ج10 - ف16
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
16- (الرُّسُل يذهبون إلى الجلجلة. وبعد...)
14 / 04 / 1947
أورشليم تلتهب تحت شمس الظهيرة. إنّ قوساً ظليلاً هو انتعاش للنظر المنبهر بفعل الشمس الّتي تضرب جدران المنازل البيضاء، وتحرق أرض الشوارع. وبياض الجدران الفاقع وعتمة الأقواس تجعل مِن أورشليم لوحة غريبة بالأبيض والأسود، تعاقبٌ لنور مُبهِر وظلّ، الّذي بتباينه مع الضوء الساطع يبدو ظُلمَةً، تعاقبٌ يعذّب كأنّه هاجس، لأنّه ينتزع القدرة على الرؤية نتيجة لفرط النور أو فرط الظلّ. فيتقدّم المرء وعيناه نصف مغمضتين، ساعياً إلى حثّ الخطى حيث يغلب النور والحرّ، مُبطِئاً تحت الأقواس، حيث يتعيّن التقدّم على مهل، لأنّ التباين بين النور والظلمة يمنع مِن الرؤية حتّى وإن كانت العيون جاحظة.
هكذا يتقدّم الرُّسُل في مدينة تحيلها ساعة الظهيرة إلى منطقة خاوية. يتعرّقون ويمسحون وجوههم وأعناقهم بأغطية رؤوسهم، وينفخون…
إنّما حين يتوجّب عليهم الخروج مِن المدينة، فإنّهم يفقدون عزاء الأقواس. الطريق، الّذي يسير بمحاذاة الأسوار، والّذي تختفي معالمه مِن جهتيّ الشمال والجنوب، كأنّه شريط مُبهِر مِن غبار مُتَوهّج، يعطي الانطباع كما لو أنّه أرض أتون. تتصاعد منه حرارة فرن، حرارة تُجفّف الرئتين. السيل الصغير الّذي يقع ما وراء الأسوار، يسيل منه خيط ماء رفيع في وسط حوض حجريّ تحيله الشمس أبيضاً كما كثير مِن الجماجم المتكلّسة. الرُّسُل يتهافتون إلى حيث خيط الماء الرفيع ذاك ويشربون منه. يغمسون فيه أغطية رؤوسهم، ويضعونها مبلّلة على رؤوسهم بعد غسل وجوههم. يغمسون أرجلهم الحافية في خيط الماء الرفيع ذاك. نعم! إنّه انتعاش ضئيل جدّاً. الماء حارّ كما لو أنّه سُكِبَ مِن قِدرٍ مُعلّق فوق النار، وهم يقولون ذلك: «إنَّه حارّ وشحيح. طعمه كطعم الوحل والأُشْنان (الزوفا) [نبتة تستعمل هي أو رمادها في غسل الثياب والأيدي]. عندما يكون شحيحاً، فإنّ مذاقه يبدو كمذاق الملابس المغسولة فجراً.»
يشرعون بصعود الجلجلة، الجلجلة الـمحترقة الّتي جفّفت الشمس اللاهبة ذاك القليل مِن العشب الّذي كان يبدو قبل خمسة عشر يوماً كأنّه زغب نادر فوق الجبل الـمُصفَرّ. الآن وحدها خصلات نباتات شوكيّة قاسية ونادرة، الواخزة والخالية مِن الأوراق، ترفع هنا وهناك سوقها كأنّها هياكل عظيمة منبوشة، بلون أخضر مصفرّ بفعل غبار الجبل، إنّها تشبه بحقّ عظاماً أُخرِجت للتوّ مِن تحت التراب. نعم. إنّها تبدو حقّاً كما حُزَم عظام متكلّسة مزروعة في الأرض. واحدة منها، بعد شبرين مِن ساقها المستقيمة، هناك انحناء مفاجئ له في نهايته خمس تفرعات بعد عقدة مسطّحة نوعاً ما. تحسبها بحقّ يداً عظمية، تمتدّ للإمساك بالعابر لاحتجازه في ذاك المكان الـمُفزِع.
«أتريدون أن تسلكوا الطريق الطويل أم القصير؟» يَسأَل يوحنّا، وهو الوحيد الّذي سبق أن ارتاد هذا الجبل.
«الأقصر! الأقصر! لنُسرِع! هنا يموت المرء مِن الحرّ.» يقول الجميع عدا الغيور ويعقوب بن حلفى.
«هيا بنا!»
حجارة الطريق المرصوفة حارّة كأنّها ألواح أُخرجِت مِن النار.
«إنّما لا يمكننا المضي قدماً هنا! لا نستطيع!» يقولون بعد السير لبضعة أمتار.
«ومع ذلك فإنّ الربّ قد صعد وصولاً إلى هناك، حيث يوجد دغل العلّيق ذاك، وكان جريحاً ويحمل الصليب.» يلفت الانتباه يوحنّا، الّذي يبكي مذ أصبح على الجلجلة.
يُتابعون، إنّما سرعان ما يرتمون على الأرض مُنهَكين تماماً، لاهثين. أغطية رؤوسهم الّتي غمروها في الجدول جفّت بفعل حرارة الشمس. وبالمقابل فإن ثيابهم مبتلّة تماماً بفعل التعرّق.
«حادّة الصعود وحارّة جدّاً!» يلهث برتلماوس.
«نعم. للغاية!» يؤكّد متّى الـمُحتقِن.
«بالنسبة للشمس فالأمر سيّان. إنّما بالنسبة للصعود فلنسلك هذه الطريق. إنّها أطول، إنّما أقلّ تعباً. إنّ لونجين نفسه قد سلكها كي يتمكّن الربّ مِن الصعود. انظروا حيث ذاك الحجر القاتم قليلاً؟ هناك سقط الربّ واعتقدنا بأنّه مات، نحن الّذين كنّا نراقب مِن هنا، إلى الشمال، هناك، أترون؟ حيث التقعّر قبل الارتفاع الحاد. ما عاد يتحرّك. آه! صرخة الأُمّ! صداها يتردّد لي هنا! لن أنسى أبداً تلك الصرخة! لن أنسى أيّاً مِن أنّاته... آه! ثمة أمور تجعل المرء يشيخ في ساعة واحدة وتُثقِله بألم العالم أجمع... هيّا، تعالوا! إنّ ربّنا الشهيد لم يتوقّف بقدر ما توقّفتم!» يحثّ يوحنّا.
