ج9 - ف10

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

10- (الأربعاء السابق للفصح، I- النهار)

 

02 / 04 / 1947

 

يدخل يسوع الهيكل الأكثر ازدحاماً مِن الأيّام السابقة. يرتدي الأبيض بالكامل اليوم، بثوبه الكتّاني. إنّه يوم خانق.

 

يذهب ليتعبّد في ردهة الاسرائيليّين ثمّ يقصد الأروقة، يتبعه موكب مِن الناس، بينما احتلّ آخرون أفضل الأماكن تحت الأروقة، ومعظمهم مِن الأمميّين، حيث أنّهم لا يستطيعون المضيّ أبعد مِن الباحة الأولى، بعد رواق الوثنيّين، فقد انتهزوا فرصة أنّ اليهود قد تبعوا المسيح كي يأخذوا أماكن الحظوة.

 

ولكنّ مجموعة كبيرة مِن الفرّيسيّين يزعجونهم. فلهم دائماً طريقتهم المتعجرفة، ويفسحون لأنفسهم الطريق بالقوّة، ليقتربوا مِن يسوع المنحني فوق أحد المرضى. ينتظرون إلى أن يشفيه، ثمّ يرسلون إليه أحد الكَتَبَة كي يسأله.

 

في الحقيقة كان بينهم قبلاً جَدَل قصير، لأنّ يوئيل المدعو آلاموت، كان يريد الذهاب ليسأل المعلّم. ولكنّ واحداً مِن الفرّيسيّين يعترض، ويؤيّده آخرون قائلين: «لا. معلوم أنّكَ مِن جهة الرابّي، رغم أنكَ تفعل ذلك سراً. دع أوريا يذهب...»

 

«أوريا، لا» يقول أحد الكَتَبَة الشباب، والذي لا أعرفه على الإطلاق. «إنّ أوريا خشن جدّاً في كلامه. وهو يثير الجمع. أذهب أنا.»

 

ودون أن يسمع المزيد مِن احتجاجات الآخرين، يمضي إلى قرب المعلّم بالضبط في اللحظة الّتي يصرف فيها يسوع المريض قائلاً له: «كن مؤمناً. لقد شفيتَ. لن تعود الحمّى والألم لكَ أبداً.»

 

«يا معلّم، ما هي أعظم وصيّة في الشريعة؟»

 

يسوع، الّذي كان الرجل يقف خلفه، يستدير وينظر إليه. ابتسامة عذبة مشرقة تنير وجهه، ثمّ يرفع رأسه الّذي كانت منحنياً لأنّ الكاتب قصير القامة، وفوق ذلك كان ينحني ليقدّم له التبجيل، ويجيل يسوع بصره في الجمع، ويحدّق بمجموعة الفرّيسيّين والعلماء ويلحظ وجه يوئيل الشاحب شبه المختبئ خلف أحد الفرّيسيّين ضخم القامة وفخم اللباس. إنّ ابتسامته تزداد. كأنّها نور يداعب الكاتب الفاضل. ثمّ يعود ليخفض رأسه لينظر إلى سائله ويجيبه: «إنّ الوصيّة الأولى بين جميع الوصايا هي: "اسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الربّ الأوحد. فأحبب الربّ إلهكَ بكلّ قلبكَ وكلّ نفسكَ وكلّ قدرتكَ". هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى. ومِن ثمّ الثانية الّتي تشبهها: "أحبب قريبكَ كنفسكَ". وما مِن وصايا أعظم مِن هاتين. وعليهما يقوم الناموس كلّه والأنبياء.»

 

«يا معلّم، لقد أجبتَ بحكمة وبحقّ. وهو هكذا. الله واحد وليس آخر غيره. ومحبّته مِن كلّ القلب وكلّ العقل وكلّ النَّفْس وكلّ القدرة، ومحبّة القريب كالنَّفْس هما أعظم بكثير مِن كلّ المحرقات والذبائح. أنا مقتنع بذلك تماماً حينما أتأمّل كلمات داود: "إنّكَ لا تُسرّ بالمحرقات؛ إنّ الذبيحة لله هي الروح المنكسر".»

 

«لستَ بعيداً عن ملكوت الله، لأنّكَ فهمتَ ما هي المحرقة المرضيّة لله.»

 

«ولكن ما هي المحرقة الأكثر كمالاً؟» يَسأَل الكاتب، بسرعة وبصوت خافت، كما لو كان يقول سرّاً.

 

يشعّ يسوع بالمحبّة تاركاً تلك اللؤلؤة تسقط في قلب ذاك الّذي انفتح على مذهبه، على مذهب ملكوت الله، ويقول له وهو ينحني فوقه: «الذبيحة الكاملة هي أن نحبّ الّذين يضطهدوننا كنفسنا ولا يكون لدينا حقد. مَن يفعل ذلك سيحظى بالسلام. قد قيل: الودعاء سيرثون الأرض ويستمتعون بفيض السلام. الحقّ أقول لكَ إنّ الّذي يعرف أن يحبّ أعداءه يصل إلى الكمال ويمتلك الله.»

 

يحيّيه الكاتب باحترام ويرجع إلى جماعته، الّذين يلومونه بصوت خافت على تبجيله للمعلّم، ويقولون له بغضب: «ماذا طلبتَ منه في السرّ؟ هل أغواكَ أنتَ أيضاً؟»

 

«لقد سمعتُ روح الله يتكلّم على شفتيه.»

 

«أنتَ أبله. هل تؤمن ربّما بأنّه المسيح؟»

 

«أؤمن.»

 

«إنّنا بحقّ سنرى عمّا قريب المدارس وقد فرغت مِن كَتَبَتنا وهم يمضون مخدوعين خلف هذا الرجل. ولكن كيف ترى فيه المسيح؟»

 

«كيف، لا أعرف. ما أعرفه هو أنّني أشعر أنّه هو.»

 

«مجنون!» ويديرون له ظهورهم غاضبين.

 

لاحظ يسوع الحوار، وعندما يمرّ الفرّيسيّون أمامه في مجموعة متراصّة ليمضوا غاضبين، يدعوهم قائلاً: «اسمعوني. أريد أن أسألكم أمراً. بحسب رأيكم، كيف يبدو لكم المسيح؟ ابن مَن هو؟»

 

«سيكون ابن داود.» يجيبون وهم يشدّدون على"سيكون"، إذ يريدون إفهامه أنّه ليس المسيح بالنسبة إليهم.

 

«إذاً كيف أنّ داود، مُلهَماً مِن الله، يدعوه: "ربّاً"، قائلاً: قال الربّ لربّي: اجلس عن يميني حتّى أجعل أعداءكَ موطئاً لقدميكَ"؟ فإذا كان داود يدعو المسيح "ربّاً"، فكيف يكون المسيح ابنه؟»

 

إذ لم يستطع أحد الإجابة، يبتعدون وهم يجترّون سمّهم.

 

يغيّر يسوع المكان الّذي كان فيه، وقد غمرته الشمس، ليمضي إلى أبعد، إلى حيث هي فتحات الخزانة، قرب قاعة الخزينة. هذا الجانب، الّذي ما يزال في الظلّ، يشغله الرابّيون الّذين يخطبون بإسهاب مع حركات واسعة لمستمعيهم اليهود الّذين تتزايد أعدادهم باطّراد، كما لا يتوقّف سيل الناس المتدفّقين نحو الهيكل عن التزايد بمرور الساعات.

 

يجهد الرابّيون بالخطب لتقويض تعاليم المسيح الّتي أعطاها خلال الأيّام السابقة أو في الصباح نفسه. وكلّما رفعوا أصواتهم، رأوا تزايد جمع المؤمنين. بالفعل، رغم الاتساع الهائل للمكان، فهو يعجّ بالناس الذاهبين والآتين في كلّ اتجاه…

 

يقول لي يسوع: «أدرجي هنا رؤيا عطيّة الأرملة 19/6/1944 المصحّحة كما سأشير إليكِ.» بعدها، تُستأنف الرؤيا.

 

19 / 06 / 1944

 

فقط اليوم، وبإلحاح، أرى ظهور الرؤيا التالية:

 

في البداية، لا أرى سوى باحات وأروقة، الّتي أتعرّف عليها بأنّها تخصّ الهيكل، ويسوع، الّذي يبدو كامبراطور بقدر ما هو مهيب في ثوبه الأحمر الزاهي وردائه الأحمر كذلك إنّما الأغمق، يتّكئ على عمود ضخم مربع يحمل أحد أقواس الرواق.

 

إنّه يحدّق بي. فأهيم متمتّعة بالنظر إليه لأنّني منذ يومين لم أكن أراه ولا أسمعه. وتطول الرؤيا هكذا، وطالما هي مستمرّة هكذا أنا لا أكتب، إذ هي مسرّتي. ولكن الآن، إذ أرى المشهد ينتعش، أدرك أنّ هناك شيئاً آخر وأكتب:

 

يكتظّ المكان بالناس الّذين يروحون ويجيئون في كلّ اتّجاه. هناك كَهَنَة ومؤمنون، رجال، نساء وأطفال. البعض يمرّون، وآخرون يتوقّفون ويستمعون إلى العلماء، وآخرون يتوجّهون إلى أمكنة أخرى يقودون الحملان أو يحملون الحمام، ربما لتقديمها كذبائح.

 

يبقى يسوع متّكئاً على عموده وينظر ولا يتكلّم. حتّى إنّ الرُّسُل سألوه لمرّتين، وأشار بلا، ولكنّه لم يتكلّم. يراقب بكثير مِن الاهتمام، وتعبيره يوحي بأنّه يحكم على الّذين ينظر إليهم. نظرته ووجهه كلّه يذكّرني بهيئته الّتي رأيتُه بها في رؤيا الجنّة1، عندما كان يدين النفوس في الدينونة الخاصّة. الآن بالطبع، هو يسوع، الإنسان؛ أمّا هناك في العلى، فقد كان يسوع الممجّد، وبالتالي الأكثر مهابة. ولكنّ تغيّرات تعبير الوجه، الّذي يراقب بدقّة، هي نفسها. إنّه جادّ، متفحّص، ولكنّه إن بدا أحياناً بصرامة تجعل الأكثر وقاحة يرتعش، فهو في أحيان أخرى بغاية اللطف أيضاً، ذو حزن مبتسم، بحيث تبدو نظرته ملاطفة.

 

يبدو وكأنه لا يسمع شيئاً، ولكنّه يسمع كلّ شيء. فبالفعل حينما مِن مجموعة مجتمعة على بعد عدّة أمتار منه حول أحد العلماء، يرتفع صوت أنفي يعلن: «الأكثر اعتباراً مِن أيّة وصيّة أخرى هي هذه: كلّ ما هو للهيكل فليذهب للهيكل. الهيكل أسمى مِن الأب والأُمّ، وإن أراد أحد أن يعطي كلّ ما يملك لمجد الربّ، فيمكنه ذلك وسيكون مباركاً على ذلك، لأنّ لا قرابة ولا مشاعر تسمو على الهيكل.» يدير يسوع بتمهّل رأسه في هذا الاتّجاه وينظر نظرة... لا أودّ أن ينظر إليّ بها.

 

يبدو وكأنه ينظر بشكل عام. ولكن عندما يهمّ عجوز ضئيل مرتعش بصعود الدرجات الخمس لشرفة قريبة مِن يسوع، والّتي يبدو أنّها تؤدّي إلى باحة أخرى داخليّة، ويؤشّر بعصاه ويوشك على السقوط متعثّراً بثوبه، فيمدّ يسوع ذراعه الطويل، يمسك به ويسنده، ولا يدعه إلاّ عندما يراه في أمان. يرفع العجوز صغير القدّ وجهه المجعّد، ينظر إلى مخلّصه طويل القامة ويتمتم كلمة بركة، ويسوع يبتسم له ويلاطف رأسه شبه الأصلع. ثمّ يعود إلى عموده، ويبتعد عنه مرّة أخرى كي يرفع طفلاً انزلق مِن يد أُمّه ويقع منبطحاً، تماماً عند قدميه، باكياً، على أوّل درجة. يرفعه، يلاطفه، ويواسيه. الأُمّ، المضطربة، تشكر. يسوع يبتسم لها كذلك ويعيد إليها الصغير.

 

ولكنّه لا يبتسم حينما يمرّ فرّيسيّ منتفخ كبرياءً، ولا حينما تمرّ مجموعة مِن الكَتَبَة وآخرون لا أعرف مَن يكونون. تحيّي هذه المجموعة بإيماءات عظيمة، وانحناءات. يحدّق فيهم يسوع حتّى يبدو وكأنّه يخترقهم، ويحيّي إنّما بلا حرارة. إنّه صارم. وكذلك يمرّ كاهن يُفترَض أنّه عظيم المكانة لأنّ الجمع يتنحّى ويحيّيه، وهو يمرّ متفاخراً كالطاووس. ينظر يسوع إليه نظرة طويلة. نظرة جعلته، رغم امتلائه بالكبرياء، ينكس رأسه. لا يحيّي، ولكنّه لا يصمد أمام نظرة يسوع.

 

يكفّ يسوع عن النظر إليه ليراقب امرأة صغيرة القدّ فقيرة تلبس الكستنائيّ الداكن، تصعد بخجل الدرجات وتتّجه إلى حائط به ما يشبه رؤوس سباع أو حيوانات مِن الفصيلة ذاتها بفم مفتوح. الكثيرون يذهبون إلى هناك. لكنّ يسوع كان يبدو وكأنّه لا يكترث بهم. الآن، على العكس، يتتبّع مشية المرأة صغيرة القدّ. ينظر إليها بعين الشفقة ولطف عظيم عندما يراها تمدّ يدها وتلقي في فم أحد السباع الحجريّة شيئاً ما. وعندما تمرّ الفقيرة أمامه، أثناء انسحابها، يبادرها بالقول: «السلام لكِ يا امرأة.»

 

وهذه، مندهشة، ترفع رأسها بذهول.

 

«السلام لكِ.» يكرّر يسوع «امضي فإنّ العليّ قد بارككِ.»

 

تلبث هذه المرأة المسكينة فاغرة فاها، ثمّ تتمتم بالتحيّة وتمضي.

 

«إنّها سعيدة في بؤسها.» يقول يسوع خارجاً عن صمته. «الآن هي سعيدة لأنّ بركة الله تصحبها. اسمعوا يا أصدقائي، وأنتم الّذين حولي. هل ترون هذه المرأة؟ إنّها لم تعط سوى فلسين، أقلّ مما يجب أن يُدفَع لوجبة عصفور في قفص، ومع ذلك فقد أعطت أكثر مِن جميع الّذين ألقوا عطيتهم في خزانة الهيكل، منذ فتح الهيكل في الفجر.

