ج9 - ف22
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
22- (مِن دار الولاية إلى الجلجلة)
26 / 03 / 1945
بعد إدانته، يبقى يسوع هكذا، يحرسه الجنود في انتظار الصليب، (يمضي بعض الوقت هكذا) ليس أكثر مِن نصف ساعة، ربّما أقلّ. ثمّ يعطي لونجين المكلّف بتولّي شأن التنفيذ أوامره.
ولكن قبل أن يُقاد يسوع خارجاً، إلى الطريق، كي يتلقّى الصليب ويبدأ المسير، ينظر إليه لونجين مرّتين أو ثلاث مرّات بفضول مُتَّسم بالتعاطف، وبنظرة المتعوّد على بعض الأمور، يقترب مِن يسوع مع جنديّ ويقدّم له، إرواءً لعطشه، كوب نبيذ، على ما أظنّ، لأنّ سائلاً له شُقرة ورديّة فاتحة صُبّ مِن قارورة معدنية عسكرية. «سوف يفيدكَ. لا بدّ أنّكَ تشعر بالعطش، وفي الخارج شمس، والطريق طويلة هي.»
ولكنّ يسوع يجيب: «فليكافئكَ الله على رحمتكَ، ولكن لا تحرم نفسكَ.»
«ولكن أنا سليم وقويّ... أنتَ... أنا لا أحرم نفسي... ثمّ إنّي أفعل ذلك في هذا الظرف بطيبة خاطر كي أشدّد عزمكَ... جرعة واحدة... كي تُظهِر لي أنكَ لا تكره الوثنيّين.»
لم يعد يسوع يرفض ويشرب جرعة مِن الشراب. كانت يداه محرّرتين، كما لم يعد معه القصبة ولا خرقة القماش ويمكنه أن يفعل هذا بنفسه. وبعد ذلك يرفض، رغم أنّ الشراب البارد والطيب يخفّف الحُمى المتبدّية بآثار حمراء تتأجّج على خدّيه الشاحبين وعلى شفتيه الجافّتين، المشقّقتين.
«خذ، خذ. هذا ماء وعسل. هذا يسندكَ، يرويكَ... أنتَ تثير شفقتي.. نعم... شفقتي... لم تكن أنتَ مَن يجب أن يُقتَل بين العبرانيّين... واأسفاه!... أنا لا أكرهكَ... وسأحاول ألاّ أجعلكَ تتألّم إلاّ فيما لا بدّ منه.»
ولكنّ يسوع لم يشرب ثانية... كان حقّاً عطشاناً... العطش الرهيب، عطش مَن فَقَد الكثير مِن الدم والمحموم... هو يعلم أنّه ليس شراباً مخدراً ويشربه طوعاً، ولكنّه لا يريد ألماً أقلّ. ولكنّي أدرك، كما أفهم ما أقول بفضل نور داخليّ، أنّ شفقة الرومانيّ تعزّيه أكثر مِن الماء بالعسل.
«فليردّ الله لكَ هذه التعزية بالبركات.» يقول بعد ذلك. وما يزال يبتسم... ابتسامة ممزِّقة بفم منتفخ، مجروح، يحرّكه بصعوبة، كذلك لأنّ الجزء ما بين الأنف والوجنة اليمنى مرضوض بشدّة ومتورّم بسبب ضربة العصا الّتي تلقّاها في الباحة الداخليّة بعد الجَلْد.
يصل اللصّان يحيط بكلّ منهما عشرة جنود. إنّها ساعة الرحيل. لونجين يُصدِر أوامره الأخيرة.
وحدة مئة انتظمت في صفّين يبعد الواحد عن الآخر مسافة ثلاثة أمتار، لتخرج هكذا إلى الميدان، حيث وحدة مئة أخرى شَكّلت مربّعاً لإبعاد الجمع حتّى لا يعيق الموكب. عند الميدان الصغير، هناك الخيّالون: وحدة مِن عشرة فرسان بالإضافة إلى قائدهم الشاب الّذي يأمرهم ويوجّههم. جنديّ مترجّل يمسك لجام الحصان الأدهم لقائد المئة. يمتطي لونجين السرج ويتقدّم الأحد عشر فارساً بحوالي المترين.
تُحضَر الصلبان: صليبا اللصين أقصر. وصليب يسوع أطول كثيراً. أقول إنّ القطعة الطوليّة لا تقلّ عن أربعة أمتار. أرى الصليب وقد جُلِب كاملاً.
قرأتُ عن هذا الموضوع، عندما كنتُ أقرأ... أي منذ أعوام، أنّ الصليب قد تمّ تجميعه على قمّة الجلجلة وأنّ المحكومين يحملون العارضتين فقط على أكتافهم طوال الطريق. ممكن، ولكنّني أرى صليباً حقيقيّاً كامل التكوين، متيناً، مع ذراعين معشّقين في القطعة الرئيسيّة ومثبَّتاً جيّداً بالمسامير والبراغي. بالفعل، لو فكّر المرء أنّه كان معدّاً لحمل ثقل لا يُستهان به، الّذي هو جسد شخص بالغ، ولتحمّله أيضاً أثناء التشنّجات الأخيرة، وهي كذلك لا يُستهان بها، لأدرك أنّه لا يمكن تشكيله على القمّة الضيّقة وغير المريحة للجلجلة.
قبل إعطاء الصليب ليسوع، تُعلَّق على رقبته لافتة مفادها «يسوع الناصريّ ملك اليهود.» والحبل الّذي يمسك اللافتة يشتبك مع الإكليل، الّذي يتحرّك ويخدش حيث لم يكن مِن خدوش ويخترق نقاطاً جديدة مسبّبة له آلاماً جديدة ومسيلة الدم مِن جديد. يضحك الناس بفرح ساديّ، يهينون، يشتمون.
