ج5 - ف48
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
48- (يسوع في بيللا)
12 / 12 / 1945
الطريق المؤدّية إلى بيللا مِن جدرة تمرّ عَبْر منطقة خصيبة تمتدّ بين سلسلتين مِن الروابي، الأولى أعلى مِن الأخرى. وهما تبدوان كدَرَجَتين ضخمتين لسلّم عملاق أسطوريّ للصعود مِن وادي الأردن إلى جبال حوران. وكلّما اقتَرَبَت الطريق أكثر مِن الدَرَجَة الغربية، أصبَحَت العين تَرى ليس فقط جبال الضفّة الأخرى -أظنّها جبال الجليل الجنوبي وبالتأكيد جبال السامرة- إنّما كذلك امتداد الخُضرة الرائع المحاذي لضفّتي النهر الأزرق. وكلّما ابتَعَدَت عنها، مُقتربة مِن السلاسل الشرقية، فحينئذ تفقد العين رؤية وادي الأردن، ولكنّها ما تزال تَرى قمم سلاسل السامرة والجليل التي تنفصل عن بعضها مع خُضرتها في السماء الرماديّة. عندما يكون الطقس مشمساً يكون المشهد جميلاً بألوانه المبهِجة والحيويّة. أمّا اليوم فالسماء مليئة بالغيوم المنخفضة جدّاً، والرياح الخماسينيّة تعصف بشدّة مُشكّلة أكواماً جديدة مِن الغيوم الأكثر كثافة، جاعلة السماء تنخفض مع كلّ ذلك القطن الرماديّ المندوف الـمُذهِل. وكذلك يَفقد المشهد إشراق الألوان الخضراء التي تبدو وكأنّها تخبو بفعل لا شفافية الضباب.
يَجتازون قرية صغيرة دون أن يَحدُث شيء يُذكَر. فاللامبالاة تستقبل وتتبع المعلّم. فقط المتسوّلون يُعيرون انتباهاً لمجموعة المسافرين الجليليّين، ويُقبِلون طالبين الصَّدَقة.
هناك العُميان الاعتياديّون، حيث عيون أكثرهم قد أُتلِفَت بالتراخوما (الرَّمَد الحبيبي)، أو شبه العميان الذين يسيرون ورؤوسهم منخفضة، غير مُحتَمِلين النور، يسيرون بمحاذاة الجدران، أحياناً بمفردهم وأحياناً أخرى مصحوبين بامرأة أو صبيّ. في إحدى القرى حيث تتقاطع الطريق المؤدّية إلى بيللا مع تلك التي لجراسا وبصرى ببحيرة طبريّا، هناك جمع يُرهِق القوافل بنحيبهم الذي هو أشبه بنباح الكلاب، المتقطّع بين الفينة والفينة بصيحات حقيقيّة. يُنصِتون، كمجموعة بائسة، قَذِرة ومُتعَبة، مُستَنِدين إلى جدران البيوت الأولى، يَقضمون كِسراً مِن الخبز مع الزيتون، أو يَغفون، بينما الذباب يرتع على هواه على الجفون المتقرّحة؛ إنّما لدى أوّل صوت صادر عن نعل أو عن خطوات كثيرة، يَنهضون ويَمضون صوب القادمين، أشبه بجوقة تراجيديا قديمة رثّة الثياب، ناطقين جميعاً بالكلمات ذاتها، وفاعلين الحركات ذاتها.
قِطَع مِن المال أو قِطَع مِن الخبز تطير، والعميان أو أشباه العميان يَبحَثون على غير هدى في التراب أو بين القذارات لإيجاد الصَّدَقة.
يُبصِرهم يسوع ويقول لسمعان الغيور وفليبّس: «اجلبا لهم مالاً وقوتاً. المال مع يهوذا والقوت مع يوحنّا.»
يَمضي الاثنان إلى الأمام مستعجلين في تنفيذ ما طُلب منهما، ويتوقّفان ليتكلّما، بينما يسوع يتقدّم ببطء، تُعيقه قافلة مِن الحمير تقطع الدرب.
