ج8 - ف8

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

8- (قيامة لعازر)

 

26 / 12 / 1946

 

يسوع يأتي إلى بيت عنيا عن طريق عين شمس. لا بدّ أنّهم قاموا بمسير مُتعِب بحقّ على دروب جبال أَدُمِّيم الخطرة. الرُّسُل، اللاهثون، يجهدون للّحاق بيسوع، الّذي يمضي بسرعة، كما لو أنّ المحبّة كانت تحمله على جناحيها الناريّين. ليسوع ابتسامة مشرقة فيما يتقدّم سابقاً الجميع، مرفوع الرأس تحت الأشعّة الدافئة لشمس الظهيرة.

 

قبل أن يصلوا إلى طلائع منازل بيت عنيا، يراهم صبيّ صغير حافي القدمين، وهو يمضي إلى النبع القريب مِن القرية حاملاً إبريقاً نحاسيّاً فارغاً. يُطلِق صيحة. يضع الإبريق على الأرض ويمضي راكضاً، بأقصى سرعة ساقيه الصغيرتين، نحو داخل القرية.

 

«حتماً يذهب للإعلام عن قدومكَ.» يلاحظ يوضاس تدّاوس بعدما ابتسم مثل الجميع للقرار… الجريء للصبيّ الصغير، الّذي قد ترك إبريقه في متناول أوّل عابر.

 

إنّ البلدة الصغيرة، الّتي يمكن رؤيتها هكذا مِن قرب النبع، الّذي يعلوها قليلاً، تبدو هادئة، كأنّها خاوية. وحده الدخان الرماديّ الّذي ينطلق مِن المداخن يشير إلى أنّ النسوة داخل المنازل يقمن بإعداد وجبة الظهيرة، وبعض أصوات غليظة لرجال بين أشجار الزيتون والبساتين الواسعة والساكنة تُعلِم بأنّ الرجال يعملون. ومع ذلك، فإنّ يسوع يفضّل سلوك درب صغيرة تمرّ مِن وراء القرية، كي يتمكّن مِن الوصول إلى بيت لعازر مِن دون لفت انتباه السكّان.

 

إنّهم تقريباً في منتصف الطريق عندما يسمعون خلفهم صوت ذاك الصبيّ، الّذي يتجاوزهم راكضاً، ومِن ثمّ يقف في وسط الطريق لينظر إلى يسوع، مفكّراً…

 

«السلام لكَ يا مرقس الصغير. هل خفت منّي حتّى هربتَ؟» يَسأَل يسوع مداعباً إيّاه.

 

«لا يا ربّ، أنا لم أخف. لكن بما أنّ مرثا ومريم قد أرسلتا خلال أيّام عدّة خدّاماً إلى الطرق التي تصل إلى هنا كي يروا إن كنتَ تأتي، والآن وقد رأيتُكَ فقد هرعتُ لأقول بأنّكَ أتيتَ...»

 

«لقد أحسنتَ عملاً. الأختان سوف تُهيّئان قلبيهما لرؤيتي...»

 

«لا يا ربّ. الأختان لن تُهيّئا أيّ شيء، لأنّهما لا تعلمان شيئاً. فهم لم يريدوا أن أقول ذلك. لقد أمسكوا بي حين قلتُ وأنا أدخل الحديقة: "هناك الرابّي"، وقد طردوني خارجاً قائلين: "أنتَ كاذب أو أبله. هو لن يأتي بعد الآن، لأنّه متأكّد بأنّه مِن الآن فصاعداً ما عاد قادراً على اجتراح المعجزة"، ولأنّني كنتُ أقول بأنّكَ كنتَ أنتَ حقّاً، فقد تلقّيتُ منهم صفعتين كما لم أتلقَّ أبداً… انظر هنا إلى خدّيَّ الأحمرين. إنّهما يحرقانني! وقد دفعوني خارجاً قائلين: "هذا لتطهيركَ لأنّكَ نظرتَ إلى شيطان"، وأنا كنتُ أنظر إليكَ لأرى إن كنتَ قد أصبحتَ شيطاناً. إنّما لا أرى ذلك… إنّكَ ما تزال يسوعي، الجميل مثل الملائكة الّتي تخبرني عنها أُمّي.»

 

يسوع ينحني ليقبّل خدّيه المصفوعين قائلاً: «هكذا يزول الحكّ. إنّني حزين لأنّكَ تألّمتَ بسببي...»

 

«أنا لا، يا ربّ، لأنّ هاتين الصفعتين قد جعلتاني أحصل على قبلتين منكَ.» ويتعلّق به أملاً بالمزيد.

 

«قُل يا مرقس. مَن الّذي طردكَ؟ خدّام لعازر؟» يَسأَل تدّاوس.

 

«لا. اليهود. إنّهم يأتون كلّ يوم للتعزية. إنّهم كُثُر! إنّهم في المنزل وفي الحديقة. إنّهم يأتون باكراً، ويرحلون متأخّرين. يبدون أنّهم الأسياد. يسيئون معاملة الجميع. هل ترى أنّ ما مِن أحد في الشوارع؟ في الأيّام الأولى كانوا يأتون ليروا… إنّما بعد ذلك… الآن ليس سِوانا نحن الأطفال نتجوّل كي… آه! إبريقي! أُمّي التي تنتظر الماء… سوف تضربني هي كذلك!...»

 

يبتسمون كلّهم لحزنه أمام توقّع صفعات أخرى، ويسوع يقول له: «اذهب سريعاً إذن...»

 

«الأمر هو أنّني، كنتُ أريد الدخول معكَ لرؤيتكَ تجترح المعجزة...» ويُنهي: «وأن أرى وجوههم… لأنتقم لنفسي لأجل الصفعتين...»

 

«هذا لا. يجب ألّا ترغب بالانتقام. يجب أن تكون صالحاً وتغفر… إنّما أُمّكَ تنتظر الماء...»

 

«أَذهَب أنا يا معلّم. أعرف أين يقيم مرقس. سوف أشرح للمرأة وألحق بكَ...» يقول يعقوب بن زَبْدي فيما يمضي راكضاً.

 

يستأنفون السير على مهل، ويسوع يمسك بيد الطفل المبتهج…

 

ها هم عند بوابة الحديقة. يحاذونها. مطايا كثيرة مربوطة فيها، يحرسها خدّام أصحابها. إنّ الهمس الصادر عنهم يجذب انتباه عدد مِن اليهود، الّذين يلتفتون صوب البوّابة المفتوحة، بالضبط في اللحظة الّتي تطأ فيها قدم يسوع حدود الحديقة.

 

«المعلّم!» يقول الأوائل الّذين يرونه، وهذه الكلمة تجري مثل هفيف ريح مِن مجموعة إلى أخرى، تنتشر، تمضي مثل موجة قادمة مِن بعيد لتتكسّر على الشاطئ، وصولاً إلى جدران المنزل، وتخترقها، محمولة بالتأكيد مِن قِبَل يهود كُثُر حاضرين، أو مِن قِبَل بعض مِن الفرّيسيّين، رابّي أو كاتب أو صدّوقيّ، منتشرين هنا وهناك.

