ج8 - ف17
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
17- (سبت آخر في أفرايم)
17 / 01 / 1947
لا بدّ أنّه سبت آخر، ذلك أنّ الرُّسُل مجتمعون مجدّداً في منزل مريم الّتي ليعقوب.
لا يزال الأطفال معهم، إلى جانب يسوع، عند الموقد. وهذا بالضبط ما جعل يهوذا الاسخريوطيّ يقول: «لقد مرّ أسبوع ونحن منتظرون، والأقارب لم يأتوا.» ويضحك هازّاً رأسه.
يسوع لا يجيبه. إنّه يداعب الأوسط. يهوذا يَسأَل بطرس ويعقوب بن حلفى: «وتقولان بأنّكم سلكتم الطريقين المؤدّيين إلى شكيم [نابلس]؟»
«نعم. لكنّ ذلك كان بلا جدوى، بعد التفكير مليّاً بالأمر. فاللصوص حتماً لا يمرّون مِن الطرق المرتادة، خصوصاً الآن حيث الدوريّات الرومانيّة ترتادها باستمرار.» يجيب يعقوب بن حلفى.
«فلماذا سلكتموهما إذن؟» يلحّ الاسخريوطيّ.
«هكذا!... فالذهاب إلى هنا أو هناك هو أمر سيّان بالنسبة لنا. ولذلك فقد سلكنا هاتين.»
«ولم يُحسِن أحد أن يخبركم بأيّ شيء؟»
«إنّنا لم نسأل شيئاً.»
«وكيف كنتم ستعرفون إذاً فيما إذا كانوا قد مرّوا أم لا؟ أيحمل الأشخاص عندما يسلكون طريقاً رايات، أو يتركون آثاراً يا ترى؟ لا أعتقد ذلك. على الأقلّ كان ليعثر علينا أصدقاء، إنّما على العكس لم يأتِ أحد منذ أن جئنا إلى هنا.» ويضحك بسخرية.
«نحن لا نعرف سبب عدم مجيء أحد إلى هنا. المعلّم يعلم. نحن لا نعلم. بالنسبة لِمَن هم مثلنا، بعدم تركهم أثراً لعبورهم، وينسحبون إلى مكان غير معروف للناس، فإنّ الأشخاص لا يستطيعون المجيء إن لم يتمّ إخبارهم بمكان اللجوء. الآن لا نعلم إذا ما كان أخونا قد أخبر الأصدقاء.» يقول بصبر يعقوب بن حلفى.
«آه! وتودّ أن تعتقد وتحمل على الاعتقاد بأنّه لم يقل ذلك أقلّه للعازر ولنيقي؟»
يسوع لا يتكلّم. يمسك بيد أحد الأطفال ويخرج…
«أنا لا أريد أن أظنّ شيئاً. إنّما، حتّى وإن كان الأمر كما تريد أن تقول، فما زلتُ غير قادر على تخمين مبرّرات غياب الأصدقاء، ولا أحد منّا يمكنه ذلك...»
«إنّ تلك المبرّرات سهلة الفهم! فلا أحد يريد أن يواجه مشاكل مع السنهدرين، وأكثر مِن لا يريدون ذلك هم الأغنياء والمقتدرون. هوذا كلّ الأمر! نحن وحدنا مَن نُحسِن تعريض أنفسنا للمخاطر.»
«كُن عادلاً يا يهوذا! فإنّ المعلّم لم يُجبِر أحداً منّا على البقاء معه. لماذا بقيت إذا كان السنهدرين يخيفكَ؟» يلفت يعقوب بن حلفى انتباهه.
«ويمكنكَ كذلك الرحيل متى تشاء. فأنتَ لستَ مقيّداً...» يقاطع يعقوب الآخر، ابن زَبْدي.
«بالنسبة إلى هذا لا! حقّاً لا! فنحن هنا ونبقى هنا. كلّنا. مَن كان يريد، كان عليه الرحيل قبلاً. الآن لا. أنا أعارض ذلك، إن لم يعارضه المعلّم.» يقول بطرس على مهل إنّما بحزم، ضارباً بقبضته على الطاولة.