يَنهضون ذاهلين ويتبعونه حتّى تقاطع الطريق المرصوف مع الدرب الـمتعرّج، وينعطفون إليه. نعم! إنّه أقلّ انحداراً. أمّا بالنسبة للشمس! فحرارتها أشدّ، باعتبار أنّ الحافّة، الّتي يحاذيها الدرب، تعكس لهيبها على مرتاديه المحروقين أصلاً مِن الشمس.
«إنّما لماذا جعلنا نصعد إلى هنا في هذه الساعة؟! أما كان يمكنه أن يطلب منّا المجيء فجراً، عند مطلع النهار، بحيث نرى أين نضع أقدامنا؟ خصوصاً أنّنا كنّا خارج الأسوار وكنّا نستطيع المجيء مِن دون انتظار أن تُفتَح الأبواب.» يشتكون ويتذمّرون في ما بينهم.
بَشَر، ما يزالون وسيظلّون دوماً بَشَراً، فالآن، وبعد مأساة الجمعة المقدّسة، مأساة إنسانيّتهم الـمتكبّرة والجبانة، الأكثر فظاعة مِن مأساة المسيح، الّذي بقي بطلاً وظافراً حتّى وهو يموت، بَشَراً كما في السابق، حين كانوا ينتشون بصيحات الهوشعنا الّتي كانت تُطلِقها الجموع، ويبتهجون وهم يفكّرون بالحفلات والولائم الفخمة في منزل لعازر... صُمٌّ، عُميٌ، غافلين عن كلّ إشارات العاصفة الوشيكة وإنذاراتها.
يعقوب بن حلفى والغيور يصمتان باكيين. أندراوس أيضاً لم يعد يشتكي بعد كلمات يوحنّا الأخيرة. الآن أيضاً يتكلّم يوحنّا، مُذكّراً بذكرياته، وهذا التذكير تنبيه أخويّ، حَثٌّ على عدم التذمّر... يقول: «إنّه الوقت الّذي صعد فيه إلى هنا. وكان قد مشى لوقت طويل. آه! أستطيع القول إنّه منذ اللحظة الّتي غادر فيها العلّية، لم يحظَ ببرهة مِن الراحة! وكان ذاك اليوم يوماً حاراً جدّاً! كانت تلك الحرارة الخانقة للعاصفة الوشيكة... وهو كان يلتهب مِن الحمّى. نيقي تقول إنّها شعرت بأنّها تلمس ناراً حين وضعت قطعة القماش على وجهه. لا بدّ أنّه التقى النسوة في مكان ما هنا... نحن، مِن الجهة الـمقابلة، لم نرَ اللقاء، وإنّما بحسب ما قالته نيقي والأخريات... هيا، لنتقدّم! فكّروا أنّ الرومانيّات، المعتادات على الـمِحَفّة، قد مشين هذا الطريق الأقدام وكنّ عُرضة للشمس منذ الصباح، منذ الساعة الثالثة، عندما حُكِم عليه. آه! هنّ، الوثنيّات، تقدّمن الجميع، وقد أرسلن عبيداً لإعلام الأخريات اللواتي تغيّبن لسبب ما...»
يُتابِعون... تلك الطريق عذاب مِن نار! لدرجة أنّهم يترنّحون. يقول بطرس: «إن هو لم يجترح معجزة، فسوف نهوي بضربة شمس.»
«نعم. قلبي ينفجر في حنجرتي.» يؤيّده متّى.
لم يعد برتلماوس يتكلّم. يبدو ثملاً. يوحنّا يُمسِكه مِن كوعه ويسنده، كما كان يفعل مع الأُمّ في الجمعة الدمويّة. ويقول معزّياً: «بعد قليل يوجد القليل مِن الظلّ. في المكان حيث اصطحبتُ الأُمّ. سوف نرتاح هناك.»
يمضون أبطأ وأبطأ…
ها هم بمواجهة الصخرة حيث كانت مريم. يوحنّا يقول ذلك. بالفعل هناك بعض الظلّ، لكنّ الهواء لا يزال ساكناً وحارقاً.
«لو أنّ هناك ساق يانسون على الأقلّ، ورقة نعناع، شيئاً مِن العشب! فمي يشبه رقّاً موضوعاً قرب لهب. إنّما لا شيء! لا شيء!» ينوح توما، وعروقه مُنتفِخة عند العنق والجبهة.
«أَهِب ما بقي لي مِن حياة للحصول على قطرة ماء.» يقول يعقوب بن زَبْدي.
يوضاس تدّاوس ينفجر نحيباً ويصرخ: «يا أخي المسكين، كم عانيتَ! لقد قال... لقد قال، هل تتذكّرون؟ أنّه كان يموت عطشاً! آه! الآن أفهم! لم أكن قد فهمتُ مَحمَل تلك الكلمات! كان يموت عطشاً! ولم يكن هناك مَن يعطيه رشفة ماء، حين كان لا يزال قادراً على الشرب! وكان محموماً، علاوة عن الشمس!»
«يُوَنّا حملت إليه ما يرويه...» يقول أندراوس.
«عندها لم يكن قادراً على الشرب! لم يكن يستطيع الكلام... حين التقى أُمّه، هناك، على بُعد عشر خطوات منّا، كلّ ما استطاع أن يقوله هو: "أُمّاه" ولم يستطع تقبيلها، حتّى مِن بعيد، على الرغم مِن أنّ سمعان القيروانيّ حرّره مِن الصليب. كانت شفتاه متصلّبتين بفعل الجروح، محروقتين... آه! كنتُ أرى ذلك بوضوح، مِن وراء صفّ الجنود! لم أعبر إلى هناك. لكنتُ حملتُ صليبه، لو سمحوا لي بالعبور! لكنّهم كانوا يخافون عليّ... ومِن الحشد الّذي كان يريد رجمنا... لم يكن يستطيع الكلام... الشرب... التقبيل... تقريباً ما عاد يستطيع النظر بعينيه الـمتألّمتين بسبب بثرات الدم الّتي كانت تنزل مِن جبهته!... ثوبه كان ممزّقاً عند الركبة حيث كان يمكن رؤيتها مفتوحة، تنزف... كانت يداه منتفختين ومجروحتين... كان مجروحاً في ذقنه وخدّه... الصليب كان قد أحدث جرحاً عند كتفه، المفتوح أصلاً بفعل ضربات السياط... الحبال جرحت خصره... شعره كان مغطى بالدم بسبب الجروح الّتي أحدثتها الأشواك... كان...»
