ج7 - ف225

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

225- (في نوبة. يهوذا الاسخريوطي لم يعد خاضعاً)

 

09 / 11 / 1946

 

«نعم يا معلّم. إنّ يهوذا الاسخريوطيّ هنا منذ عدّة أيّام. لقد أتى في عشيّة سبت. كان يبدو متعباً ومنقطع الأنفاس. كان يقول بأنّه أضاعكَ في شوارع أورشليم، وأنّه هرع للبحث عنكَ في جميع المنازل حيث تذهب في العادة. كان يأتي إلى هنا كلّ مساء. سوف يكون هنا عمّا قليل. في الصباح يمضي، ويقول أنّه يمضي إلى الجوار ليبشّر بكَ.»

 

«حسناً يا إليز… وهل صدّقتِه؟»

 

«يا معلّم، أنتَ تعلم أنّني لا أحبّ هذا الرجل. وإذا كان ينبغي أن يكون أبنائي هكذا، لكنتُ صلّيتُ إلى الربّ أن يأخذهم منّي. لا، لم أصدّق كلامه. إنّما بدافع محبّتي لكَ فقد احتفظتُ بحكمي لنفسي… لقد كنتُ كما أُمّ معه. بذلك ضمنتُ على الأقلّ أن يعود إلى هنا كلّ مساء.»

 

«لقد أحسنتِ صنعاً.» يسوع يحدّق بها جيّداً ويَسأَل بغتةً: «أين هي أنستاسيا؟»

 

يصطبغ وجه إليز بلون ضارب إلى البنفسجيّ لشخص مسنّ، لكنّها تجيب بصراحة: «في بيت صور.»

 

«لقد أحسنتِ صنعاً كذلك بالنسبة لهذا الأمر. وأرجوكِ، تحلّي بالشفقة تجاه هذا الرجل.»

 

«لكوني أشفق عليه، فقد أردتُ إخماد الحريق قبل أن يندلع بشكل فاضح، أو أقلّه أن يخيف الفتاة.»

 

«ليبارككِ الله أيّتها المرأة البارّة...»

 

«أتعاني كثيراً يا معلّم؟»

 

«أعاني. هذا صحيح. يمكنني أن أقول ذلك لأُمّ.»

 

«لأُمّ يمكنكَ أن تقول ذلك… لو لم تكن يسوع، الربّ، لوددتُ أن أضع رأسكَ المتعب على كتفي، وأضمّ قلبكَ المحزون إلى قلبي. لكنّكَ قدّوس إلى حدّ أنّ امرأة، غير أُمّك، لا يمكنها لمسكَ...»

 

«يا إليز، الصديقة الطيّبة لأُمّي، والأُمّ الصالحة: قريباً سوف يتمّ لمس ربّكِ بأيادٍ أقلّ قداسة بكثير مِن يديكِ، وتقبيله… آه!... وبعدها، بأيادٍ أخرى… يا إليز، إذا ما سُمِح لكِ بلمس قدس الأقداس، فبأيّ روح كنتِ لتفعلين ذلك؟ أربّما تمتنعين عن فِعل ذلك، لو كان صوت الله، عبر سُحُب البخور، يسألكِ بدافع محبّة أن يحظى أخيراً بلمسة محبّة بعد أن يدنو الكثيرون منه بلا محبّة؟»

 

«ربّي! ولكن إن كان الله يسألني ذلك، فسوف أمضي على ركبتيّ لأغطّي بالقبلات المكان المقدّس، وعسى أن يكون الله راضياً، وقد حصل على التعزية بمحبّتي!»

 

«فإذن يا إليز، يا صديقة أُمّي الطيبة، والتلميذة الوفيّة والصالحة لمخلّصكِ المحزون، اسمحي لي أن أضع رأسي على قلبكِ، لأنّ قلبي محزون إلى درجة مكابدته آلاماً مميتة.»