 

اسمعوا. لقد رأيتُ عدداً كبيراً مِن الأثرياء يضعون في تلك الأفواه مبالغ تكفي لإعاشة تلك لعام كامل وإكساء فقرها الّذي لا يجعله لائقاً سوى كونها نظيفة. لقد رأيتُ أثرياء يضعون هناك في الداخل بارتياح واضح قدراً يمكنه إشباع فقراء المدينة المقدّسة ليوم أو أكثر، ويجعلهم يباركون الربّ. ولكن، الحقّ أقول لكم أنّ لا أحد قد أعطى أكثر منها. إنّ عطيّتها محبّة هي، الأخرى ليست كذلك. كَرَم هي، والأخرى ليست كذلك. تضحية هي، والأخرى ليست كذلك. إنّ هذه المرأة لن تأكل اليوم إذ لم يعد لديها شيء. عليها أن تعمل أوّلاً لتنال أجراً يسدّ رمقها. ليس لديها مدّخرات، ليس لها أهل يكسبون مِن أجلها. إنّها وحيدة. لقد أخذ الله منها الأهل، الزوج والأطفال، وأيضاً الخيرات القليلة الّتي تركوها لها، والّتي انتزعها منها البشر أكثر مِن الله، هؤلاء الرجال ذوي الحركات المفخّمة الآن، هل ترونهم؟ يستمرّون بإلقائهم هناك في الداخل، الفائض عنهم الّذي اغتصبوا قسماً كبيراً منه بالربا مِن الأيدي البائسة للضعفاء والجياع. هم يقولون أنّ ليس هناك قرابة ولا مشاعر تسمو على الهيكل، وبهذه الطريقة يُعَلِّمون عدم محبّة القريب. وأنا أقول لكم إنّ المحبّة هي فوق الهيكل. شريعة الله هي المحبّة، ولا يحبّ مَن لا يشفق على قريبه. إنّ المال الفائض، المال الملوّث بالربا، بالحقد، بالقسوة، بالرياء، لا يُنشِد تسبيحاً لله ولا يجلب لـمُعطيه البركة السماويّة. الله ينبذه. إنّه يُسَمّن هذا الصندوق، ولكنّه ليس ذهباً للبخور: هو وحل يطمركم، أيا أصحاب المناصب، الّذين لا تخدمون الله بل مصلحتكم؛ إنّما هو حبل يخنقكم، أيا أيّها العلماء، يا مَن تُعلّمون مذهباً مِن ابتداعكم؛ إنّما هو سمّ يجعل ما بقي لكم مِن النَّفْس يتآكل، أيا أيّها الفريسيّون. الله لا يريد ما يتبقّى. لا تكونوا كقايين. الله لا يريد ما هو ثمرة القسوة. الله لا يريد مَن يرفع صوتاً نائحاً يقول: "كان عليّ أن أُشبِع جائعاً، ولكنّهم مانعوني ليراكموا بذخهم في الداخل. كان عليّ أن أساعد أباً عجوزاً، وأمّاً ضعيفة، ومُنِعتُ لأنّ هذه المساعدة لا يعلم بها العالم، بل عليّ أن أدقّ جرسي كي يرى العالم المعطي". لا، أيّها الرابّي الّذي تُعلّم أنّ ما يتبقّى ينبغي أن يُعطى لله وأنّه مسموح منعه عن الأب والأُمّ كي يُعطى لله. إنّ الوصيّة الأولى هي: "أحبب الله مِن كلّ قلبكَ، كلّ نَفْسكَ، كلّ فكركَ، ومِن كلّ قوّتكَ". إذاً ليس الفائض، بل دمنا هو ما يجب أن يُعطى له، مع حبّ الألم مِن أجله. التألّم، لا التسبّب بالألم. وإن كان العطاء يكلّف الكثير، لأنّ التجرّد عن الثروات غير مستحَبّ، والكنـز هو قلب الإنسان، الفاسد بطبعه، فتحديداً بسبب هذه الكلفة يجب أن نعطي. توخّياً للعدل: لأنّ كلّ ما لنا، حصلنا عليه بفعل طيبة الله. بفعل المحبّة: لأنّه دليل على المحبة أن نحبّ التضحية لمنح الفرح لمن نحبّهم. أكرّر، أن نتألّم مِن أجل العطاء. إنّما أن نتألّم. وليس أن نتسبّب بالألم. ذلك أنّ الوصيّة الثانية تقول: "أحبب قريبكَ كنفسكَ". والشريعة تحدّد أنّ، بعد الله، الأهل هم القريب الّذي يلتزم المرء بمنحهم التبجيل والعون. إذاً الحقّ أقول لكم إنّ هذه المرأة الفقيرة قد فهمت الشريعة بأفضل مِن الحكماء، وإنّها مُبرَّرة ومباركة أكثر مِن أيّ آخر، لأنّها في فقرها أعطت كلّ شيء لله، بينما أنتم تعطون ما هو فائض، وتعطوه كي تتعاظموا في تقدير الناس لكم. أعلم أنّكم تكرهونني لأنّني أتكلّم هكذا. ولكن طالما بوسع هذا الفم الكلام، فسيتكلّم بهذه الطريقة. وتضيفون إلى كراهيتكم لي، الازدراء بالمسكينة الّتي أمدحها. ولكن لا تعتقدوا أنّكم ستجعلون مِن هاتين الصخرتين قاعدة مضاعفة لكبريائكم. فإنّهما سيكونان حجريّ الرحى اللذين سيسحقانكم.

 

هيّا بنا. لندع الأفاعي تلدغ بعضها البعض ليتفاقم سمّها. ومَن هو طاهر، طيّب، متواضع، نادم، ويريد معرفة وجه الله الحقيقيّ فليتبعني.»

 

يقول يسوع:

 

«وأنتِ يا مَن لم يعد معكِ شيء، لأنّكِ أعطيتِني كلّ شيء، أعطني هذين الفلسين الأخيرين. أمام الكثير الّذي أعطيتِه لي، سيبدوان، للغرباء، لا شيء. ولكن بالنسبة لكِ أنتِ يا مَن لم تعودي تملكين سواهما، فهما كلّ شيء. ضعيهما في يد ربّكِ. ولا تبكي. أو على الأقلّ: لا تبكي وحيدة. ابكي معي، حيث أنّني الوحيد الّذي أستطيع أن أفهمكِ، والّذي أفهمكِ بدون ضباب البشريّة الّتي هي حجاب نفعيّ للحقيقة.»

 

يتبعه الرُّسُل، التلاميذ والجمع في مجموعات متلاحمة فيما يعود إلى موضع السور الأوّل، الّذي يكاد يكون في ظلّ حائط سور الهيكل، هناك حيث القليل مِن الرطوبة، ذلك أنّ اليوم خانق جدّاً. بما أنّ الأرض قد خرّبتها حوافر الحيوانات، وقد تناثرت الحجارة الّتي وضعها البائعون والصرّافون ليثبّتوا زرائبهم وخيامهم، فهناك لا يأتي رابّيو إسرائيل. فهم كانوا يسمحون بإقامة السوق في الهيكل، إلّا أنّهم يشعرون بالاشمئزاز في حمل نعال صنادلهم إلى حيث تمّ محو بشكل سيّئ آثار فضلات ذوات الأربع الّتي أزيلت مِن هناك منذ أيّام قليلة.

 

يسوع لا يشمئزّ منها ويلجأ إلى هناك، وسط دائرة كبيرة مِن المستمعين. إنّما، قبل أن يتكلّم، ينادي الرُّسُل إلى جانبه ويقول لهم: «تعالوا واسمعوا جيّداً. بالأمس كنتم تريدون معرفة أشياء عديدة سأقولها الآن لكم، والّتي كنتُ قد أشرتُ إليها أمس بتلميحات غامضة عندما كنّا نستريح في بستان يوسف. إذاً انتبهوا جيّداً، لأنّها دروس عظيمة للجميع وبالأخصّ لكم أنتم، مُرسَليّ واستمراريّتي.

 

اسمعوا. جلس الكَتَبَة والفريسيّون على كرسيّ موسى في الأوان المناسب. في ساعات كانت حزينة للوطن. ما أن انتهى المنفى في بابل، وأُعيد بناء الدولة بفضل شهامة قورش، أدرك قادة الشعب ضرورة إعادة بناء الديانة أيضاً ومعرفة الشريعة. لأنّه ويل لذاك الشعب الّذي لا يكونان له بمثابة المدافع عنه، المرشد والداعم، في مواجهة أعتى أعداء أمّة، الّتي هي فساد أخلاق المواطنين، التمرّد ضدّ الرؤساء، الانشقاق بين مختلف الطبقات والفرق، الخطايا ضدّ الله والقريب، الإلحاد، وهي كلّها عوامل تَفَكُّك لأنفسهم وتتسبّب بجلب العقوبات السماويّة!

 

فهبّ إذن الكَتَبَة، أو علماء الشريعة، للتمكّن مِن أن يُعلّموا الشعب الّذي، إذ يتكلّم الكلدانيّة، إرث المنفى القاسي، لم يكن ليفهم الكتب المكتوبة بالعبريّة الخالصة. هبّوا لمساعدة الكَهَنَة، غير الكافي عددهم للنهوض بواجب تعليم الجموع. علمانيّة علميّة ومكرّسة لتبجيل الربّ، بحمل معرفته للناس واقتياد الناس إليه. وكان لهذه العلمانيّة مبرّرات لوجودها وصنعت خيراً أيضاً. ذلك أنّ، تذكّروا هذا كلّكم، حتّى الأمور، الّتي بسبب ضعف بشريّ قد انحدرت فيما بعد، كما حصل في هذه الحالة الّتي فسدت بمرور العصور، لها دائماً شيء ما مِن الصلاح، ولها، في البداية، على الأقلّ، مبرّر لوجودها، ولأجل ذلك يسمح العليّ لها بأن تنشأ وتدوم، إلى لحظة بلوغ الانحطاط فيها إلى أقصاه، فيبدّدها العليّ.

 

وبعدها أتت شيعة الفرّيسيّين الأخرى، الـمُحَوّلة مِن تلك الّتي للأسيديّين، الّتي نشأت لتدعم بالأخلاق الأكثر صلابة والطاعة الأكثر تشدّداً شريعة موسى وروح الاستقلال لشعبنا، عندما تكوّنت الفرقة الهيلّينية تحت الضغط والفتن الّتي بدأت في عصر أنطيوخس أبيفانيوس والّتي سرعان ما تحوّلت إلى اضطهادات لمن لا يخضعون لضغوط الـمَلِك الماكر، الّذي كان يعتمد على تفكيك الإيمان في القلوب أكثر مِن اعتماده على أسلحته كي يملك على وطننا وكان يحاول جعلنا عبيداً.

 

بالـمِثل تذكّروا هذا: خافوا بالأحرى مِن التحالفات السهلة وممالقات الغريب أكثر منه مِن جنوده. لأنّه طالما أنتم أوفياء لشرائع الله والوطن، فستنتصرون حتّى وإن كنتم محاطين بجيوش قويّة، ولكن حينما تفسدون بسُمّ مخفيّ، مُقَدَّم كعسل مُسكِر مِن الغريب الّذي رسم المخطّطات ضدّكم، فسيهجركم الله بسبب خطاياكم، وستُهزَمون وتصيرون خاضعين، حتّى مِن دون أن يخوض حليفكم الزائف معركة دمويّة ضدّكم. الويل لمن لا يكون متنبّهاً كالحارس اليقظ ولا يرفض الفخّ الماكر لجار محتال وكاذب، أو حليف، أو متحكّم يبدأ سيطرته على الأفراد، بإضعاف قلوبهم وإفسادهم بممارسات وعادات ليست عاداتنا، وليست مقدّسة، وبالتالي تجعلنا غير مرضيّين للربّ! الويل! تذكّروا كلّ النتائج الّتي حلّت بالوطن لأنّ بعض أبنائه تبنّوا ممارسات وعادات الغريب لكي يستفيدوا مِن إحساناته ويستمتعوا. حسنة هي المحبّة تجاه الجميع، حتّى تجاه الشعوب الّتي لا تشاركنا الإيمان، وليست لها أعرافنا، وسبّبت الضيق لنا على مرّ العصور. ولكنّ محبّة هذه الشعوب، الّذين هم دائماً بمثابة القريب لنا، يجب ألاّ تجعلنا أبداً نجحد شريعة الله والوطن بسبب حسابات بعض المنافع الّتي نبتزّها مِن القريب. لا. فالغرباء يحتقرون أولئك الّذين يتذلّلون لدرجة التخلّي عن أقدس مقدّسات الوطن. فليس بجحود تجاه الأب والأُمّ: الله والوطن، يتمّ الحصول على الاحترام والحرّية.

 

كان خيراً إذاً، في تلك اللحظة المناسبة، أن يقف الفرّيسيّون كذلك سدّاً في وجه الفيضان الموحل للممارسات والعادات الغريبة. أكرّر: كلّ شيء ينشأ ويدوم له مبرّر وجوده. ويجب احترامه لأثره الماضي. إن لم يكن لأثره الحاضر. الّذي، إن كان قد أصبح مستنكَراً، فليس مِن اختصاص الناس أن يحقّروه أو حتّى الطعن به. هناك مَن يُحسِن فِعل ذلك: الله والّذي أرسله، والّذي له الحقّ والواجب أن يفتح فاه ويفتح أعينكم، كي تعرفوا أنتم ويعرفوا هم فكر العليّ وتتصرّفوا باستقامة. أنا ولا أحد آخر. أنا، لأنّني أتكلّم بأمر إلهيّ. أنا، لأنّني أستطيع الكلام وليس بي أيّة واحدة مِن الخطايا الّتي تثير حفيظتكم حين ترون الفرّيسيّين والكَتَبَة يفعلونها، إنّما الّتي، لو كنتم تستطيعون، لفعلتموها أنتم كذلك.»

 

يسوع الّذي بدأ خطبته بهدوء، قد رفع تدريجيّاً صوته، وفي هذه الكلمات الأخيرة يصبح صوته قويّاً كأنّه صداح بوق.

 

اليهود والأمميّون مستغرقون ومتنبّهون لسماعه. وإن يصفّق الأوّلون حينما يذكر يسوع الوطن ويذكر صراحة، بالأسماء، أولئك الغرباء الّذين أخضعوهم وسبّبوا معاناتهم، فالآخرون أيضاً يظهرون إعجابهم بالصيغة الخطابيّة للحديث ويسعدون بحضور هذه الخطبة لهذا الخطيب العظيم، كما يقولون فيما بينهم.

 

يخفض يسوع مِن جديد صوته عندما يستأنف الكلام: «هذا قلتُه لكم كي تتذكّروا سبب كونهم كَتَبَة وفرّيسيّين، وكيف ولماذا قد جلسوا على كرسيّ موسى، وكيف ولماذا يتكلّمون وكلامهم ليس عبثاً. فافعلوا إذاً كما يقولون، إنّما لا تقتدوا بأعمالهم. فهم يقولون بأن تتصرفوا بطريقة معيّنة، ولكنّهم مِن ثمّ لا يفعلون ما يقولون بوجوب فِعله. إنّهم في الواقع يعلّمون الشرائع البشريّة للأسفار الموسويّة الخمسة، إنّما بعد ذلك يُحمّلون الآخرين الأحمال الضخمة المستحيلة الحمل، غير البشريّة، بينما هم لا يرفعون حتّى الإصبع الصغير، ليس لحمل هذه الأثقال، بل حتّى للمسها.