«اصمت! اصمت! لم أعد أستطيع سماعكَ! اصمت! أرجوكَ وأطلب منك ذلك!» يصرخ بطرس الّذي يبدو أنّه يعاني عذاباً شديداً.
«لم يعد سماعي بمستطاع! لا يمكنكم سماعي! إنّما أنا كان عليّ أن أراه وأسمع اختلاجاته! والأُمّ، والأُمّ إذن؟»
يحنون رؤوسهم وهم ينتحبون، ويستأنفون المسير، المسير... ما عادوا ينتحبون على ذواتهم، إنّما الآن هم ينوحون بسبب آلام المسيح.
ها هم عند القمّة، عند الساحة الصغيرة الأولى: إنّها صفيحة مِن نار. انعكاس الحرارة يجعل الأرض تبدو كأنّها ترتجف، على أثر تلك الظاهرة الّتي تُحدِثها الشمس فوق رمال الصحارى الـملتهبة.
«تعالوا. لنصعد مِن هذه الجهة. مِن هنا جعلنا قائد المئة نعبر. أنا أيضاً. فقد ظنّوني ابن مريم. النسوة كنّ هنا، والرُّعاة هنا، وهناك اليهود...» يوحنّا يشير إلى الأماكن ويختم: «لكنّ الحشد كان تحت، كان يغطّي الـمنحدر وصولاً إلى الوادي، حتّى الطريق. كانوا على الأسوار. كانوا على الأسطح قرب الأسوار. كان يترامى بقدر ما كان يمكننا أن نرى. لقد رأيتُ ذلك حين بدأت الشمس تنحجب، فقبلها كانت كما الآن ولم أكن أستطع الرؤية...»
بالفعل أورشليم تبدو كالسراب المرتجف هناك. شدّة سطوع الضوء تحجبها عمّن يريد رؤيتها. ويوحنّا يقول: «في أوقات أخرى، مريم أخت لعازر قالت ذلك، إنّما لم أكن أعلم متى ولا لماذا كانت هناك، أنّه يمكن رؤية البقايا المتفحّمة للمنازل الّتي أحرقتها الصاعقة. منازل الأكثر إثماً... الكثير منهم، على الأقلّ مِن بينهم... هوذا! هنا (يوحنا يعدّ خطواته، يعيد تركيب المشهد) لونجين كان هنا ومريم وأنا كنّا هنا. هنا كان صليب اللصّ التائب، وهناك الآخر. وهنا اقترعوا على ثيابه. هناك سقطت الأُمّ حين مات... ومِن هنا رأيتُه يُطعَن في قلبه (يوحنّا يغدو شاحباً مثل ميت) لأنّ صليبه كان هنا.» ويسجد على الأرض عابداً، الوجه في الأرض المحفورة بجلاء في المكان المدمّى، على طول ظلّ الذراع المخترقة الصليب وحول جذعه العموديّ.
لا بدّ أنّ المجدليّة قد بذلت جهداً شاقّاً لتحفر كلّ هذا القدر في الأرض وعلى عمق شبرٍ كامل على الأقلّ، في أرض صلبة جدّاً، ممتزجة بحجارة وأنقاض تجعل منها نوعاً مِن قشرة مضغوطة!
يرتمون كلّهم أرضاً، لتقبيل ذلك التراب الّذي أصبحت الدموع تبلّله…
لكنّ يوحنّا ينهض أوّلاً، صارماً بعطف، يستحضر الأحداث كلّها... ما عاد يشعر بالشمس... ما مِن أحد عاد يشعر بها... يتكلّم، عن اللحظة الّتي رفض فيها يسوع الخمر الممزوجة بالـمُرّ، عن اللحظة الّتي تجرّد فيها مِن ثيابه ولَفَّ نفسه بحجاب أُمّه، عن اللحظة الّتي ظهر فيها مجلوداً ومجروحاً بقسوة، عن اللحظة الّتي تمدّد فيها على الصليب وصرخ عند أوّل مسمار، ومِن ثمّ كَفَّ عن ذلك لكيلاّ تعاني أُمّه كثيراً، ولحظة مَزّقوا معصمه وخلعوا ذراعه ليسحبوها إلى حيث الثقب السابق تجهيزه، وعن اللحظة الّتي، إذ كان مسمّراً كلّياً، قلبوا الصليب لبرشمة المسامير، وكيف رزح الصليب بكامل ثقله فوق الشهيد الّذي كان لُهاثه مسموعاً، وكيف قلبوا الصليب مجدّداً ورفعوه وجرّوه وأسقطوه في الحفرة وثبّتوه فيها، ولحظة هبوط الجسد الّذي مَزَّق يديه، وإكليل الشوك الّذي مزّق رأسه بتحرّكه، والكلمات الّتي قالها لآب السماوات، الكلمات الّتي تطلب الغفران لصالبيه، كلمات المغفرة للصّ التائب، والكلمات إلى الأُمّ وإلى يوحنّا، ومجيء يوسف ونيقوديموس، البطلين العلنيّين اللذين تحدّيا الجميع، وشجاعة مريم المجدليّة، وصرخة الضيق إلى الآب الّذي تخلّى عنه، والعطش، والخلّ مع العلقم، والنزاع الأخير، والنداء الضعيف إلى الأُمّ، وكلماتها مع نفسه الّتي أضحت على عتبة الحياة بسبب العذاب، العذاب... والإذعان والاستسلام الكلّي لمشيئة الله، وفظاعة الاختلاجة الأخيرة والصرخة الّتي زلزلت الدنيا، وصرخة مريم حين رأته ميتاً…
«اصمت! اصمت! اصمت!» يصرخ بطرس ويبدو كما لو أنّه هو الّذي طُعِن بالحربة. الآخرون أيضاً يتوسّلون: «اصمت! اصمت!...»
