ج5 - ف54

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

54- (يسوع في الهيكل. الأبانا ومَثَل الأبناء)

 

01 / 01 / 1946

 

يقول يسوع:

 

«انهضي، يا ماريّا. ولنقدِّس اليوم بصفحة مِن الإنجيل. لأنّ كلمتي تقديس هي. انظري يا ماريّا. لأنّ النَّظَر إلى أيّام يسوع على الأرض، تقديس هو. اكتبي يا ماريّا. لأنّ الكتابة عن المسيح تقديس هي. لأنّ ترديد ما قاله يسوع تقديس هو. لأنّ التبشير بيسوع تقديس هو. لأنّ تثقيف الإخوة تقديس هو. وستنالين مكافأة عظيمة مِن أجل هذه المحبّة.»

 

غادَرَ يسوع راما وأَصبَحَ على مشارف أورشليم. يتقدّم، على غرار السنة السابقة، وهو يرتّل المزامير المحدّدة (المقرّرة). أناس كثيرون، على الطريق كثيرة الارتياد، يلتَفِتون لينظروا إلى الجماعة الرّسولية التي تمرّ. البعض يحيّون باحترام؛ آخرون يكتفون بإلقاء نظرة مبتسمين باحترام، وهؤلاء هنّ بالأخصّ مِن النساء؛ هناك مَن يكتفي بالنَّظَر؛ وآخرون ينظرون بسخرية واحتقار؛ أخيراً منهم مَن يمرّون متعالين سيّئو النوايا بكلّ جلاء.

 

يسير يسوع بكلّ هدوء، بزيّ نظيف ومناسب. مثل كلّ الآخرين، فقد بدَّلَ هو كذلك ثيابه ليكون دخوله لائقاً، بل قُل، بما يتناسب والأصول، في المدينة المقدّسة.

 

مارغزيام كذلك، هذا العام، على مستوى الأحداث بثيابه الجديدة وهو يسير إلى جانب يسوع مُرتّلاً مِن أعماق قلبه بصوت هو بالأحرى غير جميل، ذلك أنّه في مرحلة التغيير (التحوّل إلى صوت رجوليّ). ولكنّ صوتّه غير المكتمل يَضيع ضمن جوقة أصوات رفاقه المكتملة. يرتفع فقط في الطبقات العالية التي يؤديّها بوضوح وثقة. سعيد هو مارغزيام…

 

إنّهم على وشك الدخول مِن باب دمشق الذي أَصبَحَ الآن يُرى، إنّما عليهم التوقّف وقطع التراتيل بسبب قافلة فخمة تشغل الطريق كلّها، وتقطع السير مُرغِمة الجميع على الوقوف على جانب الطريق. فيَسأَل مارغزيام حينذاك: «سيّدي، ألن تَروِ لي مثلاً جميلاً آخراً مِن أجل ابنكَ الغائب؟ أريد ضمّه إلى الكتابات الأخرى التي لديَّ، لأنّنا بكلّ تأكيد سوف نجد في بيت عنيا مُرسَليه وأخبار عنه. وأرغب في أن أمنحه بعض الفرح كما وعدتُه، وكما يرغب قلبه وقلبي...»

 

«نعم يا بنيّ. بكلّ تأكيد سوف أروي لكَ مَثَلاً.»

 

«مَثَلاً يواسيه بحقّ، ويجعله يُدرك إنّكَ تحبّه على الدوام...»

 

«سأقول ذلك، وسيكون لي فَرَح، لأنّها ستكون حقيقة تقال.»

 

«ومتى ترويه يا سيّدي؟»

 

«في الحال. سنمضي حالاً إلى الهيكل، كما ينبغي لنا أن نفعل، وهناك سوف أتحدّث قبل أن يمنعوني مِن ذلك.»

 

«وهل ستتحدّث مِن أجله؟»

 

«نعم يا بنيّ.»

 

«شكراً، يا سيّدي! فأن نكون هكذا مُفتَرِقَين مؤلم للغاية...» يقول مارغزيام الذي تلمع دمعة في عينيه السوداوين. يضع يسوع يده على شعره، ويلتفت مشيراً إلى الاثني عشر بالاقتراب لمتابعة المسير.