الآن هم مستعدّون، ولونجين يعطي أمر المسير: «في المقدّمة الناصريّ، خلفه اللصّان؛ عشرة جنود حول كلّ منهم، الوحدات العشريّة السبع الأخرى كما جناحين وكدعم، وسيكون مسؤولاً الجندي الّذي يجعل المحكومين يُضرَبون حتّى الموت.»
يَنـزل يسوع الدرجات الثلاث المؤدّية إلى الميدان مِن البهو. ويَظهر واضحاً في الحال أنّ يسوع في حالة وهن شديد. إنّه يترنّح وهو ينـزل الدرجات الثلاث، متعثّراً بالصليب الّذي يضغط على كتفه المجلوط بالكامل، ومِن اللافتة الّتي تتحرّك أمامه وتحزّ بحبلها رقبته، ومِن تأثير ذبذبة القطعة الطويلة للصليب على الجسد الّتي تقفز على الدرجات وعلى خشونة الأرض.
يضحك اليهود وهم يرونه مثل رجل سكران يتأرجح ويصيحون بالجنود: «ادفعوه. اجعلوه يسقط على التراب، هذا المجدّف!»
ولكنّ الجنود يفعلون فقط ما عليهم أن يفعلوه، أي يأمرون المحكوم أن يسلك منتصف الطريق ويسير. يحثّ لونجين حصانه ويتحرّك الموكب بطيئاً.
ولونجين يودّ أيضاً أن يسرع، بسلوك الدرب الأقصر للمضيّ إلى الجلجلة، لأنّه لم يكن واثقاً مِن تحمّل المحكوم. ولكنّ العصابة الهائجة -وتسميتهم هكذا (بالعصابة)، هو أيضاً شرف- لم تُرد هذا. فالأكثر خبثاً كانوا قد تقدّموا إلى مفترق الطرق حيث تتفرّع الطريق مِن جهة تجاه الأسوار ومِن الأخرى تجاه المدينة. فيثورون، ويصيحون حينما يرون لونجين يسعى لسلوك الطريق الّتي باتّجاه الأسوار. «ليس لكَ هذا! ليس لكَ هذا! هذا غير قانونيّ! الشريعة تقول إنّ المدينة كلّها يجب أن ترى المحكومين حيث ارتكبوا الخطأ!» واليهود الّذين في نهاية الموكب، يُدرِكون أنّ في المقدّمة هناك محاولة لحرمانهم مِن حقّ لهم، فيضمّون صياحهم لصياح زملائهم.
حُبّاً بالسلام، يتّخذ لونجين الطريق المؤدّية إلى المدينة ويقطع مسافة منها. ولكنّه يشير كذلك إلى قائد عشرة أن يقترب منه (أقول قائد عشرة لأنّ له رتبة وقد يكون كمن نطلق عليه صفة ضابط مرافق) ويقول له على مهل أمراً ما. هذا يرجع إلى الخلف وهو يهرول، وينقل الأمر إلى كلّ قائد عشرة يصل إليه. ثمّ يرجع إلى لونجين كي يقول له بأنّ الأمر قد نُقِل. وأخيراً يعود إلى مكانه الأوّليّ في الصف الّذي هو وراء لونجين.
يتقدّم يسوع لاهثاً. كلّ حفرة في الطريق هي شرك لقدميه المترنّحتين وعذاب لكتفيه المجلوطين، ولرأسه المكلّل بالشوك والّذي تسقط عليه مباشرة شمس شديدة الحرارة تختفي مِن وقت إلى آخر خلف ستار مِن سحب رماديّة، ورغم اختفائها لا تتوقّف عن الإحراق. يسوع محتقن مِن التعب، والحمّى، والحرارة. أعتقد أنّ النور نفسه والصيحات تعذبّه. وإن لم يكن ليستطيع سدّ أذنيه كي لا يسمع تلك الصيحات الهائجة، فإنّه يغلق قليلاً عينيه كي لا يرى الطريق المبهرة مِن الشمس... إنّما عليه كذلك أن يفتحهما لأنّه يتعثّر بالحجارة والحفر، وكلّ مرّة يتعثّر فيها، يتألّم لأنّ الصليب يتحرّك بغتة ويصدم الإكليل، ويتزحزح على كتفيه المجلوطين ويوسع جرحه ويزيد مِن ألمه.
لم يعد بوسع اليهود أن يضربوه مباشرة؛ ولكن ما زالت تصل إليه بعض الحجارة وبعض ضربات مِن العصيّ، الأولى، بشكل خاصّ في الساحات الصغيرة المزدحمة بالناس، والثانية على العكس عند المنعطفات، في الشوارع الصغيرة الّتي تصعد وتنـزل بدرجات، أحياناً واحدة وأحياناً ثلاثة وأحياناً أكثر، بسبب اختلاف المستويات المتواتر في المدينة. وهناك، يبطئ الموكب بالضرورة، ويوجد دائماً متطوّع (!) يتحدّى الرماح الرومانيّة كي يكيل ضربة جديدة لآية التعذيب الّذي هو يسوع الآن.
يدافع عنه الجنود قدر استطاعتهم. ولكن حتّى وهم يدافعون عنه كانوا يضربونه، لأنّ التلويح بالأذرع الطويلة للرماح في مسافة قصيرة، تصدمه وتجعله يتعثّر. ولكن عند الوصول إلى إحدى النقاط يقوم الجنود بحركة لا غبار عليها، ورغم الصيحات والتهديدات، ينحرف الموكب فجأة في درب يتّجه مباشرة إلى الأسوار، نزولاً، عبر درب يختصر الطريق كثيراً إلى موقع الإعدام.
يسوع يلهث باطّراد. يسيل العرق على وجهه في الوقت الّذي يسيل الدم مِن جراح إكليل الشوك. الغبار يلتصق بوجهه المبلّل ويلطّخه ببقع غريبة، لأنّ هناك كذلك ريح الآن. هَبّات مِن ريح بفواصل طويلة بحيث تُسقِط الغبار الّذي يرفعه الناس كزوابع، تودي بالبقايا إلى داخل العينين والحلق.