«لم يعد لديّ ما أقول. التضحية كانت قد انتهت. الدفن... كان عذاباً لنا وليس له، والّذي لا قيمة له في ذاته سوى بما يتعلّق بحزن الأُمّ. عذابنا! هل يستحقّ ربّما رأفة؟ لنعطها له، بدلاً مِن أن نطلبها لأنفسنا. لقد تجنّبنا الألم والتعب وهربنا كثيراً وبما فيه الكفاية، تركناه، وحَـمَّلناه كلّ شيء، له وحده. لقد كنّا حقّاً تلاميذ غير مستحقِّين، حيث أحببناه لفرح أن نكون محبوبين، لكبريائنا بأن نكون عظماء في ملكوته، ولكنّنا لم نُحسِن أن نحبّه في ألمه... الآن لم يعد الأمر كذلك. هنا. هنا علينا أن نُقسِم، وهنا مذبح، وهو مرتفع، بمواجهة السماء والأرض، ولن يكون الأمر هكذا بعد. الآن له الفرح، ولنا الصليب. لنُقسِم على ذلك. إنّها الطريقة الوحيدة لمنح نفوسنا السلام. هنا مات يسوع الناصريّ، المسيا، الربّ، ليكون الـمخلّص والفادي. ولتمت هنا أيضاً بشريّتنا، وليقم التلميذ الحقيقيّ. لننهض! لنُقسِم بالاسم الـمقدّس ليسوع المسيح على أنّنا نريد اعتناق عقيدته لدرجة أن نُحسِن الموت في سبيل فداء العالم.» يوحنّا يبدو سيرافيماً. حركاته أسقطت غطاء رأسه، ورأسه الأشقر يلمع في الشمس. لقد صعد على الحطام المرميّ جانباً، ربّما دعامات صليبي اللصّين، واتّخذ بغير تعمّد وضعيّة الذراعين المفتوحين الّتي غالباً ما كان يتّخذها يسوع حين كان يُعَلّم، وخصوصاً وضعيّته على الصليب.
ينظر الآخرون إليه، وسيماً جدّاً، متّقداً جدّاً، فتيّاً جدّاً، أصغرهم على الإطلاق، ناضجاً جدّاً بالروح. الجلجلة جعلته يبلغ العمر الكامل... ينظرون إليه ويصيحون: «نُقسِم على ذلك!»
«إذاً لنُصَلّ ليدعم الآب قَسَمَنا: "أبانا الّذي في السماوات..."»
جوقة الأصوات الأحد عشر تكتسب ثقة بالنفس أكثر فأكثر طالما يتابعون. وبطرس يضرب على صدره حين يقول: "اغفر لنا ذنوبنا"، وكلّهم يركعون حين يتلون الابتهال الأخير: "نجّنا مِن الشرير". يبقون منحنين إلى الأرض، متأمّلين…
يسوع وسطهم. لم أرَ متى ومِن أين ظهر. تحسبه ظهر مِن الجهة الّتي يتعذّر بلوغها مِن الجبل. إنّه يتألّق محبّة في ملء نور الظُّهر ويقول: «مَن يقيم فيَّ لن يصيبه أذى مِن الشرّير. الحقّ أقول لكم إنّ الّذين سيكونون متّحدين بي وهم يخدمون العليّ الخالق، الّذي يتوق لخلاص كلّ إنسان، سيتمكّنون مِن طرد الشياطين، وجعل الزواحف والسموم غير ضارّة، والعبور وسط الوحوش الضارية وألسنة اللهب دون أن يصابوا بأذيّة، طالما يشاء الله أن يبقوا على الأرض لخدمته.»
«متى أتيتَ يا ربّ؟» يقولون وهم يحنون رؤوسهم مع بقائهم راكعين.
«هو قَسَمكم مَن ناداني. والآن، الآن وقد وطئت أقدام رُسُلي هذه الأرض، انزلوا سريعاً إلى المدينة، إلى العلّية. هذا المساء سوف ترحل نسوة الجليل مع أُمّي. أنتَ ويوحنّا، سوف تذهبان معهنّ. سوف نلتقي كلّنا في الجليل، على جبل طابور.» يقول للغيور ويوحنّا.
«متى يا ربّ؟»
«يوحنّا سيعرف ذلك ويقوله لكم.»
«أتفارقنا يا ربّ؟ ألن تباركنا؟ إنّنا في حاجة ماسّة إلى بركتكَ.»
«سوف أمنحكم إيّاها هنا وفي العلّية. اسجدوا!»
يباركهم وسطوع الشمس يغلّفه كما في التجلّي، إنّما هنا يخفيه. يسوع لم يعد هناك.
يرفعون رؤوسهم. ما مِن شيء: فقط الشمس والأرض المحروقة…
«لننهض ونمضي! لقد رحل!» يقولون بحزن.
«وجوده معنا يصبح أقصر على الدوام!»
«إنّما اليوم بدا أسعد مِن مساء أمس. ألم تشعر بذلك يا أخي؟» تدّاوس يَسأَل يعقوب بن حلفى.
«هو قَسَمنا الّذي أفرحه. لتكن مباركاً يا يوحنا، لجعلنا نقوم به!» يقول بطرس وهو يعانق يوحنا.
«كنتُ آمل بأن يكلّمنا عن آلامه! لماذا جعلنا نأتي إلى هنا ومِن ثمّ لا يقول لنا شيئاً؟» يقول توما.
«سوف نسأله عن ذلك هذا المساء.» يقول أندراوس.
«نعم. إنّما لنمض الآن. طويلة هي الطريق ونريد أن نمضي بعض الوقت مع مريم قبل أن ترحل.» يقول يعقوب بن حلفى.
«عذوبة أخرى تنتهي!» يتنهّد تدّاوس.
«سنلبث كاليتامى! كيف سنتصرّف؟»
يلتفتون نحو يوحنّا والغيور، ويقولون بشيء مِن الغيرة في نبرة الصوت: «أنتما، على الأقلّ، تمضيان مع الأُمّ! وتبقيان معها، دائماً.»
يقوم يوحنّا بحركة كما ليقول: "الأمر هو هكذا". إنّما هم، الّذين غيرتهم لا خبث فيها، يقولون فوراً: «إنّما ذلك عدل، لأنّكَ كنتَ هنا معها، وأذعنت لأن تكون كذلك بدافع الطاعة. نحن...»
يبدأون بالنزول. وإنّما ما أن تطأ أقدامهم الساحة الصغيرة الثانية، الأكثر انخفاضاً، حتّى يروا امرأة تصل إليها تحت الشمس عبر الدرب الأكثر وعورة، وتتفرّس فيهم مِن دون كلام، وهي تتوجّه بثقة نحو الساحة الصغيرة الأعلى.
«هناك مَن يأتي إلى هنا! ليست مريم هي الوحيدة الّتي تأتي. إنّما ما الّذي تفعله؟ إنّها تبكي، تفتّش في الأرض. قد تكون امرأة فقدت شيئاً ما في ذلك اليوم؟» يتساءلون فيما بينهم. بالفعل يمكن أن يكون الأمر كذلك، فلا أحد يتبيّن مَن تكون. إنّ وجه المرأة مغطى كلّياً بحجابها.