يَندَهِش الـمُستَجدون للسلام واللُّطف الذي به تمّت تحيّتهم ومعاملتهم مِن قبل هؤلاء القادمين، ويَسأَلون: «مَن تكونون، أنتم يا مَن تُعامِلوننا بلطف وكياسة؟»
«نحن تلاميذ يسوع الناصريّ، رابّي إسرائيل. ذاك الذي يحبّ الفقراء والبؤساء لأنّه الـمُخلِّص، وهو يمرّ مُعلِناً البشرى الحسنة ومجترحاً المعجزات.»
«المعجزة هي هذه.» يقول رَجُل جَفناه تالِفتان بشكل فظيع. ويَضرب على كِسرة خبز، كحيوان حقيقيّ لا يُدرِك ولا يُعجَب إلّا بالأشياء المادّيّة.
تمرّ امرأة حاملة جِراراً مِن نُحاس فتسمعه وتقول له: «اصمت إذن، كسول مقزّز.» وتلتفت إلى التلاميذ لتقول: «هو ليس مِن البلدة. وهو محبّ للمشاجرة والعنف مع مماثليه. يجب طرده لأنّه يَسرق مساكين البلدة. ولكنّنا نخشى انتقامه.» وببطء، وبهمس تُتمتم: «يُقال إنّه سارق ظلّ لسنوات، يسرق ويقتل هابطاً مِن جبال كاراكامواب وسيلا، وهذه الأخيرة يسمّيها المحتلّون الذين يَحرسون طُرُق الصحارى بيترا. يقال إنّه جنديّ فار مِن الجيش الرومانيّ، الذي أتى إلى هنا... كي يجعل روما معروفة... اسمه هيليوس، على ما أظنّ، و له اسم آخر... إذا ما جعلتموه يَشرَب سوف يروي لكم... الآن وقد أصبح أعمى، وها هو هنا... إنّما هل هذا هو المخلّص؟» تَسأَل بعدئذ مُشيرة إلى يسوع الذي يمرّ منتصب القامة.
«إنّه هو. هل تودّين التحدّث إليه؟»
«آه! لا!» تقول المرأة بلا مبالاة.
يُحيّيها الرَّسولان ويمضيان في إثر المعلّم. ولكن يحصل صخب بين العميان، وتُسمَع شكوى مِن طفل. يلتفت كثيرون، والمرأة تلك، التي أصبحت عند عتبة بيتها: تشرح: «على الأغلب هو ذاك المتوحّش الذي يَسرق دراهم الأكثر ضعفاً. إنّه يفعل هذا دائماً.»
حتّى يسوع يلتفت ليرى.
بالفعل، يَخرج مِن الجمع صبيّ، أو بالحري مُراهِق، تسيل منه الدماء والدموع وهو ينوح: «لقد جرّدني مِن كلّ شيء! ولم يعد لدى أُمّي ما تقتات به!»
يُشفِق البعض عليه، ويضحك آخرون.
«مَن يكون هذا؟» يَسأَل يسوع المرأة.
إنّه صبيّ مِن بيللا. فقير. يأتي ليستجدي. جميع مَن في البيت مكفوفين. فعدوى المرض أصابت الواحد مِن الآخر. ولقد مات الأب. والأُمّ تبقى في البيت. والصبيّ يَسأَل المارّة والفلّاحين صَدَقة.»
يتقدّم الصبيّ مع عصاه. يمسح الدموع والدم الذي يسيل مِن جبهته بمعطفه الممزّق.
تناديه المرأة: «توقّف يا جايا. سوف أغسل لكَ جبهتكَ وأعطيكَ رغيفاً!»
«كان لديَّ مِن الدراهم والقوت ما يكفي لبضعة أيّام! الآن لا شيء! أُمّي تنتظرني لتأكل...» يقول البائس وهو ينوح بينما هو يغتسل بماء المرأة.
يتقدّم يسوع ويقول: «سأعطيكَ ما لديَّ. لا تبكِ.»
«ولكن يا سيّدي! لماذا؟ أين سنقيم؟ ماذا سنفعل؟» يقول يهوذا غاضباً.