 

بالفعل، كان الاثنا عشر قد توقّفوا للاستماع إلى أناس، لستُ أدري إذا ما كانوا يؤمنون بالمعلّم، أو كانوا راغبين في التعرّف إليه، وكانوا قد توقّفوا، هم كذلك، للسبب ذاته الذي جَعَلَ يسوع وأتباعه يتوقّفون.

 

«ها نحن قادمون، يا معلّم. كنا نستمع إلى أولئك الناس، ومنهم صابئة قادمون مِن بعيد، وكانوا يسألوننا أين يمكنهم أن يتقرّبوا منكَ.» يقول بطرس وهو يجري.

 

«ماذا كان الباعث على رغبتهم تلك؟»

 

وبطرس، الذي أصبح الآن إلى جانب يسوع الذي عاود المسير، يقول: «رغبة في الاستماع إلى كلامكَ، وكذلك للشفاء مِن بعض الآفات. هل ترى تلك العربة المغطّاة في الخلف؟ إنّهم صابئة مِن دياسبورا، وقد أتوا عن طريق البحر أو بسَفَر طويل، يدفعهم إيمانهم بكَ، إضافة إلى احترام الشريعة، ليقوموا بهذه الرحلة. هناك مِن أفسس، مِن فريجية، مِن إيقونية، وهناك فقير مِن فيلادلفيا قَبِلوه في عربتهم، مِن قبيل الرحمة، وهم في أغلبيّتهم مِن التجّار الأغنياء، بغية الظهور كما يليق في عينيّ الربّ.»

 

«مارغزيام، اذهب وقُل لهم أن يتبعوني إلى الهيكل. وسوف تكون لهم هذه وتلك: صحّة النَّفْس بواسطة الكلمة، والصحّة لأجسادهم إن عرفوا أن يؤمنوا.»

 

يمضي الشّاب مسرعاً، أمّا الاثنا عشر فيُصعِّدون الاستهجان جوقة، مِن جرّاء "تهوّر" يسوع الذي يبغي أن يلفت إليه الأنظار في الهيكل…

 

«سنمضي حتماً إلى هناك لنُريَهم أنّني لستُ خائفاً. لِنُظهِر أنّ لا مجال لأيّ تهديد لأن يثنيني عن طاعتي للشريعة. ولكن ألم تُدرِكوا بعد لعبتهم؟ كلّ هذه التهديدات، كلّ هذه النصائح التي لا ودّ فيها إلاّ في الظاهر فقط، لا غاية لها إلّا جعلي أُخطئ، للحصول على مادّة حقيقيّة للإدانة. لا تكونوا جبناء. آمنوا. لم تأتِ ساعتي.»

 

«ولكن لماذا لا تمضي أوّلاً لطمأنة أُمّكَ؟ إنّها تنتظر...» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«لا. أمضي أوّلاً إلى الهيكل، بيت الله، الذي ما يزال إلى الآن موسوماً بالأزليّ. سوف تتألّم أُمّي، في انتظاري، أقلّ مِن ألمها فيما لو عَلِمَت أنّني أكرز في الهيكل. وبهذا الشكل أُكرِّم أبي وأُمّي، وذلك بتقديمي للأوّل بواكير ساعاتي الفصحيّة، وللثانية السكينة. هيّا بنا، لا تخافوا. وإلّا، فإن خاف أحدكم، فليذهب إلى جَثْسَيْماني ليرعى خوفه بين النساء.»

 

وإذ صُعِقَ الرُّسُل بهذه الملاحظة الأخيرة، لا يعودون يتكلّمون. يصطفّون مِن جديد ثلاثة إثر ثلاثة، فقط في الصفّ الأول، حيث يسوع، هُم أربعة، إلى أن يأتي مارغزيام ليكمل الصفّ إلى الخمسة، فيرجع تدّاوس والغيور إلى خلف يسوع الذي يبقى في الوسط بين بطرس ومارغزيام.

 

عند بوّابة دمشق يَرَون مَنَاين. «سيّدي، فكّرتُ أنّه مِن المستحسن أن أَظهَر لأبدّد كلّ شكّ حول الوضع. أؤكّد لكَ أنّ لا شيء خَطِر بالنسبة إليكَ، خارج عداء الفرّيسيّين والكَتَبَة. يمكنكَ الذهاب بكلّ اطمئنان.