«ولماذا؟ مَن أنتَ كي تأمر مكان المعلّم؟» يَسأَله بعنف الاسخريوطيّ.
«إنسان يفكّر لا كما الله، مثلما يفعل هو، إنّما كما إنسان.»
«أتشكّ بي؟ أتعتبرني خائناً؟» يقول يهوذا مضطرباً.
«أنتَ قلتَ ذلك. لا لأنّني أعتبركَ هكذا متعمّداً، إنّما لأنّكَ… كثير اللامبالاة يا يهوذا، وكثير التقلّب! ولديكَ الكثير مِن الأصدقاء. وتعجبكَ كثيراً العَظَمة، في كلّ شيء. أنتَ، آه! أنتَ لن تُحسِن الصمت! فسوف تتكلّم! إمّا للردّ على غدر ما، أو لإظهار أنّكَ الرّسول. لذلك أنتَ هنا وتبقى هنا. فهكذا لا تؤذي ولا تُسبّب لنفسكَ نَدَماً.»
«إنّ الله لا يقيّد حرّية الإنسان، وأنتَ تريد أن تفعل ذلك؟»
«أريد أن أفعل ذلك. إنّما قل لي، إجمالاً. هل تمطر فوق رأسكَ؟ هل ينقصكَ الخبز؟ هل يسيئكَ الهواء؟ هل يمسّ الشعب إحساسكَ؟ لا شيء مِن هذا. المنزل متين، وإن لم يكن غنيّاً، الهواء نقيّ، الطعام لم ينقص أبداً، السكّان يكرّمونكَ. فلماذا إذن أنتَ مضطرب جدّاً هنا، كما لو كنتَ في سجن؟»
«هناك شَعبان لا تحتملهما نفسي، والثالث الّذي أمقُته ليس حتّى بشعب: شعب جبل سعير (mont Seïr)، غير المستنيرين، والشعب الأحمق الّذي يسكن في شكيم [نابلس]. إنّني أجيبكَ بكلام الحكيم. وأنا على حقّ بالتفكير هكذا. أُنظر إذا كانت هذه الشعوب تحبّنا!»
«همم! في الحقيقة لا يبدو لي أنّ الآخرين كذلك، شعبي وشعبكَ، هما أفضل بكثير. فقد تمّ رجمنا في اليهوديّة وفي الجليل، وفي اليهوديّة أكثر بعد مِن الجليل، وفي هيكل اليهوديّة أكثر مِن أيّ مكان آخر. وأنا لا أجد أنّهم أساؤوا معاملتنا لا على أراضي غير المستنيرين، ولا هنا، ولا في أيّ مكان آخر...»
«أين في مكان آخر؟ فنحن لم نذهب إلى مكان آخر، لحسن الحظ. وحتّى لو كان يتوجّب الذهاب إلى مكان آخر، فأنا ما كنتُ أتيتُ، ولن آتي في المستقبل، فأنا لا أريد أن أتنجّس أكثر.»
«تتنجّس؟ ليس هذا ما يعكّركَ يا يهوذا بن سمعان. أنتَ لا تريد أن تتخلّى عن جماعة الهيكل. هذا ما يزعجكَ.» يقول بهدوء سمعان الغيور، الّذي بقي في المطبخ مع بطرس ويعقوب بن حلفى وفيلبّس. الآخرون قد مضوا، واحداً تلو الآخر، مع الطفلين كي يلحقوا بالمعلّم. إنّه هروب جدير بالتقدير، لأنّه نُفّذ بغية عدم خرق المحبّة.
«لا. ليس لأجل هذا. إنّما لأنّني لا أحبّذ إضاعة وقتي ومنح الحكمة للحمقى. أُنظر! بماذا أفادنا أخذ هرمست معنا؟ لقد رحل ولم يعد أبداً. يوسف يقول بأنّه انفصل عنه قائلاً بأنّه سيعود لعيد المظالّ. أرأيتَه يا ترى؟ إنّه جاحد...»
