ج4 - ف118

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

118- (وداع مرثا ومريم المجدليّة وسِنْتيخي)

 

17 / 08 / 1945

 

يُعاوِدون المسير، متوجِّهين صوب الريف.

 

الآن الرُّسُل والتلميذات مع مريم التي لحلفى وسُوسَنّة، على بُعد أمتار مِن يسوع الذي يسير مع أُمّه وأختيّ لعازر. يتحدّث يسوع بشكل مُتواصِل، أمّا الرُّسُل فعلى العكس، لا يتكلّمون. يَبدون مُرهَقين أو فاتِري الهمّة. فلم يستَهوِهم حتّى جمال الريف الرائع حقّاً بتموّجاته التي يَشلَحها على السهل كوِسادات خضراء تحت قدميّ مَلِك عملاق، بروابيه التي ترتفع بضعة أمتار، هنا وهناك، تمهيداً لسلاسل جبال الكرمل والسامرّة. وكما في السهل الذي يهيمن على تلك النواحي، كذلك على الروابي الصغيرة والتموّجات، هناك نباتات مُزهِرة ورائحة ثمار أَينَعَت. فذلك مكان جيّد الإرواء، رغم وَضعه والفصل مِن السنة، ذلك أنّ هناك الكثير مِن الزهور، رُغم كون المياه ليست كثيرة. الآن أُدرِك لماذا ذُكِر سهل الشارون في الكتاب المقدس مَرَّات كثيرة وبحماس. إلّا أنّ الرُّسُل لا يُشاركون أبداً بهذا الحماس. إنّهم يَسيرون متجهِّمين قليلاً، وهُم الكئيبون الوحيدون في ذلك اليوم الصافي، وفي تلك البقعة الضاحكة.

 

الطريق القنصليّة، في حالتها الجيّدة جدّاً، تقطع بشريطتها البيضاء، تلك القرية الخصيبة؛ وفي تلك الساعة التي ما تزال صباحيّة، يُصادَف فلّاحون كثيرون مع حُمولات مِن المحاصيل، أو مُسافِرون متَّجِهون صوب القيصريّة. يلتقي بالرُّسُل أحدهم، مع قافلة حمير محمَّلة بالأكياس، فيرغِمهم على التفرّق، لِيَفسَحوا المجال لقافلته، ويَسأَل بغطرسة: «هل هنا كيسان؟»

 

«إلى الخلف.» يُجيب توما بِجفاء، ويُتمتِم بين أسنانه: «يا لكَ مِن جَلِف!»

 

«إنّه سامريّ. ليس أكثر!» يُجيب فليبّس.

 

ويَعودون إلى الصمت. بعد بضعة أمتار، يقول بطرس، وكأنّه يَختم حِواراً داخليّاً: «ما جدوى ذلك! هل كان ما يستأهل أن نقطع مِن أجله كلّ تلك المسافات؟»

 

«ولكن نعم! لماذا مضينا بعد ذلك إلى القيصريّة، ذلك أنّه لَم يَقُل هناك ولا حتّى كلمة واحدة؟ كنتُ أظنّه يريد اجتراح بعض المعجزات المدهشة ليُقنع الرومان. إنَّما على العكس...» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«لقد جَعَلَنا مَحطّ سخرية، وهذا كلّ شيء.» يُعلِّق توما. ويُزاود الاسخريوطيّ: «لقد جَعَلَنا نتألّم. إنّما بالنسبة إليه، فالإهانات تُرضيه، ويَظنّها تُرضينا نحن كذلك.»

 

«في الحقيقة، إنّ التي تألَّمَت في تلك الظروف هي مريم بنت ثيوفيلوس.» يقول الغيور بهدوء.

 

«مريم! مريم! هل أَصبَحَت مركز الكون، مريم؟ أما مِن أحد يتألّم غيرها، وليس بَطلاً غيرها، وما مَن يُثقَّف غيرها؟ فإنّ المرء لَيَرغَب في أن يكون لصّاً أو قاتلاً لِيُصبح بعد ذلك موضع اهتمام كثير.» يقول الاسخريوطيّ ساخِطاً.

 

«الحقّ يُقال، عندما أتينا إلى القيصريّة في المرّة السابقة، واجتَرَحَ معجزة وكَرَزَ، كَدَّرناه نحن باستيائنا لأنّه اجتَرَحَها.» يُبدي ابن عم السيّد ملاحظته.