 

يسوع يدخل ببطء شديد، فيما الجميع، وقد هرعوا مِن كلّ الجهات، يبتعدون عن الدرب حيث يسير. وبما أنّ لا أحد يحيّيه، فهو لا يحيّي أحداً، حتّى لكأنّه لم يكن يعرف الكثيرين مِن الّذين اجتمعوا هناك كي ينظروا إليه والغضب والكراهية في نظراتهم، ما عدا القلّة، الّذين كونهم تلاميذه في الخفاء، أو مَن على الأقلّ لديهم قلب مستقيم، والّذين إن لم يكونوا يحبّونه كتلاميذ، فهم يحترمونه كما بارّ. وهؤلاء هم يوسف، نيقوديموس، يوحنّا، إليعازر، يوحنّا الآخر: الكاتب، الّذي شوهد أثناء تكثير الخبز، وأيضاً يوحنّا آخر، الّذي أطعم النازلين مِن جبل التطويبات، غَمَالائيل مع ابنه، يشوع، يواكيم، مَنَاين، الكاتب يوئيل بن أبيا، الّذي صودف عند الأردن في حادث صابئة، يوسف برنابا تلميذ غَمَالائيل، خُوزي الّذي يراقب يسوع مِن بعيد، الخَجِل قليلاً لرؤيته مجدّداً بعد احتقاره، أو ربّما منعه الاحترام البشريّ مِن التقدّم كصديق. مِن المؤكّد أنّ لا الأصدقاء، ولا الّذين يراقبونه دونما حقد، ولا الأعداء يحيّونه. ويسوع لا يحيّي. لقد اقتصر على انحناءة مبهمة فيما تطأ قدماه الممرّ. ثمّ تابع مباشرة، كأنّه غريب عن الجمع الكبير الّذي يحيط به. الصبيّ الصغير يسير دوماً إلى جانبه، بملابسه الّتي لفلاح صغير وبقدمين حافيتين لطفل فقير، إنّما بوجه مشرق لِمَن هو في عيد، بعينيه الصغيرتين السوداوين، الحادّتين، المفتوحتين جيّدا لتريا كلّ شيء… ولتتحدّيا الجميع…

 

مرثا تخرج مِن المنزل وسط مجموعة زوّار يهود، وبينهم حِلقِيّا وصادوق. بيدها تحمي عينيها المتعبتين مِن البكاء، اللتين ضايقهما الضوء، كي ترى أين هو يسوع. تراه. تنفصل عن مرافقيها وتهرع صوب يسوع، الّذي يبعد بضع خطوات عن الحوض الّذي أصبح متلألئاً بفعل أشعّة الشمس. ترتمي عند قدميّ يسوع بعدما انحنت، وتقبّلهما، وسط انفجار نحيب، وتقول: «السلام لكَ يا معلّم!»

 

كذلك يسوع قال لها، ما أن رآها قربه: «السلام لكِ!» ورفع يده ليباركها، تاركاً يد الطفل، الّتي أمسك بها برتلماوس، وقد جذبه قليلاً إلى الخلف.

 

مرثا تتابع: «ولكن لم يعد ثمّة سلام لخادمتكَ.» ترفع وجهها نحو يسوع فيما لا تزال راكعة، وبصرخة ألم تُسمَع بوضوح في الصمت الّذي يسود، تصيح: «لعازر قد مات! لو كنتَ هنا، لما مات. لماذا لم تأتِ قبلاً يا معلّم!» لها نبرة لوم غير مقصودة في طرحها لهذا السؤال. ثمّ تعود إلى النبرة الحزينة لشخص لم تعد له القدرة على اللّوم، وتعزيته الوحيدة هي في التذكير بآخر الأفعال والرغبات لقريب قد تمّ السعي لمنحه ما كان يرغب، وبالتالي فلا ندم في القلب مِن أجله: «لقد ناداكَ كثيراً، لعازر، شقيقنا!... الآن أنتَ ترى! أنا حزينة ومريم تبكي دون أن تقدر على منح السلام لنفسها. وهو لم يعد هنا. أنتَ تعلم كم كنّا نحبّه! كان رجاؤنا كلّه فيكَ!...»

 

همس تعاطف تجاه المرأة، ولوم تجاه يسوع، وموافقة على الفكرة الكامنة: «وكان بإمكانكَ أن تستجيب لنا، لأنّنا كنّا نستحقّ ذلك لأجل المحبّة الّتي نكنّها لكَ، وأنتَ على العكس، خيّبتَ رجاءنا.» ينتقل مِن مجموعة إلى مجموعة وسط هزّ الرأس أو نظرات ساخرة. فقط مَن هم تلاميذ في السرّ، القلائل، الموزّعون وسط الجمع الحاضر لديهم نظرات تعاطف تجاه يسوع الّذي يُنصِت، شاحباً جدّاً وحزيناً، إلى المفجوعة الّتي تكلّمه. غَمَالائيل، الشابك ذراعيه على صدره، بثوبه الصوفيّ الناعم، الفضفاض والباذخ، المزيّن برباطات زرقاء، المتنحّي وسط مجموعة مِن الشباب حيث ابنه ويوسف بن برنابا، يحدّق بيسوع، دون كراهية ودون محبّة.

 

بعد أن مسحت مرثا وجهها، تستأنف الكلام: «لكنّني ما زلتُ أرجو حتّى الآن، لأنّني أعلم أنّ كل ما تطلبه مِن أبيكَ يمنحكَ إيّاه.» شهادة إيمان مؤلمة، بطوليّة، تُقال بصوت تجعله الدموع يرتجف، بوجه يرتعد بالقلق، بالرجاء الأخير الّذي يختلج في القلب.

 

«شقيقكِ سيقوم. انهضي يا مرثا.»

 

مرثا تنهض، مع بقائها منحنية إجلالاً أمام يسوع، الّذي تجيبه: «أعرف ذلك يا معلّم. هو سوف يقوم في اليوم الأخير.»

 

«أنا القيامة والحياة. مَن يؤمن بي، وإن مات، فسيحيا. ومَن يؤمن ويحيا بي لن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بكلّ هذا؟» يسوع، الّذي تكلّم قبلاً بصوت منخفض إلى حدّ ما، فقط مع مرثا، يرفع صوته كي يقول هذه العبارة الّتي تُعلِن عن قدرته الإلهيّة، ورنينها الكامل يتردّد مثل بوق ذهبيّ في الحديقة الواسعة. رعشة رعب تهزّ الحضور. إنّما بعدها البعض يتهكّمون هازّين رؤوسهم.

 

مرثا، الّتي يبدو أن يسوع يريد أن ينقل إليها رجاءً أكثر فأكثر قوّة بإبقاء يده موضوعة على كتفها، ترفع وجهها الّذي كانت قد أبقته منحنياً. ترفعه نحو يسوع، مثبّتة عينيها المحزونتين في حدقتي المسيح الـمُشعّتين، وضامّة يديها إلى صدرها، وبارتعاش مختلف تجيب: «نعم يا ربّ. أؤمن بذلك. أؤمن بأنّكَ المسيح، ابن الله الحيّ، الآتي إلى العالم. وبأنّكَ قادر على كلّ ما تشاء. أؤمن. سأذهب الآن لإعلام مريم.» وتبتعد بسرعة، مختفية في المنزل.

 

يسوع يبقى حيث كان. أو بالأحرى، يتقدّم بضع خطوات إلى الأمام ويدنو مِن مسكبة الزهور الّتي تحيط بالحوض، مسكبة متلألئة بكلّيتها، مِن هذا الجانب، بفعل رذاذ نافورة الماء، حيث ريح خفيفة تجعله يميل، كقنزعة (ريشة تزيّن بها القبّعة) فضّية، صوب هذا الجانب، ويبدو تائهاً. يسوع، في تأمّل لتحرُّك الأسماك تحت حجاب الماء الصافي، لألعابها الّتي تشكّل فواصل فضيّة وانعكاسات ذهبيّة في كريستال المياه الّتي تضربها الشمس.