 

«كنتُ أَعلَم ذلك يا مَنَاين. ومع ذلك فأنا ممتنّ لكَ. تعال معي إلى الهيكل، إن لم يُثقِل عليكَ ذلك...»

 

«يُثقِل عليَّ؟ ولكنّي، مِن أجلكَ، أتحدّى العالم بأسره! لا شيء يتعبني!»

 

يتمتم الاسخريوطيّ شيئاً ما.

 

يلتفت مَنَاين غاضباً. ويقول بلهجة واثقة: «لا، أيّها الرجل، هذا ليس "كلاماً". إنّي أرجو المعلّم أن يَختَبِر صِدقي.»

 

«لا حاجة لذلك يا مَنَاين. هيّا بنا.»

 

يتقدّمون عَبْر جمع غفير، وحينما يبلغون بيت صديق، يُنـزِلون الحقائب عن كواهلهم، فيضعها يعقوب ويوحنّا وأندراوس في ردهة طويلة ومظلمة. ليعودوا بعدها إلى رفاقهم.

 

يَلِجون سُور الهيكل مارّين بالقرب مِن قلعة أنطونيا. يَنظُر الجنود الرومان ولكنّهم لا يُحرّكون ساكناً. يتحدّثون فيما بينهم. يُمعِن يسوع فيهم النَّظَر ليرى إذا ما كان فيهم أحد مِن معارفه، ولكنّه لا يرى كينتيليانوس ولا الجنديّ الكسندر.

 

ها هُم في الهيكل، في العجيج قليل القدسيّة للباحات الأولى حيث الباعة والصيارفة. يَنظُر يسوع ويحتَدِم. يَشحب وتبدو عَظَمَته في ازدياد بقدر ما هي مشيته صارمة ومهيبة.

 

يُجرّبه الاسخريوطيّ: «لماذا لا تُكرِّر الحركة المقدّسة؟ أترى؟ لقد نَسوا... وانتهاك الحُرُمات مِن جديد في بيت الله. ألا يثيركَ هذا؟ أفلا تتصدّى للدفاع عنه؟» الوجه الأسمر والجميل، إنّما المراوغ والمخادع رغم الجهود التي يبذلها يهوذا كيلا يبدو كذلك، يكاد يكون وجه ثعلب عندما، بانحناءة كأنّها باحترام مفعم إجلالاً، يقول ليسوع تلك الكلمات وهو يتمعّن فيه مِن تحت لتحت.

 

«لم تَحن الساعة. ولكن كلّ هذا سوف يتطهّر. وللأبد!...» يقول يسوع مؤكِّداً.

 

يبتسم يهوذا ويعلّق: «الـ "إلى الأبد" التي للناس!! مزعزعة كثيراً، يا معلّم! ترى ذلك!...»

 

لا يُجيبه يسوع، وهو مُستَغرِق، ليحيّي مِن بعيد يوسف الذي مِن الرّامة الذي يمر ملتحفاً بمعطفه الثريّ، يتبعه آخرون.

 

يُصلّون الصلوات الطقسيّة ثمّ يعودون إلى فسحة الأمم، تحت الأروقة التي منها يتدفّق الناس.

 

الصابئون الذين تمّ اللقاء بهم في الطريق تبعوا يسوع. ولقد اصطحبوا مرضاهم معهم، وقد مدّدوهم الآن في الظلّ تحت الأروقة، أمام المعلّم. ونساؤهم اللواتي ينتظرنهم هنا، يقتربن رويداً رويداً. إنّهنّ محجّبات. ولكنّ إحداهنّ، وقد تكون مريضة، جالسة هي، وتقودها رفيقاتها إلى جانب المريضات الأخريات. أناس آخرون يتزاحمون حول يسوع. أرى جماعة الرابّيين مندهشين ومرتبكين بالقدوم العَلَنيّ ووعظ يسوع.