 

إنّ قاعدة حياتهم هي أن يراهم الناس ويلاحظوهم ويصفّقوا لأعمالهم، الّتي يعملونها بحيث يراها الناس، كي يمجّدوهم عليها. ويخرقون وصيّة المحبّة، لأنّهم يحبّون أن يسبغوا على أنفسهم صفة التميّز، ويحتقرون مَن ليسوا مِن طائفتهم، ويطالبون تلاميذهم بدعوتهم معلّمين وبتعبّد لا يعطونه هم أنفسهم لله. يظنّون أنفسهم آلهة بسبب الحكمة والسلطة، ويريدون أن تفوق مكانتهم في قلوب تلاميذهم مكانة الأب والأُمّ، ويزعمون أنّ مذهبهم يفوق مذهب الله ويطالبون أن يُمارَس حرفيّاً، حتّى وإن شَوّه الشريعة الحقيقيّة، وهو أدنى مِن تلك الأخيرة كما هو هذا الجبل مقارنة بعلوّ جبل حرمون العظيم الّذي يشرف على فلسطين كلّها. بعضهم هراطقة، حيث يؤمنون بالتناسخ والقضاء والقدر كما الوثنيّين، فيما آخرون، بشكل محسوس إن لم يكن بالجوهر، ينكرون ما يعترف به الأوّلون، والّذي أعطاه الله بذاته كإيمان، عندما عَرّف عن نفسه بأنّه هو الله الأحد الّذي تؤول إليه العبادة، وقائلاً أنّ الأب والأُمّ يأتيان بعد الله مباشرة، وهكذا يكون لهما الحقّ في الطاعة أكثر مِن معلّم ليس إلهيّاً. فإن قلتُ لكم الآن: "مَن يحبّ أباه وأُمّه أكثر منّي لا يستحقّ ملكوت الله"، فليس كي ألقّنكم اللامبالاة تجاه الوالدين، الواجب عليكم احترامهما ومساعدتهما، وغير مسموح أن تنـزعوا منهما المساعدة قائلين: "هذا مال الهيكل"، أو الضيافة قائلين: "عبئي يمنعني"، أو الحياة قائلين: "أقتلكَ لأنّكَ تحبّ المعلّم"، بل كي يكون لكم مِن المحبّة لوالديكم ما هو واجب، أي محبّة صبورة وقويّة في وداعتها، محبّة -دون التوصّل إلى كراهية للوالد الّذي يُخطئ ويُحزِن، بعدم جعلكم اتّباع طريق الحياة: طريقي- تُحسِن الاختيار بين شريعتي والأنانيّة العائليّة والاستبداد العائليّ. أحبّوا والديكم، أطيعوهما في كلّ ما هو مقدّس. ولكن كونوا على استعداد للموت، لا التسبّب في الموت، ولكن للموت، أقول، إن أرادوا أن يقودوكم إلى خيانة الدعوة الّتي وضعها الله فيكم بأن تكونوا سكّان ملكوت الله الّذي جئتُ أقيمه.

 

لا تقتدوا بالكَتَبَة والفرّيسيّين، المنقسمين فيما بينهم رغم تظاهرهم بالاتّحاد. أنتم، تلاميذ المسيح، فلتكونوا حقّاً متّحدين، الواحد لأجل الآخرين، الرؤساء مفعمين لطفاً تجاه الرعايا، الرعايا مفعمين لطفاً تجاه الرؤساء، متّحدين في المحبّة وفي غاية اتّحادكم: نيل ملكوتي وأن تكونوا عن يميني عند الدينونة الأخيرة. تذكّروا أنّ ملكوتاً منقسماً ليس بملكوت ولا يمكن أن يدوم. إذاً كونوا متّحدين فيما بينكم في محبّتي، ولأجل عقيدتي. لتكن المحبّة والاتّحاد، المساواة في اللباس فيما بينكم، اقتسام الخيرات، أُخوّة القلوب، هي زيّ المسيحي، لأنّ هذا سوف يكون اسم رعاياي. الكلّ للواحد، والواحد للكلّ.

 

مَن يملك، فليعطِ بتواضع. ومَن ليس له، فليَقبَل بتواضع ويعرض بتواضع احتياجاته لإخوته، عالماً أنّهم كذلك، وليسمع الإخوة بودّ احتياجات الإخوة، شاعرين أنّهم كذلك بالنسبة إليهم. تذكّروا أنّ معلّمكم كثيراً ما تعرّض للجوع والبرد، وألف احتياج آخر وحرمان، وعرضها بتواضع على الناس، وهو، كلمة الله. تذكّروا أنّ الّذي يشفق سوف يكافأ عندما لا يعطي سوى جرعة ماء. تذكّروا أنّ العطاء أفضل مِن الأخذ. إنّ الفقير في هذه الذكريات الثلاث يجد قوّة ليطلب دون الشعور بالتذلّل، مفكّراً أنّني قمتُ به قبله، وأن يغفر إن رُفِض، مفكّراً أنّ مرّات كثيرة قد رُفِض أن يعطى لابن الإنسان مكان وطعام يُعطى لكلاب حراسة القطيع. وليكن الثريّ كريماً في العطاء مِن ثروته، وهو يفكّر أنّ المال الدنيء، المال البغيض الّذي يحرّض الشيطان على طلبه، وهو الـمُسبّب لتسعين في المئة مِن خراب العالم، إذا ما أُعطي بمحبّة فهو يتحوّل إلى جوهرة فردوسيّة خالدة.

 

كونوا متسربلين بفضائلكم. ولتكن عظيمة إنّما لا يعلمها سوى الله وحده. لا تكونوا كالفرّيسيّين الّذين يلبسون التمائم الأعرض والأهداب الأطول ويحبّون المقاعد الأولى في المجامع وآيات الإجلال في الساحات، ويريدون أن يدعوهم الناس: "رابّي". ليس لكم سوى معلّم واحد: المسيح. أنتم، يا مَن ستكونون في المستقبل العلماء الجدد، أتكلّم إليكم، يا رسلي وتلاميذي، تذكّروا أنّني أنا وحدي معلّمكم. وسأكونه كذلك أيضاً عندما لا أعود في وسطكم. لأنّ الحكمة وحدها هي المعلّمة. إذاً فلا تجعلوا أنفسكم تُدعَون معلّمين، لأنّكم أنتم أنفسكم تلاميذ.

 

لا تطالبوا بأن تُدعوا آباء ولا تَدعُوا أباً أحداً على الأرض، لأنّ واحداً فقط هو أب الجميع: أبوكم الّذي في السماوات. فلتمنحكم هذه الحقيقة حكمة الشعور حقّاً بأنّكم جميعكم إخوة فيما بينكم، سواء الّذين يَقودون أو الّذين يُقادون، وبالتالي تحابّوا كإخوة صالحين. ولا يجعل أحد مِن الـمُوَجِّهين نفسه يدعى مُرشِداً لأنّ الـمُرشِد الوحيد لجميعكم: المسيح. وليكن الكبير فيكم لكم خادماً. ليس تذلّلاً أن يكون المرء خادم خدّام الله، بل هو اقتداء بي، أنا المتواضع والوديع، المستعدّ دائماً لمحبّة إخوتي في آدم ومساعدتهم بالسلطان الّذي فيّ كوني الله. إنّني لم أَذلّ الألوهة بخدمتي البشر. فالـمَلِك الحقّ ليس هو مَن يسود الناس، بل انفعالات الإنسان: وعلى رأسها جميعاً الكبرياء الأخرق. تذكّروا: مَن يتواضع سيرتفع ومَن يرفع نفسه سيتّضع.

 

المرأة، الّتي تكلّم عنها الربّ في سفر التكوين الثاني2، العذراء المعنيّة في إشَعياء3، الأُمّ-العذراء لعمّانوئيل، قد تنبَّأت بهذه الحقيقة للعهد الجديد حينما أنشدت: "الربّ حطّ المقتدرين عن العروش ورفع المتواضعين". إنّ حكمة الله كانت تتكلّم على شفتيّ مَن هي أُمّ النعمة وعرش الحكمة. وأكرّر الأقوال الملهَمة الّتي مجّدتني، متّحداً بالآب والروح القدس، في أعمالنا الرائعة عندما، دون إساءة للبتول، أنا، الإنسان، تكوّنتُ في أحشائها دون أن أتوقّف عن كوني الله. فلتكن هذه قاعدة للّذين يشاؤون ولادة المسيح في قلوبهم وبلوغ ملكوت المسيح. لن يكون يسوع: المخلّص، ولا المسيح: الربّ، ولن يكون ملكوت السماوات للمتكبّرين، ولا للزناة، ولا للوثنيّين، الّذين يعبدون ذواتهم، وإرادتهم الخاصة.

 

الويل لكم إذاً، أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تظنّون بأنّكم تستطيعوا أن تسدّوا بأحكامكم المتعذرة التنفيذ -الّتي لو كانت حقّاً مؤيّدة مِن الله، لصارت أقفالاً منيعة أمام معظم البشر- الّذين تظنّون بأنّكم تستطيعون إغلاق ملكوت السماوات في وجه الناس الّذين يرفعون أرواحهم إليه ليجدوا القوّة في أيّامهم الأرضيّة الصعبة! الويل لكم يا مَن لا تدخلون، يا مَن لا تريدون الدخول لأنّكم لا تقبلون شريعة الملكوت السماويّ، ولا تدعون الآخرين الّذين هم أمام ذاك الباب الّذي، بتصلّبكم، سلّحتموه بأقفال لم يضعها الله، يدخلون.

 

الويل لكم أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تلتهمون بيوت الأرامل بحجّة إقامة صلوات طويلة. ومِن أجل ذلك ستنالكم دينونة صارمة!

 

الويل لكم، أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تطوفون البرّ والبحر، باذلين خيرات ليست لكم، كي تجعلوا مِن أحدهم متهوّداً، وحينما يحصل ذلك، تجعلونه ابن جهنم، ضعف ما أنتم عليه مِن السوء!

 

الويل لكم أيّها القادة العميان القائلون: "إذا أقسم أحد بالهيكل فَقَسَمه ليس بشيء، ولكن إذا أَقسَم بذهب الهيكل، حينئذ يكون مُلزَماً بِقَسَمه." أيّها الجهّال والعميان! ما الأعظم: الذهب أم الهيكل الّذي يقدّس الذهب؟ والّذين تقولون: "إذا أَقسَم أحد بالمذبح فقَسَمه ليس بشيء، أمّا إذا أَقسَم بالتقدمة الّتي فوق المذبح حينئذ يكون قَسَمه قائماً ويظلّ مُلزَماً بِقَسَمه". أيّها العميان! ما هو الأعظم؟ التقدمة أم المذبح الّذي يقدّس التقدمة؟ فَمَن يُقسِم بالمذبح فهو يُقسِم به وبكلّ ما عليه، ومَن يُقسِم بالهيكل فهو يُقسِم به وبالساكن فيه، ومَن يُقسِم بالسماء فهو يُقسِم بعرش الله وبالجالس عليه.

 

الويل لكم أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تدفعون عشور النعنع والفيجن (نبات بري طبّي) والشبث والكمّون، ومِن ثمّ تهملون الأحكام الأهمّ ممّا في الناموس: العدل والرحمة والأمانة. هذه هي الفضائل الّتي كان يجب التحلّي بها، دون إهمال تلك الأقلّ أهميّة! أيّها القادة العميان، الّذين تُصَفّون الشراب خوفاً مِن عدوى مرض ببلع بعوضة غارقة فيه، ثمّ تبتلعون جَـمَلاً دون الاعتقاد بتنجّسكم بذلك. الويل لكم أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تنقّون خارج الكأس والصحفة، إنّما داخلكم مملوء نهباً ونجاسة. أيّها الفرّيسيّ الأعمى، نَقِّ أوّلاً داخل كأسكَ وصحفتكَ بحيث يتطهّر الخارج أيضاً.

 

الويل لكم أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تطيرون في الظلمات كعصافير الليل [الوطاويط] لأجل أعمال خطيئتكم وتتفاوضون ليلاً مع الوثنيّين، اللصوص والخونة، ومِن ثمّ، في الصباح، تصعدون الهيكل، حَسَني الملبس بعد أن تمسحوا آثار تجاراتكم الخفيّة.

 

الويل لكم يا مَن تُعلّمون شرائع المحبّة والعدل المحتواة في سفر اللاويّين، ثمّ تكونون جشعين، سارقين، كذبة، مفترين، جائرين، ظالمين، مئثارين [محبين للانتقام]، مفعمين كراهية، وتَصلون حدّ أن تصرعوا مَن يضايقكم، حتّى وإن كان مِن دمكم، وأن تُطَلّقوا العذراء الّتي صارت عروسكم، وتتخلّوا عن أطفالكم منها لأنّهم ذوو عاهة، وتتّهموا امرأتكم بالزنى لأنّها لم تعد تعجبكم، أو تتّهمونها بمرض قذر لتتخلّصوا منها، يا مَن أنتم نجسون في قلوبكم الشهوانيّة، حتّى وإن لم تَظهروا هكذا في عيون الناس الّذين يجهلون أفعالكم. إنّكم تشبهون القبور المبيَّضة، الّتي تبدو بهيّة مِن الخارج، فيما داخلها مملوء عظام أموات ونتانة. الأمر ذاته بالنسبة لكم. نعم، الأمر ذاته! ظاهريّاً تبدون أبراراً، أمّا داخلكم فممتلئ رياء وإثماً.

 

الويل لكم أيّها الكَتَبَة والفرّيسيّون المراؤون، الّذين تُشيدون قبوراً فاخرة للأنبياء وتزيّنون مدافن الأبرار قائلين: "لو كنّا في أيّام آبائنا لما كنّا شركاء الّذين أراقوا دم الأنبياء، ولما ساهمنا في ذلك". وهكذا تشهدون على أنفسكم أنّكم بنو قتلة أنبيائكم. وأنتم، فوق ذلك، تطفحون كيل آبائكم... أيا أيّها الحيّات أولاد الأفاعي، كيف تهربون مِن دينونة جهنّم؟

 

لأجل ذلك، أنا، كلمة الله، أقول لكم: أنا، الله، أُرسِل إليكم مِن جديد أنبياء وحكماء وكَتَبَة. فمنهم مَن تقتلون، ومنهم مَن تصلبون، ومنهم مَن تجلدون في محاكمكم ومجامعكم، خارج أسواركم، ومنهم مَن تلاحقون من مدينة إلى مدينة، إلى أن يأتي عليكم كلّ دم ذكيّ سُفِك على الأرض، مِن دم هابيل البارّ إلى دم زكريّا بن بركيا الّذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح، لأنّه مِن محبّته لكم، ذَكّركم بخطيئتكم كي تتوبوا عنها راجعين إلى الربّ.

 

هكذا هو الأمر. إنّكم تكرهون مَن يحبّون خيركم ويدعونكم إلى دروب الربّ حبّاً بكم.