 

اليهود يراقبونه. لقد انفصلوا عن غير قصد إلى مجموعات جدّ متميّزة. مِن جهة، قبالة يسوع، كلّ المعادين له، الّذين هم بالعادة منقسمين فيما بينهم بالروح الطائفيّة، المتّفقين الآن لمعارضة يسوع. وإلى جانبه، خلف الرُّسُل، حيث تجمّع يعقوب بن زَبْدي، يوسف، نيقوديموس والآخرون ذوو الروح الخيّرة. أبعد منهم، هناك غَمَالائيل، دوماً في مكانه وبالوضعيّة ذاتها، ووحده، لأنّ ابنه وتلاميذه قد انفصلوا عنه، متوزّعين بين المجموعتين الرئيسيّتين ليكونوا أقرب إلى يسوع.

 

بصيحتها المعتادة: «رابّوني!» تخرج مريم مِن المنزل راكضة وذراعاها مبسوطان صوب يسوع. وترتمي عند قدميه اللتين تقبّلهما منتحبة. عدد مِن اليهود، الّذين كانوا معها في المنزل، والّذين تبعوها، يضمّون نحيبهم المشكوك بصدقه إلى نحيبها. كذلك مكسيمين، مارسيل، سارة، نُعْمي تبعوا مريم كما كلّ خدّامها، والنحيب على أشدّه. أظنُّ أنّ ما مِن أحد قد بقي داخل المنزل. إنّ مرثا، وقد رأت مريم تبكي هكذا، فهي كذلك تُضاعِف بكاءها.

 

«السلام لكِ يا مريم. انهضي! أُنظري إليَّ! لماذا هذا البكاء المشابه لبكاء مَن لا رجاء له؟» يسوع ينحني ليقول بهدوء هذه الكلمات، عيناه في عينيّ مريم، الراكعة، المستندة إلى عقبيها، تمدّ يديها نحوه في حركة تضرّع، وهي لا تستطيع الكلام مِن فرط ما تنتحب. «ألم أقل لكِ أن ترجي إلى ما وراء حدود ما يمكن تصديقه لكي تري مجد الله؟ أيمكن أن يكون معلّمكِ قد تغيّر، حتّى تكوني محقّة بأن تكوني في هكذا ضيق؟»

 

لكنّ مريم لا تستوعب الكلمات، الّتي تتوخّى تحضيرها لفرح قويّ جدّاً بعد الكثير مِن الضيق. وتصرخ، متحكّمةً أخيراً بصوتها: «آه! يا ربّ! لماذا لم تأتِ قبلاً؟ لماذا ابتعدتَ كثيراً عنّا؟ لقد كنتَ تعلم بأنّ لعازر مريض! لو كنتَ هنا، لما مات شقيقي. لماذا لم تأتِ؟ كان عليَّ أن أُثبِت له بعد بأنّني كنتُ أحبّه، كان يجب أن يعيش. كان عليَّ أن أُثبت له بأنّني كنتُ أثابر في الخير. لقد أقلقتُ شقيقي كثيراً! والآن! الآن وقد كنتُ قادرة على جعله سعيداً، انتُزع منّي! أنتَ كنتَ تستطيع تركه لي، منح المسكينة مريم فرح تعزيته بعدما تسبّبتُ له بألم كثير. آه! يسوع! يسوع! معلّمي! مخلّصي! رجائي!» وتنهار ثانيةً، جبهتها فوق قدميّ يسوع، اللتين تُغسَلان مجدّداً بدموع مريم، وتنوح: «لماذا فعلتَ هذا يا ربّ؟! حتّى بسبب أولئك الّذين يكرهونكَ ويغتبطون لما يحدث… لماذا فعلتَ هذا يا يسوع؟!» إنّما ما مِن لوم في نبرة مريم كما بنبرة مرثا، فيها فقط قلق امرأة، يستحوذ عليها، فضلاً عن ألمها كشقيقة، ألم تلميذة تشعر بتراجع مكانة معلّمها في قلوب كثيرين.

 

يسوع، الّذي انحنى كثيراً كي يسمع هذه الكلمات الّتي تهمس بها ووجهها إلى الأرض، يعاود النهوض ويقول بصوت عالٍ: «مريم، لا تبكي! أيضاً معلّمكِ يتألّم لموت الصديق الوفيّ… فقد توجّب عليه أن يدعه يموت...»

 

آه! يا للتهكّمات ويا لنظرات الفرح الباهتة التي ترتسم على وجوه أعداء المسيح! يرونه مهزوماً ويبتهجون لذلك، فيما يغدو الأصدقاء أكثر فأكثر حزناً.

 

يسوع يقول مجدّداً بصوت أعلى: «لكن أنا أقول لكِ: لا تبكي. انهضي! انظري إليَّ! أتظنّين أنّني أنا، الّذي أحببتكِ كثيراً، قد فعلتُ ذلك مِن غير داعٍ؟ أيمكنكِ تصديق أنّني قد تسبّبتُ لكِ بهذا الألم عبثاً؟ تعالي. لنمضِ إلى لعازر. أين وضعتموه؟»

 

يسوع، أكثر منه إلى مريم ومرثا، اللتين لا تتكلّمان، وقد استولى عليهما بكاء أقوى، يتوجّه بالسؤال إلى جميع الآخرين، خاصّة أولئك الّذين، إذ خرجوا مِن المنزل مع مريم، يبدون الأكثر اضطراباً، ربّما هم أقارب أكبر سنّاً، لا أدري. وهؤلاء يجيبون يسوع، المحزون بشكل ملحوظ: «تعال وانظر.» ويتوجّهون إلى موضع القبر عند تخوم البستان، حيث توجد في التربة تموّجات وعروق صخر كلسيّ تطفو على وجه الأرض.

 

مرثا، إلى جانب يسوع الّذي أرغم مريم على النهوض والّذي يقودها، لأنّ الدموع قد أعمتها، تشير بيدها ليسوع إلى حيث هو لعازر، وعندما يصبحون قرب الموضع تقول أيضاً: «هنا يا معلّم، دُفِنَ صديقكَ» وتشير إلى الحجر الموضوع بشكل مائل على مدخل القبر.

 

يسوع، كي يبلغ المكان، يتبعه الجميع، قد اضطرّ للمرور مِن أمام غَمَالائيل. لكنّهما لم يتبادلا التحيّة. ثمّ انضمّ غَمَالائيل إلى الآخرين، متوقّفاً كما كلّ الفرّيسيّين الأكثر تزمّتاً، على بُعد بضعة أمتار مِن القبر، فيما يتقدّم يسوع إلى قربه مع الأختين، ومعهم مكسيمين، ومَن هم ربّما أقرباء. يسوع يتأمّل الحجر الثقيل الّذي يقوم مقام باب للقبر، ويشكّل عائقاً كبيراً بينه وبين الصديق الميت. ويبكي. دموع الأختين تتضاعف، كذلك دموع المقرّبين والأقارب.

 

«أزيحوا هذا الحجر.» يصيح يسوع فجأة، بعدما مسح دموعه.

 

تبدر مِن الجميع حركة دهشة، ويسرى همس في الحشد، الّذي تزايد بفعل بعض سكّان بيت عنيا الّذين دخلوا إلى الحديقة ولحقوا بالضيوف. أرى بعضاً مِن الفرّيسيّين الّذين يتلمّسون جبهتهم فيما يهزّون رؤوسهم كما كي يقولوا: «إنّه مجنون!»