عند باب القضاء يتزاحم الآن أشخاص وأشخاص. هؤلاء الّذين توقّعوا فبكّروا في الحضور كي يختاروا أفضل مكان للرؤية. ولكن قبل الوصول إليهم بقليل، يوشك يسوع على السقوط. وفقط التدخل السريع مِن أحد الجنود، الّذي أوشك يسوع أن يسقط عليه يمنعه مِن الوصول إلى الأرض. يضحك الجمهور ويصيحون: «دعوه! كان يقول للجميع: "انهضوا" فلينهض هو الآن...»
إلى ما وراء الباب، هناك سيل وجسر صغير. تعب جديد ليسوع أن يمضي فوق هذه الألواح المتفكّكة الّتي تتنطّط عليها بقوّة خشبة الصليب الطويلة. ومنجم قذائف جديد لليهود. حجارة مِن السيل تطير وتضرب الشهيد المسكين…
حينئذ يبدأ الصعود إلى الجلجلة. درب عارٍ، بلا أثر لظلّ، حجارته مفكّكة، تستهلّ الصعود مباشرة.
هنا أيضاً، عندما كنتُ أقرأ، قرأتُ أنّ الجلجلة لم تكن لترتفع أكثر مِن بضعة أمتار. ممكن. فهو ليس جبلاً بالتأكيد. إنّه تلّ، وبالتأكيد جبل الصلب أكثر انخفاضاً مقارنة بـ لونغارني حيث توجد كاتدرائية القديس مينياتو في فلورنسا. قد يقال: «آه! هذا ليس بشيء!» نعم، بالنسبة لمن هو سليم وقويّ هذا ليس بشيء. ولكن يكفي أن يكون القلب ضعيفاً، لمعرفة إن كان سهلاً أم صعباً!... أنا أعلم أنّه بعد الإعياء بالقلب، حتّى ولو كان النهج بسيطاً، لم أكن لأستطيع تسلّق هذا المنحدر دون كثير ألم، ولكان عليّ التوقّف في كلّ لحظة، وبلا حِمل على الأكتاف. وأعتقد أنّ قلب يسوع كان مريضاً جدّاً خاصّة بعد الجَلْد والتعرّق الدمويّ... ولا أتأمّل بشيء آخر غير هذين الأمرين.
يحسّ يسوع إذن بألم حادّ في الصعود، ومع ثقل الصليب الّذي لا بدّ أنّه، بسبب طوله، غاية في الثقل.
يصادف حجراً بارزاً، وبسبب إنهاكه يرفع قدمه قليلاً جدّاً، فيتعثّر ويسقط على ركبته اليمنى، ومع ذلك ينجح في النهوض بمساعدة يده اليسرى. ويُطلِق الناس صيحات فرح... يقف مجدّداً، يتقدّم، بأكثر انحناء ولاهثاً، محتقناً، ومحموماً…
اللافتة الّتي تهتزّ أمامه، تعيق الرؤية، وثوبه الطويل، بما أنّه يتقدّم الآن مقوس الظهر، يسترسل على الأرض مِن الأمام ويعرقل مشيته. يتعثّر مِن جديد ويسقط على ركبتيه، ويُجرَح مِن جديد حيث هو مجروح، والصليب الّذي ينفلت مِن يديه ويسقط، بعد أن يرتطم بقوّة على ظهره، يضطرّه على الانحناء لرفعه وإعادة وضعه بعناء على كتفيه. وبينما هو يفعل ذلك يُرى بوضوح جرح كتفه الأيمن الناجم عن احتكاك الصليب، الّذي فَتح جراح الجَلْد العديدة ليجعل منها جرحاً واحداً ينضح ماءً (مصلاً) ودماً، لدرجة أنّ الجلباب صار كلّه مبقّعاً في تلك المنطقة. حتّى إنّ الناس يصفّقون بسعادة لهذه السقطة السيّئة للغاية.
يحثّ لونجين على الإسراع، والجنود، بلكزات مِن صفائح سيوفهم القصيرة، يحثّون المسكين يسوع على التقدّم. يعاودون السير ببطء أكبر رغم كلّ الجهود.
يبدو يسوع كالسكران تماماً مِن فرط ترنّحه أثناء السير، يصطدم تارّة بهذا وأخرى بذاك الصفّ مِن صفّي الجنود الّذين يشغلون الطريق كلّها. ينتبه إليه الناس ويصيحون: «مذهبه تصاعد إلى رأسه. انظروا، انظروا كيف يترنّح!» وآخرون، ليسوا مِن الشعب، ولكن مِن الكَهَنَة والكَتَبَة، يسخرون: «لا! بل هي ولائم منزل لعازر الّتي ما زالت تصعد إلى رأسه. هل كانت لذيذة؟ والآن كُل طعامنا...» وعبارات أخرى مشابهة.
لونجين، الّذي يلتفت مِن آن إلى آخر، يشفق عليه ويأمر بالتوقّف لبضعة دقائق. فيهينه الرعاع، حتّى إنّ قائد المئة يأمر جماعته بإجراء اللازم. فيتراجع الجمهور الجبان، أمام الرماح الّتي تلمع وتُهدّد، فيبتعدون وهم يصيحون وينحدرون هنا أو هناك على الجبل.
وهنا أعاود رؤية جماعة مِن الرعاة صغيرة يخرجون مِن خلف أنقاض، قد يكون جداراً صغيراً مُهَدّماً. إنّهم حزانى، مضطربون، يكسوهم الغبار، ممزّقون، ينادون المعلّم بقوّة نظراتهم. فيدير رأسه، يراهم... يحدّق فيهم كما لو أنّهم وجوه ملائكة، ويبدو كأنّه يرتوي ويتقوّى بدموعهم، ويبتسم... وتُعطى الأوامر مجدّداً بالتقدّم، ويمرّ يسوع تماماً بمحاذاتهم ويسمع بكاءهم القلق. يدير بصعوبة رأسه مِن تحت نير الصليب ويبتسم لهم ثانية.