«أنا لا أعلم لماذا لم يعد، ولا أحكم. إنّما مع ذلك أسألكَ: هل هو يا ترى الوحيد الّذي تخلّى عن المعلّم، وحتّى أصبح معادياً له؟ ألا يوجد جاحدون بيننا نحن اليهود والجليليّين؟ أيمكنكَ تأييد ذلك؟»
«لا. هذا صحيح. لكننّي في النهاية منزعج هنا. إن كانوا يعلمون أنّنا هنا! لو كانوا يعلمون أنّنا نخالط السامريّين إلى درجة دخول مجامعهم في السبت! هو يريد فِعل ذلك… الويل إن كانوا يعلمون بذلك! فالاتّهام سوف يكون مبرّراً...»
«وسيكون المعلّم محكوماً عليه، تودّ القول. إنّما هو كذلك بالفعل. هو كذلك حتّى قبل أن يعلموا بالأمر. لقد غدا محكوماً عليه، في الحقيقة، بعدما أقام يهوديّاً مِن الموت في اليهوديّة. إنّه مكروه ومتّهم بأنّه سامريّ وصديق العشّارين والبغايا. وهو متّهم بذلك على الدوام. وأنتَ أكثر مِن الجميع تعلم أنّه ليس كذلك!»
«ما الّذي تريد قوله يا نثنائيل؟ ما الّذي تريد قوله؟ ما علاقتي أنا بهذا؟ ما الّذي يمكنني أن أعرفه زيادة عنكم؟» إنّه شديد الاضطراب.
«تبدو لي كأنّكَ فأر محاط بالأعداء يا بنيّ! لكنّكَ لستَ فأراً، ولا نحن هنا مسلّحون بعصيّ للقبض عليكَ وقتلكَ. لماذا أنتَ شديد القلق؟ إن كان ضميركَ في سلام، فلماذا تضطرب بسبب كلام بريء؟ ما الّذي قاله برتلماوس حتّى تضطرب هكذا؟ أليس صحيحاً يا ترى بأنّ لا أحد أكثر منّا، نحن رُسُله، الّذين ننام قربه ونعيش معه، يمكننا أن نعلم ونشهد بأنّه لا يحبّ السامريّ، العشّار، الخاطئ، البغيّ، إنّما نفوسهم، وهي وحدها محطّ اهتمامه، ولهذا فقط -ووحده العليّ يعلم أيّ جهد يبذله الكليّ الطهر للاقتراب ممّا نسمّيه نحن البشر والخطأة "قذارة"- يمضي مع السامريّين، العشّارين، والبغايا؟ إنّكَ لا تفهم ولا تعرف يسوع بعد يا ولدي! أنتَ أقلّ مِن السامريّين أنفسهم، غير المستنيرين، الفينيقيّين، وآخرين بمقدار ما تريد.» يقول بطرس، وكلامه الأخير موسوم بالحزن.
يهوذا يكفّ عن الكلام، وكذلك الآخرون يصمتون.
المرأة العجوز تعاود الدخول قائلةً: «إنّ أهل المدينة في الشارع. يقولون بأنّها ساعة صلاة السبت، وأنّ المعلّم قد وعد بأن يتكلّم...»
«سوف أقول له ذلك يا امرأة. وأنتِ قولي لأهل أفرايم بأنّنا سنأتي في الحال.» يجيبها بطرس، ويخرج إلى الحديقة لإعلام يسوع.
«ما أنتَ مزمع أن تفعل؟ أتأتي؟ إن كنتَ لا تريد أن تأتي، فابتعد، أُخرج، قبل أن يتألّم هو بسبب رفضكَ.» يقول الغيور ليهوذا.
«سآتي معكم. هنا لا يمكن التكلّم! يبدو أنّني الخاطئ الأكبر. كلّ كلامي يُساء فهمه.»
يسوع، الّذي يعاود الدخول إلى المطبخ، يَحول دون أيّ كلام آخر.
يخرجون إلى الشارع منضمّين إلى أهل أفرايم، ويدخلون معهم إلى المدينة ولا يتوقّفون إلّا حينما يصبحون أمام المعبد. عند الباب يقف ملاخي، الّذي يحيّي ويدعو إلى الدخول.