 

لا أحد ينفّذ الأمر. حتّى وسط الأكثر وفاء، هناك شعور بالتردّد، بالنفور مِن فِعل ذلك.

 

يسوع يكرّر أمره بشكل أقوى، مُسبّباً الرهبة أكثر بعد للناس الّذين يتنازعهم شعوران متناقضان، والّذين، بعدما فكّروا بالفرار، يقتربون فجأة كي يروا، متحدّين رائحة النتانة القريبة مِن القبر الّذي يريد يسوع فتحه.

 

«يا معلّم، هذا غير ممكن.» تقول مرثا جاهدةً لكبح دموعها كي تتكلّم: «لقد مضت أيّام أربعة وهو تحت. وأنتَ تعلم بأيّ مرض قد مات! وحدها محبّتنا كان يمكنها الاعتناء به… الآن بالتأكيد إنتانه بأكثر شدّة رغم الطيوب… ما الّذي تريد رؤيته؟ تَحلُّله؟… هذا غير ممكن… كذلك بسبب نجاسة الفساد و...»

 

«ألم أقل لكِ بأنّكِ إذا آمنتِ فسترين مجد الله؟ أزيحوا هذا الحجر. أشاء ذلك!»

 

إنّها صيحة مشيئة إلهيّة... «آه» مكبوتة تخرج مِن كلّ الصدور. الوجوه تصبح شاحبة. البعض يرتعدون، كما لو أنّ ريح موت جليديّة قد عبرت على الجميع.

 

مرثا تشير إلى مكسيمين، وهذا يأمر الخدّام بجلب الأدوات المناسبة لتحريك الحجر الثقيل.

 

الخدّام يمضون سريعاً ليعودوا بمعاول وعتلات قويّة. ويعملون، واضعين رؤوس المعاول اللامعة بين الصخر والحجر، مستبدلين بعد ذلك المعاول بالعتلات القويّة، وأخيراً يزيلون الحجر بحذر جاعلينه ينزلق إلى جانب، ومِن ثمّ يَجُرّونه باحتراس إلى الجدار الصخري. رائحة نتانة كريهة تنبعث مِن الفجوة المعتمة، تجعل الجميع يتراجعون.

 

مرثا تَسأَل بصوت خافت: «يا معلّم، أتريد النزول إلى هناك؟ إن نعم، تلزم مَشاعِل...» إنّما هي شاحبة مِن فِكرة وجوب فِعل ذلك.

 

يسوع لا يجيبها. هو يرفع عينيه إلى السماء، يجعل ذراعيه على شكل صليب ويصلّي بصوت قويّ جدّاً، مُفصّلاً الكلمات: «أيّها الآب! أشكركَ لأنّكَ استجبتَ لي. كنتُ أعلم بأنّكَ تستجب لي دوماً. لكنّي قلتُ ذلك لأجل هؤلاء الحاضرين هنا، مِن أجل الشعب الّذي يحيط بي، كي يؤمنوا بكَ، بي، وبأنّكَ أنتَ أرسلتَني!»

 

يلبث هكذا لبرهة، يبدو منخطفاً في نشوة مِن فرط ما هو متجلّ، فيما مِن دون أيّ صوت يقول كلام صلاة خفيّة أو عبادة. لا أعرف. ما أعرفه هو أنّه تجاوز ما هو بشريّ إلى درجة أنّه لا يمكن النظر إليه مِن دون الشعور بالقلب يرتعد داخل الصدر. يبدو أنّه قد غدا نوراً، فاقداً مظهره الجسديّ، مستحيلاً روحاً، صائراً أطول قامة، حتّى مرتفعاً عن الأرض. ومع احتفاظه بلون شعره، عينيه، جلده، ثيابه، على عكس ما جرى أثناء التجلّي على جبل طابور، حيث غدا خلاله كلّ شيء نوراً وسطوعاً مبهراً، يبدو أنّ نوراً ينبعث منه، وأنّ كلّ شيء فيه يستحيل نوراً. يبدو أنّ النور يحيطه بهالة، خصوصاً وجهه المرفوع إلى السماء، المنخطف بالتأكيد في تأمّل الآب.

 

يلبث هكذا لبعض الوقت، ثمّ يعود هو، الإنسان، إنّما بجلال قدير. يتقدّم وصولاً إلى عتبة القبر. أمّا يداه -اللتان كان قد أبقاهما حتّى تلك اللحظة مفتوحتين بشكل صليب، والراحتين متّجهتين صوب السماء- فيحرّكهما إلى الأمام، الراحتان صوب الأرض، وبالتالي فإنّ اليدين هما بالفعل داخل نفق القبر، بيضاوان في عتمة النفق. إنّه يُغرِق نار عينيه الزرقاوين، اللتين لا يمكن اليوم تحمّل سطوعهما العجائبيّ، في تلك العتمة الصامتة، وبصوت عظيم، بصيحة أقوى ممّا عندما أمر الريح بالتوقّف فوق البحيرة، وبصوت لم أسمعه منه أبداً في أيّة معجزة، يصيح: «لعازر! هلمّ خارجاً!» إنّ الصوت يتردّد صداه في جوف القبر، ثمّ ينتشر بعد ذلك عبر البستان كلّه، ويتردّد صداه عبر انحناءات تضاريس بيت عنيا، أظنّ بأنّه يمضي وصولاً إلى المنحدرات الأولى فيما وراء الحقول، ومِن هناك يعود، مُكَرَّراً ومُلَطَّفاً، مثل أمر لا يمكن أن يتلاشى. حتماً إنّنا نسمع مجدّداً مِن كلّ الجهات: "خارجاً! خارجاً! خارجاً!".

 

الجميع يرتعدون أكثر، وإنّ كان الفضول يسمّرهم كلّهم في أمكنتهم، فإنّ الوجوه تشحب، والعيون تجحظ، فيما تنفتح الأفواه لا إراديّاً، مع صيحة ذهول غدت في الحناجر.

 

مرثا، الّتي إلى الخلف قليلاً وجانباً، تنظر إلى يسوع وهي كالمسحورة. مريم تخرّ على ركبتيها، هي الّتي لم تبتعد أبداً عن معلّمها، إنّها تخرّ على ركبتيها عند حافّة القبر، يد على الصدر لتهدئة خفقان قلبها، اليد الأخرى تمسك لا شعوريّاً وبتشنّج حاشية مِن رداء يسوع، ويمكن إدراك أنّها ترتجف لأنّ للرداء اهتزازات طفيفة تُسبّبها اليد الممسكة به.

 

شيء ما أبيض يبدو أنّه يظهر مِن عمق أعماق الجوف. هو بدايةً خطّ ناتئ صغير، ثمّ يستحيل شكلاً بيضاويّاً، ثمّ مِن الشكل البيضاويّ تتبدّى خطوط أكثر اتّساعاً، أَطوَل، تزداد طولاً باطّراد. والّذي كان ميتاً، مشدوداً في لفائفه، يتقدّم ببطء، مرئيّاً أكثر فأكثر، شبحيّاً بشكل مؤثّر.

 

يسوع يتراجع، يتراجع، شيئاً فشيئاً، إنّما باستمرار طالما يتقدّم لعازر. والمسافة بين الاثنين تبعاً لذلك تبقى هي ذاتها.

 

مريم مرغمة على ترك حاشية الرداء، إنّما لا تتحرّك مِن المكان حيث هي. فالفرح، التأثّر، كلّ شيء، يسمّرونها في المكان حيث كانت.

