبل كلّ الأجساد المخلوقة، لأنّه وُهِبَ نَفْساً روحانيّة وعطايا مجّانيّة مِن الله، والّتي بفضلها كان يمكن أن يُدعَيا "ابني الله بالتبنّي"، لكنّ ما أراده لهما كان فقط العبور مِن الفردوس الأرضيّ إلى ذاك السماويّ. وحيث أنّكِ لم تحملي أبداً دنس أيّة خطيئة في نفسكِ. ولا حتّى الخطيئة العظمى، المشتركة بين الجميع، إرث آدم لكلّ البشر، قد وصمتكِ، لأنَّ الله قد صانكِ منها بامتياز أوحد ومتفرّد، كونكِ أنتِ، مُعَدَّة على الدوام لتُصبِحي تابوت الكلمة. والتابوت، أيضاً ذاك الّذي، للأسف! لا يحوي سوى أشياء باردة، جافّة، ميتة، لأنّ بالحقيقة شعب الله لا يضعها موضع التطبيق كما يتوجّب، هو، وينبغي أن يكون فائق النقاء على الدوام. تابوت نعم. إنّما مَن، مِن أولئك الّذين يقتربون منه، أحبار وكهنة، هم كما أنتِ؟ لا أحد. لذلك فأنا أشعر بأنّكِ، أنتِ حوّاء الثانية، حواء الوفيّة للنعمة، لن ينالكِ الموت.»
«إنّ ابني، آدم الثاني، الّذي هو النعمة بذاتها، المطيع دائماً للآب، ولي، طاعة كاملة، قد ماتَ. وأيّة ميتة!»
«كان قد جاءَ ليكون الفادي يا أُمّي. لقد غادر الآب، السماء، كي يتجسّد ليفتدي بتضحيته البشر، ليعيد إليهم النعمة، أي يرفعهم مجدّداً إلى مرتبة أبناء الله بالتبنّي، ورثة السماء. هو كان عليه أن يموت، والموت بإنسانيّته كلّية القداسة. وأنتِ متِّ في قلبكِ وأنتِ ترين عذابه الوحشيّ وموته. لقد سبق لكِ أن تألّمتِ تماماً لتكوني فادية معه. إنّني جاهل مسكين، لكنّني أشعر بأنّكِ أنتِ، تابوت العهد الحقيقيّ لله الحقّ والحيّ، لن تكوني، ولا يمكنكِ أن تكوني خاضعة للفساد. مثل سحابة النار الّتي حمت وقادت تابوت عهد موسى صوب الأرض الموعودة، فهكذا سوف تجذبكِ نار الله إلى مركزها. وكما أنّ قضيب هارون لم ييبس، لم يمت، بل على العكس، فعلى الرغم مِن أنّه كان منفصلاً عن الشجرة، إلاّ أنّه أنبت براعم وأوراقاً وأنتج ثماراً، وبقي حيّاً تحت المظلّة، كذلك أنتِ، الّتي اختاركِ الله مِن بين كلّ النساء اللواتي أقمن وسوف يقمن على الأرض، فلن تموتي مثل نبتة تجفّ، بل سوف تعيشين للأبد، بكلّ ذاتكِ، تحت مظلّة السماوات. وكما انشقّت مياه الأردن لإفساح المجال أمام عبور تابوت العهد والّذين كانوا يحملونه، والشعب بأسره، في زمن يشوع، فأيضاً لكِ سوف تُفتَح الحواجز الّتي وضعتها خطيئة آدم بين الأرض والسماء، وسوف تعبرين مِن هذا العالم إلى السماء الأزليّة. إنّني متأكّد مِن ذلك. لأنّ الله عادل. ولأنّه ينطبق عليكِ الوعد الّذي أعطاه الله لأولئك الّذين ليسوا موسومين بالخطيئة الموروثة ولا بخطيئة إراديّة في نفوسهم.»
«هل كشف يسوع لكَ ذلك؟»
«لا يا أُمّي. الروح الباراقليط هو مَن قاله لي، ذاك الّذي قال لنا المعلّم بأنّه سوف يكشف لنا الأمور الآتية وكلّ الحقيقة. المعزّي قال لي ذلك، في روحي، ليجعل مِن فكرة خسارتكِ أقلّ مرارة عليَّ، أيا أُمّي المباركة الّتي أحبّها وأُجِلُّها، كما أحبّ وأُجِلُّ أُمّي، بل وأكثر منها، بسبب كلّ ما تألّمتِه، بسبب طيبتكِ وقداستكِ، بين كلّ القدّيسين الحاضِرين والآتين، الّتي لا يفوقها سوى طيبة وقداسة ابنكِ الكلّيّ القَدَاسة. أيّتها القدّيسة الأعظم.» ويركع يوحنّا ليجلّها، متأثّراً كلّياً.