«سنحمد الربّ الذي يحفظنا في صحّة جيّدة. فهذه نعمة عظيمة جدّاً.»
يقول الصبيّ: «آه! بالتأكيد! فلو كنتُ أنا أرى، لكنتُ أعمل مِن أجل أُمّي.»
«هل تريد أن تَبرأ؟»
«نعم.»
«لماذا لم تذهب إلى الطبيب؟»
«لم يبرأ أحد منّا قط. ولقد قالوا لنا إنّ هناك في الجليل مَن هو ليس بطبيب، ولكنّه يُشفي. ولكن كيف العمل لأجده؟»
«اذهب إلى أورشليم، إلى جَثْسَيْماني. هناك بستان زيتون عند أسفل جبل الزيتون قرب الطريق إلى بيت عنيا. اسأل مرقس ويونا. كلّ سكّان ضاحية أوفيل يدلّونكَ عليه. يمكنكَ الالتحاق بقافلة. يمرّ منها كثير. اسأل يونا عن يسوع الناصريّ...»
«هو ذا! ذاك هو الاسم! هل سيشفيني؟»
«إذا كنتَ تؤمن، نعم.»
«وأنا أؤمن. أين تذهب أنتَ، يا مَن أنتَ صالح؟»
«إلى أورشليم مِن أجل الفصح.»
«آه! خذني معكَ! لن أُسبّب لكَ المتاعب. سأنام مع النجمة وسأكتفي بقطعة خبز! هيّا بنا إلى بيللا... أنتَ ذاهب إليها أليس كذلك؟ نُخبر أُمّي، ثمّ نمضي... آه! أن أرى! كُن طيّباً يا سيّدي!...» ويجثو الصبيّ بحثاً عن قدميّ يسوع ليقبلهما.
«تعال. سوف أقودكَ إلى النور.»
«بوركتَ!»
ويُعاوِدون المسير، ويد يسوع الناعمة تمسك بذراع الصبيّ ليقوده بعناية. ويتكلّم الصبيّ: «أنتَ مَن تكون؟ أحد تلاميذ الـمُخلِّص؟»
«لا.»
«ولكنّكَ تعرفه، على الأقلّ؟»
«نعم.»
«أوتظنّ أنّه سيشفيني؟»
«أعتقد ذلك.»
«ولكن... هل سيطلب مالاً؟ لا أملك مالاً. الأطبّاء يريدون منه الكثير! لقد عانينا مِن الجوع كي نُشفى...»
«يسوع الناصريّ لا يريد سوى الإيمان والحبّ.»
«إنّه صالح للغاية إذن. ومع ذلك فأنتَ كذلك صالح.» يقول الصبيّ، وكي يمسك باليد التي تقوده ويلاطفها، يلمس كُمّ الثوب. يا لثوبكَ الجميل! أنتَ سيّد! ألا تخجل بي، لثيابي الممزّقة؟»
«أنا لا أخجل إلّا مِن الخطايا التي تخزي الإنسان.»
«أنا، لديَّ تلك التي تجعلني ألعن حالتي، وأرغب في ثياب دافئة وقوت، وخاصّة النَّظَر.»
يُلاطفه يسوع: «هذه ليست خطايا مخزية. في هذه الأثناء حاول ألّا تكون لديكَ هذه النقائص، وستصبح قدّيساً.»
«ولكنّني لو شُفيتُ لما بقيَت هذه لديَّ... أو بالأحرى... لن أشفى، وأنتَ تعرف ذلك، ولعلّكَ تُهيّئني لمصيري، وتُثقّفني كي أتقدّس مثل أيّوب؟»
«سوف تُشفى. إنّما بعد ذلك، خاصّة بَعد، ينبغي لكَ أن تكون مسروراً لحالتكَ، حتّى ولو لم تكن مِن الأكثر إسعاداً.»