 

إنّ «آه!» بأكثر اتّضاحاً تخرج مِن الحناجر الّتي أغلقها قبلاً ألم الانتظار. بداية هي همس بالكاد واضح، ثمّ تستحيل صوتاً، والصوت يغدو صيحة قويّة.

 

إنّ لعازر هو الآن عند حافّة القبر، ويتوقّف هناك جامداً، أبكماً، يشبه تمثالاً مِن الجصّ بالكاد في طور التشكيل، وبالتالي لا شكل له، هو شيء طويل، ضيّق عند الرأس، ضيّق عند الساقين، أكثر اتّساعاً عند الجذع، مرعب مثل الموت نفسه، شبحيٌّ في بياض اللفائف على خلفيّة القبر القاتمة. إنّ اللفائف تُظهِر هنا وهناك النتانة المتسرّبة بالفعل، تحت الشمس الّتي تلفّه.

 

يسوع يصيح بقوّة: «فُكّوه ودعوه يذهب. أعطوه ثياباً وطعاماً.»

 

«يا معلّم!...» تقول مرثا، وربّما تودّ قول المزيد، لكنّ يسوع يحدّق بها، إنّه يكبحها بنظره المتوقّد، ويقول: «إلى هنا! حالاً! اجلبوا ثوباً. أَلبِسوه في حضور الجميع وأعطوه ليأكل.» يأمر، ولا يلتفت أبداً لينظر إلى مِن هم خلفه وحوله. إنّه ينظر فقط إلى لعازر، إلى مريم الّتي هي قرب القائم مِن الموت، غير مكترثة بالاشمئزاز الّذي تسبّبه اللفائف الملوّثة للجميع، وإلى مرثا الّتي تلهث كما لو أنّ قلبها سينفجر، والّتي لا تعرف إن كان عليها أن تصرخ فرحاً أم أن تبكي…

 

يهرع الخدّام لتنفيذ الأمر. نُعْمي هي الأولى الّتي تمضي راكضة، وهي الأولى الّتي تعود بالثياب تحملها مطويّة على ذراعها. البعض يحلّون اللفائف بعد أن يشمّروا أكمامهم ويرفعوا ثيابهم لئلّا تلامس النتانة المتسرّبة. مارسيل وسارة تعودان بقوارير عطور، يتبعهما خدّام، منهم مَن يحمل أوعية وأباريق يتصاعد منها بخار ماء ساخن، ومنهم مَن يحمل أطباقاً، أكواباً مليئة بالحليب، ونبيذاً، ثماراً، فطائر مغطّاة بالعسل.

 

إنّ اللفائف الضيّقة والطويلة جدّاً، مِن الكتّان، على ما يبدو، مع حواشٍ مِن الجانبين، المنسوجة بالتأكيد لهذا الغرض، تنحلّ كما لفّات شرائط بكرة كبيرة، وتتكدّس على الأرض، مُثقَلة بالطيوب والنتانة. الخدّام يُبعِدونها مستخدمين عصيّاً. لقد بدأوا بالرأس، الملطّخ هو أيضاً بالنتانة، الّتي سالت بالتأكيد مِن الأنف، مِن الأذنين، مِن الفم. إنّ الكفن الموضوع على الوجه مبلّل تماماً بتلك القذارة، ووجه لعازر، الّذي يبدو شديد الشحوب، هزيلاً جدّاً، والعينين المقفلتين بفعل المراهم الموضوعة على المحجرين، والشعر المتلبّد وكذلك اللحية على الذقن، ملطّخة بها تماماً. إنّ القماش، الكفن الموضوع حول الجسد، يسقط ببطء، كلّما هبطت، هبطت، هبطت اللفائف الصغيرة. مُحرّرة الجذع الّذي شدّته لأيّام عدّة، ومُعيدة الشكل البشريّ لما جعلته سابقاً يبدو كأنّه شرنقة كبيرة. الكتفان العظميّان، الذراعان الهزيلان جدّاً، الأضلاع الّتي بالكاد مكسوّة بالجلد، البطن الغائر، تظهر على مهل. وعلى مدى تساقط اللفائف، تسارع الأختان، مكسيمين، الخدّام، لإزالة طبقة القذارة والمراهم الأولى، ويجهدون كي يجعل الماء، الـمُطهّر بالطيوب والـمُبدّل باستمرار، الجلد يبدو نظيفاً.

 

إنّ لعازر، عندما تحرّر وجهه وبات يستطيع النظر، يوجّه نظره نحو يسوع حتّى قبل أن ينظر إلى أختيه. إنّه ينسى كلّ شيء ويتجرّد عن كلّ ما يحدث لينظر، بابتسامة محبّة على شفتيه الشاحبتين، ودمعة تلمع في عمق عينيه، إلى يسوعه. كذلك يسوع يبتسم له، ولديه لمعان دمعة في زاوية عينه، ودونما كلام يوجّه نظر لعازر نحو السماء، ولعازر يدرك ذلك ويحرّك شفتيه بصلاة صامتة.

 

مرثا تظنّ بأنّه يريد أن يقول شيئاً إنّما لا صوت لديه بعد، وتَسأَل: «ماذا تقول لي يا لعازري؟»

 

«لا شيء يا مرثا. كنتُ أشكر العليّ.» النطق واثق، والصوت عالٍ.

 

الناس يُطلِقون مجدّداً "آه!" مندهشة.

 

ها قد حرّروه حتّى الوركين، إنّه محرّر ونظيف. وبوسعهم أن يُلبِسوه جلباباً قصيراً، إنّه نوع مِن قميص يتجاوز ثنية الفخذين ليصل إليهما.

 

يُجلِسونه كي يفكّوا ساقيه ويغسلوهما. وعندما تظهران، مرثا ومريم تطلقان صيحة قويّة وهما تشيران إلى الساقين واللفائف. على اللفائف المشدودة على الساقين وعلى الكفن الموضوع تحتها غزيرة هي الإفرازات القيحية لدرجة أنّها تُشكّل قطرات ضخمة على الأقمشة، إلّا أنّ الساقين تبدوان ملتئمتين تماماً. فقط الندوب الحمراء المزرورقة تشير إلى حيث كانت الغنغرينا.

 

الناس، كلّهم، يصرخون اندهاشاً بصوت أعلى. يسوع يبتسم، ويبتسم لعازر الّذي ينظر لبرهة إلى ساقيه المبرأتين، ومِن ثمّ يعاود النظر باستغراق إلى يسوع. يبدو غير قادر على الشبع مِن رؤيته. اليهود، الفرّيسيّون، الصدوقيّون، الكَتَبَة، الرابّيون، يقتربون، بحذر لئلّا يُنجّسوا ثيابهم. ينظرون عن كثب إلى لعازر. ينظرون عن كثب إلى يسوع. إنّما لا لعازر ولا يسوع يكترثان بهم. إنّهما يتبادلان النظر. وكلّ الباقي لا وجود له.

 

ها قد تمّ وضع النّعال في قدميّ لعازر. يقف، رشيقاً، واثقاً. يأخذ الثوب الّذي تقدّمه له مرثا، يرتديه بنفسه، يربط حزامه، يسوّي الطيّات. ها هو ذا، نحيل وشاحب، إنّما شبيه بالجميع. يغسل ثانيةً يديه وذراعيه حتّى المرفقين بعد أن يرفع كُمّيه. ومِن ثمّ، بماء جديد، يغسل وجهه ورأسه، حتّى يشعر بأنّه نظيف تماماً. يمسح شعره ووجهه، يعيد المنشفة إلى الخادم ويذهب مباشرة صوب يسوع. يسجد. يقبّل قدميه.