 

الحقّ أقول لكم إنّ كلّ هذا هو على وشك الحدوث، والجريمة ونتائجها. الحقّ أقول لكم إنّ هذا كلّه سيتمّ في هذا الجيل.

 

آه! أورشليم! أورشليم! أورشليم، يا راجمة المرسلين إليكِ وقاتلة أنبيائكِ! كم مرّة أردتُ أن أجمع بنيكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، وأنتِ لم تريدي!

 

الآن اسمعي يا أورشليم! الآن، اسمعوا أنتم جميعاً يا مَن تكرهونني وتكرهون كلّ ما يأتي مِن الله. الآن، اسمعوا أنتم يا مَن تحبّونني والّذين سوف تُجتَذَبون إلى العقاب المحفوظ لـمُضطَهِدي المرسلين مِن الله. واسمعوا أنتم أيضاً يا مَن لستم مِن هذا الشعب ولكنّكم تستمعون إليّ على حدّ سواء، أنتم يا مَن تسمعون، كي تعلموا مَن هو الّذي يكلّمكم ويتنبّأ دون أن يكون بحاجة لدراسة الطيران، شدو العصافير، ولا الظواهر السماويّة وأحشاء الذبائح الحيوانيّة، ولا النار ودخان المحرقات، لأنّ كلّ ما هو مستقبليّ هو حاضر بالنسبة للذي يكلّمكم. "هذا البيت الّذي هو بيتكم سوف يُترَك لكم خراباً. أنا أقول لكم، يقول الربّ، إنّكم مِن الآن لا ترونني حتّى تقولوا أنتم أيضاً: ’مبارك الآتي باسم الربّ‘".»

 

يَظهَر على يسوع التعب والحرّ، بسبب العظة الطويلة المدوّية والحرارة الخانقة لهذا النهار الّذي بلا هواء. تحاصره عند الجدار حشود مِن آلاف الأحداق الّتي ترمقه، شاعراً بكلّ كراهية الّذين يسمعونه مِن تحت أروقة باحة الوثنيّين، وكلّ المحبّة أو على الأقلّ الإعجاب المحيط به، دون اكتراث بالشمس الّتي تضرب ظهور الناس ووجوههم المحمرّة الّتي يتصبّب منها العرق، إنّه يبدو منهكاً بحقّ وبحاجة إلى سلوان. ويلتمسه قائلاً لرسله وللتلاميذ الاثنين والسبعين، الّذين كما أركان عدّة قد شقّوا على مهل ممرّاً وسط الجمع، والّذين هم الآن في الصفّ الأوّل، سدّ محبّة وفيّة حوله: «فلنخرج مِن الهيكل ولنذهب إلى الهواء الطلق وسط الأشجار. أنا محتاج للظلّ، للصمت والانتعاش. الحقّ أقول إنّ هذا المكان يبدو وكأنّه أصبح يحترق بنار الغضب الإلهيّ.»

 

يَشقّون له ممرّاً بصعوبة ويتمكّنون هكذا مِن الخروج مِن أقرب باب، حيث يحاول يسوع جاهداً، ولكن عبثاً، صرف الكثيرين. إنّهم يريدون اتّباعه بأيّ ثمن.

 

أثناء ذلك يتأمّل التلاميذ مكعّب الهيكل الّذي يسطع تحت شمس الظهيرة، ويوحنّا الّذي مِن أفسس يشير للمعلّم إلى عظمة البناء: «انظر أيّة حجارة وأيّ بناء هذا!»

 

«ومع ذلك لن يبقى منه حجر على حجر.» يجيب يسوع.

 

«لا؟ متى؟ كيف؟» يَسأَل كثيرون. ولكنّ يسوع لا يقول.

 

ينـزل مِن جبل مورياح ويخرج مسرعاً مِن المدينة، مارّاً بضاحية عوفل ومِن باب أفرايم أو الفضلات، ملتجئاً أوّلاً إلى قلب حدائق الـمَلِك، إلى أنّ كلّ أولئك الّذين، ليسوا مِن الرُّسُل والتلاميذ، قد أصرّوا على اتّباعه، ينصرفون على مهل عندما مَنَاين، الّذي جعل البوّابات الثقيلة تُفتَح، يتقدّم، مهيباً، كي يقول للجميع: «امضوا. لن يدخل إلى هنا إلاّ الّذين أريدهم أنا أن يدخلوا.»

 

ظِلّ، صمت، عطر أزهار، أريج كافور وقرنفل، قرفة، خزامى وألف نبتة عطريّة أخرى، وخرير جداول تغذّيها بالتأكيد ينابيع وخزّانات قريبة، تحت أروقة مُورِقة، زقزقات العصافير، تجعل مِن هذا المكان استراحة فردوسيّة. تبدو المدينة وكأنّها بعيدة جدّاً بشوارعها الضيّقة، المظلمة بقناطرها أو المشمسة إلى حدّ الإبهار، وروائحها ونتانة مجاريرها الّتي لا تُنظَّف دائماً، ودروبها الّتي يجوبها ذوات الأربع بكثرة لتكون نظيفة، وخاصّة الثانويّة منها.

 

يُفتَرض بحارس الحدائق أنّه يعرف يسوع جيّداً، لأنّه يحيّيه بألفة واحترام معاً، ويَسأَله يسوع عن أخبار أولاده وزوجته.

 

الرجل يودّ أن يستقبل يسوع في منـزله، ولكنّ المعلّم يفضّل السلام المنعش والمريح لحديقة الـمَلِك الفسيحة، روضة استمتاع بحقّ. وقبل أن يذهب خادما لعازر المتفانيان جدّاً واللذان لا يكلاّن، لإحضار سلّة الطعام، يقول لهما يسوع: «قولا لسيّدتيكما أن تأتيا. سنبقى هنا عدّة ساعات، مع أُمّي والتلميذات الوفيّات، وسيكون ذلك رائعاً جدّاً...»

 

«أنتَ متعب جدّاً يا معلّم! وجهكَ ينبئ بهذا.» يلاحظ مَنَاين.

 

«نعم. لدرجة أنّ لا قوّة لي بعد كي أمضي أبعد.»

 

«ولكنّي قدّمتُ لكَ هذه الحدائق مرّات عديدة هذه الأيّام. أنتَ تعلم كم يسرّني أن أقدّم لكَ السلام والسلوان!»

 

«أعلم ذلك يا مَنَاين.»

 

«وأمس أردتَ الذهاب إلى ذاك المكان الحزين! الّذي محيطه قاحل، المجرّد مِن النبات بشكل غريب هذا العام! القريب جدّاً مِن هذا الباب الحزين!»

 

«أردتُ أن أُسعِد رسلي. إنّهم أطفال في العمق، أطفال كبار. انظر إليهم هناك وهم يرتاحون بفرح!... وقد نسوا على الفور ما يُحاك ضدّي خلف هذه الأسوار...»

 

«ونسوا كم أنتَ حزين... ولكن يبدو أنّ لا مجال كثيراً للتنبّه. قد بدا لي المكان أكثر خطراً في مرّات سابقة.»

 

ينظر إليه يسوع ويصمت. كم مِن مرّة رأيتُ فيها يسوع ينظر ويصمت هكذا، في هذه الأيّام الأخيرة!

 

ثمّ يبدأ يسوع بالنظر إلى الرُّسُل والتلاميذ. الّذين خلعوا أغطية الرأس والأردية والنعال كي ينعشوا وجوههم وأطرافهم في مياه الجداول الصغيرة الباردة، ويقتدي بهم كُثُر مِن الاثنين والسبعين تلميذاً الّذين صاروا الآن أكثر عدداً بحقّ، كما أعتقد، الّذين وقد اجتمعوا جميعاً في أُخوّة مثاليّة، فإنّهم يستلقون هنا وهناك للاستراحة، بعيداً بعض الشيء، كي يتركوا يسوع يرتاح في هدوء.

 

كذلك مَنَاين ينسحب كي يتركه في سلام. الجميع يحترمون راحة المعلّم المتعب للغاية. فهو قد لجأ إلى تحت تعريشة ياسمين مُزهِر وكأنّها كوخ منعزل بمنعطف مائيّ يجري بخرير في قناة صغيرة تغطس فيها الأعشاب والزهور. ملجأ سلام حقيقيّ يفضي إليه جسر صغير بعرض شبرين وبطول أربعة أشبار، وله سياج مُزهِر بإكليل مِن تويجات الياسمين.

 

يرجع الخادمان مع آخرين كثيرين لأنّ مرثا أرادت تدبير احتياجات كلّ خدّام الربّ، ويقولون إنّ معلّمتيهما لن تتأخّرا في المجيء.

 

يسوع يستدعي بطرس ويقول له: «مع أخي يعقوب، بارك، قدِّم، ووزّع مثلما أفعل أنا.»

 

«أن أوزّع نعم، أمّا أن أبارك فلا يا رب. فلكَ أنتَ أن تقدّم وتبارك، لا أنا.»

 

«عندما كنتَ على رأس رفاقكَ، بعيداً عنّي، ألم تكن تفعل ذلك؟»

 

«بلى. ولكن حينذاك... كنتُ مجبراً على فِعله. الآن أنتَ معنا وأنتَ مَن يبارك. يبدو لي هذا أفضل عندما تُقدّم أنتَ مِن أجلنا وتوزّع علينا...» ويعانق سمعان المخلص يسوعه، الجالس منهكاً في ذاك الظلّ، ويميل الرأس على كتفيه، سعيداً لتمكّنه مِن أن يضمّه ويعانقه هكذا…

 

ينهض يسوع ويسعده. يذهب صوب التلاميذ، يقدّم الطعام، يباركه، يقسمه، ينظر إليهم يأكلون بسرور ويقول لهم: «ناموا بعدها، ارتاحوا ما دامت الساعة، وكي تستطيعوا بعدها أن تسهروا وتصلّوا عندما ستحتاجون لذلك، وحتّى لا يغلب أعينكم وأرواحكم النعاس مِن التعب والإرهاق عندما تكون حاجتكم إلى النشاط والصحو.»

 

«ألا تبقى معنا؟ ألا تأكل؟»

 

«دعوني أرتاح. أنا محتاج لهذا فقط؟ كُلوا، كُلوا!» يلاطف الّذين هم في طريقه، وهو يمرّ، ويعود إلى مكانه…

 

حلو هو وعذب مجيء الأُمّ إلى ابنها. تتقدّم مريم بثقة، لأنّ مَنَاين، المتأهّب عند البوّابة والأقلّ تعباً مِن الآخرين، يشير لها إلى مكان يسوع.

 

الأخريات، وهناك كلّ التلميذات اليهوديّات، ومِن الرومانيّات هناك فاليريا فقط، ينتظرن قليلاً، بصمت كي لا يوقظن التلاميذ النائمين في ظلّ أوراق الأشجار، أشبه بالنعاج الممدّدة وسط الأعشاب، إنّها الساعة السادسة.

 

تدخل مريم تحت تعريشة الياسمين دون أن تجعل الجسر الخشبيّ الصغير، ولا حصى التربة تصدر صوتاً، وبحرص أكبر تدنو مِن ابنها، الّذي غلبه التعب فنام ورأسه على مائدة حجريّة تحته، يده اليسرى بمثابة وسادة تحت وجهه المحجوب بشعره. تجلس مريم بصبر قرب ابنها المتعب. تتأمّله... كثيراً... وعلى شفتيها ابتسامة حزينة ومُـحِبَّة، بينما دموعها الصامتة تسقط على صدرها. ولكن إن تكن شفتاها مقفلتين وصامتتين، فإنّ قلبها يصلّي بكلّ القوّة الّتي يملكها، وقدرة هذه الصلاة وألمها تُفشيهما يداها المضمومتان على ركبتيها، المتلاصقتين، المتشابكتين كي لا ترتجفا ومع ذلك تهتزّان برجفات خفيفة. يدان لا تنفكّان إلاّ لطرد ذبابة مزعجة تريد أن تستقرّ على النائم وقد توقظه.

 

إنّها الأُمّ الّتي تسهر على ابنها. هو النوم الأخير لابنها الّذي يمكنها السهر عليه. وإذا كان وجه الأُمّ في هذا الأربعاء الفصحيّ يختلف عن ذاك الّذي ليوم ولادة الربّ، ذلك أنّ الحزن قد جعله شاحباً وغائر القسمات، إلاّ أنّ له ذات نقاء النظرة الـمُحِبَّة، نفس العناية المرتعشة الّتي كانت لها حينذاك وهي منحنية على مذود بيت لحم، تحمي بمحبّتها أوّل نوم غير مريح لطفلها.

 

يتحرّك يسوع فتمسح مريم عينيها بسرعة حتّى لا تُظهِر الدموع لابنها. ولكنّ يسوع لم يستيقظ. إنّه يغيّر وضعيّة وجهه فقط، ليستدير إلى الجهة الأخرى، ومريم تعود إلى جمودها ومراقبته.

 

ولكنّ شيئاً ما يفطر قلب مريم. إنّه سماع ابنها يبكي في نومه، يتمتم بشكل مبهم لأنّه يتكلّم وفمه ملتصق بذراعه وثوبه، ويذكر اسم يهوذا…

 

تنهض مريم، تقترب، تنحني على ابنها، تتابع تلك التمتمة المبهمة، ضاغطة بيديها على قلبها. فكلام يسوع، المتقطّع، ولكن ليس إلى الدرجة الّتي لا يمكن معها متابعته، يجعل المرء يدرك أنّه يحلم ويحلم مِن جديد بالحاضر والماضي، ومِن ثمّ بالمستقبل، إلى إنّ يستيقظ منتفضاً كأنّه يهرب مِن أمر مهول. ولكنّه يجد صدر أُمّه، ذراعيّ أُمّه، ابتسامة أُمّه، صوت أُمّه العذب، قُبلتها، ملاطفاتها، ووشاحها الّذي يمرّ برقّة على وجهه ليمسح دموعه وعرقه، وهي تقول: «كنتَ منزعجاً وتحلم... أنتَ تتصبّب عرقاً ومتعب يا بنيّ.» ثمّ تمشط شعره الأشعث، وتمسح وجهه وتعانقه، تضمّه إلى قلبها، دون أن تتمكّن مِن أخذه على ركبتيها كما عندما كان صغيراً.

 

يبتسم لها يسوع قائلاً: «إنّكِ دائماً الأُمّ. الأُمّ الّتي تواسي. الأُمّ الّتي تعوّض عن كلّ شيء. أُمّي!» ويُجلسها إلى جانبه، تاركاً لها يده على ركبتيها، وتأخذ مريم بين يديها الصغيرتين هذه اليد الطويلة، المتميّزة جدّاً ومع ذلك القويّة جدّاً، يد حرفيّ، تداعب أصابعه وظهر يده، تُملّس عروقه الّتي انتفخت بينما كانت متدلّية أثناء نومه. تحاول أن تُروّح عنه…

 

«لقد أتينا. إنّنا جميعنا هنا. كذلك فاليريا. الأخريات هنّ في قلعة أنطونيا. لقد طلبتهنّ كلوديا، "التي هي في غاية الحزن" هذا ما قالته مُعتَقَتها. تقول، لا أعرف لأيّ سبب، أنّها تُنبئ بالكثير مِن الدموع. خرافات!... الله وحده يعلم الأمور...»