يَصِلون إلى بيللا. البساتين، التي تسبق المدن دائماً، تُظهِر خصب أرضهم بوفرة خُضرتها. نساء منهمكات في العمل في الأثلام أو في أطباق الغسيل، يحيّين جايا ويقلن له: «عُدتَ سريعاً اليوم، هل سارت الأمور على ما يرام؟» أو أيضاً: «هل وجدتَ نصيراً، أيّها الصبيّ المسكين؟» وامرأة عجوز تصيح مِن عمق أحد البساتين: «جايا! إذا كنتَ جائعاً، فتلك قصعة لكَ. وإلّا فلأُمّكَ. هل أنتَ ذاهب إلى البيت؟ خذها.»
«سأقول لأُمّي إنّي ذاهب مع هذا السيّد الطيّب إلى أورشليم لأُشفى. إنّه يعرف يسوع الناصريّ ويقودني إليه.»
الطريق، حتّى أبواب بيللا، تعجّ بالجموع. هناك الباعة، ولكن هناك كذلك المسافرون.
امرأة تبدو عليها النعمة، تسافر على بغل، يرافقها خادمة وخادم، تلفت لدى سماعها الحديث عن يسوع. تَشدّ الأعنّة، تُوقِف البغل، تهبط وتتوجّه صوب يسوع. «هل تعرف يسوع؟ هل أنتَ ذاهب لملاقاته؟ أنا أيضاً ماضية إليه... مِن أجل شفاء صبيّ. أودُّ التحدّث إلى المعلّم لأنّ...» وتبكي تحت وشاحها الناعم.
«ما هو مرض ابنكِ؟ أين هو؟»
«إنّه مِن جيراسا، أمّا الآن فهو في جهة اليهوديّة، إنّه يتصرف كالمهووس... آه! ماذا قُلتُ؟»
«مُستَحوَذ عليه هو؟»
«يا سيّدي، لقد كان كذلك وشُفِيَ. الآن... هو شيطان أكثر مِن السابق لأنّه... آه! لا يمكنني التحدّث عن ذلك إلا ليسوع الناصريّ!»
«يعقوب، خُذ الصبيّ بينكَ وسمعان وتقدّموا مع الآخرين. وانتظروني بعد الباب. أيّتها المرأة، يمكنكِ صَرف خادميكِ إلى الأمام، وسنتحدّث فيما بيننا.»
تقول المرأة: «ولكنّكَ لستَ الناصريّ! أريد التحدّث إليه، وإليه فقط. هو فقط يمكنه الإدراك والإشفاق.»
ومع ذلك فهما الآن بمفردهما. الآخرون متقدّمون ويتحدّثون عما يخصّهم. ينتظر يسوع خلو الطريق، ثمّ يقول: «يمكنكِ التحدّث. أنا يسوع الناصريّ.»
تئنّ المرأة وتكاد تجثو على ركبتيها.
«لا. يجب ألّا يعرف الناس الآن. هيّا بنا. هناك بيت مفتوح. سوف نطلب فرصة للاستراحة وسنتحدّث. تعالي.»
يَمضيان عَبْر درب بين بستانين إلى بيت شعبيّ يمرح أولاد في فنائه.
«السلام لكم. هل تسمحون لي بأن أريح المرأة لحظة؟ عليَّ التحدّث إليها. نحن قادمان مِن بعيد لنستطيع التحدّث إلى بعضنا، وقد جَعَلَنا الله نلتقي قبل بلوغ الهدف.»
«ادخلا. الضّيف بَرَكَة. سنقدّم لكما الحليب والزّاد والماء لأقدامكما التَّعِبة.» تقول امرأة عجوز.
«لا حاجة إلى ذلك. يكفينا مكان هادئ لنتمكّن مِن التحدّث.»
«تعاليا.» وتقودهما إلى شُرفة مطوَّقة بكرمة ما تزال أوراقها الخضراء النَّضِرة تتشكّل.
يبقيان بمفردهما. «تكلّمي أيّتها المرأة. لقد قُلتُ: جعَلَنا الله نلتقي قبل نهاية الطريق، لعزائكِ.»