 

يسوع ينحني، يُنهضه، يضمّه إلى قلبه وهو يقول له: «أهلاً بعودتكَ يا صديقي. ليكن السلام معك والفرح. عِش لتحقّق مصيركَ السعيد. ارفع وجهكَ كي أقبّلكَ قبلة التحيّة.» ويقبّله على الخدّين، ولعازر يبادله قبلته.

 

فقط بعدما أَجَلَّ المعلّم وقبّله، لعازر يكلّم أختيه ويقبّلهما، ومِن ثمّ يقبّل مكسيمين ونُعْمي اللذين يبكيان فرحاً، وعدداً مِن أولئك الّذين أظنّ أنّهم أقرباء أو أصدقاء حميمين. ثمّ يقبّل يوسف، نيقوديموس، سمعان الغيور وبعضاً آخرين.

 

يسوع يتوجّه شخصيّاً إلى خادم يحمل طبق طعام، ويأخذ فطيرة بالعسل، تفاحة، كأس نبيذ، ويقدّمها كلّها للعازر، بعدما قَدَّمَها وباركها، كي يستعيد قواه. ولعازر يأكل بشهيّة شخص سليم. الجميع يُطلِقون مجدّداً «آه!» اندهاش.

 

يبدو يسوع وكأنّه لا يرى سوى لعازر، إنّما في الواقع هو يراقب كلّ شيء والجميع. وإذ يرى أنّ صادوق وحِلقِيّا، كنعان، فيلكس، دوراس وكورنيليوس وآخرين، هم على وشك الرحيل بحركات غضب، يقول بصوت عالٍ: «انتظر لحظة يا صادوق، أريد أن أقول كلمة لكَ. لكَ ولجماعتكَ.»

 

يتوقّفون بملامح مجرمين.

 

يقوم يوسف الذي مِن الرّامة بحركة فزع، ويشير إلى الغيور لإيقاف يسوع. لكنّه كان قد توجّه بالفعل نحو المجموعة الحاقدة قائلاً بصوت عالٍ: «أيكفيكَ يا صادوق، ما رأيتَه؟ لقد قلتَ لي يوماً أنّكَ كي تؤمن، أنتَ وأشباهكَ، تحتاج إلى رؤية إنسان متحلّل، وقد أعيد تشكيله وبصحّة جيدة. هل اكتفيتَ مِن التحلّل الّذي رأيتَه؟ هل أنتَ قادر على الاعتراف بأنّ لعازر كان ميتاً وهو الآن حيّ ومعافىً كما لم يكن منذ أعوام؟ إنّني أعلم. لقد أتيتم إلى هنا كي تجرّبوهم، كي تزرعوا فيهم ألماً أكبر، والشكّ. لقد أتيتم إلى هنا كي تبحثوا عنّي، آملين بأن تجدوني مختبئاً في غرفة المحتضر. لقد أتيتم إلى هنا لا بدافع الشعور بالمحبّة والرغبة بتكريم مَن قضى، وإنّما لتتأكّدوا بأنّ لعازر قد كان ميتاً حقّاً، وقد واصلتم المجيء، مغتبطين أكثر فأكثر كلّما كان الوقت يمرّ. ولو أنّ الأمور كانت قد سارت كما كنتم تأملون، كما كنتم تعتقدون بأنّها كانت لتسير، لكنتم على حقّ بالاغتباط. إنّ الصديق الّذي يشفي الجميع، إنّما لا يشفي الصديق. المعلّم الّذي يكافئ إيمان الجميع، إنّما ليس الّذي لأصدقائه في بيت عنيا. المسيح العاجز أمام حقيقة الموت. هذا ما كان يعطيكم الحقّ بالاغتباط. إنّما هَاكُم. الله أجابكم. ما مِن نبيّ قد استطاع أبداً جمع ما كان متحلّاً، إضافة إلى أنّه ميت. الله فعل ذلك. ها هي الشهادة الحيّة على ما أكون أنا. كان يوم أخذ الله فيه طيناً وأعطاه شكلاً ونفخ فيه روح الحياة، فكان الإنسان. أنا كنتُ هناك لأقول: "لنعمل الإنسان على صورتنا وشبهنا". لأنّني أنا كلمة الآب. اليوم، أنا، الكلمة، قد قلتُ لما هو أدنى بعد مِن طين، للفساد: "عِش" والفساد عاد جسداً مجدّداً، جسداً كاملاً، حيّاً، نابضاً. ها هو ينظر إليكم. وإلى الجسد ضممتُ الروح، المضطجعة منذ أيّام في حضن إبراهيم. لقد استدعيتُها بمشيئتي، لأنّني قادر على كلّ شيء، أنا، الحيّ، أنا، مَلِك الملوك الخاضعة له كلّ الخليقة وكلّ الأشياء. بماذا تجيبونني الآن؟»

 

إنّه أمامهم، طويل القامة، يتألّق جلالاً، دَيّاناً وإلهاً بحقّ. هم لا يجيبون.

 

هو يصرّ: «ألا يكفيكم بعد للإيمان، للقبول بالمحتّم؟»

 

«لم تفِ إلّا بجزء مِن الوعد. هذه ليست علامة يونان...» يقول صادوق بفظاظة.

 

«ستنالون هذه أيضاً. لقد وعدتُ وسوف أفي بالوعد.» يقول الربّ. «وآخر حاضر هنا، ينتظر علامة أخرى، وسينالها. وبما أنّه بارّ، فسوف يقبلها. أنتم لا. أنتم سوف تبقون على ما أنتم عليه.»

 

يقوم بنصف استدارة حول نفسه ويرى سمعان، السنهدرينيّ ابن إيلي-حنّة، إنّه يحدّق به، يحدّق به. يترك جانباً المجموعة سابقة الذكر، يقول له، وقد وصل إلى قبالته، بصوت خافت إنّما واضح: «لحسن حظّكَ أنّ لعازر لا يتذكّر إقامته بين الأموات! ما الّذي فعلتَه بأبيكَ، أيا قايين؟»

 

سمعان يفرّ مُطلِقاً صرخة فزع، تستحيل بعد ذلك إلى عويل لعنة: «لتكن ملعوناً أيّها الناصريّ!» يجيب عليها يسوع: «لعنتكَ تصعد إلى السماء، ومِن السماء يعيدها العليّ إليكَ. إنّكَ موسوم بالعلامة، أيا أيّها الشقيّ!»

 

يعود إلى الوراء، بين المجموعات المندهشة، المرعوبة إلى حدّ ما. يصادف غَمَالائيل الّذي يتّجه صوب الطريق. ينظر إليه، وغَمَالائيل ينظر إليه. يسوع يقول له مِن دون أن يتوقّف: «كن على استعداد أيّها الرابّي. العلامة سوف تحلّ قريباً. أنا لا أكذب أبداً.»

 

الحديقة تفرغ على مهل. اليهود مصعوقون، إنّما الأغلبيّة ينضحون غضباً مِن كلّ مَسامّهم. ولو كانت نظراتهم تحيل إلى رماد، لكان يسوع قد سُحِق تماماً. إنّهم يتكلّمون، يتجادلون فيما بينهم وهم راحلون، مضطربين كثيراً بسبب الهزيمة التي لحقت بهم، حيث لم يعودوا قادرين أن يخفوا تحت مظهر صداقة نِفاقيّة، الغرض مِن وجودهم في هذا المكان. إنّهم يرحلون مِن دون أن يحيّوا لعازر ولا أختيه.