توما يرفع صوته القويّ: «يا امرأة! ماذا فقدتِ؟»
«لا شيء. أفتش عن موضع صليب الربّ. لديَّ شقيق يحتضر، والمعلّم الصالح لم يعد على الأرض...» تبكي تحت حجابها. «لقد طرده البشر!»
«لقد قام يا امرأة. إنّه خالد إلى الأبد.»
«أعرف أنّه خالد إلى الأبد، لأنّه الله، والله لا يهلك. لكنّه لم يعد بيننا. العالم لم يرده، وهو رحل. العالم قد أنكره، حتّى تلاميذه تخلّوا عنه كما لو كان لصّاً، وهو هجر العالم. لقد أتيتُ باحثةً عن القليل مِن دمه. أؤمن بأنّ هذا الدم سيشفي شقيقي، أكثر مِن أيدي تلاميذه، لأنّني لا أعتقد بأنّهم قادرون بعد على اجتراح معجزات بعدما كانوا غير مخلصين.»
«الربّ كان هنا منذ قليل يا امرأة. لقد قام بالنَّفْس والجسد ولا يزال بيننا. إنّ عطر بركته لا يزال علينا. انظري، هنا كان يضع قدميه منذ قليل.» يقول يوحنّا.
«لا. إنّني أفتّش عن قطرة مِن دمه. لم أكن هنا ولا أعرف المكان...» تنحني وتفتّش في الأرض.
يوحنا يقول لها: «هنا كان موضع صليبه. أنا كنتُ موجوداً.»
«حقاً؟ بمثابة صديق أم لتصلبه؟ يقال إنّ واحداً فقط مِن تلاميذه الـمفضّلين كان تحت صليبه، وبعض التلاميذ الـمخلصين له كانوا بالقرب مِن هنا. إنّما لا أودّ أن أتكلّم مع أحد صلبه.»
«لستُ واحداً منهم يا امرأة. انظري، الصليب كان هنا والأرض لا تزال حمراء مِن دمه، على الرغم مِن أنّهم حفروها. لقد نزف الكثير مِن الدم الّذي توغّل عميقاً في التراب. خذي. وليحصل إيمانكِ على مكافأته.» يوحنّا نبش بأصابعه في الحفرة حيث كان الصليب، وسحب منها حفنة مِن التربة الـمحمرّة، تلقّفتها المرأة في قطعة قماش كتّاني صغيرة. تشكره وتمضي مسرعة مع كنزها.
«أحسنتَ صنعاً بعدم الكشف عمّن نكون.»
«لماذا لم تُعرّفها عن نفسكَ؟» يقول الرُّسُل. كالعادة، الأفكار البشريّة تتعارض.
ينظر يوحنّا إليهم ولا يتكلّم. إنّه أوّل مَن ينطلق نزولاً عبر الطريق المنحدرة المرصوفة. وإن كان النزول أسهل مِن الصعود، إلاّ أنّ الشمس لا تزال حادّة، وعندما يصلون إلى أسفل الجلجلة، يشعرون بعطش شديد. إنّما ثمّة نعاج عند الساقية ورُعاة معها، قد خرجوا بالتأكيد مِن زريبة مجاورة ليقودوا النعاج إلى الرعي قبل المساء. الماء عَكِر، لا يُشرَب.
العطش شديد لدرجة أنّ برتلماوس يتوجّه إلى أحد الرُّعاة قائلاً: «ألديكَ جرعة ماء في مَطَرتكَ؟»
الرجل ينظر إليهم بصرامة ويصمت.
«قليلٌ مِن الحليب إذاً. ضروع بهائمكَ مُنتفِخة. سندفع لكَ بالمقابل. رغبنا في شرب سائل ما بارد، إنّما يكفينا أن نشرب.»
«ليس لديّ ماء ولا حليب للذين تخلّوا عن معلّمهم. أعرفكم، أتعلمون؟ لقد رأيتُكم يوماً في بيت صور وسمعتُكم. أنتَ، أنتَ تحديداً، الّذي تطلب... لكنّني لم أركم حين قابلتُ الّذين أنزلوا الـمعلّم المقتول. لم يكن سواه، لم يكن هناك ماء مِن أجله، الّذين كانوا على الجبل قالوا لي ذلك. ولا لكم كذلك.» يُصفِّر لكلبه، يجمع نعاجه ويمضي باتّجاه الشمال، حيث تبدأ التلال المغطّاة بأشجار الزيتون وتنتشر الأعشاب.
الرُّسُل المنهكون يجتازون الجسر ويدخلون المدينة.
يسيرون بمحاذات الأسوار، وأغطية رؤوسهم تغطّي عيونهم، مُنحنين قليلاً لأنّ الشوارع تعاود النشاط الآن بعد انحسار الحرارة اللاهبة للساعات الأولى لفترة ما بعد الظهر.
إنّما يتوجّب عبور المدينة كلّها قبل الوصول إلى منزل العلّية، وهناك الكثير مِن الناس الّذين يعرفون الرُّسُل كي يتمكّنوا مِن العبور دون أيّ حادث. وسرعان ما تدركهم قهقهة لاذعة، فيما أحد الكَتَبَة (لقد اعتقدتُ بحقّ أنّني لن أرى المزيد مِن الإهانات، وكنتُ سعيدة بذلك) يصيح بالناس، الّذين هم كُثُر عند مفترق الطرق الضيّق ذاك حيث يقرقر ماء سبيل: «ها هم! انظروا! ها هي فلول جيش الـمَلِك العظيم! البواسل الجبناء، تلاميذ الـمُضلِّل. الازدراء والهزء لهم، والشفقة للمجانين!»
إنّها بداية عصفة سخرية.