«لا، لا عزاء لي! كان لي وَلَد. أَصبَحَ مُستَحوَذاً عليه. حيوان مُفتَرِس في القبور. لم يكن ليردّه شيء، ولم يكن ليشفيه شيء. رآكَ. عَبَدَكَ بفم الشيطان، وشَفيتَه. كان يبغي اللّحاق بكَ. إنّما أنتَ فكّرتَ بأُمّه وأَرسَلتَه لي لتعيد لي الحياة والفِكر المضطربين بسبب الألم الذي كان يتسبّب به وجود ابن مُستَحوَذ عليه. وأَرسَلتَه ليبشّر بكَ لأنّه كان يريد أن يحبّكَ. أنا... آه! أن أكون أُمّاً مِن جديد لابن قدّيس! وهو يُصبح خادماً لكَ! ولكن قُل لي، قُل لي! عندما أَعَدتَه، هل كنتَ تَعلَم أنّه كان... أنّه يُصبِح شيطاناً مِن جديد؟ لأنّه شيطان هو الذي يتركك بعد تلقّي الكثير منكَ، بعد التعرّف إليكَ، بعد أن يتمّ اختياره للسماء... قُل لي! هل كنتَ تَعلَم؟ ولكنّني أنا أهذي! أتكلّم ولا أقول لكَ لماذا هو شيطان... لقد أَصبَحَ كالمجنون منذ بعض الوقت، آه! منذ بضعة أيّام، ولكنّها أكثر إيلاماً مِن السنوات الطويلة التي كان فيها مُستَحوَذاً عليه... حينذاك كنتُ أظُنّ أنّني أبداً لن أشعر بألم أعظم مِن ذاك... جاء... وقَوَّضَ الإيمان الذي كانت جيراسا تحصده مِن أجلكَ، بفضلكَ وفضله، بقوله قبائح منسوبة إليكَ. وقد سبقكَ إلى مخاضة أريحا، مسيئاً إليكَ، مسيئاً إليكَ!»
والمرأة التي لم تكن قد نزعت حجابها الذي تبكي خلفه، ونفسها ممزّقة، ترتمي عند قدميّ يسوع وهي تتوسّل إليه: «اذهب! اذهب! لا تتعرّض للإهانة! لقد مضيتُ بالاتّفاق مع زوجي المريض، ونحن نصلّي إلى الله أن ألقاكَ. وقد استجاب! آه! تبارك اسمه! أنا لا أريد، أنا لا أريد السماح بأن تُساء معاملتكَ بسبب ابني! آه! لماذا أوجدتُه في هذا العالم؟ لقد خانكَ، يا سيّد! إنّه يشوّه كلامكَ. لقد امتلكه الشيطان مِن جديد. و... آه! أيّها الربّ تعالى، أيّها القدّوس! ارحم أُمّاً! سوف يهلك. ابني، ابني! في السابق لم تكن غلطته أنّه كان ممتلئاً مِن الشياطين. لقد كان بؤساً حلّ عليه. أمّا الآن! الآن وقد أَنعَمتَ عليه، الآن وقد عَرف الله، الآن وقد ثقّفتَه! الآن هو مَن شاء أن يكون شيطاناً، ولن تحرّره قوّة قَطّ! آه! آه!» وارتمت المرأة على الأرض، كومة مِن الثياب والجسد تهزها الدموع. وتئنّ: «قُل لي، قُل لي ما ينبغي أن أفعل مِن أجلكَ، مِن أجل ابني؟ لأُصلح الأمور! لأخلِّص! لا. لأصلح! أنتَ ترى أنّ دموعي للإصلاح هي. أمّا أن أُخلِّص! لا يمكنني أن أُخلِّص الذي أَنكَرَ الله. لقد هلك... وماذا بالنسبة إليَّ كإسرائيليّة؟ هَمّ شديد.»
ينحني يسوع. يضع يده على كتفها. «انهضي، اهدئي! أنتِ عزيزة على قلبي. اسمعي أيّتها الأُمّ المسكينة.»
«ألا تلعنني لأنّني أنجبتُه؟!»