 

«ليكن السلام معكم، أنتم جميعاً يا مَن تسمعونني! الفصح المقدّس يُعيد الأبناء المؤمنين إلى بيت الآب. يبدو فصحنا المبارك كأُمّ حريصة على خير أبنائها. تناديهم بصوت عالٍ ليأتوا، ليأتوا مِن كلّ مكان، تاركين وراءهم كلّ اهتمام مِن أجل اهتمام أعظم، الاهتمام الأوحد الذي هو بحقّ عظيم ومفيد: تكريم الربّ والآب. هذا ما يُقرِّب إلى الأذهان كيف أنّنا إخوة؛ ومن ذلك، وبشهادة عذبة، ينبثق الأمر والالتزام بحبّ القريب كالذات. ألم نَرَ بعضنا أبداً؟ هل كنّا نجهل بعضنا؟ نعم. ولكن إذا ما كنّا هنا، إذ كأبناء الآب الأوحد الذي يريدنا في بيته مِن أجل الوليمة الفصحيّة، فبالتأكيد، إذا لم يكن بشعورنا المادّيّ، فبالجزء الأسمى، نشعر أنّنا كائنات متساوية، إخوة، متحدّرين مِن واحد أوحد، ونحبّ بعضنا كما لو كنّا قد كبرنا معاً. استباق هي، وحدة الحبّ هذه التي لنا، لتلك الأكثر كمالاً التي سوف نسعد بها في ملكوت السماوات، تحت نَظَر الله، متعانقين جميعنا بحبّه: أنا، ابن الله والإنسان، معكم أنتم، البشر أبناء الله؛ أنا، البِكر، معكم أنتم، الإخوة، المحبوبين فوق كلّ اعتبار بشريّ، لدرجة أن أُصبِح الحَمَل مِن أجل خطايا الناس.

 

لكنّنا نحن الذين نُسَرّ في اللحظة الحاضرة بوحدتنا الأخويّة في بيت الآب، فلنتذكّر كذلك البعيدين، والذين هم مع ذلك إخوتنا: في الربّ أو بالأصل. ليكونوا في قلبنا. لنحملهم في قلبنا، هُم، الغائبين، أمام المذبح المقدّس. فلنصلِّ مِن أجلهم بتلقّينا مع الروح أصواتهم البعيدة، وحنينهم لأن يكونوا هنا، حسراتهم. وكما نتقبّل تلك الحسرات الواعية للإسرائيليّين الغائبين، فلنتقبّل كذلك تلك التي لنفوس أناس لا يعرفون حتّى أنّ لهم نَفْساً، وأنّهم أبناء الواحد الأحد. كلّ نفوس العالم تصرخ في سجن أجسادها نحو العليّ. في ظلمات سجونها تئنّ صوب النور. نحن الذين في نور الإيمان الحقّ، فلنرأف بهم.

 

لنصلِّ: أبانا الذي في السماوات، لِيُقدِّس اسمَكَ البشريّةُ كلّها! معرفته تعني المضيّ صوب القداسة. اجعل الوثنيّين والملحدين يتعرّفون على وجودكَ، أيّها الآب القدّوس، وكالحكماء الثلاثة لزمن بعيد ولكنّه ليس بالخامل، لأنّه ما مِن شيء له علاقة بالفداء في العالم ويكون خاملاً، فليُقْبلوا إلى الله، إليكَ، أيّها الآب، يقودهم نجم يعقوب، نجمة الصباح، الـمَلِك والفادي مِن أصل داود، ذاك الذي مَسَحتَهُ، وقد قَدَّمتَهُ وكرَّستَه ليكون الضحيّة عن خطايا العالم.

 

ليأتِ ملكوتكَ في كلّ مكان على الأرض، حيث أنتَ معروف ومحبوب، وحيث أنتَ غير معروف أيضاً. وليأتِ خاصّة مِن أجل الذين تضاعفت خطيئتهم ثلاث مرات، والذين بمعرفتهم إيّاكَ لا يحبّونكَ في أعمالكَ وتجلّيات النور، والذين يعملون على رفض وخنق النور الآتي إلى العالم لأنّهم نفوس الظُّلُمات، الذين يفضّلون أعمال الظلمات، ولا يعرفون سوى جعل نور العالم يخبو، والإساءة إليكَ، ذلك أنّكَ النور الأقدس وأبو كلّ الأنوار، ابتداءً مِن النور الذي تجسّد وأَصبَحَ الكلمة ليحمل النّور إلى كلّ النفوس ذات الإرادة الطيّبة.