 

«الواقع» يقول يوحنّا بِصرامة «هو أنّنا لا نعرف ما نريد... يتصرّف بطريقة فَنُدمدِم، ويتصرّف بعكسها، فَنُدمدِم. إنّ العيوب تملأنا.»

 

«آه! ها هو ذا الحكيم الآخر يتكلّم! إنَّما الحقيقة المؤكَّدة هي أنَّنا لم نقم بأيّ عمل مفيد منذ زمن طويل.»

 

«لم نفعل أيّ شي مفيد يا يهوذا؟ ولكنّ تلك اليونانيّة، ولكنّ هرمست، ولكنّ هابيل، ولكنّ مريم، ولكنّ...»

 

«هو لَن يؤسّس مملكته مع تلك الشخصيّات عديمة الكفاءة.» يُجيب الاسخريوطيّ، وقد استولَت عليه فكرة الانتصار الأرضيّ.

 

«يا يهوذا، أرجوك ألّا تَحكُم على أعمال أخي. إنْ ذلك إلّا ادّعاء سخيف. صبيّ يريد الحُكم على معلّمه، ولكيلا يُقال: عديم الكفاءة، يودّ الهيمنة على كلّ شيء.» يقول تدّاوس الذي، رغم حَمله الاسم ذاته، إلّا أنّ نفوراً لديه لا يقاوَم مِن سميّه.

 

«أشكركَ لاكتفائكَ بتسميتي صبيّاً. في الحقيقة، بعد كل ذاك الزمن الطويل الذي قضيتُه في الهيكل، ظننتُ بأنَّه يمكن على الأقل اعتباري بالغاً.» يُجيب الاسخريوطيّ بتهكُّم.

 

«آه! يا لتلك المشاجرات مِن مقيتة!» يتأوَّه أندراوس.

 

«حقّاً!» يقول متّى «إنّنا كلّما طال أمد عيشنا مع بعضنا، بَدَل أن نَتلاحم، نَتفرَّق. ومجرّد التفكير أنّه قال لنا في سيكامينون [حيفا] بوجوب اتّحادنا مع الرعيّة، فكيف سنتمكّن مِن ذلك إذا لم نكن نحن الرُّعاة كذلك مع بعضنا؟»

 

«إذن، هل ينبغي لنا عدم الكلام؟ أينبغي عدم الإفصاح عن رأينا مطلقاً؟ أظنُّ أنّنا لسنا عبيداً.»

 

«لا يا يهوذا.» يقول الغيور بهدوء «نحن لسنا عبيداً، ولكنّنا لسنا أهلاً لاتّباعه، لأنّنا لا نَفهَمه.»

 

«أنا أفهَمه بشكل جيّد جدّاً.»

 

«لا. أنتَ لا تفهمه. وكُلّ الذين يَنتَقِدونه لا يَفهَمونه مثلكَ. فَفَهمه يعني طاعته دونما مناقشة، لمجرّد الاقتناع بقداسة الذي يَقود.» يقول الغيور أيضاً.

 

«آه! ولكنّكَ تُلمِّح إلى ذكاء قداسته! أنا، كنتُ أتحدّث عن كلامه؛ فقداسته غير قابلة للنقاش، ولا تُناقَش.» يُسرِع الاسخريوطيّ في القول.

 

«وهل يمكنكَ فَصل الواحدة عن الأخرى؟ القدّيس يمتلك الحكمة على الدوام، وكلامه حكيم.»

 

«حقّاً. ولكنّه يقوم بأعمال مؤذية. بالتأكيد بسبب فَرط قداسته، أنا أوافِقه، ولكنّ العالم ليس قدّيساً، وهو بذلك يجعل لنفسه أعداء. على سبيل المثال: ذاك الفلسطينيّ وتلك اليونانيّة، هل تظنّهما سيفيداننا؟»

 

«ولكن، إذا كنتُ أُسبِّب الأذيّة، فأنا أَنسَحِب. لقد أتيتُ لأجله وأقوم بما هو لائق.» يقول هرمست مجروحاً.

 

«إذا مَضَيتَ لهذا السبب، فإنّكَ تُسبِّب له الألم.» يُجيبه يعقوب بن حلفى.