«آه! لا! أنتِ لستِ مسؤولة عن خطئه، واعلمي هذا مِن أجل سلوانكِ، يمكنكِ على العكس أن تكوني سبب خلاصه. يمكن لأنقاض الأبناء أن تُرَمَّم بواسطة الأُمّهات. وأنتِ ستفعلين ذلك. ألمكِ، بما أنّه صالح فهو ليس عقيماً، بل هو خَصب. بألمكِ سوف تخلص النَّفْس التي تحبّين. إنّكِ تكفّرين عنه، وتكفّرين بنيّة مستقيمة تستحقّين بموجبها الغفران لابنكِ. سيعود إلى الله. لا تبكي.»
«ولكن متى؟ متى إذن؟»
«عندما تمتزج دموعكِ بدمي.»
«دمكَ؟ فإذن ما يقوله صحيح؟ إنّكَ ستُقتَل لأنّكَ تستحقّ الموت؟... تجديف فظيع!»
«بالنسبة إلى الجزء الأول، صحيح. سأُقتل لأجعلكم جديرين بالحياة. أنا الـمُخلِّص، يا امرأة. والخلاص يُمنَح بالكلمة، بالرحمة، بالمحرقة. وهذا ما يلزم بالنسبة إلى ابنكِ، وسأمنحه. ولكن أعينيني. أعطيني ألمكِ. اذهبي ولتصحبكِ بركتي. احفظيها في داخلك لتتمكّني مِن أن تكوني رحيمة وصبورة مع ابنكِ، وهكذا تُذكِّرينه أن "آخر" كان رحيماً معه. امضي، امضي بسلام.»
«إنّما أنتَ، لا تتحدّث في بيللا! لا تتحدّث في بيريه! لقد أَلَّبَهم ضدّكَ. وليس وحده. أمّا أنا فلا أرى إلّاه ولا أتحدّث إلّا عنه...»
«سوف أتحدّث بفعل. وهو كاف لِيُبطِل عمل الآخرين. اذهبي إلى بيتكِ بسلام.»
«سيّدي، الآن وقد غفرتَ لي إنجابي له، انظر إلى وجهي لتعرف ما يكون وجه أُمّ عندما تكون ممزّقة.» وتكشف عن وجهها قائلة: «هذا هو وجه أُمّ مرقس بن يسّى الذي أنكَرَ مَسيّا وعَذَّبَ تلك التي مَنَحَته الحياة.» وبعد ذلك ترخي وشاحها الناعم على وجهها الذي أتعبته الدموع وهي تئنّ: «لن تعادلني أُمّ في إسرائيل بالألم!»
يهبطان مِن المكان المضيف ليعاودا المسير. يَدخُلان بيللا ويجتمعون: المرأة مع خدّامها، ويسوع مع رُسُله. ولكنّ المرأة تتبعه مفتونة به، بينما يسوع يتبع الصبيّ الذي يتوجّه صوب كوخه، الكائن في قبو بناء مُستَنِد إلى سفح الجبل، صفة مميّزة لتلك المدينة القائمة على تشكل شرفات، بشكل أنّ الطابق الأول مِن جهة الغرب هو الطابق الثاني مِن جهة الشرق، إنّما في الحقيقة هو أرضيّ هنا كذلك لأنّه بالإمكان الوصول إليه عَبْر الطريق القائمة في الأعلى، التي هي على مستوى الطابق الثاني. لستُ أدري إذا ما كنتُ قد أَجَدتُ التعبير.
ينادي الصبي بقوّة: «أُمّي! أُمّي!»
مِن الكهف البائس والمظلم تأتي امرأة ما تزال شابّة، كفيفة، بالسُّبُل المتَّبعة لأنها تعرف محيطها. «هل عدتَ يا بنيّ؟ هل كانت الصَّدقات وفيرة لدرجة جعلتكَ تعود بينما النهار ما يزال في أوجه؟»
«أُمّي، لقد وجدتُ مَن يُعرَف يسوع الناصريّ وهو يقول إنّه سيقودني إليه لأشفى. إنّه طيّب جدّاً. هل تسمحين لي بالذهاب ، يا أُمّي؟»
«بالتأكيد، يا جايا! حتّى ولو كنتُ سأبقى وحدي، اذهب، اذهب، بارَكَكَ الله، وأنظر إليه عنّي، الـمُخلِّص!»