 

«أين التلميذات؟»

 

«هناك، عند مدخل الحدائق. أرادت مرثا أن تُعدّ لكَ طعاماً وشراباً منعشاً ومغذّياً متنبّهة لكونكَ منهكاً. أمّا أنا فقد أحضرتُ لكَ، ما أنتَ تحبّ دائماً، انظر. هذه هي مشاركتي. إنّها الأفضل لأنّها مِن أُمّكَ.» تُريه عسلاً وفطيرة صغيرة مِن الخبز تدهنها بالعسل كي تعطيها لابنها قائلةً: «كما في الناصرة، عندما كنتَ تأخذ قيلولتكَ في الساعة الأكثر حرارة ثمّ كنتَ تستيقظ وأنتَ تشعر بالحرّ، وكنتُ آتي أنا مِن المغارة الرطبة مع هذه الوجبة الخفيفة.» تتوقّف لأنّ صوتها يرتعش.

 

ينظر إليها ابنها ومِن ثمّ يقول: «وعندما كان يوسف، كنتِ تُحضرين الوجبة الخفيفة لاثنين، والماء البارد مِن الجرّة الفخاريّة الموضوعة في المجرى المائيّ لتصير أكثر برودة، وما كان يجعلها أكثر انتعاشاً أعواد النعناع البرّيّ الّتي كنتِ تلقينها داخلها. كم مِن النعناع هناك تحت أشجار الزيتون! وكم مِن النحل على أزهار النعناع! لقد كان لعسلنا دائماً شيء مِن ذلك العطر...» يفكّر... يتذكّر…

 

«أتعلم؟ لقد رأينا حلفى. يوسف تأخّر لأنّ واحداً مِن أطفاله مريض قليلاً. إنّما غداً سيكون هنا بالتأكيد مع سمعان. سالومة الّتي لسمعان تحرس منـزلنا ومنـزل مريم.»

 

«أُمّي، عندما ستكونين وحيدة، مع مَن ستقيمين؟»

 

«مع مَن تقول يا بنيّ. لقد أطعتُكَ قبل أن تكون لي ابناً. وسأواصل الطاعة بعد أن تغادرني.» صوتها يرتعش، إنّما تعلو شفتيها ابتسامة بطوليّة.

 

«إنّكِ تُحسِنين الطاعة. يا لها مِن راحة معكِ! إذ هل ترين يا أُمّي؟ لا يمكن للعالم أن يدرك، ولكنّني أجد كلّ الراحة بقرب الّذين يطيعون... نعم. الله يرتاح بقرب المطيعين. لم يكن ليتألّم الله، ويتعب، لو لم يكن العصيان قد أتى إلى العالم. كلّ ذلك يحصل بسبب عدم الطاعة. مِن ذلك يأتي ألم العالم... منه يأتي ألمنا.»

 

«ولكن أيضاً سلامنا يا يسوع. لأنّنا نعلم أنّ طاعتنا تعزّي الأزليّ. آه! بالنسبة إليّ بشكل خاص، هي هذه الفكرة! أنّه قد أُعطيَ لي، أنا المخلوقة، أن أعزّي خالقي!»

 

«آه! يا لفرح الله! إنّكِ لا تعلمين، يا لفرحنا، ما يعنيه لنا قولكِ هذا! إنّه يفوق تناغم الجوقات السماويّة... مباركة! مباركة أنتِ، الّتي تعلّمينني منتهى الطاعة، وتجعلينها لي بتلك الفكرة، مستحبّة جدّاً لإتمامها!»

 

«أنتَ لستَ بحاجة لأن أعلّمكَ يا يسوعي، لقد تعلّمتُ كلّ شيء منكَ.»

 

«يسوع الإنسان، قد تعلّم كلّ شيء مِن مريم الّتي مِن الناصرة.»

 

«نوركَ هو الّذي كان يخرج منّي. النور الّذي هو أنتَ، والّذي كان آتياً مِن النور الأبديّ المتلاشي تحت مظهر بشريّ... لقد أخبرني أخوا يُوَنّا بالخطبة الّتي ألقيتَها. كانا مفتونَين إعجاباً. لقد كنتَ شجاعاً مع الفرّيسيّين...»

 

«إنّها ساعة الحقائق الفائقة يا أُمّي. بالنسبة لهم تبقى حقائق ميتة، أمّا للآخرين ستكون حقائق حيّة. وبالمحبّة والقسوة عليّ خوض المعركة الأخيرة لأنتشلهم مِن الشرّ.»

 

«هذا صحيح. لقد قالوا لي إنّ غَمَالائيل، الّذي كان يقف مع الآخرين في إحدى قاعات الأروقة، قال في النهاية، في حين كان الكثيرون غاضبين: "إن لم نرد التوبيخ، علينا التصرّف باستقامة." ومضى بعد هذه الملاحظة.»

 

«يسرّني أن يكون الرابّي قد سمعني. مَن قال ذلك لكِ؟»

 

«لعازر. وقال له ذلك إليعازر، الّذي كان في القاعة مع الآخرين. لعازر حضر الساعة السادسة. ألقى التحيّة ورحل دون الاستماع لأختيه اللتين كانتا تريدان استبقاءه حتّى المغيب. طلب إرسال يوحنّا، أو آخرين، لأخذ الثمار والورود، الّتي هي جاهزة تماماً.»

 

«سأرسل يوحنّا، غداً.»

 

«لعازر يحضر يوميّاً. ولكنّ مريم غاضبة إذ تقول إنه يبدو كالطيف. يصعد إلى الهيكل، يأتي، يُصدِر أوامره ثمّ يرحل.»

 

«كذلك لعازر يُحسِن الطاعة. أنا مَن أمره بذلك. لأنّه هو أيضاً عرضة للخطر. ولكن لا تخبري الأختين. لن يحصل له شيء. والآن هيّا بنا نذهب إلى التلميذات.»

 

«لا تتحرّك. أنا سأستدعيهنّ. فالتلاميذ كلّهم نيام...»

 

«وسندعهم للنوم. فّهم ينامون قليلاً في الليل، إذ إنّني أُعلّمهم في سكون جَثْسَيْماني.»

 

تخرج مريم وتعود مع النسوة، اللواتي يبدين وكأنهنّ أصبحن بلا وزن، بقدر ما كانت مشيتهنّ خفيفة.

 

يلقين عليه التحيّة بتبجيلهنّ العميق، وحدها مريم الّتي لحلفى بأكثر ألفة. تُخرِج مرثا مِن كيس كبير جرّة تنضح، بينما تُخرِج مريم مِن آنية مسامية أيضاً، ثماراً طازجة مِن بيت عنيا وتضعها على المنضدة بجوار ما أعدّته أختها، أي حمامة مشويّة على النار، مقرمشة، شهيّة، وتتوسّل إلى يسوع أن يتذوّقها، قائلةً: «كُل، هذا اللحم مغذٍّ. أنا مَن أعددتُه.»

 

يُوَنّا مِن جهتها قد أحضرت خلاًّ ورديّاً، تشرح: «إنّه منعش للغاية في بدايات الحرّ هذا. يستخدمه زوجي أيضاً حينما يكون تعباً في جولاته الطويلة.»

 

«نحن ليس لدينا شيء.» تعتذر مريم سالومة ومريم الّتي لحلفى وسُوسَنّة وإليز. وتقول نيقي وفاليريا بدورهما: «ونحن كذلك. لم نكن نعلم أنّنا سنأتي.»

 

«لقد قدّمتنّ لي كلّ قلوبكنّ. هذا يكفيني. وستقدّمن لي المزيد...»

 

يأكل، ولكن بالأخصّ يشرب الماء البارد الممزوج بالعسل الّذي سكبته له مرثا مِن الجرّة الفخاريّة، والثمار الطازجة المنعشة للمُنهَك.

 

التلميذات لا يتكلّمن كثيراً. ينظرن إليه وهو يجدّد قواه. عيونهنّ تبوح بالمحبّة والقلق. وفجأة تجهش إليز بالبكاء وتعتذر قائلة: «لا أدري. قلبي مثقل بالحزن...»

 

«نحن جميعاً حزينات، حتّى كلوديا في قصرها...» تقول فاليريا.

 

«أودّ لو تكون الآن العنصرة.» تتمتم سالومة.

 

«أنا على العكس، أريد إيقاف الزمن عند هذه الساعة.» تقول مريم المجدليّة.

 

«ستكونين أنانيّة يا مريم.» يجيبها يسوع.

 

«لماذا يا رابّوني؟»

 

«لأنّكِ ستكونين تريدين فرحة الفداء لنفسكِ فقط. هناك الآلاف والملايين ينتظرون هذه الساعة، أو الّذين بسبب هذه الساعة سيكونون مُفتَدين.»

 

«هذا صحيح، لم أكن أفكّر بهذا...» تحني رأسها وهي تعضّ شفتيها كي لا تُرى الدموع الّتي تنساب مِن عينيها ورعشة شفتيها. ولكنّها المقاتلة الشُجاعة دائماً، وتقول: «إن أتيتَ غداً تستطيع أخذ الثوب الّذي أرسلتَه. إنّه منعش ونظيف، جدير بالعشاء الفصحيّ.»

 

«سآتي... أليس لديكنّ ما تقلنه لي؟ أنتنّ صامتات ومكتئبات. ألم أعد بعد يسوع؟...» ويبتسم للنسوة مشجّعاً.

 

«آه! أنتَ هو! ولكنّكَ عظيم للغاية هذه الأيّام، حتّى إنّني لم أعد قادرة على أن أرى فيكَ الطفل الصغير الّذي كنتُ أحمله بين ذراعيّ.» تهتف مريم الّتي لحلفى.

 

«وأنا، الرابّي البسيط الّذي كان يدخل مطبخي بحثاً عن يوحنّا ويعقوب.» تقول سالومة.

 

«أنا قد عرفتُكَ على الدوام هكذا: مَلِك نفسي!» تُعلِن مريم المجدليّة.

 

ويُوَنّا، المفعمة عذوبة وادعة: «وأنا أيضاً: الإلهيّ، منذ أن تجلّيت لي في الحلم وقد كنتُ أحتضر كي تدعوني إلى الحياة.»

 

«لقد منحتَنا كلّ شيء أيا ربّ، كلّ شيء!» تقول إليز متنهّدة وقد تمالكت نفسها.

 

«وأنتنّ قد أعطيتنّني كلّ شيء.»

 

«قليل جدّاً!» يقلن جميعاً.

 

«لن يتوقّف العطاء بعد هذه الساعة. سيتوقّف فقط عندما تصبحن معي في ملكوتي. تلميذاتي المخلصات. لن تجلسن، لا، إلى جانبي، على الاثنيّ عشر كرسيّاً لإدانة أسباط إسرائيل الاثني عشر، إنّما ستنشدن الهوشعنا مع الملائكة، لتشكّلن جوقة شرف لأُمّي، وحينذاك، كما الآن، سيفرح قلب المسيح وهو يتأمّلكنّ.»

 

«أنا شابّة! وطويل هو الوقت اللازم كي أصعد إلى ملكوتكَ. طوباكِ يا أناليا!» تقول سُوسَنّة.

 

«أنا عجوز، وسعيدة لأنّني كذلك. أتمنّى أن يكون موتي قريباً.» تقول إليز.

 

«أنا لي أبناء… وأودّ أن أخدمهم، خدّام الله هؤلاء!» تتنهّد مريم الّتي لحلفى.

 

«لا تَنْسَنا يا ربّ!» تقول المجدليّة بقلق بالغ، أحسبها صيحة مِن نفسها، لأنّ صوتها رغم خفوته كي لا توقظ النائمين، إلاّ أنّ له قوّة تأثير أكثر مِن صيحة.

 

«لن أنساكنّ. سآتي. أنتِ تعلمين، يا يُوَنّا، أنّ باستطاعتي أن آتي حتّى وإن كنتُ بعيداً جدّاً… وعلى الأخريات أن يؤمنّ بذلك. وسأترك لكنّ شيئاً... سرّاً يحفظني فيكنّ وأنتنّ فيّ، إلى أن نكون معاً، أنتنّ وأنا، في ملكوت الله. الآن اذهبن. ستقلن إنّني قلتُ لكنّ أشياء قليلة، تكاد تكون عديمة الجدوى لا تستدعي قدومكنّ. ولكنّي رغبتُ أن تكون حولي قلوب أحبّتني بلا حساب. لأجل ذاتي. لأجل ذاتي أنا: يسوع. ليس مَلِك إسرائيل المستقبليّ الّذي يحلمون به. اذهبن. ولتكنّ مباركات مرّة أخرى. كذلك الأخريات اللواتي لسن هنا، إنّما اللواتي يفكّرن بي بمحبّة: حنّة، ميرتا، أنستاسيا، نُعْمي، وسِنْتيخي البعيدة، وفوتينا، وأغليّا وسارة، مارسيل، ابنتيّ فيلبّس، ومريام بنت يائيروس، والعذارى، والمفتَدَيات، والزوجات، والأُمّهات اللواتي أتين إليّ، وكنّ لي أخوات وأُمّهات، وأفضل، آه! أفضل جدّاً مِن الرجال، حتّى الأفضل منهم!... كلهنّ، كلهنّ! أباركهنّ جميعاً. إنّ النعمة قد شرعت بالنزول، النعمة والمغفرة، على المرأة، ببركتي هذه أمنحكنّ. اذهبن...» يصرفهنّ مستبقياً أُمّه: «قبل المساء سأكون في قصر لعازر. أنا بحاجة لأن أراكِ بعد. وسيكون معي يوحنّا. لكنّي لا أريد سواكِ، يا أُمّي والمريمات الأخريات، ومرثا وسُوسَنّة. أنا تعب للغاية...»

 

«لن يكون أحد سوانا. وداعاً يا بنيّ...»

 

يتعانقان. ينفصلان... تمضي مريم على مهل. تلتفت قبل أن تخرج. وتلتفت قبل مغادرة الجسر الصغير. وتستدير بعد، طالما هي تستطيع رؤية يسوع... يبدو أنّها لا تستطيع الابتعاد عنه…

 

يسوع بمفرده مرّة أخرى. ينهض ويخرج. يذهب لمناداة يوحنّا الّذي ينام منبطحاً وسط الزهور كطفل، ويعطيه جرّة الخلّ الورديّ الصغيرة الّتي أحضرتها له يُوَنّا، قائلاً له: «سنذهب هذا المساء إلى أُمّي، إنّما كلانا فقط.»

 

«فهمتُ. هل أتين؟»

 

«نعم. فضّلتُ ألاّ أوقظكم...»

 

«أحسنتَ صنعاً. ليكون فرحكَ أعظم. هنّ يعرفن أن يحببنكَ بأفضل منّا...» يقول بحزن دامع العين.