لا ألاحظ أيّ فرق بين مكان صلاة السامريّين وتلك التي رأيتُها في مناطق أخرى. دوماً المصابيح ذاتها، المنابر ذاتها والرفوف ذاتها الّتي عليها اللفائف، مكان الرئيس أو مَن يقوم بالتعليم مكانه، باستثناء أنّ اللفافات هنا هي أقلّ بكثير مِن المعابد الأخرى.
«لقد أقمنا بالفعل صلواتنا بينما كنّا ننتظركَ. إن أردتَ أن تتكلّم… أيّة لفافة تطلب يا معلّم؟»
«لستُ بحاجة لأيّة منها. وعلاوة على ذلك، أنتَ ما كنتَ لتملك ما أريد شرحه.» يجيب يسوع، ومِن ثمّ يتوجّه نحو الناس ويبدأ موعظته:
«عندما أعاد قورش، مَلِك الفُرس، العبرانيّين إلى وطنهم كي يعيدوا بناء هيكل سليمان، الـمُدمّر قبل خمسة عقود، فقد أعيد بناء المذبح فوق أساساته، وأُحرقت فوقه الذبيحة اليوميّة في المساء والصباح، والذبيحة الخاصّة بمطلع كلّ شهر، وذبيحة الاحتفالات المكرّسة للربّ أو ذبائح التقدمات الفرديّة. ثمّ، بعدما جدّدوا ما كان ضروريّاً وإلزاميّاً للعبادة، فقد وضعوا اليد في العام الثاني للعودة، على ما يمكن تسميته إطار العبادة. ظاهرها. شيء لم يكن آثماً، لأنّه قد نُفّذ تكريماً للأزليّ، لكنّه ليس ضروريّاً. فالعبادة لله هي محبّة الله، والمحبّة تُدرَك وتُستَنفذ في القلب، لا بالحجارة المنحوتة، الأخشاب الثمينة، الذهب والعطور. فكلّ هذا شكليّ، نُفّذ لإرضاء الكبرياء الخاصّ لأمّة أو مدينة، أكثر منه لتكريم الربّ.
الله يريد هيكلاً مِن الروح. لا يرضيه هيكل جدران ورخام، خالٍ من أرواح مُفعَمة بالمحبّة. الحقّ أقول لكم إنّ هيكل قلب نقيّ ومُفعَم محبّة هو الوحيد الّذي يحبّه الله، وفيه يقيم مسكنه مع أنواره، وما هي إلّا تقديرات خرقاء تلك الّتي تقسم المناطق والمدن بحسب الجمال الخاصّ بأماكن الصلاة فيها. لماذا التنافس في ثراء وزخارف البيوت حيث يتمّ الابتهال إلى الله؟ أيمكن يا ترى للمتناهي أن يُرضِي اللامتناهي، حتّى لو كان المتناهي أجمل بعشر مرّات مِن هيكل سليمان والقصور الـمَلَكيّة مجتمعة؟ الله اللامتناهي الّذي لا يمكن لأيّ مدىً أو فخامة مادّية احتواءه وتكريمه، يجد المكان الوحيد الجدير بتكريمه كما يليق، وكما يمكنه ذلك، لا بل الّذي يريد أن يحتويه، هو قلب الإنسان، لأنّ روح البارّ هيكل يحلّق فوقه روح الله، وسط عطور المحبّة، وسرعان ما سيكون هيكلاً يُقيم فيه الروح مَسكَناً حقيقيّاً، واحداً وثالوثيّاً كما في السماء.
وقد كُتِب أنّ، حالما أرسى البنّاؤون أسس الهيكل، وتبعاً لأوامر داود، فإنّ الكَهَنة قد أقبلوا بزيناتهم وأبواقهم واللاويّون بصنوجهم، وأنشدوا: "إنّه لواجب تسبيح الله لأنّه صالح ورحمته أبديّة". والشعب كان يبتهج. إنّما كَهَنَة كُثُر، رؤساء، لاويّون وشيوخ، كانوا يبكون بمرارة وهم يفكّرون بالهيكل الّذي كان قبلاً. وبالتالي لم يكن ممكناً تمييز أصوات البكاء مِن أصوات الابتهاج مِن فرط ما كانت متداخلة. ويُقرأ أيضاً، مع ذلك، أنّ شعوباً جارة ضايقت أولئك الّذين كانوا يبنون الهيكل، كي تنتقم لنفسها مِن البنّائين الّذين كانوا قد صدّوها عندما عرضت أن تبني معهم، فهي كذلك كانت تبحث عن إله إسرائيل، الإله الأوحد والحقّ. وهذه الصعوبات عرقلت سير الأعمال إلى أن شاء الله أن يجعلها تستمرّ. هذا ما نقرأه في سفر عزرا.