 

يبقى إلى الخلف بعض الّذين استُميلوا إلى الربّ بفعل المعجزة. بينهم يوسف برنابا، الّذي يرتمي على ركبتيه أمام يسوع ويعبده. واحد آخر هو يوئيل أبيّا الكاتب، الّذي يفعل بدوره ذات الشيء قبل مغادرته. وأيضاً آخرون لا أعرفهم، إنّما لا بدّ أن يكونوا ذوي نفوذ.

 

في هذه الأثناء، لعازر يدخل المنزل، يحيط به المقرّبون منه. يوسف، نيقوديموس، والصالحون الآخرون، يحيّون يسوع ويرحلون. اليهود الّذين كانوا إلى جانب مرثا ومريم، يرحلون بعد تحيّات عميقة. الخدّام يقفلون البوّابة. المنزل يعود هادئاً.

 

يسوع ينظر حوله. يرى دخاناً ولهيباً في عمق البستان، حيث يوجد القبر. يسوع، وحده، إذ يقف وسط درب، يقول: «التعفّن الذي تلغيه النار… تعفّن الموت… إنّما تعفّن القلوب… تلك القلوب، لن تلغيه أيّ نار… ولا حتّى نار جهنّم. سيكون أبديّاً… يا للفظاعة!... أكثر مِن الموت… أكثر مِن الفساد… و… مَن سيخلّصكِ، أيا أيّتها البشريّة، إن كنتِ تحبّين أن تكوني فاسدة إلى هذا الحدّ؟ تريدين أن تكوني فاسدة. وأنا… أنا انتزعتُ مِن القبر إنساناً بكلمة واحدة… وبسَيل مِن الكلام… ومِن الآلام، لن أستطيع أن أنتزع مِن الخطيئة الإنسان، البشر، ملايين مِن البشر.» يجلس ويغطّي وجهه بيديه، مثبطاً…

 

خادم يمرّ يراه. يذهب إلى المنزل. بعد قليل مريم تخرج مِن المنزل. تقصد يسوع، خفيفة كأنّها لم تكن تلمس الأرض. تقترب منه، تقول بهدوء: «رابّوني، إنّكَ متعب… تعال، أيا ربّي. رُسُلكَ المتعبون قد ذهبوا إلى المنزل الآخر، جميعهم ما عدا سمعان الغيور… أتبكي يا معلّم؟ لماذا؟...»

 

تركع عند قدميّ يسوع… تراقبه… يسوع ينظر إليها. لا يجيب. ينهض ويتوجّه إلى المنزل، تتبعه مريم.

 

يدخلان إحدى القاعات. لعازر ليس هناك، ولا الغيور كذلك. لكنّ هناك مرثا، سعيدة، مُشرقة فرحاً. تتوجّه إلى يسوع لتشرح: «لعازر ذهب إلى الحمّام، كي يتطهّر بعد. آه! يا معلّم! يا معلّم! ماذا أقول لكَ؟» تعبده بكلّ ذاتها. تلاحظ حزن يسوع وتقول: «أأنتَ حزين يا ربّ؟ ألستَ سعيداً بأنّ لعازر...» ينتابها شكّ: «آه! إنّكَ متحفّظ معي. لقد خطئتُ. هذا صحيح.»

 

«لقد خطئنا يا أختي.» تقول مريم.

 

«لا. أنتِ لا. آه! يا معلّم، مريم لم تخطئ. مريم قد أحسنت الطاعة. أنا وحدي عصيتُ. أنا قد أرسلتُ في طلبكَ لأنّ… لأنّني ما عدتُ أستطيع بعد سماعهم يلمّحون بأنّكَ لم تكن المسيح، الربّ… وما كنتُ أستطيع بعد أن أراه يتألّم… لعازر كان يتوق إليكَ كثيراً. كان يناديكَ كثيراً… اغفر لي يا يسوع.»

 

«وأنتِ، ألا تتكلّمين يا مريم؟» يَسأَل يسوع.

 

«يا معلّم… أنا… أنا لم أتألّم وقتها إلّا كامرأة. كنتُ أتألّم لأنّ… مرثا، أَقسِمي، أَقسِمي هنا، أمام المعلّم، بأنّكِ أبداً، أبداً لن تُحدّثي لعازر عن هذيانه… يا معلّمي… لقد عرفتكَ تماماً، أيا أيّها الرحمة الإلهيّة، في ساعات لعازر الأخيرة. آه! يا إلهي! إنّما كم أحببتَني أنتَ، أنتَ يا مَن غفرتَ لي، أنتَ، الله، أنتَ، الطاهر، أنتَ… إن كان شقيقي، الّذي يحبّني، إنّما الّذي هو إنسان، فقط إنسان، لم يغفر لي كلّ شيء في عمق قلبه؟! لا، إنّني أخطئ التعبير. لم ينسَ ماضيَّ، وحينما أنهكَ ضعف الموت فيه طيبته الّتي كنتُ أعتقد بأنّها ناسية الماضي، فقد صرخ ألمه، سخطه عليَّ… آه!...» مريم تبكي.

 

«لا تبكي يا مريم. الله قد غفر لكِ ونَسِيَ. نَفْس لعازر أيضاً قد غفرت ونَسِيَت، أرادت أن تنسى. أمّا الإنسان فلم يستطع أن ينسى كلّ شيء. وحينما هيمن الجسد بتشنّجه الأخير على الإرادة الواهنة، تكلّم الإنسان.»

 

«ليس بي سخط يا ربّ. لقد جعلني ذلك أحبّكَ أكثر وأحبّ لعازر أكثر بعد. ومنذ تلك اللحظة، تقتُ إليكَ كذلك… لأنّني كنتُ بغاية القلق للتفكير بأنّ لعازر كان قد مات دونما سلام بسببي… وبعدها، بعدها، حين رأيتُ اليهود يستهزئون بكَ… وحين رأيتُ بأنّكَ لم تأتِ حتّى بعد الموت، ولا حتّى بعد أن كنتُ قد أطعتُكَ راجية إلى ما وراء المعقول، راجية حتّى حينما فُتِحَ القبر، حينذاك روحي تألّم أيضاً. يا ربّ، إن كان عليَّ أن أُكفّر، وحتماً كان عليَّ ذلك، فقد كفّرتُ يا ربّ...»

 

«أيا مريم المسكينة! أعرف قلبكِ. لقد استحقّيتِ المعجزة، وليثبّتكِ ذلك في رجائكِ وإيمانكِ.»

 

«يا معلّمي، سوف أرجو وأؤمن على الدوام مِن الآن فصاعداً. لن أشكّ بعد، أبداً بعد يا ربّ. سوف أحيا في الإيمان. أنتَ منحتَني القدرة على الإيمان باللامعقول.»