 

لتكن مشيئتكَ، أيّها الأب الأقدس، في كلّ قلب في العالم، يعني فليخلص كلّ قلب، ولا يبقَ واحد دون ثمرة تضحية الأضحية العظمى، لأنّ تلك هي مشيئتكَ: أن يخلص الإنسان ويسعد بكَ، أيّها الآب القدّوس، بعد الغفران الذي سوف يُمنَح.

 

هبنا إعاناتكَ، يا ربّ، كلّ الإعانات. وامنحها لكلّ الذين ينتظرون، للذين لا يدرون أنّهم ينتظرون، امنحها للخطأة مع التوبة التي تُخلِّص، امنحها للملحدين مع جرح نداءكَ الذي يهزّ، امنحها للتعساء، امنحها للمنعزلين، للمنفيّين، للمرضى بالجسد أو بالروح، امنحها للجميع، أنتَ الجَّامع كلّ شيء، لأنّ زمن الرحمة قد أتى.

 

اغفر، أيّها الآب الصالح، خطايا أبنائكَ. خطايا أبناء شعبكَ الأكثر جسامة، تلك التي لأولئك المذنبين بإرادة البقاء في الخطأ، بينما حبّكَ المفضَّل مَنَحَ النور بالضبط لهذا الشعب. وامنح الغفران للذين أَفسَدَتْهم وثنيّة فاسدة تُعلِّم الرذيلة، وهم غارقون في هذه الوثنيّة الثقيلة والوبيلة، بينما هناك في وسطهم نفوس ذات قيمة هي أيضاً، وأنتَ تحبّهم لأنّكَ خلقتَهم. نحن نغفر، أنا أوّلاً أغفر، كي تستطيع أنتَ أن تغفر، ومِن أجل ضعف المخلوقات نلتمس حمايتكَ كي تُحرّر الذين خَلَقتَهم مِن برائن أصل الشرّ، مِن حيث تتأتّى كلّ الجرائم، كلّ عبادات الوثن، كلّ الأخطاء، كلّ التجارب والانحرافات. يا ربّ، حرّرهم مِن الأمير الفظيع ليتمكّنوا مِن المجيء إلى النور الأزليّ.»

 

تَبِع الناس بانتباه هذه الصلاة المهيبة. واقترب بعض الرابّيين المشهورين، ومنهم كان غَمَالائيل كذلك، وقد أَمسَكَ لحيته بيده وهو غارق في التفكير... تقدَّمَت مجموعة مِن النساء، وقد تدثَّرنَ معاطف غَلَّفَتهنَّ بالكامل، مع شكل مِن أشكال القبّعات تخفي لهنّ الوجه. وتَباعَدَ الرابّيون باستخفاف... وهَرَعَ كذلك، لسماعهم بنبأ وصول المعلّم، تلاميذ كثيرون أوفياء منهم هَرْماس واستفانوس والكاهن يوحنّا. وثمّ نيقوديموس ويوسف، اثنان لا يفترقان، وأصدقاء لهم آخرون يبدو لي أنّني رأيتُهم قبلاً.

 

أثناء الوقفة التي عقبت صلاة الربّ، الذي اختلى بنفسه بجدّيّة مهيبة، يُسمَع يوسف الذي مِن الرّامة يقول: «حسناً يا غَمَالائيل؟ ألا يبدو لكَ، ألا يبدو لكَ هذا أيضاً، كلام الربّ؟»

 

«يا يوسف، لقد قيل لي: "سوف ترتعد هذه الحجارة لصوت كلامي"» يُجيب غَمَالائيل.

 

ويهتف استفانوس بحدّة: «تَـمِّم المعجزة، يا ربّ! أَعطِ الأمر أنتَ، وستتزعزع! فليتهاوَ البناء، إنّما فلترتفع في القلوب جدران الإيمان بكَ، وستكون هذه نعمة عظيمة! افعل ذلك لمعلّمي!»

 

«مُجدِّف!» يصيح جمع مِن الرابّيين الهائجين وتلاميذهم.