 

«تعال معي.»

 

يتبعه يوحنّا.

 

«ما بكَ؟» يَسأَله يسوع عندما يصبحان مِن جديد في ظلّ التعريشة الخضراء حيث ما يزال هناك طعام.

 

«يا معلّم، نحن في غاية السوء. جميعنا. لا طاعة فينا... ولا رغبة في البقاء معكَ. حتّى بطرس وسمعان قد ابتعدا. لا أدري إلى أين. ويهوذا قد وجد في هذا الفرصة للمشاجرة.»

 

«هل رحل يهوذا؟»

 

«لا يا ربّ، لم يرحل. يقول إنّه ليس بحاجة لذلك، وإنّه ليس شريكاً في الدسائس الّتي نقوم بها للحصول على حماية لكَ. ولكن إن ذهبتُ أنا إلى حنّان، أو الآخرون إلى الجليليّين الّذين يقيمون هنا، فليس هذا للشرّ!... ولا أظنّ أنّ سمعان بن يونا وسمعان الغيور قادران على الحيل المشبوهة...»

 

«لا تكترث لذلك. بالفعل لا يحتاج يهوذا لأن يمضي أثناء راحتكم. فهو يعلم متى وأين يذهب ليكمل كلّ ما عليه فِعله.»

 

«وإذاً لماذا يتكلّم هكذا؟ هذا ليس حسناً أمام التلاميذ!»

 

«ليس حسناً ولكنّه هكذا. اهدأ يا حَمَلي.»

 

«أنا، حَمَلك؟ لا حَمَل سواكَ!»

 

«نعم، أنتَ. أنا حَمَل الله، وأنتَ حَمَل حَمَل الله.»

 

«آه!!! مرّة أخرى، في الأيّام الأولى الّتي كنتُ فيها معكَ، قلتَ لي هذا الكلام. كنّا معا بمفردنا كما الآن، وسط الخضرة، كما الآن. وكان ذلك في الفصل الجميل.» يوحنّا كان مستمتعاً للغاية بالذكرى الّتي تعود. ويتمتم: «أنا دائماً، وما زلت حَمَل حَمَل الله...»

 

يلاطفه يسوع. ويقدّم له قطعة مِن الحمام المشويّ الباقي على المنضدة ملفوفاً بورقة رقّ. ثمّ يفتح تيناً لذيذاً ويقدمّه له، فَرِحاً لرؤيته يأكل. يجلس يسوع أمامه عند حافّة المنضدة ويمعن النظر بيوحنّا بحيث أنّ هذا يَسأَله: «لماذا تنظر إليّ هكذا؟ هل لأنّني آكل بنهم؟»

 

«لا. لأنّكَ مثل طفل... آه! يا محبوبي! كم أحبّكَ مِن أجل قلبكَ!» وينحني يسوع ليقبّل شعر الرسول الأشقر ويقول له: «ابق هكذا، دائماً هكذا، بقلبكَ الّذي بلا كبرياء ولا حقد. هكذا، حتّى في أوقات هيجان الوحشيّة. لا تقتدِ بمن يخطئون يا ولدي.»

 

يوحنّا مأخوذ بألمه ويقول: «ولكن أنا لا يمكنني الاعتقاد بأنّ سمعان وبطرس...»

 

«إنّكَ لتخدع نفسكَ بحقّ إن كنتَ تظنّهما خاطئَين. اشرب. إنّه شراب طيّب ومنعش. هي مرثا الّتي أعدّته... الآن استرجعتَ قواكَ. فأنا متأكّد أنّكَ لم تكن قد أنهيتَ طعامكَ...»

 

«هذا صحيح. لقد غلبني البكاء. فبالفعل أن يكرهنا العالم، هذا مفهوم. أمّا أن يلمّح أحدنا بـ...»

 

«لا تعد تفكّر بذلك. أنتَ وأنا نعلم نزاهة سمعان والغيور. وهذا يكفي. وأنتَ تعلم، للأسف، أنّ يهوذا خاطئ. ولكن اصمت. عندما تمرّ سنوات وسنوات، ويصبح مِن الصواب أن تفصح عن كلّ هول ألمي، حينذاك، حتّى ما عانيتُه مِن تصرّفات هذا الرجل، بالإضافة إلى ما عانيتُه منه كرسول. هيّا بنا. آن أوان ترك هذا المكان للذهاب إلى معسكر الجليليّين و...»

 

«هل سنقضي هذه الليلة كذلك هناك؟ وهل نذهب قبل ذلك إلى جَثْسَيْماني؟ كان يهوذا يريد أن يعرف. يقول إنّه تعب مِن المكوث تحت الندى، ومع استراحة قصيرة جدّاً وغير مريحة.»

 

«سينتهي هذا قريباً. ولكن لن أفصح ليهوذا عن نواياي...»

 

«لستَ ملزماً بذلك. فأنتَ مَن عليكَ أن تقودنا، لا نحن مَن علينا أن نقودكَ.» يوحنّا أبعد ما يكون عن أن يفشي أنّه لا يفهم حتّى سبب الحذر الّذي بموجبه يرفض يسوع بشكل مطلق، منذ بضعة أيّام، أن يقول ما ينوي فِعله.

 

ها هما وسط النائمين. يناديانهم. يستيقظون. مِن جهته مَنَاين، إذ انتهت مهمّته، يعتذر مِن المعلّم عن عدم تمكّنه البقاء، وعن عدم قدرته على أن يكون إلى جانبه في الغد في الهيكل، لأنّ عليه البقاء في القصر. وأثناء قوله هذا يمعن النظر في بطرس وسمعان، اللذين عادا في تلك الأثناء، ويشير بطرس بإشارة سريعة مِن رأسه كما ليقول: «فهمتُ.»

 

يَخرجون مِن الحدائق. ما يزال الجوّ حارّاً. الشمس ما تزال ساطعة، ولكن نسمة المساء تلطّف الحرارة وتدفع بعض الغيوم الصغيرة في السماء الصافية.

 

ينطلقون صعوداً عبر سلوام، متجنّبين أماكن البرص، حيث يحمل سمعان الغيور ما بقي مِن طعامهم، إلى العدد القليل المتبقّي الّذين لم يُحسِنوا أن يؤمنوا بيسوع.

 

متّياس، الراعي السابق، يقترب مِن يسوع ويَسأَله: «ربّي ومعلّمي، فكّرتُ كثيراً مع رفاقي في كلامكَ حتّى أخذ منّا التعب كلّ مأخذ، ونمنا قبل أن نجد إجابة على الأسئلة الّتي كنّا قد طرحناها على أنفسنا. والآن، نحن أكثر غباءً ممّا سبق. فلو أجدنا فهم عظات هذه الأيام، فأنتَ تنبّأتَ بأنّ أشياء كثيرة ستتغيّر، رغم بقاء الشريعة بلا تغيير، وأنّه يجب أن نشيّد هيكلاً جديداً، مع أنبياء جدد، حكماء وكَتَبَة، وستنشب ضدّه الحروب، ولكنّه لن يفنى، بينما هو، إن فهمتُ جيّداً، يبدو وكأنّ مصيره الفناء.»

 

«مصيره الفناء. تذكّر نبؤة دانيال...»

 

«ولكن نحن، الفقراء وقليلي العدد، كيف سيمكننا أن نبنيه مِن جديد إن كان الملوك قد بنوا هذا بصعوبة؟ وأين سنبنيه؟ ليس هنا، لأنّكَ تقول أنّ هذا المكان سيُترك خراباً إلى أن يباركوكَ كمُرسَل مِن الله.»

 

«الأمر هو هكذا.»

 

«في ملكوتكَ، لا. نحن مقتنعون بأنّ ملكوتكَ روحيّ. وإذن كيف، وأين سنبنيه؟ بالأمس قلتَ أنّ الهيكل الحقيقيّ -وهذا إذاً ليس الهيكل الحقيقيّ؟- أنّ الهيكل الحقيقيّ، وحينما يظنّون أنّهم قد هدموه، حينذاك سيرتفع منتصراً نحو أورشليم الحقيقيّة. أين هي؟ لقد صرنا مشوّشين كثيراً.»

 

«هكذا يكون. إنّ الأعداء سيهدمون الهيكل الحقيقيّ. وأنا في ثلاثة أيّام أقيمه مجدّداً، ولن يعرف المكائد بعد، بارتفاعه حيث لا يستطيع إنسان أن يُلحِق به الأذى.

 

فيما يخصّ ملكوت الله، فهو فيكم وحيثما وُجِد أناس يؤمنون بي. مشتّت هو الآن، وسينتشر في الأرض عبر العصور. ثمّ سيغدو أبديّاً، واحداً، كاملاً في السماء. فهناك، في ملكوت الله، سيُشَاد الهيكل الجديد، أي حيث تكون الأرواح الّتي تقبل مذهبي، مذهب ملكوت الله، وتمارس الوصايا. كيف سيُشاد إن كنتم فقراء وقليلي العدد؟ آه! الحقّ أنّ لا حاجة لمال ولا قوى، سواء فرديّة أو جماعيّة، لبناء صرح مسكن الله الجديد. إنّ ملكوت الله فيكم، وباتّحاد كلّ الّذين سيكون فيهم ملكوت الله، كلّ الّذين سيكون الله فيهم، الله: النعمة؛ الله: الحياة؛ الله: النور؛ الله: المحبّة، سيُشاد ملكوت الله العظيم على الأرض، أورشليم الجديدة الّتي ستمتدّ حتى أطراف العالم، والّتي، حيث هي تامّة وكاملة، دون نقائص، ودون ظلال، ستعيش إلى الأبد في السماء.

 

كيف ستعملون لتشيّدوا الهيكل والمدينة؟ آه! ليس أنتم، بل الله هو مَن سيشيّد هذه الأماكن الجديدة. أنتم عليكم فقط أن تعطوه إرادتكم الصالحة. الإرادة الصالحة هي الثبات فيّ. الإرادة الصالحة هي عيش مذهبي. الإرادة الصالحة هي البقاء متّحدين. الاتّحاد بي وصولاً إلى تشكيل جسد واحد تتغذّى كلّ أجزائه وحتّى الأصغر منها، مِن نسغ واحد. صَرح واحد يرتكز على أساس واحد وقوام واحد بملاط سرّيّ. ولكن بدون مساعدة الآب، الّذي علّمتُكم أن تُصلّوا له والّذي سوف أصلّي له من أجلكم قبل موتي، لن تستطيعوا أن تكونوا في المحبّة، في الحقّ، في الحياة، أي فيّ أيضاً ومعي في الله الآب، وفي الله المحبّة، لأنّنا ألوهيّة واحدة، لهذا السبب أقول لكم بأن تحظوا بالله في داخلكم حتّى تتمكّنوا مِن أن تكونوا: الهيكل الّذي لن يعرف نهاية. مِن أنفسكم لا تستطيعون ذلك. إن لم يبن الله، وهو لا يمكنه أن يبني حيث لا يمكنه أن يتّخذ له مسكناً، فباطلاً يجهد البشر للبناء أو إعادة البناء. الهيكل الجديد، كنيستي، سترتفع فقط عندما يكون قلبكم مقام لله، وهو، معكم، أنتم الحجارة الحيّة، مَن سيبني كنيسته.»

 

«ولكن ألم تقل إنّ سمعان بن يونا هو رئيسها، الصخرة الّتي عليها ستُبنى كنيستكَ؟ وألم تجعلنا ندرك أيضاً أنّكَ أنتَ حجر الزاوية؟ مَن يكون الرئيس إذاً؟ هل هذه الكنيسة موجودة أم لا؟» يقاطع الاسخريوطيّ.

 

«أنا هو الرئيس السرّيّ، وبطرس هو الرئيس المنظور. فأنا أرجع إلى الآب تاركاً لكم الحياة، النور، والنعمة بكلمتي، بآلامي، بالبارقليط الّذي سيكون صديق المخلصين لي. أنا واحد مع كنيستي، جسدي الروحيّ الّذي أنا رأسه. إنّ الرأس يتضمّن الدماغ أو العقل. العقل هو كرسيّ المعرفة، الدماغ هو الّذي يوجّه حركات الأعضاء بأوامره اللامادّية، الّتي هي أكثر سلطاناً على تحريك الأعضاء مِن كلّ تحريض آخر. لاحظوا ميتاً مات دماغه. هل تتحرّك أعضاؤه؟ لاحظوا معتوهاً بالكامل. ألا يمكن أن يكون خاملاً لدرجة أنّه لا يُحسِن أداء الحركات البدائيّة الغريزية الّتي يُحسِنها أدنى حيوان، التي هي الدودة الّتي نسحقها أثناء المشي؟ لاحظوا كيف يُفسِد الشلل اتصال الأعضاء، عضو أو أكثر، بالدماغ. هل مِن حركة في الجزء الّذي ليس له أيّ ارتباط حيويّ مع الرأس؟ ولكن إن قاد العقل بواسطة أوامره اللامادّية، فالأعضاء الأخرى: العينان، الأذنان، اللسان، الأنف، الجلد، هي الّتي تقوم بإيصال الأحاسيس إلى العقل، والأجزاء الأخرى مِن الجسم، الـمُنبَّهة بواسطة الأعضاء المادّية والمنظورة حيث الذهن غير منظور، هي الّتي تنفّذ وتعمل على تنفيذ ما يأمر به العقل. هل أستطيع، دون أن أقول لكم: "اجلسوا"، أن أحقّق جلوسكم على منحدر هذا الجبل؟ حتّى ولو فكّرتُ أنّي أريد أن تجلسوا، فإنّكم لن تعرفوا ذلك طالما أنا لم أترجم فكري بكلمات وأقول ذلك، مستخدماً لساني وشفتيّ. هل أستطيع أنا بذاتي الجلوس، إن كنتُ أفكّر في هذا فقط، لأنّي أحسّ بتعب ساقيّ، ولكن إن رفضتا أن تنثنيا وبالتالي تجعلاني أجلس؟

 

العقل يحتاج إلى الأعضاء والأطراف كي تعمل وكي تحقّق العمليّات الّتي يفكّر فيها الذهن. هكذا في الجسد الروحيّ الّذي هو كنيستي سأكون أنا هو العقل، أي الرأس، كرسيّ العقل، وبطرس والمعاونون له هم الّذين سيلاحظون ردود الأفعال ويدركون الأحاسيس وينقلونها إلى العقل، لكي ينير ويأمر بما يجب عمله مِن أجل خير الجسد كلّه، ولكي، فيما بعد، منارين ومتوجّهين بأمري، يتكلّموا ويوجّهوا بقيّة أجزاء الجسد. إنّ اليد الّتي ترفض ما يمكن أن يجرح الجسد، أو الّتي تُبعِد الّذي بفساده يمكن أن يُفسِد، القدم الّتي تتجاوز العقبات دون أن تصدمكم وتسقطكم وتجرحكم، قد تلقّتا الأمر بفعل ذلك مِن الجزء الّذي يقود. إنّ الطفل، وكذلك الرجل، الّذي أُنقِذ مِن خطر أو الّذي يحقّق كسباً مِن أيّ نوع: تعليماً، أعمالاً جيّدة، زواجاً، تحالفاً جيّداً، بسبب نصيحة تلقّاها، بسبب كلمة قيلت له، هو بفعل النصيحة وهذه الكلمة يتحاشى الإضرار بنفسه أو يحقّق خيراً لذاته. هكذا يكون الأمر في الكنيسة. الرئيس، والرؤساء، الموجَّهون بالفكر الإلهيّ، والـمُنارون بالنور الإلهيّ والـمُثقّفون بالكلمة الأبديّة، يعطون الأوامر والنصائح، والأعضاء تتصرّف، للحصول على الصحة الروحيّة والكسب الروحيّ.