 

ويسوع، لابثاً جالساً حيث هو، قرب إليز القريبة تماماً، والواقفة، يضع بحقّ جبهته على صدر التلميذة العجوز، ودموع صامتة تسيل على الثوب الداكن للمرأة، التي لا تستطيع منع نفسها مِن وضع يدها على الرأس المنحني فوق قلبها، وعندما تشعر بسقوط دموع على قدميها، العاريتين في النعلين، تنحني لتلامس بقبلة شعر يسوع، وتبكي بصمت بدورها، رافعةً عينيها نحو السماء في صلاة صامتة. تبدو أُمّاً مسنّة جدّاً متألّمةً. لا تحاول كلاماً آخر ولا حركات أخرى. لكنّها "أُمّ" في سلوكها لدرجة أنّها لا تستطيع أن تكون كذلك أكثر.

 

يسوع يرفع وجهه وينظر إليها. يبتسم ابتسامةً شاحبةً ويقول: «ليبارككِ الله لأجل رأفتكِ. آه! فالأُمّ ضروريّة جدّاً عندما يطغى الألم على قوى الإنسان!»

 

ينهض. ينظر إلى التلميذة مجدّداً ويقول: «لتبقَ هذه الساعة بيني وبينكِ، بكلّ تفاصيلها. لأجل هذا أتيتُ متقدّماً وحدي.»

 

«نعم يا معلّم. لكنّكَ لم تعد تستطيع البقاء وحدكَ. دع أٌمّكَ تأتي.»

 

«بعد قمرين سوف تكون معي...» ويهمّ بإضافة شيء آخر عندما يتردّد تحت، في المطبخ، الصوت القوي، الوقح والساخر قليلاً كما دائماً، ليهوذا الاسخريوطيّ: "أما تزال تنحت أيّها العجوز؟ الطقس بارد! ولا نار هنا. إنّني جائع. ولا شيء معدّ. أربّما تكون إليز نائمة؟ لقد أرادت أن تتصرّف وحدها. لكنّ المسنّين بطيئون وذاكرتهم ضعيفة. إيه! ألا تتكلّم؟ أأنتَ أصمّ تماماً هذا المساء؟»

 

«لا. إنّما أدعكَ تتكلّم، حيث أنّكَ رسول ولا يليق بي أن أوبّخكَ.» يجيب الشيخ.

 

«توبّخني؟ لماذا؟»

 

«ابحث في نفسكَ وسوف تجد.»

 

«ضميري لا يتكلّم...»

 

«هذا دليل على أنّه مشوّه أو أنّكَ قد عطّلتَه.»

 

«ها! ها! ها!» ولا بدّ أنّ يهوذا قد خرج مِن المطبخ، لأنّ صفق الباب يُسمَع، ومِن ثمّ وقع خطوات على الدرج.

 

«أنزل كي أقوم بالتحضير يا معلّم.»

 

«اذهبي يا إليز.»

 

إليز تنزل مِن الغرفة العلويّة وسرعان ما تتلاقى مع يهوذا الذي يهمّ بوضع قدمه على الشرفة.

 

«أنا أشعر بالبرد والجوع.»

 

«أهذا كلّ شيء؟ إذن لا تشعر إلّا بالقليل بعد يا رجل.»

 

«وبماذا عليَّ أن أشعر بعد؟»

 

«إيه! بأمور كثيرة!...» صوت إليز يبتعد.

 

«إنّهم كلّهم مسنّون حمقى. أُفّ...» يدفع الباب ويجد نفسه قبالة يسوع. يتراجع خطوة إلى الوراء مِن الدهشة. يسيطر على نفسه ليقول: «المعلّم!! السلام لكَ!»

 

«السلام لكَ يا يهوذا.» يسوع يتلقّى قبلة الرسول، إنّما لا يبادله إيّاها.

 

«يا معلّم. أنتَ… ألا تقبّلني؟»

 

يسوع ينظر إليه ويصمت.

 

«صحيح. لقد أخطأتُ. وعدم تقبيلي هو أقلّ ما يمكنكَ فِعله معي. مع ذلك لا تحكم عليَّ بقسوة شديدة. في ذلك اليوم حاول استمالتي بعض الّذين… لم يكونوا يحبّونكَ، وقد تجادلتُ معهم حتّى بُحّ صوتي. ثمّ… قلتُ: "مَن يدري إلى أين مضى؟!" وقد عدتُ إلى هنا لانتظاركَ. ألم يصبح هذا منزلكَ؟»

 

«ما دام يُسمَح لي بذلك.»