تعزياته... عشرة وجوه.... تَوقُّف تحت الشمس الـمُحرِقة…
ثمّ على الفور، آلام السقطة الثالثة الكاملة. وهذه المرّة، ليس لأنّه تعثّر. ولكنّه يسقط بسبب إغماءة ناتجة عن خور قوّته الفجائيّ. يسقط بكلّيته ويرتطم وجهه بالحجارة المفكّكة، ماكثاً في التراب تحت الصليب الساقط عليه. يحاول الجنود رفعه. ولكن بما أنّه يبدو كأنّه ميت، يبلغون قائد المئة. وبينما هم ذاهبون وراجعون، يستعيد يسوع وعيه، وببطء، بمساعدة اثنين مِن الجنود أحدهما يرفع الصليب والآخر يساعد المحكوم على الوقوف، يعود إلى مكانه. إنّه حقّاً منهك.
«احترسوا كيلا يموت إلاّ على الصليب!» يصيح الجمع.
«لو جعلتموه يموت قبلاً، سيستجوبكم الوالي، تذكّروا هذا. يجب أن يصل المحكوم حيّاً إلى الإعدام.» يقول رؤساء الكَتَبَة للجنود.
يرشقهم الجنود بنظرات قاسية، إنّما لا يتكلّمون تبعاً للنظام.
لونجين، حينذاك، الّذي لديه خشية اليهود ذاتها مِن أن يموت المسيح على الطريق، وهو لا يبغي المشاكل. ودون الحاجة لأن يُذكّره أحد، فهو يعرف واجبه كمكلّف بالتنفيذ وتدبير ذلك. ويتدبّر الأمر بتضليل اليهود الّذين هرعوا إلى الأمام مِن الطريق الّتي وفدوا إليها مِن كلّ اتّجاه في الجبل وهم يتصبّبون عَرَقاً، خادشين أنفسهم كي يمرّوا عبر الأدغال القليلة والشائكة في هذا الجبل المجدب والمحروق، ساقطين على حُتَات الصخور الّتي تعيقهم كما لو أنّ المكان كان مكبّ أنقاض لأورشليم، دون الشعور بأيّ عناء غير فقدان أيّ جزء مِن لهاث الشهيد، نظرة واحدة مِن نظراته الأليمة، حركة وإن كانت لا إراديّة مِن العذاب، ودون خوف مِن شيء غير التوصّل إلى الحصول على أفضل مكان. لونجين إذن يُصدِر الأمر بسلوك الطريق الأطول، الّذي يصعد بتعرّج إلى القمّة ولهذا هو أقلّ سرعة.
يبدو أنّ هذا المسلك، مِن كثرة ارتياده، قد استحال درباً مألوفاً كفاية. وهذا يتقاطع مع درب آخر يصل إلى منتصف الجبل تقريباً. ولكنّني أرى أنّ في مكان أعلى، لأربع مرّات، الطريق المباشرة تتقاطع مع هذه، الّتي تصعد بانحدار أخفّ كثيراً وبالمقابل فهي أطول كثيراً. وعلى هذه الطريق هناك أناس يَصعدون، ولكن لا يشاركون الغوغائيّين في صخبهم المشين وهم يتبعون يسوع للتمتّع بعذابه: معظمهم مِن النساء الباكيات المتحجّبات، ومجموعات صغيرة مِن الرجال قليلة العدد في الحقيقة، يتقدّمون كثيراً عن النساء اللواتي يكدن يختفين عن الأنظار، عندما، أثناء المتابعة، ينعطف حول الجبل. هنا الجلجلة لها، في تشكيلها الغريب، حدبة على شكل خطم مِن جهة، بينما مِن الجهة الأخرى تهبط عموديّاً.
يختفي الرجال خلف الحدبة الصخريّة ولم أعد أراهم.
الناس الّذين كانوا يتبعون يسوع يزعقون مِن الغيظ. كان الأجمل، بالنسبة إليهم، رؤيته يسقط. ومع اللعنات البذيئة للمحكوم وللّذين يقودونه، يتبع البعض الموكب القضائيّ والبعض الآخر يصعدون جرياً تقريباً مِن الطريق السريعة لتعويض إحباطهم بمكان ممتاز على القمّة.
النساء اللواتي يتقدّمن باكيات، يستدرن حين يسمعن الصيحات، ويرين الموكب ينعطف مِن تلك الجهة. يتوقّفن آنذاك ساندات الظهر على الجبل، خائفات مِن أن يرميهنّ إلى أسفل اليهود العنيفين. يُنـزِلن الأوشحة أكثر على وجوههنّ، وواحدة منهن متوشّحة بالكامل كالمنقبّة، غير مُحرّرة سوى عينيها السوداوين جدّاً. إنّهن يلبسن ملابس فاخرة، ومعهن رجل عجوز قويّ للدفاع عنهنّ، ولأنّه ملتحف معطفه، لم أميّز وجهه. لا أرى سوى ذقنه الطويلة الّتي يغلب فيها البياض على السواد، والّتي تبرز مِن ردائه الداكن.
عندما يصل يسوع إلى موضعهنّ، يبكين بشدّة أكبر وينحنين في تحيّات عميقة. ثمّ يتقدّمن بعزم. يريد الجنود إبعادهنّ برماحهم، ولكن تلك المتوشّحة كمنقّبة تزيح وشاحها للحظة أمام الفارس الواصل على حصان كي يرى هذا العائق الجديد، ويعطي أمراً بالسماح لها بالمرور. لم أستطع رؤية وجهها ولا ثوبها، لأنّها أرجعت وشاحها بسرعة البرق وملابسها مغطّاة بالكامل بردائها الواصل إلى الأرض، الثقيل، المقفل بالكامل بصفّ مِن الحلقات. اليد الّتي خرجت للحظة لتكشف الوشاح، بيضاء وجميلة، وعيناها السوداوان هما الشيء الوحيد الّذي يمكن رؤيته مِن تلك السيّدة العظيمة ذات النفوذ بالتأكيد حيث أنّ مأمور لونجين يطيعها هكذا.