 

«وأنتِ يا مرثا؟ هل تَعَلَّمتِ؟ لا. ليس بعد. إنّكِ عزيزتي مرثا. لكنّكِ لستِ بعد عابدتي الكاملة. لماذا تتصرّفين بدلاً مِن أن تتأمّلي؟ إنّ ذلك أكثر قداسة. أترين؟ إنّ قوّتكِ، لأنّها كانت ميّالة كثيراً إلى الأمور الدنيويّة، فقد أذعنت إلى أنّ وقائع دنيويّة تبدو أحياناً لا علاج لها. الحقّ أنّ لا علاج للأمور البشريّة إذا لم يتدخّل الله. لأجل ذلك فالخليقة تحتاج إلى أن تُحسِن الإيمان والتأمّل. أن تحبّ إلى أقصى حدود قدرة الإنسان بكلّيته، بفكره، بنفسه، بجسده، بدمه، وأكرّر، بكلّ قوى الإنسان. أريدكِ قويّة يا مرثا. أريدكِ كاملة. لم تُحسِني الطاعة لأنّكِ لم تُحسِني الإيمان والرجاء بشكل كامل، ولم تُحسِني الإيمان والرجاء لأنّكِ لم تُحسِني المحبّة بشكل كامل. لكنّني أحلّكِ مِن ذلك. أنا أغفر لكِ يا مرثا. اليوم قد أقمتُ لعازر. والآن أمنحكِ قلباً أقوى. إليه قد أعدتُ الحياة. فيكِ أنفخ قوّة المحبة، الإيمان والرجاء بشكل تامّ. الآن كونا سعيدتين وبسلام. اغفرا لِمَن أساؤوا إليكما في هذه الأيّام...»

 

«يا ربّ، في هذا أنا قد خطئتُ. فقد قلتُ منذ قليل للعجوز كنعان الّذي كان قد احتقركَ في تلك الأيّام: "مَن انتصر؟ أنتَ أم الله؟ ازدراؤكَ أم إيماني؟ المسيح هو الحيّ وهو الحقّ. أنا كنتُ أعلم بأنّ مجده كان ليسطع بأكثر عَظَمَة. وأنتَ، أيّها العجوز، أصلح نفسكَ إن كنتَ لا تريد أن تعرف الموت".»

 

«لقد أَجَدتِ الكلام. إنّما لا تجادلي الأشرار يا مريم. واغفري، اغفري إن أردتِ الاقتداء بي… ها هو لعازر. إنّني أسمع صوته.»

 

وبالفعل يدخل لعازر، مرتدياً لباساً جديداً، حليق الذقن، مرتّباً ومُعطِّراً شعره. معه مكسيمين والغيور. «يا معلّم!» لعازر يركع أيضاً ليعبده.

 

يسوع يضع له اليد على رأسه ويبتسم قائلاً: «قد تمّ تخطّي الاختبار يا صديقي. بالنسبة لكَ ولأختيكَ. الآن كونوا سعداء وأقوياء لخدمة الربّ. ماذا تتذكّر يا صديقي، مِن الماضي؟ أعني مِن ساعاتكَ الأخيرة؟»

 

«رغبة شديدة لرؤيتكَ وسلاماً عظيماً وسط محبّة أختيّ.»

 

«وما الّذي كان يحزنكَ بالأكثر مفارقته بينما كنت تحتضر؟»

 

«أنتَ يا ربّ، وأختاي. أنتَ لأنّني لم أكن قادراً بعد أن أخدمكَ، وهما لأنّهما منحتاني كلّ فرح...»

 

«آه! أنا، يا أخي!» تتنهّد مريم.

 

«أنتِ أكثر مِن مرثا. أنتِ قد منحتِني يسوع، والقَدْر الّذي يساويه يسوع. ويسوع منحني إيّاكِ. أنتِ هبة الله يا مريم.»

 

«كنتَ تقول ذلك أيضاً وأنتَ تحتضر...» تقول مريم، وتتفحّص وجه أخيها.

 

«لأنّها فكرتي الثابتة.»

 

«لكنّني سبّبتُ لكَ الكثير مِن الألم...»

 

«كذلك المرض قد سبّب لي الألم. إنّما أرجو أنّني قد كفّرتُ به عن آثام لعازر القديم، وأنّني قد قمتُ مِن الموت مُطهّراً كي أكون جديراً بالله. أنتِ وأنا، الاثنان القائمان مِن الموت لنخدم الربّ، ومرثا وسطنا، هي الّتي كانت على الدوام سلام المنزل.»

 

«أتسمعينه يا مريم؟ لعازر يقول كلام حكمة وحقّ. الآن أنا أنسحب وأترككم لفرحكم...»

 

«لا يا ربّ. ابقَ. معنا. هنا. امكث في بيت عنيا وفي منزلي. سيكون ذلك رائعاً...»

 

«سوف أبقى. أريد أن أعوّضكَ عن كلّ ما عانيتَه. يا مرثا، لا تكوني حزينة. مرثا تعتقد بأنّها أحزنتني. لكنّ حزني ليس منكم بقدر ما هو ممّن لا يريدون أن يخلصوا. هم يكرهون أكثر فأكثر. لديهم السمّ في القلب… إنّما... لنغفر.»

 

«لنغفر يا ربّ.» يقول لعازر بابتسامته الوادعة... وبهذه الكلمة ينتهي كلّ شيء.

----------

على هامش قيامة لعازر، وبشأن عبارة للقديس يوحنّا. يقول يسوع:

 

«في إنجيل يوحنّا، كما نقرأ منذ عقود، مكتوب: "يسوع لم يكن قد دخل بعد إلى قرية بيت عنيا". ولتفادي كلّ اعتراضات محتملة، ألفتُ الانتباه إلى أنّه بين هذه العبارة، والعبارة الواردة في هذا العمل، الّتي هي أنّني صادفتُ مرثا على بعد بضع خطوات مِن الحوض في حديقة لعازر، لا يوجد أيّ اختلاف للوقائع، إنّما فقط ترجمة ووصف.

 

ثلاثة أرباع بيت عنيا كانت تعود للعازر. كما أنّ أورشليم كانت في قسم كبير منها تعود إليه. إنّما لنتحدّث عن بيت عنيا. كونها بثلاثة أرباعها تعود للعازر، كان يمكن القول: بيت عنيا لعازر. وعليه فلا يكون النصّ خاطئاً حتّى ولو صادفتُ مرثا في القرية أو عند النبع، كما يودّ البعض أن يقولوا. إنّما في الواقع أنا لم أكن قد دخلت القرية تحاشياً لتوافد أهل بيت عنيا، المعادين كلّهم لجماعة السنهدرين. كنتُ قد مررتُ مِن وراء بيت عنيا كي أصل إلى منزل لعازر، الّذي كان عند أقصى الطرف المقابل بالنسبة لِمَن يدخل بيت عنيا مِن جهة عين شمس.

 

لذلك بالضبط يقول يوحنّا بحقّ أنّ يسوع لم يكن قد دخل القرية بعد. وهو صحيح على حدّ سواء مع قول يوحنّا الصغير (ماريا فالتورتا)، بأنّي توقّفتُ عند الحوض (النبع بالنسبة للعبرانيّين)، في حديقة لعازر، إنّما كنتُ لا أزال بعيداً جدّاً عن المنزل.

 

آخذين بعين الاعتبار علاوة على ذلك، بأنّه أثناء فترة الحداد، وعدم الطهارة (لم يكن قد حلّ اليوم السابع بعد الموت)، الأختان لم تكونان تخرجان مِن المنزل. وبالتالي فقد حدث اللقاء ضمن نطاق ملكيّتهما.

 

لاحظوا أنّ يوحنّا الصغير (ماريا فالتورتا) تتحدّث عن مجيء أهل بيت عنيا إلى الحديقة فقط عندما كنتُ قد أعطيتُ الأمر بالفعل بإزاحة الحجر. فبيت عنيا لم تكن تعلم قبلاً أنّني كنتُ في بيت عنيا، وفقط عندما انتشر الخبر هرعوا إلى بيت لعازر.»

----------

يقول يسوع: «يمكن (بعدها) تثبيت إملاء 23 / 3 / 44 للتعليق على قيامة لعازر»