البعض يصيحون: «أين كنتم فيما كان يتألّم؟» آخرون: «هل اقتنعوا الآن أنّه كان نبيّاً كاذباً؟» وآخرون: «عَبَثاً سرقتموه وأخفيتموه! الفكرة انطفأت، الناصريّ مات. الجليليّ صعقه يهوه. وأنتم معه.» أحدهم بشفقة مزيّفة: «إنّما دعوهم وشأنهم! لقد أدركوا ذلك وندموا، متأخّرين جدّاً، إنّما كان هروبهم في الوقت الـمناسب!» آخرون يخطبون بعامّة الناس، المؤلّفين بغالبيّتهم مِن نسوة نازِعات إلى الانحياز إلى جانب الرُّسُل، قائلين: «أنتم، الّذين ما تزالون تشكّون في عدالتنا، عسى أن يكون تصرّف أكثر أتباع الناصريّ إخلاصاً بمثابة نور لكم. لو كان هو الله، لكان قَوَّاهم. لو كانوا تعرّفوا على أنّه المسيا الحقيقيّ، لما كانوا هربوا، على اعتبار أنّ ما مِن قوّة بشريّة كانت تستطيع الانتصار على المسيح. على العكس هو مات في حضور الشعب. وعبثاً سرقوا جثّته بعدما هاجموا الحرّاس الّذين كانوا نائمين. اسألوا الحرّاس عن صحّة حدوث ذلك. هو قد مات، وأصحابه تشتّتوا، وعظيم في عينيّ الله العليّ مَن يحرّر أورشليم مِن بقاياه الأخيرة. اللعنة على أتباع الناصريّ! التقطوا الحجارة أيا أيّها الشعب الـمقدّس، ولنرجم هؤلاء خارج الأسوار.»
ذلك كثير بالنسبة إلى شجاعة الرُّسُل الّتي لا تزال متزعزعة! لقد تراجعوا قليلاً نحو الأسوار لئلاّ يُثيروا الهيجان بفعل تحدّ في غير محلّه للمتّهِمين. إنّما الآن، الخوف، أكثر من الحذر، هو الّذي يطفو. يستديرون، ناجين بأنفسهم بالهرب باتّجاه الباب. يعقوب بن حلفى ويعقوب بن زَبْدي، مع يوحنّا، بطرس والغيور، الأهدأ والأكثر تحكّماً بأنفسهم مِن الآخرين، يتبعون رفاقهم مِن دون أن يركضوا، وبعض الحجارة تدركهم والكثير مِن القذارة تصيبهم قبل أن يخرجوا عبر الباب.
الحرّاس الّذين يخرجون مِن أماكنهم، يمنعون ملاحقتهم ما بعد الأسوار. لكنّ الرُّسُل يركضون ويركضون ويلتجئون إلى بستان التفّاح الّذي ليوسف، حيث كان القبر.
المكان هادئ، ساكن، لطيف هو النور تحت الأشجار الّتي أنبتت أوراقاً قليلة خلال الأيّام الأخيرة، إنّما كونها بلون أخضر زمرديّ فهي تشكّل حجاب لون لطيف تحت الجذوع الصلبة. يرتمون أرضاً كي يُسَكّنوا خفقان قلوبهم. في عمق البستان رجلٌ يقلب التربة ويعدل سوق الخُضار، يُساعِده فتىً، ولا يُلاحِظ وجود الرُّسُل الّذين اختبأوا وراء سياج. وفقط، بعدما تَفَحَّصَ السماء وقال بصوت عالٍ: «تعال يا يوسف، واجلب الحمار لربطه إلى العجلة.» يتّجه نحوهم، إلى حيث بئر بدائيّة يخفيها ويظلّلها تشابك علّيق.
«ماذا تفعلون؟ مَن أنتم؟ عن أيّ شيء تبحثون في بستان يوسف الذي مِن الرّامة؟ وأنتَ، أيّها الأبله، لماذا تترك البوّابة مفتوحة، الآن وقد وضعها يوسف ويريدها مغلقة؟ ألا تعلم أنّه لا يريد أحداً هنا، حيث وُضِع الربّ؟»
أقول الحقيقة بتأكيدي أنّني في معاناة حضوري إنزال يسوع عن الصليب، وفي ذهول قيامته، لم أُلاحِظ أبداً ما إذا كان للبستان، وراء السور الأخضر مِن البقس والعلّيق، بوّابة أم لا، ولكنّني أظنّ بالفعل بأنّها وُضِعت حديثاً، لأنّها جديدة تماماً ويدعمها عمودان مُربّعان طلاؤهما لا يبدو عتيقاً. يوسف أيضاً، مثل لعازر، وضع أقفالاً في المواضع الّتي قَدَّسها يسوع.
ينهض يوحنّا مِن على الأرض، وينهض معه الغيور ويعقوب بن حلفى، ويقول دونما خوف: «نحن رُسُل الربّ. أنا يوحنّا، هذا سمعان، صديق يوسف، وهذا يعقوب، أخو الربّ. الربّ دعانا إلى الجلجلة، وقد مضينا إلى هناك. أَمَرَنا بالذهاب إلى المنزل حيث الأُمّ، ولاحقنا الحشد. لقد دخلنا إلى هنا، في انتظار المساء...»
«ولكن أنتَ مجروح؟ وأنتَ أيضا! وأنتَ! تعالوا، كي أداويكم. هل أنتم عطاش؟ إنّكم تلهثون. أنتَ، بسرعة، اسحب الماء. إنّ أوّل ماء يكون نقيّاً، مِن ثمّ تجعله الدلاء مُوحِلاً. وأعطهم ليشربوا، ومِن ثمّ اغسل بعضاً مِن هذا الخسّ الطازج واسكب فوقه مِن الزيت الّذي لدينا لتحسين طعمه. ليس لديّ شيء آخر أقدّمه لكم. ليس لي منزل هنا. إنّما إذا انتظرتم فسوف أصطحبكم معي...»
«لا. لا. علينا أن نمضي للقاء الربّ. ليكافئك الله.» يشربون ويدعونه يعالج جروحهم. كلّهم مجروحون في الرأس. اليهود يجيدون التسديد!
«أنت، اخرج إلى الطريق وانظر، دون أن تلفت الانتباه، إن كان هناك جاسوس.» البستانيّ يأمر الصبيّ.
«لا أحد يا أبي. الدرب خاوية.» يقول الصبيّ وهو عائد.
«أَلقِ نظرة عند الباب وعُد سريعاً.»
يَقطف سُوق يانسون ويقدّمها معتذراً لعدم امتلاكه سوى البقول، خس وبعض اليانسون، حيث إنّ أشجار التفّاح فقدت أزهارها للتوّ.
الصبيّ يعود: «ما مِن أحد يا أبي. الدرب خاوية فيما وراء الباب.»
«هيّا بنا إذاً، اربط الحمار إلى العربة، وارم فوقها الأعشاب الّتي قطعناها. سوف نظهر بمظهر رجال عائدين مِن الحقول. تعالوا معي. سيكون الطريق أطول... إنّما ذلك أفضل مِن التعرّض للرجم.»
«في كلّ الأحوال سيتوجّب علينا دخول المدينة...»
«نعم، إنّما سندخل مِن جهة أخرى، عبر أزقّة مُعتِمة. تعالوا دون خوف.»