كم وما هي الدروس التي يقدّمها المقطع الذي قلتُه؟
بادئ ذي بدء ذلك الّذي قيل بشأن ضرورة أن تُلتَمس العبادة مِن القلب، لا أن يتمّ التعبير عنها بالحجارة والأخشاب، أو كذلك بالملابس والصُّنوج والأغاني، الّتي هي خالية مِن الروح. والدرس كذلك أنّ الافتقار إلى المحبّة المتبادلة هو دوماً سبب للتأخير والاضطراب، حتّى ولو كان قد تأتّى لغاية هي صالحة في ذاتها. فالله لا يتواجد حيث لا توجد محبّة. إنّ مِن العَبَث البحث عن الله إن لم نضع أنفسنا أوّلاً في ظروف التمكُّن مِن العثور عليه. الله موجود في المحبّة. إنّ الّذي أو الّذين يرسخون في المحبّة يجدون الله، حتّى مِن دون الاضطرار إلى إجراء بحث شاقّ. ومَن كان الله معه، يرافقه النجاح في كلّ أعماله.
في المزمور الخارج مِن قلب أحد الحكماء، بعد التأمّل في الأحداث المؤلمة الّتي رافقت إعادة بناء الهيكل والأسوار، قيل: "إن لم يَبْنِ الربّ البيت، فعبثاً يَجهد البنّاؤون في ذلك. إن لم يحرس الربّ المدينة ويحميها، فعبثاً يحرسها حُماتها".
وعليه، كيف يمكن للربّ أن يبني البيت، إن كان يعلم أنّ مَن سيسكنون فيه لا يملكونه في قلوبهم، لأنّهم يفتقرون للمحبّة تجاه جيرانهم؟ وكيف يحمي المدن ويمنح القوّة لحُماتها، إن لم يكن يستطيع أن يكون فيها لكونها لا تمتلكه [الله] بسبب الكراهية الّتي فيها تجاه جيرانها؟ هل يا ترى أفاد، أيا أيّتها الشعوب، أن تكوني منفصلة بحواجز كراهية؟ هل جعلكِ ذلك أكثر عَظَمة؟ أكثر غنىً؟ أكثر سعادةً؟ لا الكراهية ولا الحقد يفيدان أبداً، وأبداً ليس قويّاً مَن كان وحيداً، وليس محبوباً أبداً مَن لا يحبّ. وعبثاً، كما يقول المزمور، النهوض قبل الفجر كي نغدو عُظَماء، أغنياء وسعداء. ليأخذ كلّ واحد استراحة كي يَقوى على آلام الحياة، لأنّ النوم هو هبة مِن الله، كما هو النور وكلّ أمر آخر يتمتّع به الإنسان، ليستريح كلّ واحد، إنّما، في النوم وفي اليقظة، لتكن المحبّة رفيقة له، وسوف تزدهر أعماله، وسوف تزدهر عائلته ومصالحه، وفوق كلّ شيء سوف يزدهر روحه، ويفوز بالتاج الـمَلَكيّ لأبناء العليّ وورثة الملكوت.
لقد قيل، وفيما الشعب يردّد الهوشعنا، أنّ البعض كانوا يبكون بدموع حارّة لأنّهم كانوا يفكّرون بالماضي ويتأسّفون عليه. إنّما لم يكن ممكناً تمييز الأصوات المختلفة في جلبة الصيحات.