 

«سوف أَجعَله يظنّ أنّني عَدَلتُ عن الأمر، ثُمّ أُحيّيه و... أمضي.»

 

«لا. في الحقيقة! أنتَ لن تذهب. فليس مِن العدل أن يَخسَر المعلّم تلميذاً صالحاً بسبب توتُّر أيّ كان.» يَحتَدّ بطرس.

 

«ولكنّه إذا كان يودُّ المضيّ لأتفه الأسباب، فإنْ هذا إلا دليل على أنّه ليس متأكّداً من إرادته. فدعه يذهب إذن.» يُجيب الاسخريوطيّ.

 

يَفقُد بطرس صبره: «لقد وَعَدتُه، عندما مَنَحَني مارغزيام، أن أُصبِح أبويّاً مع الجميع، ويسوءُني أن أُقصِّر في وعدي. ولكنّكَ تُرغِمني. هرمست موجود هنا ليبقى. هل تعلم ما ينبغي لي أن أقول لكَ؟ إنّكَ أنتَ مَن يجعل إرادة الآخرين تَضطَرِب، وتجعلها غير ثابتة. إنّكَ سبب التفريق والفوضى. هذا هو أنتَ. وعليكَ أن تخجل مِن ذلك.»

 

«وأنتَ مَن تكون؟ حامي الـ...»

 

«بالضبط! حسناً قلتَ. فأنا ما تودّ قوله. حامي المرأة المحجّبة، حامي يوحنّا الذي مِن عين دور، حامي هرمست، حامي هذه العبدة، حامي كلّ الذين وَجَدَهم يسوع، والذين لا يُشكِّلون مثالاً رائعاً لطواويس الهيكل، المصنوعين مِن القُبّعة المقدّسة ونسيج عناكب الهيكل، وحُزَم أضواء الهيكل كريهة الرائحة، أولئك الذين على شاكلتكَ. خُلاصة القول، كي يكون الكلام أَوضَح، إذا كان الهيكل هامّاً، أقلّه إذا لم أُصبِح بعد أبلهاً، فإنّ المعلّم أَهمّ مِن الهيكل، وأنتَ تُسيء إليه...» يَصيح بقوّة جَعَلَت المعلّم يتوقّف ويلتفت ويَهمّ بالعودة، تاركاً النساء.

 

«ها هو قد سَمِعَ، وسوف يتكدَّر!» يقول يوحنّا الرسول.

 

«لا، يا معلّم، لا تأتِ. إنّنا نتناقش... نُبدِّد ضَجر الطريق.» يقول توما في الحال.

 

إلّا أنّ يسوع يبقى واقفاً حتّى بَلغَوا إليه.

 

«ما كان موضوع نقاشكم؟ هل عليَّ أن أقول لكم مرّة أخرى إنّ النساء أسمى منكم؟» اللّوم اللّطيف مَسّ كلّ القلوب. فيصمتون خافِضين رؤوسهم.

 

«أصدقائي، يا أصدقائي! لا تكونوا سبب شكّ لأولئك الذين يُولَدون إلى النور الآن! ألا تَعلَمون أن نقيصة فيكم تؤذي، في افتداء وثنيّ أو خاطئ، أكثر مِن كلّ أخطاء الوثنيّة؟»

 

لا أحد يُجيب، ذلك أنّهم لا يُجيدون الحديث إلّا في ما يُبرِّر أو يَمنَع اللّوم.

 

على مَقرُبة مِن جسر يقع على مجرى سيل جافّ، توقَّفَت عربة أُختَيّ لعازر. الحِصانان يَرعَيان العشب الكثيف الذي يغطّي ضفّتي السيل، الجافّ منذ مدّة وجيزة على الأرجح. خادم مرثا، وشخص آخر، قد يكون السائق، هُما على الضفّة، بينما النساء مُحتَجِبات داخل العربة المغطّاة بغطاء ثقيل مصنوع مِن الجلود المدبوغة، النازلة مثل ستائر ثقيلة، حتّى أرضيّة العربة. فتحثّ النساء التلميذات الخطى إليها، والخادم الذي يَراهُنَّ أوّلاً يُخطِر المربّية، بينما يُسرِع الآخر في تَكدين الحصانين.