يقتربن مِن يسوع باكيات ويركعن عند قدميه بينما يقف هو لاهثاً... ومع ذلك يعرف الابتسام للسيّدات التقيّات وللرجل الّذي يرافقهنّ، والّذي كشف عن نفسه ليظهر أنّه يوناثان. ولكن هذا لم يدعه الحرّاس يمرّ، فقط النساء.
إحداهنّ تكون يُوَنّا امرأة خُوزي. تبدو منهكة أكثر ممّا كانت عليه وهي على فراش الموت. ليس لها مِن اللون الأحمر سوى آثار الدموع، ثمّ وجه أبيض كالثلج مع عينيها الوديعتين السوداوين اللتين مِن ضبابيّتهما صارتا بلون بنفسجيّ داكن مثل بعض الأزهار. في يدها قارورة فضيّة تقدّمها ليسوع، ولكنّه يرفض. فضلاً عن ذلك فإنّ تقطّع أنفاسه يجعله غير قادر حتّى على الشرب. بيده اليسرى يمسح العرق والدم الّذي يسقط على عينيه، والّذي بسيلانه على خدّيه الحمراوين ومِن عنقه بسبب العروق المنتفخة مِن ضربات قلبه المتلاحقة، يُبلّل ثوبه كلّه عند الصدر.
امرأة أخرى، ترافقها خادمة شابّة تحمل صندوقاً بين ذراعيها، تفتحه وتُخرِج منه نسيجاً كتّانيّاً ناصع البياض، مربّعاً، وتقدّمه للفادي. إنّه يَقبله. وبما أنّه لم يكن قادراً أن يستعمله بنفسه بيد واحدة، تساعده المرأة المفعمة شفقة، متنبّهة لئلاّ تصدم الإكليل، في وضعه على وجهه. ويسوع يضغط النسيج المنعش على وجهه المسكين ويبقيه هكذا، كما لو أنّه كان يجد فيه سلواناً عظيماً. ثمّ يعيد النسيج ويتكلّم: «شكراً يُوَنّا، شكراً نيقي... سارة...مارسيل... إليز... ليديا... حنّة... فاليريا.. وأنت. لكن… لا... تبكين... عليّ... يا بنات... أورشليم... بل على الخطايا... خطاياكنّ... وخطايا... مدينتكنّ... باركي... يا يُوَنّا... أنّه لم يعد... لكِ أولاد... انظري... ذلك رحمة مِن الله... أن لا... أن لا يكون لكِ أولاد... لأنّهم... سيتألّمون مِن... هذا. وأنتِ أيضاً... أليصابات… مِن الأفضل ... أنّ هذا كان... مِن أن يكون بين قاتلي الله... وأنتنّ أيّتها... الأُمّهات... ابكين على... أولادكنّ، لأنّ... هذه الساعة لن تمرّ... دون عقاب... وأيّ عقاب، فإن كان هكذا... للبريء... فستبكين حينئذ... لأنّكنّ حبلتن... أرضعتنّ... وأنّ لَكُنّ بعد... أبناءكنّ... فأُمّهات... ذلك الحين... سيبكين لأنّ... الحقّ، أقول لَكُنّ... سيكون محظوظاً... أوّل... مَن... يسقط... حينئذ... تحت الأنقاض. أبارككنّ... اذهبن... إلى البيت... صلّين… مِن أجلي. الوداع، يوناثان... أبعدهنّ...»
ووسط صخب حادّ مِن بكاء النساء ولعنات اليهود، يستأنف يسوع السير.
يسوع يتصبّب عَرَقاً مِن جديد. الجنود كذلك يتعرّقون والمحكومان الآخران، لأنّ شمس هذا اليوم العاصف كانت حارقة مثل اللهب، ومنحدر الجبل الّذي أصبح ملتهباً يضاف إلى حرارة الشمس. كم هو تأثير هذه الشمس على ملابس يسوع الصوفيّة، الـمُلامِسة لجراح الجَلْد، يسهل تصوّر ذلك والروع منه... أمّا هو فلم يتفوّه بشكوى. فقط، رغم أنّ الطريق أقلّ انحداراً وقد خلت مِن تلك الحجارة المفكّكة، الخطرة جدّاً على قدميه اللتين يجرّهما الآن، يترنّح يسوع بأكثر شدّة، يكاد يصدم صفّاً مِن الجنود ثمّ الصفّ المقابل، منحنياً أكثر فأكثر صوب الأرض.
يفكّرون بإزالة هذا العائق بإمرار حبل على وسطه وإمساكه مِن طرفيه كما لو أنّه عنان. نعم، هذا يسنده، ولكنّه لا يرفع عنه حِمله. على العكس، باصطدام الحبل بالصليب يزحزحه باستمرار على كتفه ويجعله يضرب الإكليل الّذي جعل مِن جبهة يسوع وشماً دمويّاً. علاوة على ذلك يحكّ الحبل الوسط حيث جراح كثيرة وبالتأكيد لا بدّ أنّه يفتحها مِن جديد، كذلك الجلباب الأبيض يصطبغ عند الوسط بالورديّ الباهت. كي يساعدوه، يجعلونه يعاني أكثر بعد.
يتابع الدرب، ينعطف حول الجبل، ويعود تقريباً في الأمام نحو الطريق المختصرة. هناك مريم مع يوحنّا. أظنّ أنّ يوحنّا اقتادها إلى هذا المكان الظليل، خلف منحدر الجبل كي تستعيد قوّتها قليلاً. إنّه أكثر أماكن الجبل انحداراً. ليس هناك ما يحاذيه سوى هذا الدرب. في الأسفل الجانب ينحدر بسرعة وفي الأعلى المنحدر شديد الميل. ولهذا يتجاهله المتوحّشون. هناك ظلّ، أظنّه الشمال، ومريم، وهي تسند ظهرها إلى الجبل، هي في منأى مِن الشمس. إنّها تقف متّكئة على المنحدر الجبليّ، ولكنّها منهكة. تلهث هي أيضاً، شاحبة كميتة في ثوبها الأزرق الداكن جدّاً، يقارب السواد.