 

أصبحت كنيستي موجودة، فهي تملك رأسها الفائق الطبيعة، رأسها الإلهيّ، ولها أعضاؤها: التلاميذ. مازالت صغيرة: بذرة تتكوّن، كاملة فقط في الرأس الّذي يوجّهها، غير كاملة في البقيّة المحتاجة إلى لمسة الله لتصير كاملة، وإلى الوقت لتنمو. ولكن الحقّ أقول لكم إنّها قد أضحت موجودة وهي مقدَّسة بفضل مَن هو رئيسها والإرادة الصالحة للأبرار الّذين تتكوّن منهم. مقدّسة ومنيعة. ستُهاجمها الجحيم آلاف المرّات، وتحاربها تحت ألف شكل، جهنّم المكوّنة مِن شياطين ومِن بشر-شياطين، ولكنها لن تقوى عليها. الصرح لن يتزعزع.

 

إلاّ أنّ الصرح لم يُبنَ بحجر واحد فقط. لاحظوا الهيكل، هناك، واسع، جميل، تحت شمس المغيب. هل هو مبنيّ ربّما بحجر واحد؟ إنّه مجموعة أحجار تُكَوّن كُلّاً متناغماً. يُدعى: الهيكل. أي وحدة واحدة. ولكنّ هذه الوحدة مصنوعة مِن أحجار عديدة كَوَّنتها وشَكَّلتها، فلا فائدة كانت مِن صنع أساسات إذا لم يكن عليها بعد ذلك تدعيم الجدران والسقف، إذا لم يكن ينبغي بعد ذلك أن تشيّد عليها الجدران. وقد كان مِن المستحيل أن تشاد الجدران ويدعّم السقف إن لم يُبدأ بعمل أساسات صلبة، متناسبة مع كتلة عظيمة كهذه.

 

هكذا، بترابط الأجزاء، الواحدة مع الأخرى، يرتفع أيضاً الهيكل الجديد. ستبنونه على مدى العصور مرتكزين على الأساسات الّتي أعطيتُها له، كاملة، في كتلته. ستبنونه بتوجيه مِن الله، بصلاح الأشياء المستخدمة لإشادته: الأرواح الّتي يسكنها الله. والله في قلبكم، كي يجعل منه حجراً مصقولاً وبلا صدع للهيكل الجديد. سيُبنى ملكوته بشرائعه في روحكم. وإلاّ فستصبحون كالآجُرّ سيّئ الشيّ، كالخشب المسوّس، كَكِسر أحجار متصدّعة لا تتحمّل، وإن كان البَنّاء فطناً، فيلقيها، أو فإنّها لن تتحمّل، تنكسر، مسبّبةً انهيار جزء إذا كان البَنّاء، البنّاؤون المكلّفون مِن قِبَل الآب ببناء الهيكل، بنّائين يعبدون الأصنام، يختالون باستحقاقاتهم في قلبهم دون السهر والتعب على البناء الّذي يشاد وعلى المواد الّتي تُستخدَم فيه، بنّائين عابدين للأصنام، موجِّهين وثنيّين، حرّاساً وثنيّين، سارقين! سارقين لثقة الله، لتقدير الناس، لصوصاً ومتكبّرين يسعدون بأن تتاح لهم الفرصة للكسب، والحصول على أكوام مِن المواد، دون الانتباه إلى كونها صالحة أو فاسدة، مسبّبة للدمار.

 

أنتم أيّها الكَهَنَة والكَتَبَة الجدد للهيكل الجديد، اسمعوا. الويل لكم ولمن يأتون بعدكم إذا عبدتم الأصنام ولم تسهروا ولم تنتبهوا إلى ذواتكم والآخرين، المؤمنين، كي تتفحّصوا، تختبروا جودة الأحجار والأخشاب، دون الثقة بالمظاهر فتتسبّبون بالخراب، بسماحكم للمواد الرديئة أو الضارّة بحقّ، أن تستعمل مِن أجل الهيكل، موقعةً الشكّ ومحدثةً الخراب. الويل لكم إن تركتم الصدوع تتشكّل والأسوار غير آمنه، مائلة، سهلة الانهيار كونها غير متوازنة على أساسات صلبة وكاملة. ليس مِن الله، مؤسّس الكنيسة، بل منكم جميعاً، ستحلّ الكارثة، وستكونون مسؤولين عن ذلك أمام الربّ والناس. اجتهاد، رصد، تمييز، فطنة! إنّ الحجر، الآجُرّ، العارضة الضعيفة، الّتي قد تخرّب جداراً ضخماً، يمكن أن تُستخدم، وتُستخدم جيّداً في الأجزاء الأقلّ أهميّة. هكذا ينبغي لكم أن تُحسِنوا الاختيار. بمحبّة كيلا تنفر الأجزاء الضعيفة، بحزم كي لا ينفر الله وينهار صرحه. وإن تبيّنتم أنّ حجراً، موضوعاً في مكان يدعم زاوية أساسيّة، ليس صالحاً ولا متّزناً، فلتكن لكم الشجاعة، الجرأة، واعرفوا أن تزيلوه مِن ذلك المكان، شذّبوه بتحديد زواياه بإزميل الغيرة المقدّسة. إن صاح ألماً، لا يهمّ. سيبارككم فيما بعد على مدى العصور، لأنّكم تكونون قد أنقذتموه. انقلوه، كلّفوه بعمل آخر، كذلك لا تخشوا مِن إبعاده تماماً إن رأيتم أنّه سبب شكّ وخراب، معيقاً لعملكم. إنّ أحجاراً قليلة أفضل مِن حشو كثير. لا تتعجّلوا. إنّ الله لا يتعجّل أبداً، ولكنّ ما يخلقه أبديّ هو، لأنّه يزنه جيّداً قبل التنفيذ. وحتّى إن لم يكن أبديّاً، فسوف يدوم مدى العصور. انظروا إلى الكون. منذ عصور، آلاف العصور، وهو كما عمله الله بعمليّات متتابعة. اقتدوا بالربّ. كونوا كاملين كأبيكم. فلتكن شريعته فيكم، ملكوته فيكم، ولن تفشلوا.

 

ولكن إن لم يكن الأمر هكذا، فينهار الصرح وعبثاً تكونون قد تعبتم في إقامته. سوف ينهار ولن يبقى منه سوى حجر الزاوية والأساسات... مثلما سيحدث لهذا!... الحقّ أقول لكم إنّ هذا ما سيحصل له. وهذا ما سيحدث لذاك الّذي لكم إن وضعتم فيه ما هو موجود في هذا: الأجزاء المريضة بالكبرياء، بالجشع، بالخطيئة، بالفسق. ومثلما يتبدّد مِن هبّة ريح هذا الغمام البديع جماله، الّذي كان يبدو وكأنّه راسخ على قمّة هذا الجبل، كذلك ستنهار الصروح الّتي ليس لها مِن القداسة سوى الاسم بهبوب ريح مِن العقاب فائق الطبيعة والبشريّ...»

 

يصمت يسوع مفكّراً. وعندما يعاود الكلام فلكي يأمر: «فلنجلس هنا لنرتاح قليلا.»

 

يجلسون على أحد منحدرات جبل الزيتون، في مواجهة الهيكل الّذي تُقبّله الشمس الغاربة. يحدّق يسوع بذلك المكان، بحزن. والآخرون بكبرياء بسبب جماله، إنّما على الكبرياء يخيّم ستار مِن القلق الّذي أضفاه كلام المعلّم. وإذا كان ينبغي لهذا الجمال أن يندثر بحقّ؟…

 

بطرس ويوحنّا يتحدّثان معاً ثمّ يهمسان بأمر ما ليعقوب بن حلفى وأندراوس، المجاورين لهما، اللذين يعبّران عن موافقتهما بهزّ الرأس. حينئذ يلتفت بطرس نحو المعلّم ويقول له: «تعال على حِده، وقل لنا متى تتحقّق نبوءتكَ حول خراب الهيكل. لقد تكلّم عنها دانيال، ولكن إن كان كما قال وكما تقول أنتَ، فلن يكون للهيكل سوى بضعة ساعات. ولكنّنا لا نرى جيوشاً ولا استعدادات لحرب. متى يكون هذا إذن؟ وما ستكون العلامة على ذلك؟ أنتَ قد أتيتَ. وتقول إنّكَ على وشك أن تمضي. ومع ذلك فالمعروف أنّ هذا لن يحدث إلاّ وأنتَ بين الناس. ستعود إذاً؟ ومتى تكون عودتكَ؟ اشرح لنا حتّى نعرف...»

 

«لا حاجة للانفراد. هل ترى؟ لقد بقي التلاميذ الأكثر وفاءً، أولئك الّذين سيساعدونكم كثيراً، أنتم الاثني عشر. يمكنهم سماع الكلام الّذي أقوله لكم. تعالوا كلّكم إلى جانبي!» يهتف في النهاية ليجمع الكلّ.

 

يدنو التلاميذ المتناثرون على المنحدر، ويشكّلون مجموعة متراصّة، ملاصقة للمجموعة الأساسيّة ليسوع ورسله، ويستمعون.

 

«انتبهوا ألاّ يضلّكم أحد في المستقبل. أنا هو المسيح ولن يكون هناك مسحاء آخرون. إذن عندما يأتيكم كثيرون قائلين لكم: "أنا هو المسيح"، ويضلّون كثيرين، فلا تصدّقوا كلامهم ذاك، حتّى وإن رافقته المعجزات. فالشيطان، ابو الكذب وحامي الكذّابين، يساعد خدّامه والّذين يتبعونه بعجائب كاذبة، والّتي يمكن مع ذلك تبيّن أنّها ليست صالحة لأنّها دائماً مقترنة بالخوف، بالاضطراب وبالكذب. معجزات الله أنتم تعرفونها: تمنح سلاماً مقدّساً، الفرح، الخلاص، الإيمان، تقود إلى رغبات وأعمال مقدّسة. الأخرى لا. فكّروا إذاً في شكل ونتائج المعجزات الّتي يمكنكم رؤيتها في المستقبل والّتي يجريها المسحاء الكذبة وكلّ أولئك الّذين يتدثّرون بملابس مخلّصي الشعوب وسيكونون على العكس ضواري تدمّرهم.

 

سترون وستسمعون كذلك كلاماً عن حروب وصخب حروب، وسيقولون لكم: "إنّها علامات المنتهى". لا تضطربوا: لن يكون المنتهى. فإنّه لابدّ أن يحدث هذا كلّه قبل المنتهى، ولكن لن يكون المنتهى بعد. سيقوم شعب على شعب، ومملكة على مملكة، أمّة على أمّة، وقارّة على قارّة، ويتبعها أوبئة، مجاعات، زلازل في أماكن شتّى. ولكنّ هذه كلّها لن تكون إلّا مبتدأ الأوجاع. حينئذ يرمونكم في المحنة ويقتلونكم، متّهمينكم أنّكم سبب آلامهم، وآملين بالخروج منها باضطهاد خدّامي وتحطيمهم. فالبشر يتّهمون دوماً الأبرياء بأنّهم سبب الشرّ الّذي يُحدِثه الخطأة بأنفسهم. يتّهمون الله ذاته، كامل البراءة، والصلاح الأسمى، أنّه السبب في آلامهم، ويتصرّفون بالمثل معكم، وستكونون مبغوضين لأجل اسمي. إنّه الشيطان هو الّذي يحرّضهم. فيَضلّ الكثيرون ويخونون بعضهم بعضاً ويمقت بعضهم بعضاً. وأيضاً هو الشيطان مَن يدفعهم. يقوم أنبياء كذبة يحملون كثيرين على الخطأ. كذلك الشيطان هو المؤلف الحقيقيّ لشرّ كثير. ولكثرة الإثم، تبرد محبّة الكثيرين. إنّما مَن يثبت إلى المنتهى سيخلص. وقبل ذلك يجب أن يُكرزَ ببشرى ملكوت الله في كلّ المسكونة، شهادة لجميع الأمم. حينئذ يأتي المنتهى. العودة إلى مسيح إسرائيل الّذي يتقبّله والتبشير بمذهبي في المسكونة كلّها.

 

ثمّ علامة أخرى. علامة نهاية الهيكل ونهاية العالم. متى رأيتم رجسة الخراب الّتي تكلّم عنها دانيال -فليفهم مَن يسمعني، ومَن يقرأ النبيّ فليقرأ ما بين السطور- حينئذ فليهرب الّذين في اليهوديّة إلى الجبال، والّذي على السطح فلا ينـزل ليأخذ ما له مِن بيته، والّذي في الحقل فلا يرجع إلى البيت ليأخذ رداءه، إنّما فليهرب دون أن يلتفت إلى الوراء، حتّى لا يحصل له عدم القدرة على فِعل ذلك بعد، وحتّى أثناء الهرب لا يلتفت إلى الوراء لينظر، كي لا يحتفظ في قلبه بالمنظر الرهيب فيجنّ. ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام! والويل لمن كان عليه الهرب في سبت! الهرب لن يكفي ليخلّص نفسه دون خطيئة. صلّوا لئلاّ يكون الهرب في الشتاء أو في سبت، لأنّها ستكون حينئذ محنة شديدة لا مثيل لها منذ أول العالم إلى الآن، ولن يكون لها مثيل لأنّه سيكون المنتهى. وإن لم تقصّر تلك الأيّام لأجل المختارين، لما خلص إنسان، لأنّ البشر-الشياطين سيتحالفون في جهنّم ليعذّبوا الناس.

 

وحينئذ أيضاً، لإفساد الّذين سيظلّون أوفياء للربّ وجذبهم خارج طريق الاستقامة، سيظهر أناس يقولون: "المسيح هناك، المسيح هنا. هو في ذلك المكان. ها هو ذا. "فلا تصدّقوا. فلا يصدّقهم أحد، لأنّه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة يصنعون عجائب وأموراً خارقة قادرة أن تضلّ المختارين أنفسهم لو أمكن. سيقولون مذاهب موافقة للغاية ظاهريّاً، صالحة للغاية تضلّ حتّى الأفضل إن لم يكن معهم روح الله الّذي سينير لهم الحقيقة والأصل الشيطانيّ لهذه المعجزات والمذاهب. أنا أقول ذلك لكم، أخبركم مسبقاً كي تقدروا أن تحدّدوا وجهتكم. ولكن لا تخشوا السقوط. فإن ثبتّم في الربّ، لن تنجذبوا إلى التجربة وإلى الهلاك. تذكّروا ما قلتُه لكم: "لقد أعطيتُكم سلطاناً أن تدوسوا الحيّات والعقارب، ومِن قوّة العدوّ كلّها، لا شيء يضرّكم، لأنّ كلّ شيء سيخضع لكم". وأذكّركم أيضاً أنّه كي تنالوا هذا يجب أن يكون الله فيكم، وعليكم أن تفرحوا، لا لأنّكم تسيطرون على قوى الشرّ والأشياء المسمّمة، بل لأنّ اسمكم مكتوب في السماء.