 

«لا» يصيح غَمَالائيل بدوره. «فتلميذي قد تفوّه بكلام موحى به. أمّا نحن فلا يمكننا القبول به لأنّ ملاك الله لم يُطهِّرنا بعد مِن الماضي بالجمرة المأخوذة مِن مذبح الله... ويمكن، حتّى إذا هتافه» ويشير إلى يسوع «كان قد انتَزَعَ محاور هذه الأبواب، لما عرفنا أيضاً أن نؤمن...» ويرفع أحد أهداب معطفه الواسع، ويغطّي به رأسه ويكاد يغطّي وجهه، ويمضي.

 

يَنظُر إليه يسوع وهو يمضي... ثمّ يُعاوِد الكلام ليُجيب على بعض الذين يُهمهِمون فيما بينهم، والذين يبدون متشكّكين، والذين، كي يَجعَلوا شكّهم أكثر جلاء، يصبُّون على يهوذا الاسخريوطيّ سلسلة مِن التشكّيات يتلقّاها الرَّسول دون ردّة فعل، رافعاً كتفيه، ومُظهِراً وجهاً ليس راضياً البتّة.

 

يقول يسوع: «الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ الذين يبدون مِن سُلالة فاسدة هُم أبناء حقيقيّون، والأبناء الحقيقيّون يُصبِحون سُلالة فاسدة.

 

اسمعوا جميعكم هذا الـمَثَل:

 

ذات يوم اضطرّ رجل، مِن أجل أعماله، أن يغيب عن بيته فترة طويلة، تاركاً أبناء ما يزالون أطفالاً. ومِن المكان الذي كان فيه، كان يكتب الرسائل لأبنائه البِكر ليحفظ فيهم دائماً احترامهم للأب الغائب وليذكّرهم بتعاليمه. الأصغر، الذي وُلِدَ بعد رحيله، كان ما يزال رضيعاً لدى امرأة بعيدة عن المكان، وهي مِن موطن زوجته، امرأة مِن سُلالة أخرى. ماتت الزوجة بينما كان هذا الابن ما يزال صغيراً وبعيداً عن البيت. قال الإخوة: "فلندعه حيث هو، عند أهل أُمّنا. قد ينساه الأب فيكون ذلك في مصلحتنا، وتُوزَّع التركة على واحد أقلّ، عندما ستأتي ساعة موت أبينا". ويتصرّفون هكذا. وبهذه الطريقة، يعيش الصبيّ الذي كان بعيداً، يربّيه أهل أُمّه، جاهلاً تعليمات الأب، جاهلاً أنّ له أباً وإخوة أو، ما هو أسوأ، ذائقاً مرارة هذه الفكرة: "لقد نبذني الجميع كما لو كنتُ ابن زنى"، وقد حَصَلَ أنّه اعتَقَدَ بكونه كذلك، طالما كان يحسّ أنّ أباه قد أقصاه.

 

وحين أَصبَحَ رجلاً اتّخذ له وظيفة. بالفعل، خشونة طبعه التي كانت قد أحدثتها أفكاره، فقد حقد حتّى على عائلة أُمّه التي كان يظنّها مذنبة بفعل الزنى. وشاءت الصدفة أن يمضي هذا الشاب إلى البلد التي كان أبوه فيها. ودون أن يعرف مَن يكون، عَاشَرَه، وسَنَحَت له الفرصة أن يستمع إليه يتحدّث. وكان الرجل حكيماً. وبما أنّه لم راضياً عن أبنائه البعيدين عنه -وكانوا حينذاك يتصرّفون على هواهم، محافظين فقط على علاقات تقليديّة مع أبيهم الذي يعيش في البعيد، ليتذكّر فقط أنّهم أبناؤه ويتذكّر عهده- فقد كان يعطي نصائح منطقيّة لشباب كانت له الفرصة للتقرّب منهم في البلد التي كان فيها. فانجذب الشاب بتلك الاستقامة الأبويّة الخالصة تجاه الكثير مِن الشبيبة، فلم يكتفِ بمعاشرته، ولكنّه جَعَلَ مِن كلامه كلّه كنـزاً له، ممّا جَعَلَ فكره الحادّ يصبح أفضل.

