ج3 - ف69

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

69- (إلى بيت لحم مع الرُّسُل والتلاميذ)

 

03 / 07 / 1945

 

بَعدَ مغادرة بيت عنيا عند مَطلَع الفجر، يمضي يسوع مع أُمّه ومريم التي لحلفى ومريم سالومة إلى بيت لحم، يتبعهم الرُّسُل، وأمامهم يسير الصبيّ الذي يَجِد مُسبِّباً للفرح في كلّ ما يرى: الفراشات التي تستفيق، والعصافير التي تُغرِّد أو تلتقط الحبوب على الدروب، الزهور التي تجعل ماسات الندى تتألّق، وظهور قطيع مع عدد مِن الحِملان تثغو. بعد اجتياز السَّيل الذي إلى الجنوب مِن بيت عنيا، الـمُزبِد والضاحِك وسط الصخور، يتوجّه الجميع إلى بيت لحم بين سلسلتين مِن الروابي، يكسوهما اخضرار الزيتون والكروم، مع حقول صغيرة مِن الحصاد الذهبي الذي أَينَعَ. الوادي مُنعِش والطريق مريحة.

 

يتقدَّم سمعان بن يونا للّحاق بمجموعة يسوع ويَسأَل: «أَمِن هنا نذهب إلى بيت لحم؟ فيوحنّا يقول إنّه، في المرّة السابقة، اتَّبَع طريقاً أخرى.»

 

«صحيح.» يجيب يسوع. إنّما ذلك كان لأنّنا كُنّا قادمين مِن أورشليم. مِن هنا الطريق أقصر. عند قبر راحيل، الذي تريد النساء أن يَرينَه، سوف نفترق كما قرّرتم منذ برهة. وسوف نلتقي بعدئذ في بيت صور حيث تبغي أُمّي الإقامة.»

 

«نعم، لقد قُلنا ذلك... إنّما يكون جميلاً للغاية أن نكون هناك جميعنا... خاصّة الأُمّ... ذلك أنّها، في النهاية، هي مَلِكَة بيت لحم والمغارة، وتَعرِف كلّ شيء بشكل تامّ... والاستماع إلى ذلك مِن فمها... مختلف.»

 

يبتسم يسوع وهو يَنظُر إلى سمعان الذي يُلَمِّح إلى رغبته بِتؤدة.

 

«أيَّة مغارة يا أبي؟» يَسأَل مارغزيام.

 

«المغارة التي وُلِدَ فيها يسوع.»

 

«آه! رائع! آتي إليها أنا أيضاً!...»

 

«حقّاً رائع!» تقول مريم التي لحلفى وسالومة.

 

«رائع جدّاً!... عودة إلى الوراء... إلى الحِقبة التي كان العالم يجهلكَ فيها، صحيح، إنّما لم يكن يبغضكَ بعد... سيكون الأمر مجرّد التعرّف إلى حبّ البسطاء الذين لَم يَعرفوا سوى التصديق والحبّ بتواضع وإيمان... إنزال حِمل المرارة الذي يَجثم بثقله على قلبي مُذ عرفتكَ هكذا مَكروهاً، إنزاله هناك في المغارة... لا بدّ أنّها ما زالت تحتفظ بعذوبة نظرتكَ وتنفسّكَ وابتسامتكَ التائهة هناك... كلّ ذلك كان يُداعِب قلبي... فهو مُفعَم بالكثير مِن المرارة!...» تتكلّم مريم ببطء مُعبِّرة عن رغبتها وحزنها.

 

«إذن، نذهب إليها يا أُمّي. ولكِ أن تقودينا. فاليوم أنتِ المعلّم وأنا الطفل الذي يتعلَّم.»

 

«آه! يا بنيّ! لا! فأنتَ المعلّم على الدوام...»

 

«لا يا أُمّي. سمعان بن يونا قد أجاد القول. على أرض بيت لحم أنتِ الـمَلِكَة. فذلك كان قصركِ الأوّل. يا مريم التي مِن نسل داود، قودي هذا الشعب إلى مسكنكِ.»

 

يَهمّ الاسخريوطيّ بالكلام، ولكنّه يتراجع ويَصمت. ويسوع الذي يلاحظ حاله يناديه ويقول: «إذا كان أحدكم، بسبب هذا التعب أو لسبب آخر، لا يريد المجيء، فليُكمل طريقه بِحُريّة إلى بيت صور.» ولكنّ أحداً لم يتكلّم.