ينظر إليها يوحنّا بإشفاق حزين. هو أيضاً فقد كلّ أثر للون وهو شاحب، عيناه تعبتان وجاحظتان، أشعث الشعر، خدّاه غائرتان كما لو كان مريضاً. النساء الأخريات -مريم ومرثا أختيّ لعازر، مريم الّتي لحلفى وتلك الّتي لزَبْدي، سُوسَنّة الّتي مِن قانا، صاحبة المنزل وأخريات أيضاً لا أعرفهنّ- كلهنّ في منتصف الدرب وينظرن إذا ما وصل المخلّص. ولدى رؤيتهنّ وصول لونجين، يهرعن إلى مريم لينبئنها بالخبر. ومريم، المستندة على يوحنّا مِن المرفق، تفلت منه، مهيبة في ألمها، ومِن جانب الجبل تقف بجرأة في منتصف الدرب، ولم تبتعد إلاّ لدى وصول لونجين، الّذي مِن أعلى حصانه، ينظر إلى المرأة الشاحبة والّذي يرافقها، الأشقر، الشاحب، الّذي مثلها له عينان وديعتان كالسماء. يهزّ لونجين رأسه بينما هو يتجاوزها يتبعه الأحد عشر خيّالاً.
تحاول مريم المرور بين الجنود الراجلين، ولكنّ هؤلاء، إذ يشعرون بالحرارة وهم متعجّلون، أكثر منه مِن الحجارة الّتي تتطاير مِن الدرب المبلّط احتجاجاً على الرحمة الكثيرة، يحاولون دفعها بالرماح. إنّهم اليهود، الّذين يرشقون بعد اللعنات بسبب التوقّف الّذي سبّبته النساء الورعات ويقولون: «بسرعة! غداً الفصح. يجب أن ينتهي كلّ شيء قبل المساء! متواطئون يا مَن تحتقرون شريعتنا! طغاة! الموت للغزاة ولمسيحهم! إنّهم يحبّونه! انظروا كم يحبّونه! ولكن خذوه! ضعوه في مدينتكم الملعونة! نحن نتخلّى عنه لكم! نحن لا نريده! الجيفة للجيف! البَرَص للبُرص!»
يضيق لونجين ذرعاً وينخس حصانه، يتبعه عشرة مِن الرمّاحين، نحو السفلة الّذين يهينونه، والّذين يهربون مرّة ثانية. وإذ هو يفعل هذا يرى عربة متوقّفة، بالتأكيد قد صعدت إلى هنا مِن مساكب الخضار عند أسفل الجبل، الّتي تنتظر بحملها مِن الخضار مرور الجمع للنـزول في اتّجاه المدينة. أظنّ أنّ بعض الفضول دفع القيروانيّ وأبناءه للصعود إلى هنا، لأنّه لم تكن هناك ضرورة لفعل ذلك. الولدان ممدّدان على كومة الخضار، ينظران ويضحكان على اليهود الهاربين. الرجل مِن جهته، رجل قويّ في حوالي الأربعين-الخمسين مِن عمره، يقف بجوار الحمار الخائف الّذي يريد التقهقر، ينظر بانتباه إلى الموكب.
يتفرّس فيه لونجين. وهو يفكّر أنّه يمكن أن يكون مفيداً له ويأمره: «أيّها الرجل تعال هنا.» يتظاهر القيروانيّ بأنّه لم يسمع، ولكن لا مزاح مع لونجين. يكرّر الأمر بطريقة جعلت الرجل يُلقي بالعنان إلى أحد ابنيه ويدنو مِن قائد المئة.
«هل ترى هذا الرجل؟» يَسأَله، وبينما هو يتكلّم هكذا يلتفت ليشير إلى يسوع فيرى بدوره مريم، الّتي تتوسّل إلى الجنود ليسمحوا لها بالمرور. فيشفق عليها ويصيح: «دعوا المرأة تمرّ.» ثمّ يعود إلى الحديث مع القيروانيّ: «لم يعد يستطيع التقدّم مع حِمله. أنتَ قويّ. خذ صليبه واحمله عنه حتّى القمّة.»
«لا أستطيع... معي الحمار... وهو حرون... وولديّ لا يجيدان السيطرة عليه.»
ولكن لونجين يقول له: «هيّا، إن كنتَ لا تريد فقدان الحمار والحصول على عشرين جلدة كعقاب.»
لم يعد يجرؤ القيروانيّ على الردّ. ينادي الولدين: «أَسرِعا إلى المنـزل، وقولا إنّني أصل حالاً.» ثمّ يذهب إلى يسوع.
يصل إليه تماماً في اللحظة الّتي يلتفت فيها يسوع إلى أُمّه، الّتي يراها للتوّ فقط تتوجّه إليه، ذلك أنّه كان يتقدّم منحنياً جدّاً وعيناه تكادان تكونان مغلقتين كما لو كان أعمى، ويهتف: «ماما!»
إنّها أوّل كلمة منذ أن عُذِّب تعبّر عن آلامه. ذلك أنّ في هذه الكلمة اعتراف بكلّ شيء وبكلّ الآلام الرهيبة للروح، والجسد والوجدان. إنّها صرخة ممزَّقة وممزِّقة لطفل يموت وحيداً، بين الحرّاس ووسط أسوأ العذابات... والّذي يصل إلى الخوف حتّى مِن أنفاسه. إنّها شكوى طفل يهذي تُمزّقه رؤى الكوابيس... ويريد الأُمّ، الأُمّ لأنّ قُبلتها المنعشة وحدها هي الّتي تُسَكّن حرارة الحمّى، وصوتها يطرد الأشباح، وحضنها يجعل الموت أقلّ رعباً…
تضع مريم يدها على قلبها كما لو أنّها تلقّت طعنة خنجر وتترنّح ترنّحاً خفيفاً، ولكنّها تستعيد توازنها، تسرع الخطى وهي تمدّ ذراعيها نحو ابنها المعذّب، وتصيح: «بنيّ!» إنّما تقولها بلهجة تذيب قلب أيّ كان مِن الألم إن لم يكن قلب ضبع.