يُقفِل البوابة المتينة بمفتاح كبير، يُصعِد الأكبر سنّاً إلى العربة، ويعطي معاول ومماشط للآخرين، يضع حزمة أغصان مقطوعة على ظهر توما، وربطة أعشاب على ظهر يوحنّا، ويمضي واثقاً، محاذياً الأسوار صوب الجنوب.
«لكنَّ منزلكَ... المكان مقفر هنا.»
«المنزل في الجهة الأخرى ولن يهرب. زوجتي سوف تنتظر. عليّ أولاً أن أخدم خُدّام الربّ.» ينظر إليهم... «إيه! الجميع يُخطِئون! لقد خفتُ أنا أيضاً! ونحن كلّنا مكروهون بسبب اسمه، حتّى يوسف. إنّما بماذا يهمّ ذلك؟ الله معنا. الناس!... يكرهون ويحبّون، يحبّون ويكرهون. ومِن ثمّ! ما يفعلونه اليوم ينسونه غداً. أجل... ليتها لم تكن الضباع! فهم مَن يثيرون الناس. إنّهم هائجون لأنّه قام. آه! لو أنّه فقط يُظهِر نفسه على إحدى ذرى الهيكل، ليمنح اليقين للشعب مِن قيامته. لماذا لا يفعل ذلك؟ أنا أؤمن، إنّما ليس الجميع يُحسِنون الإيمان. وهم يدفعون مبالغ طائلة للّذين يقولون للشعب إنّكم سرقتم جثمانه، متحلّلاً، ودفنتموه أو أحرقتموه في مغارة ما في يوشافاط.»
إنّهم الآن عند الجزء الجنوبيّ مِن المدينة، في وادي هنّوم.
«هو ذا، هناك هو باب صهيون. هل تعرفون كيف تصلون إلى المنزل مِن هنا؟ هو ليس بعيداً.»
«نعرف ذلك. ليكن الله معكَ لطيبتكَ.»
«إنّكم دوماً قدّيسو المعلّم بالنسبة لي. إنّكم بشر وأنا كذلك. هو وحده كان أكثر مِن إنسان، وبإمكانه ألاّ يرتعد. إنّني أُحسِن الفهم والإشفاق، وأقول أنّكم، الضعفاء اليوم، ستكونون أقوياء غداً. السلام لكم.»
يخلّصهم مِن الأعشاب والأدوات الزراعيّة ويعود أدراجه، بينما هم يدخلون المدينة سريعين مثل الأرانب البرّية ويتسلّلون عبر أزقّة فرعيّة صوب منزل العلّية.
لكنّ بلايا ذاك اليوم لم تنته بعد. تلتقيهم مجموعة مِن جنود الفيلق يتّجهون نحو الحانة المجاورة، وواحد منهم يتفرّس فيهم ويدلّ الآخرين. ويضحكون كلّهم. وحين يضطرّ هؤلاء التلاميذ المساكين الـمُهانين إلى العبور بجانبهم، يخاطبهم أحد الجنود المستندين إلى الباب بنبرة قاسية: «هيه! ألم ترجمكم الجلجلة ويضربكم الناس؟ بحقّ جوبيتر! كنتُ أظنّكم أكثر شجاعة! وأنّكم لا تخافون شيئاً، طالما أنّكم تحلّيتم بالشجاعة للصعود إلى فوق. ألم تؤنّبكم حجارة الجبل على جبنكم؟ وقد تجرّأتم على الصعود إلى هناك؟ لطالما رأيتُ الـمُذنِبين يهربون مِن الأماكن الّتي تذكّرهم بإثمهم. إنّ النيميسيس [إلهة الانتقام والعقاب عند الرومان] تلاحقهم. إنّما ربّما هي جرّتكم إلى فوق لتجعلكم ترتجفون هلعاً، اليوم، طالما لم ترتجفوا إشفاقاً آنذاك.»
امرأة، ربّما هي صاحبة الحانة، تظهر عند الباب وتضحك. لها وجه فاسقة مخيف، وتصرخ بصوت عالٍ: «أيّتها النسوة العبرانيّات، انظُرن إلى ما أنتجته أحشاؤكنّ، حانِثين خسيسين، يخرجون مِن جحورهم عندما ينتهى الخطر. إنّ البطن الرومانيّ لا يحبل إلاّ بالأبطال. تعالوا، أنتم، لتشربوا نخب عَظَمة روما. نبيذاً مختاراً وفتيات جميلات...» تبتعد، يتبعها جنود إلى كهفها الـمُعتم.
امرأة عبرانية تنظر -هناك بعض النسوة مع جرارهن على الطريق، حيث يُسمَع خرير السبيل قرب منزل العلّية- وتُشفِق عليهم. إنّها امرأة مُسِنّة. تقول لرفيقاتها: «لقد أخطأوا... إنّما شعب بأسره قد أخطأ.» تقصد الرُّسُل وتحيّيهم: «السلام لكم. نحن لا ننسى... قولوا لنا فقط: أحقّاً قام المعلّم؟»
«لقد قام. نُقسِم على ذلك.»
«إذاً لا تخافوا. هو الله، والله سينتصر. السلام لكم، يا إخوتي. وقولوا للربّ أن يغفر لهذا الشعب.»
«وأنتم صَلّوا كي يغفر لنا الشعب وينسى العار الذي ارتكبناه. أيّتها النسوة، منكن، أنا سمعان بطرس، أطلب المغفِرة.» بطرس يبكي…
«نحن أُمّهات وأخوات وزوجات يا رجل. وخطيئتكَ هي خطيئة أبنائنا، إخوتنا وأزواجنا. ليرحم الربّ الجميع.»
أولئك النسوة الوَرِعات قد رافقنهم إلى المنزل، ويقرعن هنّ أنفسهنّ الباب الـمُوصَد. ويسوع يفتح الباب، مالئاً المدخل الـمُعتِم بشخصه الـمُمجَّد، ويقول: «السلام لكنّ لشفقتكنّ.»
النسوة يتحجّرن مِن الدهشة. يلبثن هكذا إلى أن يُغلَق الباب وراء الرُّسُل والربّ. عندها يَعُدن إلى رشدهنّ.