 

«لن تحمل لي ضغينة لأجل ذلك؟»

 

«لا. بل أجعلكَ فقط تتأمّل في المثال الذي أعطيتَه للآخرين.»

 

«إيه! إنّني أسمع منذ الآن كلامهم. إنّما لديَّ ما يبرّرني أمامهم. معكَ لا أفعل حتّى ذلك، لأنّني أعلم بأنّكَ قد غفرتَ لي بالفعل.»

 

«لقد غفرتُ لكَ بالفعل. هذا صحيح.»

 

كان يؤمل مِن يهوذا فِعل تواضع، فِعل محبّة لأجل كثير مِن الطيبة. على العكس يبدر منه النقيض تماماً، فِعل سُخط فيما يصرخ: «إنّما ما مِن سبيل لرؤيتكَ حانقاً؟! أيّ إنسان أنتَ؟»

 

يسوع يصمت. ويهوذا ينظر إليه، وهو واقف، ويسوع جالس محنيّ الرأس، هازّاً رأسه مع ابتسامة خبيثة على شفتيه. لقد تمّ تجاوز الحادثة بالنسبة إليه، إنّه يأخذ في الحديث عن هذا وذاك مِن الأمور، كما لو أنّه كان منضبطاً أكثر مِن الجميع.»

 

الليل يحلّ. ضجيج الطريق يتلاشى.

 

«لننزل.» يأمر يسوع.

 

يدخلان إلى المطبخ، حيث تسطع نار وحيث يُنير مصباح ثلاثي الشعلات.

 

يسوع، المتعب، يجلس قرب الموقد، ويبدو أنّه يغفو في دفء الغرفة…

 

يُقرَع الباب، العجوز يفتح. إنّهم الرُّسُل. بطرس، الأوّل الذي يدخل، يرى يهوذا ويستجوبه: «هل يمكن معرفة أين كنتَ؟»

 

«هنا. بكلّ بساطة هنا. كان مِن الغباء الجري هنا وهناك وراء أناس قد اختفوا. لقد أتيتُ إلى هنا، حيث كنتُ واثقاً مِن أنّكم عدتم.»

 

«طريقة حسنة للتصرّف!»

 

«المعلّم لم يلمني على ذلك. وإلى جانب ذلك إعلم أنني لم أُضِع وقتي. لقد بشّرتُ كلّ يوم وكذلك أجريتُ معجزات، وذلك حسن.»

 

«ومَن كلّفكَ بذلك؟» يقول بصرامة برتلماوس.

 

«لا أحد. لا أنتَ، ولا أحد. إنّما يكفي أن نكون مِن… مِن… على كلّ حال، الناس يندهشون ويتهامسون ويسخرون منّا، رُسُلاً لا نفعل شيئاً. وأنا، الذي أعلم ذلك، قد تصرّفتُ عن الجميع. وفعلتُ أكثر بعد. لقد قصدتُ حِلقِيّا وأظهرتُ له أنّ المرء لا يسيء التصرّف عندما يكون قدّيساً. لقد كانوا كُثُراً. لقد أقنعتُهم. سوف ترون بأنّهم لن يزعجونا بعد. والآن أنا مسرور.»

 

الرُّسُل يتبادلون النظر. ينظرون إلى يسوع. وجهه مُبهَم. يبدو محجوباً بتعب جسديّ عظيم. هذا فقط ما يُرى.

 

«إنّما قد كان بإمكانكَ أن تفعل هذا بإذن مِن المعلّم.» يلاحظ يعقوب بن حلفى. «فنحن لم نكفّ عن القلق بسببكَ.»

 

«آه! حسناً! الآن قد تخلّصتم مِن كلّ قلق. هو ما كان أبداً ليمنحني الإذن. إنّه… يبالغ بحمايتنا، إلى درجة أنّ الناس يتهامسون بأنّه يغار منّا، يخشى مِن أن نفعل أكثر منه، وأيضاً بأنّه يعاقبنا. الناس لديهم ألسنة لاذعة. لكنّ العكس هو الصحيح، إنّنا أعزّ إليه مِن قُرّة عينه. أليس كذلك يا معلّم؟ ويخشى بأن نتعرّض لمخاطر أو نَترك... انطباعات سيّئة. وكذلك نحن، في داخلنا، كنّا نفكّر كما لو أنّنا معاقبون وبأنّه ربّما كان غيوراً...»