 

في تلك الأثناء، يَهرَع الخادم إلى معلّمتيه منحنياً حتّى الأرض. والمربّية العجوز، وهي امرأة جميلة ذات صبغة زيتونيّة، إنّما محبَّبة، تَهبط برشاقة، وتمضي إلى معلّمتيها. ولكنّ مريم المجدليّة تهمس لها بأمر ما، فتتوجّه في الحال إلى السيّدة العذراء وهي تقول: «سامحيني... ولكنّ فَرَح رؤيتها كان عظيماً لدرجة أنّني لَم أَعُد أرى سِواها. تعالي يا مباركة، إنّ الشمس حارقة، وفي العربة ظلّ.»

 

وتَصعد النساء كلّهن، في انتظار الرجال المتأخّرين كثيراً. وبينما هنّ ينتظرن، وبينما سِنْتيخي التي ترتدي الثوب الذي كانت ترتديه مريم المجدليّة مساء الأمس، تُقبِّل أرجل مُعلِّمتيها -كما تُصِرّ على تسميتهما، رغم قولهما إنّها، بالنسبة إليهما، ليست عَبدة ولا خادمة، بل إنّما هي مجرّد مَدعوّة تستقبلانها باسم يسوع- تُشير العذراء إلى صرّة الأرجوان النّفيسة سائِلة عن كيفيّة غَزل تلك المشاقة القصيرة غير قابلة للبَلَل وصعبة الفتل.

 

«هذه لا يتمّ استخدامها هكذا، يا امرأة. بل يجب تحويلها إلى مَسحوق، ثمّ تُستَخدم كأيّة صَبغة أُخرى. أَتَرَين كَم هي هشّة، الآن وقد جَفَّت؟ تُحوِّلينها إلى مسحوق ناعم، تَنخلينها، كي لا يبقى فيها ألياف طويلة، تَظهَر كالبُقَع على الخيط أو القماش. والخيط، على شكل شلّة، يتلوّن بشكل أفضل. وعندما تُصبِحين على يقين بأنّها تحوّلت كلّها إلى مسحوق، كما يَحصَل بالزعفران والقرمز، أو بمسحوق النيل، أو بقشور أخرى أو جذور أو ثمار، يتمّ استخدامها. ويُثَبَّت اللون بواسطة خلّ كثيف في المرحلة الأخيرة مِن الغَسل.»

 

«شكراً لكِ يا نُعْمي. سأفعل كما أشرتِ لي. أنا قد وَشَّيتُ بخيوط قرمزيّة، ولكنّها كانت قد أُعطِيَت لي جاهزة للاستخدام... هو ذا يسوع يَصِل. حان وقت الوداع يا بناتي. أبارككنّ جميعكنّ باسم الربّ. امضين بسلام، حاملات السلام والفرح إلى لعازر.

 

وداعاً يا مريم، تذكّري أنّكِ سَكَبتِ على صدري أُولى عبرات السعادة. وبذلك أَضحَيتُ أمّاً لكِ، لأنّ الوَلَد يَسكب أولى عبراته على صدر أمّه. أنا لكِ أُمّ، وسأبقى كذلك على الدوام. كلّ ما تجدين صعوبة في البوح به إلى الأخت الأكثر رقة، إلى المربّية الأكثر حبّاً، قوليه لي، أنا. وأنا سوف أتفهّمكِ على الدوام، وما لا تجرؤين على قوله ليسوعي، لأنّكِ مجبولة بكثير مِن البشريّة التي لا يُريدها فيكِ، قوليه لي، أنا. وسأكون، بالنسبة إليكِ، حليمة ومتسامحة على الدوام. وإذا أردتِ بعد ذلك أن تبوحي لي بانتصارات -إنّما هذه، أودُّ لو تقدّمينها له كزهور عَطِرة، لأنّه هو مُخلّصكِ، ولستُ أنا- فسوف أبتهج معكِ.

 

وداعاً يا مرثا. إنّكِ تمضين الآن سعيدة، وسوف تبقين في هذه السعادة الفائقة الطبيعة. إذن فأنتِ لا تحتاجين إلى غير التقدّم في العدل وسط السلام الذي لن يجعله شيء يضطَرِب فيكِ بعد الآن. افعلي ذلك حبّاً بيسوع الذي أحبّكِ إلى درجة حُبّ تلك التي أحببتِها حبّاً تامّاً.