يا أبناء السامرة! وأنتم، يا رُسُلي، أبناء اليهوديّة والجليل! كذلك اليوم هناك مَن يردّد الهوشعنا ومَن يبكي فيما هيكل الله الجديد يرتفع فوق الأساسات الأبديّة. أيضاً الآن هناك مَن يعرقل الأعمال ومَن يبحث عن الله حيث هو غير موجود. كذلك الآن هناك مَن يريد البناء بحسب أمر قورش وليس بحسب أمر الله، أي بحسب أمر العالم وليس بحسب أصوات الروح. وأيضاً الآن هناك مَن يذرفون دموع حماقة وحسرة بشريّة على ماضٍ أدنى مرتبة، على ماضٍ لم يكن صالحاً وحكيماً، بحيث أنّه سَبَّبَ سخط الله. أيضاً الآن لدينا كلّ هذه الأمور، كما لو أنّنا كنّا ما نزال في ضبابيّة العصور القديمة وليس في نور زمن النور.
افتحوا قلوبكم للنور، املؤوا أنفسكم بالنور، كي تروا بوضوح، أقلّه أنتم الّذين أُكلّمكم أنا النور. إنّه الزمن الجديد. الزمن الّذي يُعاد فيه بناء كلّ شيء. إنّما الويل لِمَن سوف لا يريدوا الدخول، والّذين سيعيقون أولئك الّذين يبنون هيكل الإيمان الجديد الّذي أنا حجر زاويته، والّذي أيضاً أبذل له كلّ نفسي، كي أصنع الملاط الّذي يربط الحجارة، كي يرتفع البناء سليماً وقويّاً، رائعاً على مرّ العصور، رحباً بحيث الأرض ستتغطّى كلّها بنوره. أقول نور، لا ظِلّ، لأنّ هيكلي سيكون مُشَكَّلاً مِن أرواح وليس مِن موادّ كامدة. أنا صخرته بروحي الأزليّة، وحجارته هي كلّ مَن يتبعون كلمتي والإيمان الجديد، حجارة غير مادّية، حجارة متّقدة، حجارة مقدّسة. والنور سوف ينتشر فوق الأرض، نور الهيكل الجديد، ويغطّيها بالحكمة والقداسة. ولن يبقى خارجاً سوى أولئك الّذين سيبكون بدموع دَنِسة، ويتحسّرون على الماضي، لأنّه كان بالنسبة لهم نبع منافع وأمجاد بشريّة محضة.
انفتحوا على الزمن والهيكل الجديد، أيا أهل السامرة! ففيه كلّ شيء جديد، والانفصالات القديمة والحدود المادّيّة، الفكريّة والروحيّة، لم يعد لها وجود. أَنشِدوا، بما أنّ النفي خارج مدينة الله هو على وشك الانتهاء. أربّما أنتم فَرِحون بأنّكم بمثابة منفيّين، بمثابة برص بالنسبة للآخرين مِن إسرائيل؟ هل أنتم فَرِحون بالشعور كأنّكم مطرودون مِن حضن الله؟ لأنّكم تشعرون بهذا، نفوسكم تشعر به، نفوسكم المسكينة، المقيّدة بأجسادكم، الّتي تُسلِّطون عليها فكركم العنيد، الّذي لا يريد أن يقول للبشر الآخرين: "لقد أخطأنا، إنّما الآن فإنّنا مثل خراف مشتّتة نعود إلى الحظيرة". ألا تريدون قول هذا للبشر الآخرين، وهو أمر بحدّ ذاته سيّئ. إنّما على الأقلّ قولوه لله. فحتّى لو خنقتم صراخ نَفْسكم، فإنّ الله يسمع أنين نَفْسكم، الّتي هي تعيسة لكونها منفيّة مِن منزل الآب الكونيّ والكلّيّ القداسة.