 

«هذا لا! أنا لم أفكّر به مطلقاً!» يقاطع توما. والآخرون يقتدون به، ما عدا تدّاوس، الّذي يسمّر عينيه الصريحتين والجميلتين بعينيّ يهوذا الجميلتين كذلك، إنّما الـمُراوِغَتين، ويقول: «وكيف أمكنكَ أن تُجري معجزات؟ باسم مَن؟»

 

«كيف؟ باسم مَن؟ إنّما ألا تتذكّر أنّه هو مَن أعطانا هذه القدرة؟ أربّما انتزعها منّا؟ لا، على حدّ علمي. ولذلك...»

 

«وبالتالي أنا لن أسمح لنفسي أبداً بأن أفعل أيّ شيء دون إذنه وأمره.»

 

«وأنا قد أردتُ فِعله. لقد كنتُ أخشى ألّا أعود أُحسِن الفِعل بعد. لقد فعلتُ. وأنا سعيد!» ويَقطع الجدال بخروجه إلى البستان المظلم.

 

يلتفت الرُّسُل لينظروا. إنّهم منذهلون مِن هذا القدر مِن الجرأة. إنّما ما مِن أحد يطاوعه قلبه لقول شيء يزيد مِن ألم معلّمهم، حيث وجهه يفضح الألم.

 

يتحرّرون مِن الأكياس، التي يحملها يوحنّا، أندراوس وتوما إلى فوق. وبرتلماوس، فيما ينحني ليلتقط غصناً يابساً قد سقط مِن حزمة حطب، يهمس لبطرس: «لا قَدَّر الله أن يكون الشيطان هو مَن ساعده!»

 

بطرس يقوم بإشارة بيديه كما ليقول: «الرحمة!» إنّما لا يردّ بكلمة. يقصد يسوع، يضع يده على كتفه سائلاً إيّاه: «أأنتَ متعب جدّاً؟»

 

«جدّاً يا سمعان.»

 

«الطعام جاهز يا معلّم. تعال إلى المائدة. أو بالأحرى… لا. ابقَ هناك، قرب الموقد. سوف أجلب لكَ الحليب والخبز.» تقول إليز. وبالفعل، بعد أن تضع على صينيّة وعاء كبيراً مِن حليب يُدخّن وخبزاً مغطّى بالعسل، تجلبه ليسوع، وتنتظر أن يصلّي واقفاً، مقدّماً الطعام. ثمّ تجثم على الأرض، الطيبة، العجوز، الأموميّة، تأخذها رغبة عارمة بمواساته، وتبتسم له مشجّعةً إيّاه على الأكل، وتجيب يسوع الّذي يلومها بعذوبة على مَدّها العسل على الخبز: «أعطيكَ دمي كي أقوّيكَ يا معلّمي! هذا ليس سوى العسل البائس لبستاني في بيت صور، ولا يمكنه إلّا أن يقوّي جسدكَ. أمّا قلبي...»

 

الآخرون يأكلون حول المائدة، بالشهيّة القويّة لِمَن سار كثيراً. ويهوذا، الهادئ، الوقح تقريباً، يأكل معهم ولا يتكلّم أحد سواه.

 

إنّه لا يزال يتكلّم عندما يأمر يسوع: «هيّا. كلّ واحد إلى المنزل الّذي يستضيفه. ليكن السلام معكم.»

 

يبقى معه يهوذا، برتلماوس، بطرس وأندراوس. ويسوع يأمر فوراً بالراحة. إنّه يعاني تعباً مميتاً، لدرجة عدم التمكّن بعد مِن احتمال تعب التكلّم وسماع الكلام، وأنا أعتقد، احتمال جهد السيطرة على الذات فيما يخصّ يهوذا الاسخريوطيّ.