الموافقة، إيمان المرأة مُطلق.
يبتسم يسوع. يقول: «ألا تشكّين بي، يا امرأة، ولا بالـمُخلِّص؟»
«لا. إذا كنتَ تعرفه وإذا كنتَ صديقه، فلا يمكنكَ أن تكون إلّا صالحاً. أمّا بالنسبة له! امضِ، امضِ، يا ولدي! لا تتأخّر ولا لحظة. فلنتبادل القبلة واذهب الله معكَ.»
يتعانقان تَلَمُّساً. يَضَع يسوع على طاولة غير مُتقَنة رغيفاً وبعض القطع النقديّة.
«وداعاً يا امرأة. هنا ما يكفي لتأمين الغذاء لكِ. السلام معكِ.»
يَخرُجون. تُعاوِد الجماعة المسير. يبدأ المطر بالهطول.
«ولكن ألا نتوقف؟ يهطل المطر...» يقول الرُّسُل.
«نتوقّف في يابيش جلعاد. سيروا.»
يَضَعون معاطفهم على رؤوسهم، ويَفرد يسوع معطفه على رأس الصبيّ. أُمّ مرقس بن يسّى تتبعهم على مطيّتها، مع خُدَّامها. يبدو أنّها لا تستطيع أن تفارقه.
يَخرجون مِن بيللا. يَلِجون قرية خضراء وحزينة في هذا اليوم الماطر.
يَسيرون كيلو مترا واحداً على الأقلّ، ثمّ يقف يسوع. يُمسك رأس الصبيّ بيديه ويطبع قبلة على عينيه المطفأتين قائلاً: «والآن، عُد على قدميكَ. امض وقُل لأمّكَ إنّ الربّ يُكافِئ الذي يؤمن، وقل لأهل بيللا إنّ ذاك هو الربّ.» يتركه يذهب ويبتعد سريعاً.
ولكن لا تمضي دقائق ثلاث حتّى يَصرُخ الصبيّ: «ولكنّني، أرى! آه! لا تهرب! أنتَ يسوع! اجعَلني أراكَ أنتَ أوّلاً!» ويجثو على ركبتيه على الأرض الغارقة بالأمطار.
وتَهرع امرأة جيراسا مِن جِهة، والرُّسُل مِن الأخرى، لرؤية المعجزة. ويعود يسوع على مهل مبتسماً. ينحني ليلاطف الصبيّ. «اذهب، اذهب لملاقاة أُمّكَ، واعرف أن تؤمن بي، على الدوام.»
« نعم، يا ربّي... ولكن بالنسبة إلى أُمّي لا شيء؟! ستبقى في الظلمة، هي التي تؤمن مثلي؟»
ويبتسم يسوع ابتسامة أكثر إشراقاً. يَنظُر حوله. يرى على قارعة الطريق باقة مِن الأقحوان بَلَّلَها المطر. ينحني، يقطفها ويعطيها للصبيّ. «مَرِّرها على عينيّ أُمّكَ وسترى. فأنا لا أعود إلى هناك، أنا ماضٍ إلى الأمام. وليتبعني الصالح بروحه، وليتحدّث عنّي للذين يشكّون. أنتَ تحدَّث عنّي في بيللا حيث الإيمان متزعزع. اذهب! الله معكَ.»
ثمّ يلتفت إلى امرأة جيراسا: «وأنتَ، اتبعيه. هذا هو جواب الله لكلّ الذين يعملون على تقليص إيمان الناس بالمسيح. وليُثبّت هذا إيمانكِ وإيمان يسّى. اذهبي بسلام.»
يفترقون. يُعاوِد يسوع المسير صوب الجنوب. الصبيّ والجيراسانيّة وخُدّامها، صوب الشمال. وِشاح مِن المطر يفرّقهم كوِشاح مِن دخان...