 

مَرض الرجل، وكان عليه أن يقرّر العودة إلى موطنه. قال له الشاب: "سيّدي، أنتَ وحدكَ مَن كلَّمني باستقامة جاعلاً نفسي تسمو. فاسمح لي أن أتبعكَ كخادم. لا أريد أن أقع ثانية في السوء الذي كنتُ فيه". فيُجيبه: "تعال معي. سوف تأخذ مكان ابني الذي لم أستطع الحصول على أخباره". ويعودان معاً إلى البيت الأبويّ.

 

لا الأب ولا الإخوة ولا حتّى الشاب ذاته كانوا قد تنبّهوا إلى أن السيّد قد جَمَعَ مِن جديد الذين مِن الدم نفسه تحت السقف ذاته. إنّما كان على الأب أن يذرف الدموع الكثيرة مِن أجل أبنائه الذين كان يعرفهم، ذلك أنّه وَجَدَهم ناسين تعليماته، جَشِعِين، قُساة القلوب، عديمي الإيمان بالله، بل وعلى العكس، مُكثِرين مِن عبادة الأصنام في القلب: الكبرياء، البخل، والفجور كانت آلهتم، ولم يكونوا يريدون سماع الحديث عن أيّ شيء آخر سوى المصالح البشريّة. أمّا الغريب، فعلى العكس، كان يتقرّب أكثر فأكثر مِن السيّد، وكان يتحوّل إلى بارّ، طيّب، مُحبّ ومطيع. كان الإخوة يمقتونه لأنّ الأب كان يحبّ هذا الغريب. وهو كان يغفر ويحبّ لأنّه كان يُدرِك أنّ السلام يكمن في الحبّ.

 

ذات يوم، إذ كان الأب قد انزَعَجَ مِن سلوك أبنائه، قال لهم: "لَم تكترثوا بأهل أُمّكم، ولا حتّى بأخيكم. أنتم تذكّرونني بسلوك أبناء يعقوب تجاه أخيهم يوسف. أنا أريد المضيّ إلى ذاك البلد لأتقصّى أخباره؛ قد يحصل ِأن أجده وأن أتعزّى به". ويمضي تاركاً أبناءه وكذلك الشاب غير المعروف، مانحاً هذا الأخير رأسمال صغيراً كي يتمكّن مِن العودة إلى المكان الذي أتى منه ويجعل له تجارة صغيرة.

 

حينما وَصَلَ إلى مدينة الزوجة التي فَقَدَها، أهل تلك رَووا له أنّ الابن الذي أُهمِل، الذي كان في البداية يحمل اسم موسى، قد أَصبَحَ اسمه منسّى، لأنّه، لدى ولادته، جعل أباه يَنسى أن يكون مستقيماً، ذلك أنّه أَهمَلَه.

 

"لا تلوموني ظلماً! قيل لي إنّ آثار الوَلَد كانت قد فُقِدَت، ولم يكن لي أمل بأن أجد أحداً منكم. إنّما حَدِّثوني عنه. كيف هو؟ هل أَصبَحَ قويّاً؟ هل يُشبه زوجتي الحبيبة، التي ماتت وهي تمنحني إيّاه؟ هل هو صالح؟ هل يحبّني؟"

 

"مِن جهة أنّه قويّ، هو كذلك، وهو جميل كأُمّه، إلاّ أن عينيه هما في الحقيقة سوداوان. ولكنّه قد أَخَذَ عن أُمّه شهوة خرّوب في جنبه. منكَ أنتَ، على العكس، قد أخذ اللثغة الخفيفة. وحينما أَصبَحَ بالغاً، هاجر مِن هنا، مغتاظاً مِن وضعه، إذ تُراوده الشكوك حول شرف أُمّه، والحقد عليكَ. كان يمكن أن يكون صالحاً لولا هذا الحقد في نفسه. مضى إلى ما وراء الجبال والنهر في ترابيزيوس مِن أجل..."

 

"أتقولون إلى ترابيزيوس؟ في سينوب؟ آه! قولوا لي! لقد كنتُ هناك، وتعرّفتُ على شاب يلثغ قليلاً، كان وحيداً وحزيناً، وطيّباً للغاية رغم مظهره القاسي. هل يكون هو؟ قولوا!"