 

وداعاً يا نُعْمي. اذهبي مع كنـزكِ الذي وَجدتِه مِن جديد. وكما كنتِ تغذّينها مِن حليبكِ، تَغذّي أنتِ الآن مِن الكلام الذي ستقوله لكِ، هي ومرثا، وتوصَّلي إلى أن تَري في ابني أكثر كثيراً مِن المعَزِّم (طارد الشياطين، المقسّم) الذي يُحرِّر القلوب مِن الشرّ.

 

وداعاً يا سِنْتيخي، يا زهرة اليونان، يا مَن عَرِفْتِ مِن تلقاء نفسكِ أن تَري أنّ هناك ما هو أهمّ مِن الجسد. أَزهِري لله في الله، وكُوني أولى زهرات اليونان الجديدة للمسيح.

 

إنّني مسرورة جدّاً لتَركي إيّاكنّ مُتَّحِدات هكذا. أبارككنّ بحبّ.»

 

وَقع الخطوات أضحى قريباً. يرفَعن الغطاء ويَرين يسوع الذي أَصبَحَ على بُعد أمتار قليلة مِن العربة، فيهبطن تحت الشمس الحارقة التي تَغمر الطريق.

 

تجثو مريم المجدليّة عند قدميّ يسوع قائلة: «أشكركَ على كلّ شيء. وأيضاً كثيراً لجعلكَ إيّاي أقوم بهذا السفر. فأنتَ وحدكَ تمتلك الحكمة. الآن أمضي وقد تخلَّصتُ مِن بقايا مريم القديمة. باركني يا ربّ لأتقوّى أكثر فأكثر.»

 

«نعم، أبارككِ. ابتهجي بوجود الإخوة، ومع الإخوة تثقّفي بتعليمي على الدوام. وداعاً يا مريم. وداعاً مرثا. ستقولين للعازر إنّني أباركه. أَعهَد لكما بهذه المرأة. لستُ أعطيكماها. فهي تلميذتي، ولكنّني أودُّ لو تَمنَحانها الحدّ الأدنى مِن إمكانيّات إدراك مَذهَبي. وبعد ذلك سوف آتي. أبارككِ يا نُعمْي، وكذلك أنتما الإثنتين.»

 

مرثا ومريم تذرفان الدموع. يحيّيهما الغيور بشكل خاصّ، ويعطيهما رسالة خطّيّة لخادمه. يُحيّيهما الآخرون معاً. وبعد ذلك تتحرّك العربة.

 

«والآن هيّا بنا نبحث عن ظلّ. وليرافقهنّ الله...أتأسفين كثيراً لذهابهنّ يا مريم؟» يَسأَل مريم التي لحلفى التي تبكي بصمت.

 

«نعم، فلقد كُنّ طيّبات جدّاً...»

 

«سوف نلتقيهنّ قريباً، وقد زاد عددهنّ. سوف تكون لكِ أخوات كثيرات... أو بنات، إذا كنتِ تُفضّلين ذلك. هذا كلّه حبّ. وهو أُموميّ بقدر ما هو أَخَويّ.» يقول لها يسوع ذلك ليعزّيها.

 

«على ألّا يَخلق ذلك لها المتاعب...» يقول الاسخريوطيّ.

 

«متاعب، التّحابّ؟»

 

«لا. بل متاعب مِن جرّاء أن يكون لها أناس مِن جنسيّات أخرى ومَنابِت أخرى.»

 

«أتقصد سِنْتيخي؟»

 

«نعم يا معلّم. في النهاية، هي كانت مملوكة مِن قِبَل الرومانيّ، ومِن السيئ الاستيلاء عليها. هذا يَجعَله يُسيء التّصرّف معنا، وسوف نُعادي بيلاطس البنطيّ مع فظاظاته.»