وأرى أنّ حتّى وسط الرومان حركة تنمّ عن الشفقة... ولو أنّهم رجال مسلّحون ومعتادون على المجازر، المتّسمة بالجراح... ولكنّ كلمتيّ: «ماما!» و «بنيّ!» هما سيّان بالنسبة للجميع ولكلّ الّذين، أكرّر، ليسوا أسوأ مِن الضباع، وهما تُقالان وتُفهمان في كلّ مكان، وتثيران في كلّ مكان موجات الشفقة.
القيروانيّ يمتلك هذه الشفقة... يرى أنّ مريم لا تتمكّن مِن معانقة ابنها بسبب الصليب، وبعد أن تمدّ يديها تنزلهما، مقتنعة بأنّها غير قادرة على ذلك. تنظر إليه فقط، مُحاوِلة أن تبتسم ابتسامتها الشهيدة، لتعزيته بينما شفتاها المرتعشتان ترشف دموعها. وهو، إذ قد لوى رأسه تحت نير الصليب، يحاول بدوره الابتسام لها وإرسال قبلة لها بشفتيه المجروحتين والمشقّقتين مِن الضرب والحمّى. ويسرع القيروانيّ، أمام هذا المشهد، ليرفع الصليب، ويفعل ذلك بلطف الأب، كي لا يصدم الإكليل ولا يحكّ الجراح.
ولكنّ مريم لا تستطيع تقبيل ابنها... فأيّة لمسة وإن كانت بسيطة، ستكون عذاباً لجسده الممزّق، فتحجم مريم عن لمسه. وثمّ... فإنّ للمشاعر الأكثر قداسة حياءً عميقاً، وتبغي الاحترام أو على الأقل الإشفاق. أمّا هنا فالفضول وبالأخصّ الاحتقار. لذا تتلاثم فقط نفساهما المنقبضتان.
الموكب، الّذي يستأنف السير تحت تأثير دفع أفواج الناس الهائجة الّتي تستعجله، يفرّقهما، دافعاً الأُمّ إلى الجبل، جاعلاً إيّاها عُرضة لاحتقار شعب بكامله… الآن يسير القيروانيّ خلف يسوع مع الصليب. ويسوع المتحرّر مِن هذا الحِمل، يمشي بشكل أفضل. يلهث بشدّة، غالباً ما يضع يده على قلبه كما لو كان يشعر بألم كبير، حيث هناك جرح في منطقة القصّ القلبيّ، والآن، إذ يستطيع ذلك باليدين غير المقيّدتين، يرفع شعره اللزج مِن جرّاء الدم والعَرَق، الساقط إلى الأمام، إلى ما وراء الأذنين ليشعر بالهواء على وجهه المحتقن، ويحلّ شريط الرقبة الّذي يؤلمه عندما يتنفّس... ولكنّ مشيته تصبح أسهل.
تنسحب مريم مع النساء. تتابع الموكب بمجرّد أن يمرّ، تتّجه بعد ذلك مِن طريق مختصرة نحو قمّة الجبل متحدّيةً لعنات الغوغائيّين آكلي لحوم البشر. الآن، وقد أصبح يسوع حرّاً، سرعان ما يتمّ اجتياز آخر تعرّج مِن تعرّجات الجبل والاقتراب مِن القمّة المزدحمة بشعب يُطلِق الصيحات.
يتوقّف لونجين ويأمر، بإبعاد الجميع إلى أسفل بلا رحمة لإخلاء القمّة، موضع تنفيذ الحكم. ونصف جماعة المئة تجري لتنفيذ الأمر وهي تدفع جميع الموجودين في المكان بلا رحمة، مستخدمين في ذلك سيوفهم القصيرة ورماحهم. وتحت وابل ضربات باطن السيوف والعصيّ يهرب اليهود مِن القمّة. ويودّون التمركز على فسحة تحتها. ولكن الّذين فيها لم يتراجعوا فتتأجّج بينهم مشاجرات عنيفة. يبدون وكأنّهم جميعاً مجانين.
كما قلتُ العام الماضي، الجلجلة، في قمّتها، لها شكل شبه منحرف غير منتظم، يرتفع قليلاً مِن جهة، منها ينحدر الجبل سريعاً حتّى بعد منتصف ارتفاعه قليلاً. على هذه الفسحة الصغيرة أُعِدّت ثلاث حفر عميقة مُدعّمة بقرميد أو صخور. محفورة خصّيصاً. قريباً منها، حجارة وأتربة معدّة لتدعيم الصلبان. وحُفَر أخرى، في المقابل، تُرِكت مليئة بالحجارة. ويُفهَم أنّهم يُفرِغونها بحسب عدد الّذين يشغلونها.
تحت القمّة شبه المنحرفة، مِن الجهة الّتي لا ينـزل فيها الجبل، يوجد نوع مِن المسطّحات بانحدار بسيط مُكَوِّناً فسحة صغيرة أخرى. مِن هذه يتفرّع دربان واسعان يحاذيان القمّة، بشكل تصبح معه القمّة معزولة ومرتفعة على الأقلّ مترين مِن كافّة الجوانب.
الجنود الّذين دفعوا الجمع مِن القمّة، يُخمِدون المشاجرات بضربات مُقنِعة مِن الرماح ويُخلون الطريق ليتمكّن الموكب مِن المرور دون عائق في القسم الأخير مِن الطريق، ويمكثون هناك مشكّلين حاجزاً بينما يصل المحكومون الثلاثة محاطين بالخيّالة ومحميّين مِن الخلف بالنصف الآخر مِن مجموعة المئة، إلى النقطة الّتي عليهم التوقّف عندها: عند سفح مسطّح طبيعي، مرتفع، الّذي يشكّل قمّة الجلجلة.