 

اثبتوا في الربّ وفي حقّه. أنا هو الحقّ وأُعَلّم الحقّ. وبالتالي أكرّر لكم ثانية: لا تصدّقوا أيّ شيء ممّا يقال لكم عنّي. أنا فقط قد قلتُ الحقّ. أنا فقط أقول لكم إنّ المسيح سيأتي، ولكن عندما سيكون المنتهى. إذاً إن قالوا لكم: "ها هو في البرّية" فلا تذهبوا. وإذا قالوا لكم: "إنّه في هذا المنـزل" فلا تصدّقوا. بالفعل فإنّ ابن الإنسان في مجيئه الثاني سيكون مثل البرق يخرج مِن المشارق وينساب إلى المغارب، في وقت أقلّ مِن طرفة عين. وسينساب على الجسد العظيم الّذي يصبح فجأة جثّة، يتبعه ملائكته المتألّقون، وسوف يدين. فحيثما ستكون جثّة، فهناك تجتمع النسور.

 

ومباشرة بعد محنة تلك الأيّام الأخيرة الّتي قيل لكم عنها -أتكلّم الآن عن نهاية الزمان والعالم وعن قيامة العظام الّتي تكلّم عنها الأنبياء- ستُظلم الشمس، ولن يعطي القمر نوراً، وكواكب السماء تتساقط مثل حبّات عنقود ناضج للغاية هزّته ريح عاصفة، وقوّات السماوات ستتزعزع. وحينئذ على الجَلَد المظلم ستظهر علامة ابن الإنسان ساطعة، وتنوح كلّ أمم الأرض، ويَرى البشر ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء بسلطان عظيم ومجد عظيم. وسيأمر ملائكته بالحصاد والقطاف، وفصل الزؤان عن الحبوب، وإلقاء العنب في المعصرة، إذ سيكون قد آن أوان حصاد نسل آدم، ولن تعود هناك حاجة لحفظ العناقيد أو البذور، لأنّه لن يكون هناك بعد استدامة لجنس البشر على الأرض الميتة. وسيأمر ملائكته أن يجمعوا بصوت البوق العظيم المختارين مِن الرياح الأربع، مِن أقاصي السماء إلى أقاصيها، ليكونوا بجانب الديّان الإلهيّ ليدينوا معه آخر الأحياء وأولئك الّذين سيقامون مِن الموت.

 

مِن التينة تعلّموا الـمَثَل: فعندما ترون أغصانها قد لانت وأخرجت أوراقها، تعلمون أنّ الصيف قريب. كذلك أنتم، عندما ترون هذا كلّه، فاعلموا أنّ مجيء المسيح قريب. الحقّ أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل الّذي لم يقبلني حتّى يكون هذا كلّه. كلمتي لن تسقط. ما أقوله سيكون. يمكن لقلب وفِكر البشر أن يتغيّرا، ولكنّ كلامي لا يتغيّر. السماء والأرض تزولان، ولكنّ كلامي لا يزول.

 

أما متى ذلك اليوم وتلك الساعة بالتحديد، فلا يعلمهما أحد، ولا حتّى ملائكة الربّ، وحده الآب يعلم. وكما في زمان نوح، كذلك سيكون الأمر في مجيء ابن الإنسان. في الأيّام الّتي سبقت الطوفان، كان البشر يأكلون ويشربون ويتزوّجون ويسكنون، دون اكتراث بالعلامة إلى يوم دخل نوح الفلك وانفتحت طاقات السماء وغمر الفيضان كلّ الأحياء وكلّ شيء. هكذا أيضاً سيكون بالنسبة لمجيء ابن الإنسان. حينذاك يكون اثنان في حقل، الواحد بجانب الآخر، فيؤخذ الواحد ويترك الآخر، واثنتان تديران الرحى، فتؤخذ الواحدة وتترك الأخرى، مِن قِبَل أعداء الوطن وبالأكثر مِن الملائكة الّتي تفصل البذور الجيّدة عن الزؤان، ولن يكون لهم الوقت للاستعداد لدينونة المسيح.

 

فاسهروا إذاً لأنّكم لا تعلمون في أيّة ساعة سيأتي ربّكم. أعيدوا التفكير بهذا: لو علم ربّ الأسرة في أيّة ساعة يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته ينقب. اسهروا إذاً وصلّوا، دائمي الاستعداد لمجيئه، دون أن يسقط قلبكم في الغفلة، بفعل تعدّيات وإفراط مِن كلّ نوع، ولا تكن أرواحكم مشتّتة ومغلقة أمام الأمور السماويّة بالاهتمام الزائد بأمور الأرض، وحتّى لا تأخذكم حبال الموت بغتة وأنتم غير مستعدّين. إذ، تذكّروا، الجميع مصيرهم الموت. كلّ البشر، منذ ولادتهم، مقدّر لهم أن يموتوا، وهذا الموت والدينونة اللاحقة هي مجيء خاص للمسيح، وسيتكرّر ثانيةً لكلّ البشر بالمجيء المهيب لابن الإنسان.

 

ماذا يا ترى سيكون أمر ذلك العبد الأمين واليقظ، الّذي أقامه سيّده كي يتولّى إطعام أهل بيته أثناء غيابه؟ مصير مغبوط مصيره، إذا ما جاء سيّده بغته، يجده يفعل ما ينبغي باهتمام وبرّ ومحبّة. الحقّ أقول لكم إنّه سيقول له: "تعال أيّها العبد الصالح الأمين. أنتَ مستحقّ لثوابي. خذ، كن قَيّماً على كلّ خيراتي". أمّا إن كان في الظاهر طيّباً وأميناً، دون أن يكون كذلك، وداخليّاً كان رديئاً كما هو في الظاهر منافق، وبعد رحيل سيّده قال في قلبه: "سيبطئ السيّد في العودة! فلنستمتع"، فجعل يضرب ويسيء معاملة الخدّام رفاقه، مستغلّاً إيّاهم في طعامهم ويفعل كلّ الأمور لينال مالاً أكثر ينفقه في العربدة والسُكر، فماذا سيكون مِن أمره؟ سيأتي المعلّم بغتة، وفي وقت لا يظنّه العبد بهذا القرب، فيُكشَف مسلكه الرديء، ويُنـزَع منه موقعه والمال، ويُطرَد إلى حيث يقتضي العدل، ويبقى هناك.

 

هكذا يكون مع الخاطئ غير التائب، الّذي لا يتساءل كم هو الموت قريب وكم هي قريبة دينونته، فيتمتّع ويغالي قائلاً: "سوف أتوب فيما بعد". الحقّ أقول لكم بأنّه لن يكون له وقت لذلك وسيُدان بالبقاء أبديّاً في مكان الرعب الرهيب، حيث لا يكون إلاّ اللعنات، الدموع والعذابات، وسيخرج فقط للدينونة الأخيرة، حينما يلبس جسده القائم ليمثل بكليّته في الدينونة الأخيرة، كما أخطأ بكلّ كيانه في زمن حياته الأرضيّة، وسيمثل بجسده ونفسه أمام الديّان يسوع الّذي لم يقبله كمخلّص.

 

الجميع سيمثلون أمام ابن الإنسان. عدد لا متناه مِن الأجساد، مستعادة مِن الأرض والبحر ومعاد تشكيلها بعد أن كانت تراباً لزمن طويل، والأرواح في الأجساد. ولكلّ جسد أُعيد إلى هيكله العظميّ روحه الخاص به الّذي أحياه ذات مرّة. وسوف يقفون أمام ابن الإنسان، المتألّق في جلاله الإلهي، جالساً على عرش مجده الّذي تحمله ملائكته.

 

وهو سيفصل البشر عن بعضهم، واضعاً الأخيار في جانب وفي الآخر الأشرار، مثلما يفصل الراعي النعاج عن الكباش، فيقيم النعاج عن اليمين والكباش عن اليسار. وبصوته العذب وهيئته اللطيفة يقول لهؤلاء الهادئين ذوي الجمال الممجّد في ألق جسد مقدّس، وهم ينظرون إليه بكلّ ما في قلوبهم من محبّة: "تعالوا أيا مباركي أبي، رثوا الملكوت الـمُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم. لأنّي جعتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني، كنتُ غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، محبوساً فأتيتم لتواسونني". فيسأله الأبرار: "يا ربّ، متى رأيناكَ جائعاً فأطعمناكَ، أو عطشاناً فسقيناكَ؟ متى رأيناك غريباً فأويناكَ، عرياناً فكسوناكَ؟ ومتى رأيناكَ مريضاً أو محبوساً فأتينا لزيارتكَ؟" فيقول لهم مَلِك الملوك: "الحقّ أقول لكم: إنّكم عندما فعلتم إحدى تلك الأمور لأحد أصاغر إخوتي فلي أنا فعلتموه."

 

ثمّ سيلتفت للّذين سيكونون عن يساره وسيقول لهم بصرامة، ونظراته ستكون كسهام تصعق المدانين، وفي صوته سيهدر غضب الله: "اخرجوا مِن هنا! بعيداً عنّي أيا ملاعين! إلى النار الأبديّة الـمُعَدَّة مِن غضب الله للشيطان وملائكة الظلمات، والّذين استمعوا لهم، بصوتهم مثلّث الأهواء والفاحش. لقد جعتُ فلم تطعموني. عطشتُ فلم تسقوني. كنتُ عرياناً فلم تكسوني، كنتُ غريباً فلم تؤوني، مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني، لأنّ ليس فيكم سوى شريعة واحدة: متعة أناكم الخاصة". وهم سيقولون له: "متى رأيناكَ جائعاً، عطشاناً، عرياناً، غريباً، مريضاً، محبوساً؟ ففي الحقيقة نحن لم نعرفكَ، ولم نكن نحن حينما كنتَ أنتَ على الأرض". فيجيبهم: "هذا صحيح. فأنتم لم تعرفوني، لأنّكم لم تكونوا حينما كنتُ أنا على الأرض. ولكنّكم مع ذلك عرفتم كلمتي وكان بينكم فقراء، جياع، عطاش، عراة، مرضى، سجناء. فلماذا لم تفعلوا لهم، ما كان مِن الممكن أن تفعلوه لي؟ فما مِن أحد قال إنّ أولئك، الّذين حظوا بي بينهم، قد كانوا رحومين تجاه ابن الإنسان. ألم تكونوا تعلمون أنّني في إخوتي، وأنّي حيث يتألّم واحد منهم، وأنّ ما لم تفعلوه لأحد إخوتي الأكثر تواضعاً، قد رفضتم أن تفعلوه لي أنا، بِكر البشر؟ اذهبوا واحترقوا في أنانيّتكم. اذهبوا ولتلفّكم الظلمات والجليد لأنّكم ظلمات وجليد كنتم، رغم علمكم أين كان النور ونار المحبّة". فيذهب هؤلاء إلى العذاب الأبديّ، بينما الأبرار يلجون إلى الحياة الأبديّة.

 

تلك هي الأمور المستقبلية…

 

الآن امضوا. ولا تتفرّقوا عن بعضكم. أنا ماضٍ مع يوحنّا وسأكون معكم في منتصف الهزيع الأول، للعشاء ومِن ثمّ لاستئناف التعليم.»

 

«هذا المساء أيضاً؟ هل سنفعل ذلك كلّ مساء؟ إنّ الندى يضرّ بي جدّاً. أليس مِن الأفضل أن ندخل أحد المنازل المضيفة؟ دائماً تحت الخيام! دائماً السهر أثناء الليالي، الباردة والرطبة...» يقول يهوذا متذمّراً.

 

«هذه آخر ليلة. غداً... سيكون الأمر مختلفاً.»

 

«آه! كنتُ أظنّكُ تريد الذهاب كلّ ليلة إلى جَثْسَيْماني. ولكن إن كانت الأخيرة...»

 

«لم أقل هذا يا يهوذا. لقد قلتُ إنّ هذه ستكون آخر ليلة نقضيها في معسكر الجليليّين كلّنا معاً. غداً، سوف نعدّ الفصح ونأكل الحَمَل، ثمّ سأمضي بمفردي للصلاة في جَثْسَيْماني. وأنتم سيكون بإمكانكم أن تفعلوا ما تشاؤون.»

 

«بل سنأتي معكَ يا ربّ! متى ترانا قد أردنا أن نترككَ؟» يقول بطرس.

 

«أنتَ اصمت، أيّها الخاطئ. فأنتَ والغيور لا تفعلان شيئاً سوى القفز هنا وهناك، ما إن لا يعود المعلّم يراكما. إنّني أبقيكما تحت نظري. في الهيكل... أثناء النهار... تحت الخيام، هناك...» يقول الاسخريوطيّ سعيداً بالوشاية بهما.

 

«كفى! إن قاما بهذا فحسناً يفعلان. ومع ذلك لا تتركوني وحيداً... أرجوكم...»

 

«يا ربّ، لم نفعل شيئاً سيّئاً. ثق بذلك. إنّ الله يعلم أفعالنا ولا يشيح وجهه عنها باشمئزاز.» يقول الغيور.

 

«أعلم ذلك، ولكن دون جدوى. وغير المجدي قد يكون ضارّاً دائماً. ابقوا بقدر المستطاع متّحدين.» ثمّ يتوجّه إلى متّى: «أنتَ، الإخباريّ الجيّد، سوف تعيد على هؤلاء مَثَل العذارى العشر الحكيمات والعذارى العشر الجاهلات، ومَثَل السيّد الّذي أعطى الوزنات لعبيده الثلاثة لاستثمارها، والاثنين الرابحين الضعف والكسول الّذي دفن الّتي له. هل تذكره؟»

 

«نعم يا ربّ، تماماً.»

 

«إذاً كرّرهما لهؤلاء. فليس الجميع يعرفونهما. وحتّى مَن يعرفوهما سيسعدون بسماعهما مجدّداً. اقضوا الوقت هكذا في محادثات حكيمة إلى حين عودتي. اسهروا! اسهروا! احفظوا أرواحكم ساهرة. هذان المثلان موافقان لما أقوله. وداعاً. ليكن السلام معكم.»

 

يمسك يد يوحنّا ويتوجّه معه إلى المدينة... والآخرون ينطلقون صوب معسكر الجليليّين.

----------

1- الرؤيا وردت في دفاتر 1944 [رؤيا 25 / 05 / 1944].

2- سفر التكوين [3-15].

3- سفر إشَعياء [7-14].