أَنصِتوا إلى كلمات المزمور الـمُرَنَّم. إنّكم حقّاً حُجّاج تمضون منذ عصور صوب المدينة العليا، صوب أورشليم الحقّة، أورشليم السماويّة. فَمِن هناك، مِن السماء، نزلت نفوسكم كي تُحيي جسداً، وإلى هناك هي تتوق للعودة. لماذا تريدون التضحية بنفوسكم، بحرمانها مِن ميراث الملكوت؟ أيّ ذنب قد اقترفت بنزولها في أجساد حُبِل بها في السامرة؟ إنّها تأتي مِن أب وحيد. إنّ لها ذات الخالق الّذي لنفوس اليهوديّة والجليل، فينيقيا والمدن العشر. الله محطّ كلّ روح. كلّ روح تنزع نحو هذا الله. ولو أنّ عبادات أوثان مِن كلّ الأنواع، أو هرطقات مُهلِكة، انشقاقات، أو انعدام إيمان، تُبقيها جاهلةً لله الحقّ، جهل يكاد يصبح مطلقاً لو لم تكن النَّفْس تمتلك ذكرى جنينيّة لا تمحى للحقيقة وتَوقاً إليها. آه! نَمّوا هذه الذكرى وهذا التّوق. افتحوا الأبواب لنَفْسكم. ليدخلها النور! لتدخلها الحياة! ليدخلها الحقّ! ليكن الدرب مفتوحاً! ليدخل كلّ شيء أمواجاً مضيئة وحيويّة، مثل أشعّة الشمس والأمواج والرياح الربيعيّة، حتّى تنمو الشجرة مِن جنينيّتها وتنطلق عالياً، مقتربةً دوماً مِن ربّها.
أُخرجوا مِن النّفي! أَنشِدوا معي: "حينما أعادها الربّ مِن السبي، بدت النَّفْس حالمةً مِن الفرح. امتلأ فمنا ابتساماً ولساننا بهجةً. والآن نقول: ’صنع الربّ لنا العظائم‘". نعم، إنّ الربّ قد صنع لكم العظائم، وسوف تُغمَرون بالفرح.
آه! يا أبتِ! أسألكَ لأجلهم كما للجميع. أَعِد، يا ربّ، هؤلاء المساجين، هؤلاء الّذين في عينيكَ وعينيّ، قد كُبّلوا بسلاسل الضلال المتعنّت. أَعِدهم، يا أبتِ، مثل سيل يصبّ في نهر عظيم، إلى بحر رحمتكَ وسلامكَ العظيم. إنّني وخدّامي، بالدموع، نبذر فيهم حقيقتكَ. أيا أبتِ، اجعلنا، في زمن الحصاد العظيم، نحن جميع خدّامكَ إذ نعلّم حقيقتكَ، أن نحصد بفرح مِن هذه الأثلام، الّتي تبدو الآن كما لو أنّ فقط نباتات شائكة وسامّة قد نُثِرت فوقها، الحبوب المختارة لأهرائكَ. أبتاه! أبتاه! لأجل أتعابنا، دموعنا، آلامنا، عَرَقنا، أمواتنا، الّذين كانوا وسيكونون رفاق الّذين يبذرون، اجعلنا نتمكّن مِن المجيء إليك حامِلين، كما باقات، بواكير هذا الشعب، النفوس المولودة مجدّداً للبرّ والحقّ لأجل مجدك. آمين.»
إنّ الصمت، الّذي كان مؤثّراً بحقّ مِن فرط ما كان مُطبِقاً في هكذا حشد ضخم كان قد ملأ المعبد والساحة الّتي أمامه، يفسح المجال لهمهمة متحفّظة ثمّ إلى همس، ومِن همس إلى جَلَبَة، تتعاظم لتصبح في النهاية هوشعنا. إنّ الناس يشوّرون ويُعلّقون ويهتفون…
كم هي مختلفة هنا خاتمة الموعظة عنها في الهيكل! ملاخي يقول باسم الجميع: «أنتَ وحدكَ مَن يمكنه قول الحقيقة هكذا، دونما إساءة وإذلال! إنّكَ حقّاً قدّوس الله! صَلِّ لأجل سلامنا. لقد قَسَّتنا عصور … إيمانات وعصور مواجهات. وعلينا كسر القشرة الصلبة هذه الّتي تغلّفنا. شفقتكَ.»
«بأكثر بعد: محبّتي. امتلكوا الإرادة الصالحة، والقشرة ستتفتّت مِن تلقائها. فليحلّ النور فيكم.»
يشقّ لنفسه طريقاً ويخرج، يتبعه الرُّسُل.