 

"قد يكون هو. ابحث عنه ثانية. في جنبه الأيمن شهوة خرّوب ناتئة وداكنة كالتي كانت لزوجتكَ".

 

يمضي الرجل مسرعاً، على أمل أن يجد الغريب ثانية وهو ما يزال في بيته. لقد كان قد مضى ليعود إلى مستعمرة سينوب. وجاءها ثانية... ووَجَدَه. أخذه إليه ليكشف عن جنبه. وتعرَّفَ عليه. وجثا على ركبتيه ممجِّداً الله لأنّه ردَّ له ابنه الذي كان أفضل مِن الآخرين الذين كانوا يزدادون تخبّلاً، بينما هو، في خلال الأشهر التي مرَّت، كان يزداد قداسة باطّراد. وقال لابنه الطيّب: "ستكون لكَ حصّة إخوتكَ، لأنّكَ أنتَ، دون حبّ مِن أحد، قد جعلتَ نفسكَ أكثر استقامة مِن أيّ آخر".

 

أوَلم يكن ذلك عدلاً؟ بالطبع بلى. الحقّ أقول لكم إنّ الذين استَبعَدَهم العالم، واحتَقَرَهم، ومَقَتَهم، وانتَقَدَهم، ورَذَلَهم كأبناء زنى، مُعتَبِراً إيّاهم كعار وموت، هُم بحقّ أبناء الخير، ويعرفون كيف يتفوّقون على الأبناء الذين نموا في البيت ولكنّهم عَصوا شرائعه. فليس الانتماء إلى إسرائيل هو الذي يُعطي الحقّ بالسماء، ولا أن يكون المرء فرّيسيّاً، أو كاتباً أو حَبراً هو ما يؤمِّن ذلك المصير. بل هو امتلاك الإرادة الطيّبة والإقبال بأريحيّة إلى مذهب الحبّ، والتجدّد فيه، كي به يصبح المرء ابناً لله بالروح وبالحق.

 

أنتم جميعاً، يا مَن تسمعون، اعلموا أنّ كثيرين ممّن يظنّون أنفسهم أكيدين في إسرائيل سوف يحلّ محلّهم أولئك الذين، بالنسبة إليهم، هُم عشَّارون، بغايا، وثنيّون، ملحدون ومحكومون بالأشغال الشاقّة. فملكوت السماوات هو للذين يعرفون أن يتجدّدوا بتقبّل الحقّ والحبّ.»

 

يَدور يسوع ويتوجّه صوب جماعة المرضى مِن الصابئة. «هل تَعرفون أن تؤمنوا بما قلتُهُ؟» يَسأَل بصوت مرتفع.

 

«نعم، يا ربّ!» يُجيبون معاً مثل جوقة.

 

«هل تريدون تقبُّل الحقّ والحبّ؟»

 

«نعم، يا ربّ!»

 

«إذا لم أعطكم سوى هذا، هل ستكونون مسرورين؟»

 

«يا ربّ، أنتَ تَعلَم ما نحن أحوج إليه. امنحنا بالأخصّ السلام والحياة الأبديّة.»

 

«انهضوا وامضوا ومجّدوا الربّ! لقد برئتم باسم الله القدّوس.»

 

ويتوجّه بسرعة إلى أوّل بوابة يُصادِفها، وقد اختَلَطَ بالجموع التي تملأ أورشليم، حتّى قبل أن يتمكّن الجمع المندهش والمنفعل الموجود في فسحة الأمم أن يبحث عنه وهو يصيح أوشعنا…

 

الرُّسُل، وقد اضطربوا، لم يعودوا يرونه. فقط مارغزيام الذي لم يُفلِت أبداً أحد أهداب معطفه، يجري سعيداً إلى جانبه وهو يقول: «شكراً، شكراً، شكراً يا معلّم! شكراً مِن أجل يوحنّا! لقد كتبتُ كلّ شيء بينما كنتَ أنتَ تتحدّث. لم يبقَ لي سوى إضافة المعجزة. آه! جميل! حقيقة مِن أجله! سوف يكون سعيداً بذلك!...»