أثناء حدوث ذلك، أرى المريمات وخلفهنّ قليلاً يُوَنّا امرأة خُوزي مع أربع سيّدات أخريات ممّن كنّ سابقاً. الأخريات قد انسحبن، ولا بدّ أنّهنّ قد فعلن ذلك مِن تلقاء أنفسهنّ، ذلك أنّي أرى يوناثان هنا خلف سيّدته. لم يعد هناك تلك الّتي ندعوها فيرونيكا والّتي ناداها يسوع باسم نيقي، ولا خادمتها أيضاً ولا السيّدة المحجّبة بالكامل الّتي أطاعها الجنود. أرى يُوَنّا، العجوز المسمّاة إليز، حنّة (ربّة ذاك المنزل حيث كان يسوع أثناء موسم القطاف في السنة الأولى ج2-ف75) واثنتين لم أعرف مَن تكونان.
خلف تلك النسوة والمريمات أرى يوسف وسمعان ابنيّ حلفى، وحلفى بن سارة مع مجموعة الرعاة. لقد قاوموا الّذين كانوا يريدون إبعادهم وهم يهينونهم، وقوّة هؤلاء الرجال، الّتي ضاعفها حبّهم وألمهم، كانت بالغة العنف بحيث أنّهم فازوا، مشكّلين نصف دائرة حرّة في مقابل اليهود الجبناء الّذين لم يجرؤوا سوى على الصراخ بالموت ومدِّ قبضاتهم. وليس أكثر، لأنّ عصيّ الرعاة ثقيلة وكثيرة العقد ولم يفتقر هؤلاء الشجعان إلى القوّة والتصدّي. وأنا لا أخطئ بقولي هذا. فمن الشجاعة حقّاً أن يتصدّى لكلّ هذا الجمع العدائيّ جماعة قليل عددها، معروفون أنّهم جليليّون أو مِن الأوفياء للجليليّ. الموضع الوحيد، في كلّ موضع الصلب، الّذي لا يُشتَم المسيح فيه!
الجبل، مِن جهاته الثلاث المنحدرة برفق تجاه الوادي، ليس سوى خليّة نمل. لم تعد الأرض الصفراء والعارية تُرى، وتحت الشمس الّتي تظهر وتختفي، يبدو كمرج براعم مُزهِر بكلّ الألوان لتراصّ أغطية الرأس ومعاطف الساديّين الّتي تغطيه. وممّا وراء سيل، على الدرب، جمع آخر، وخلف الجدران، آخر أيضاً. على الأسطح القريبة آخر أيضاً. أما بقيّة المدينة فعارية... خالية... صامتة. كلّ شيء هنا: الحبّ كلّه والكراهية كلّها. الصمت كلّه الّذي يحبّ ويغفر. كلّ الصياح الّذي يكره ويلعن.
بينما يهيّئ الرجال المكلّفون بالتنفيذ أدواتهم وإفراغ الحفر، وينتظر المحكومون وسط مربّعاتهم، فإنّ اليهود، الملتجئين إلى الركن المقابل للمريمات، يوجّهون الإهانات لهنّ. يهينون حتّى الأُمّ: «الموت للجليليّين! الموت! الجليليّون! الجليليّون! الملعونون! الموت للمجدّف الجليليّ! سَمِروا على الصليب حتّى البطن الّذي حمله! أَبعِدوا مِن هنا الأفاعي الّتي تلد الشياطين! الموت! طهّروا إسرائيل مِن النساء اللواتي يحالفن الّتيس!...»
لونجين الّذي ترجّل مِن على حصانه، يلتفت ويرى الأُمّ... يأمر بإيقاف هذه الغوغاء. جماعة نصف المئة الّتي كانت خلف المحكومين تهتمّ بالرعاع وبإخلاء الساحة الثانية الصغيرة بالكامل. فيفرّ اليهود حينئذ عبر الجبل وهم يدوسون بعضهم بعضاً. يترجّل الأحد عشر الآخرون أيضاً مِن على الجياد وواحد منهم يأخذ الأحد عشر حصاناً، إضافة إلى حصان قائد المئة ويقودها إلى الظلّ، خلف حافّة الجبل.
يتوجّه قائد المئة نحو القمة. تتقدّم يُوَنّا امرأة خُوزي وتُوقفه. تعطيه الجرّة وكيساً، ثمّ تنسحب وهي تبكي، لتذهب إلى زاوية الجبل مع الأخريات.
في الأعلى كلّ شيء قد أُعدّ. يُصعَد المحكومون. ويسوع يمرّ ثانية بالقرب مِن أُمّه الّتي تُطلِق أنّة وهي تحاول كتمانها واضعة رداءها على فمها. يراها القضاة ويضحكون ويسخرون منها.
يوحنّا، يوحنّا الوديع، الّذي لَفّ ذراعه خلف كتفي مريم ليسندها، يستدير بنظرة عنيفة، عينه لها وميض فسفوريّ. لو لم يكن ينبغي له حماية النساء، أظنّه كان ليطبق على حلق واحد مِن هؤلاء الجبناء.
وما كاد المحكومون يصبحون على المسطّح المشؤوم، حتّى أحاط الجنود بالمكان مِن الجهات الثلاث. لم يبقَ خالياً سوى الجهة المنحدرة بشدّة.
يُصدِر قائد المئة الأمر للقيروانيّ بالذهاب، فيمضي على مضض هذه المرّة، ولا أقول بساديّة، ولكن بحبّ. حتّى إنّه يتوقّف بالقرب مِن الجليليّين مُشاركاً إيّاهم تلقّي الإهانات الّتي يوجّهها الجمع لهذا العدد القليل مِن الأوفياء للمسيح.
يرمي اللصّان صليبيهما على الأرض وهما يلعنان. يسوع صامت.
انتهى درب الآلام.