 

«ولكن هل تتوقّع أن يؤثّر على بيلاطس أن يَفقد أحد الـمَنوطين به عبدة؟ سوف يَعلَم ما يُساوي ذلك! وإذا كان لديه القليل مِن الشرف، كما يقال عنه، في العائلة على الأقلّ، فسوف يقول إنّ تلك المرأة أَحسَنَت فعلاً بهربها. ثُمّ إذا كان قليل النـزاهة، فيقول: "إنّ ذلك جيّد! فهكذا قد أَجِدها أنا". ذلك أنّ الناس قَليلي النـزاهة لا يتأثّرون بآلام الآخر. ثمّ! آه! يا للوالي المسكين! مع كلّ المتاعب التي نُسبّبها له، فلديه شيء آخر يَفعَله بَدَل ضياع الوقت في تَشكّيات شخص يَدَع عَبدة تَهرُب!» يقول بطرس الذي يؤيّده الكثيرون ساخرين مِن الرومانيّ الخليع.

 

ولكنّ يسوع يَرفَع مِن مستوى السؤال: «يا يهوذا، هل تَعرِف سِفر تثنية الاشتراع؟»

 

«بالتأكيد يا معلّم. ولن أتردّد في القول: كما لا يعرفه إلّا القليل.»

 

«كيف تَعتَبِره؟»

 

«ناطقاً بكلمة الله.»

 

«الناطق بالكلمة. إذن فهو يُردِّد كلمة الله؟»

 

«بالضبط هكذا.»

 

«أجدتَ التّخمين. ولكنّكَ لماذا لا تُحسِن الحُكم في عَمَل ما يَأمُر به؟»

 

«لم أَقُل ذلك مطلقاً. على العكس! فأنا أرى أنّنا نحن مَن يُهمِله كثيراً في اتّباعنا الشريعة الجديدة.»

 

«الشريعة الجديدة هي ثمرّة للقديمة. أو بالحريّ هي الكمال الذي تمّ بلوغه بشجرة الإيمان. إنّما لا أحد منّا يُهمِلها، حسب علمي، لأنّني أوّل مَن يَحتَرِمها ويَمنَع الآخرين مِن إهمالها.» كان يسوع حادّاً جدّاً لدى قوله ذلك الكلام. ويتابع: «سفر تثنية الاشتراع لا يُمَسّ. حتّى عندما ينتصر ملكوتي، ومع مَلكوتي الشريعة الجديدة ببنودها التّسعة وفقراتها، فسوف تُطَبَّق دائماً بالوصايا الجديدة، كما أنّ الحجارة الكبيرة المنحوتة للأبنية القديمة تُستَخدَم في الجديدة، لأنّها حجارة عظيمة تُشكّل أسواراً صلبة. إنّما الآن، لَم يَقُم ملكوتي بعد، وأنا، كإسرائيليّ مؤمن، لا أُسيء ولا أُهمِل الكتاب الموسويّ. هذا هو أساس أسلوبي في التصرّف والتعليم. إنّه على أساس الإنسان والمعلّم يؤسّس ابن الآب البناء السماويّ لطبيعته وحكمته.

 

ولقد قِيل في سِفر تثنية الاشتراع: "لا تُسلِّم عبداً لَجَأَ إليكَ مِن مولاه، بل ليُقِم عندكَ، في الموضع الذي تختاره، في إحدى مدنكَ، حيث يَطيب له. لا تَظلِمه". وهذا يُطَبَّق في حال يُضطرّ عبد إلى الهروب مِن استعباد لا إنسانيّ. في حالتي، حالة سِنْتيخي، هو الهروب، لا إلى حرّيّة محدودة، بل إلى حرّيّة ابن الله اللامحدودة. وأنتَ تَبغي لتلك القُبّرة التي هَرَبَت مِن شبكة الصيّادين، أن أضعها، أنا، مجدّداً في الشّبكة، أن أُعيدها إلى سجنها، لأحرمها حتّى مِن الرجاء بعد الحرّيّة؟ لا، أبداً! أُبارك الله لأنّه، كما أنّ السَّفر إلى عين دور قد أعاد ذلك الابن إلى الآب، فالسَّفر إلى القيصريّة أعاد لي تلك الابنة كي أقودها إلى الآب. في سيكامينون [حيفا] حدّثتكم عن قدرة الإيمان. واليوم سوف أحدّثكم عن نور الرجاء. إنّما فلنتوقّف الآن في هذا البستان الكثيف، لنأكل ونستريح، فالشمس حارقة، كما لو أنّ الجحيم قد فَتَحَت أبواب مَوَاقِدها.»