«هل رأيتِه؟ كان هو. وسيماً! أكثر مِن السابق. إنّه حيّ! ليس طيفاً! إنسان حقيقيّ. صوته! ابتسامته! كان يحرّك يديه. هل رأيتِ كم كانت جروحه حمراء؟ لا، أنا كنتُ أراقب صدره الّذي كان يتنفّس مثل إنسان حيّ. آه! حذار أن يأتوا ويقولوا لنا إنّ الأمر غير صحيح! لنذهب! لنذهب ونُعلِم المنازل! لا. لنقرع هنا كي نراه ثانية. ما الذي تقولينه؟ إنّه ابن الله، الّذي قام. إنّه لأمر حسن أنّه أظهر نفسه لنا، نحن النسوة المسكينات، إنّه برفقة أُمّه والتلميذات والرُّسُل. لا. نعم...» الفَطِنات يفزن. المجموعة تبتعد.
إنّ يسوع قد دخل مع تلاميذه إلى العلّية في تلك الأثناء. يُراقبهم. يبتسم. وقد نزعوا أغطية رؤوسهم، الّتي كانت موضوعة كاللفائف قبل الدخول إلى المنزل، وأعادوا وضعها كما توضع عادة، لذلك فإنّ جروحهم لا تظهر للعيان. يجلسون مُتعَبين وصامتين، حزانى أكثر ممّا هم مُتعَبون.
«لقد تأخّرتم.» يقول لهم يسوع بلطف.
صمت.
«ألا تقولون لي شيئاً؟ تكلّموا! أنا دائماً يسوع. هل سقطت جرأتكم اليوم؟»
«آه! يا معلّم! يا ربّ!» يهف بطرس وهو يخرّ على ركبتيه عند قدميّ يسوع. «جرأتنا لم تسقط، إنّما نحن مقهورون لرؤية مدى الأذى الّذي ألحقناه بإيمانكَ. إنّنا منسحقون!»
«الكبرياء يموت، التواضع يُولَد. المعرفة تنهض، المحبّة تتنامى. لا تخافوا. أنتم الآن تُصبحون رُسُلاً. هذا ما كنتُ أريده.»
«لكنّنا لن نقدر فِعل شيء! الشعب، وهو على حقّ، يهزأ بنا! لقد دَمَّرنا عملكَ، دَمَّرنا كنيستكَ!» كلّهم في ضيق. يصرخون، يشوّرون…
يسوع في هدوء مهيب. يقول، داعماً كلماته بالحركة: «سلاماً! سلاماً! الجحيم ذاتها لن تقوى على تدمير كنيستي، ليس اهتزاز حجر، غير مثبّت جيّداً بعد، هو الّذي يسبّب انهيار البناء. سلاماً! سلاماً! سوف تعملون. وسوف تبلون بلاءً حسناً، الآن وقد عرفتم أنفسكم بتواضع، لأنّكم الآن حكماء بحكمة عظيمة: معرفة أنّ لكلّ فِعل تداعيات هائلة، وأحياناً لا تُمحى، وأنّ مَن كان في مكان مرتفع - تذكّروا ما قلتُه لكم عن السراج الّذي يجب أن يوضع في مكان مُرتفِع لكي يُرى، وأنّ شعلته يحب أن تكون نقيّة لأنّ الجميع يرونها- أنَّ مَن هو في المكان العالي يتوجّب عليه، أكثر ممّن ليس كذلك، أن يكون كاملاً. أترون يا أبنائي؟ إنّ ما قد يمرّ دون ملاحظة أو يكون قابلاً للتبرير، إذا ما قام به مؤمن، لا يمرّ دونما ملاحظة، وحكم الشعب صارم، إذا ما صدر عن كاهن. لكنّ مستقبلكم سيمحو ماضيكم. لم أكلّمكم على الجلجلة، لكنّني تركتُ العالم يتكلّم. والآن أعزّيكم. هيّا، لا تبكوا. استعيدوا قواكم الآن، ودعوني أشفيكم. هكذا.» يلمس رؤوسهم المجروحة برفق، ثمّ يقول: «مع ذلك مِن الأفضل أن تبتعدوا مِن هنا. لذلك قلتُ: "اذهبوا إلى جبل طابور للصلاة". يمكنكم البقاء في القرى المجاورة والصعود كلّ صباح عند الفجر لانتظاري.»
«يا ربّ، العالم لا يصدّق بأنّكَ قمتَ.» يقول تدّاوس بصوت خافت.
«سوف أُقنِع العالم. سأساعدكم على أن تغلبوا العالم. أنتم كونوا أوفياء لي. لا أطلب أكثر. وباركوا مَن يذلّونكم لأنّهم يقدّسونكم.»
يكسر الخبز، يقدّمه ويوزّعه: «هو ذا زادي لكم أنتم الّذين ترحلون. لقد سبق أن هيّأتُ الطعام لـمُسافِريَّ. افعلوا هذا أيضاً، في الـمستقبل، للّذين سيرحلون. كونوا أبويّين لكلّ المؤمنين. كلّ ما أفعله، أو أجعلكم تفعلونه، افعلوه أنتم أيضاً. كذلك الرحلة إلى الجلجلة، متأمّلين وحاثّين على التأمّل في درب الآلام، افعلوا ذلك في المستقبل. تأمّلوا! أَمعِنوا النظر في آلامي، لأنّ بها، لا بالمجد الحاضر، قد خَلَّصتُكم. إلى جانبنا لعازر وأُختاه. لقد أتوا لتحيّة الأُمّ. اذهبوا أنتم أيضاً، لأنّ أُمّي سترحل بعد قليل بعربة لعازر. السلام لكم.» ينهض ويخرج مسرعاً.
«يا ربّ! يا ربّ!» يصرخ أندراوس.
«ماذا تريد يا أخي؟» يسأله بطرس.
«كنتُ أريد أن أسأله عن أمور كثيرة. أن أخبره عن أولئك الّذين يطلبون شفاءات... لا أدري! عندما يكون بيننا لا نعود نعرف قول أيّ شيء!» ويمضي راكضاً في طلب الربّ.
«هذا صحيح! نصبح كمن فقد الذاكرة.» يوافق الجميع.
«ومع ذلك هو طيّب كثيراً معنا. لقد دعانا "أبناء" بوداعة رائعة إلى حدّ أنّها فتحت قلبي!» يهتف يعقوب بن حلفى.
«إنّما الآن، هو الله! أرتجف حين يكون قربي كأنّني قرب قدس الأقداس.» يقول تدّاوس.
يعود أندراوس: «لم يعد هناك. المكان، الزمان، والجدران خاضعة له.»
«إنّه الله! إنّه الله!» يقولون جميعاً، مفعمين إجلالاً...