 

يُتابِعون طريقهم عَبْر الوادي الـمُنعِش المتَّجه مِن الشرق إلى الغرب، ثُمّ يَدورون قليلاً إلى الشمال، يُحاذون رابية مُنتَصِبة هناك، ويَصِلون بذلك إلى الطريق المؤدّية مِن أورشليم إلى بيت لحم، تماماً بجانب مُكعَّب تعلوه القُبَّة الـمُدوَّرة لقبر راحيل. ويدنو الجميع للصلاة بخشوع.

 

«هنا توقَّفنا، يوسف وأنا... ما زال كلّ شيء على حاله، ما عدا الفصل فإنّه مختلف. آنذاك كان يوماً من أيّام كازلو (كانون الأول-ديسمبر) الباردة، وكانت الأمطار قد هَطَلَت والطرقات مُوحِلة، ثُمّ هَبَّت ريح جليديّة، وقد يكون الصقيع تَشَكَّل في الليل. كانت الطرقات قد تَصَلَّبت، إنّما كانت كثيرة الأثلام التي أحدَثَتها العربات والجموع، فكانت كالبحر المكتظّ بالمراكب، وكان حماري الصغير يتعب...»

 

«وأنتِ لا يا أُمّاه؟»

 

«آه! أنا، كنتُ أمتلككَ أنتَ!...» وتُعَبِّر نظرتها عَن غِبطة عظيمة مؤثِّرة. ثُمّ تُعاوِد الكلام: «كان الليل يهبط، ويوسف منشغل... وكانت تهبّ رياح لاذعة، وبشكل يزداد قوّة وعنفاً على الدوام... وكان الناس يَحثّون الخطى إلى بيت لحم وهُم يتصادمون، وكثيرون منهم كانوا يَصدمون حماري الصغير الذي كان يتقدّم ببطء، باحثاً عن موضع يطأ عليه بحوافره... كان يبدو أنّه يعرف أنّكَ كنتَ أنتَ هنا... وأنّكَ كنتَ تقضي ليلتكَ الأخيرة في مَهد أحشائي. وكان الجوّ بارداً... أمّا أنا فقد كنتُ أَضطَرِم. كنتُ أشعُر بكَ قادماً... قادماً؟ يمكنكَ القول: "منذ تسعة أشهر كنتُ أُمّاً". نعم، إنّما ساعَتَئِذ، كنتَ وكأنّكَ تأتي مِن السماوات. فالسماوات تهبط، تهبط عليَّ، وكنتُ أنا أرى تألُّقها... كنتُ أرى الألوهة المضطَرِمة فَرَحاً لولادتكَ الوشيكة، وكانت تلك النيران تجتاحني وتحرقني وتُجرِّدني... مِن كلّ شيء... البرد... الريح... والجموع... كلّ ذلك لم يكن بشيء! فقد كنتُ أرى الله... ومِن وقت لآخر كنتُ أنجح بمجهود في إعادة روحي إلى الأرض، وكنتُ أبتسم ليوسف الذي كان يخشى عليَّ مِن البرد ومِن التَّعَب، والذي كان يقود الحمار الصغير خوفاً مِن خطوة خاطئة، والذي كان يَلفّني بغطاء خشية أن يطالَني البرد... ولكن لم يكن لشيء أن يَحدُث. فلم أكن أُحِسّ بالارتجاجات. كان يبدو لي أنّني أسير على طريق مِن نجوم، وسط الغيوم الساطعة التي كان الملائكة يحملونها... وكنتُ أبتسم... أوّلاً لكَ... وكنتُ أنظر إليكَ، عَبْر حواجز الجسد، تنام وقبضتاكَ الصغيرتان مغلقتان في سرير صغير مِن الورود الحيّة، يا كُمّ زنبقتي... ثُمّ كنتُ أبتسم لعروسي الـمُنهَك، الـمُنهَك للغاية، لأشجّعه... وكذلك للناس الذين لم يَكونوا يَعلَمون أنّهم أَصبَحوا يتنفَّسون في فجر الـمُخلِّص…

 

تَوَقَّفنا قرب قبر راحيل لإراحة الحمار الصغير وتناول القليل مِن الخبز والزيتون، مؤونتنا كفقراء. إنّما أنا لم أكن جائعة، لم يكن باستطاعتي أن أجوع... فقد كان فرحي يغذّيني... وعاوَدنا السير... تعالوا لأدلّكم أين رأينا الراعي... لا تخشوا أن أخطئ، فإنّني أحيا تلك الساعة مِن جديد، وأعود لأجد كلّ مَوضِع، فأنا أرى كلّ شيء عَبْر نور ملائكي عظيم. قد تكون طُغمات الملائكة هنا مِن جديد، غير مرئيّة بالنسبة إلى الأجساد، ولكنّها مرئيّة مِن النُّفوس ببياضها الـمُشرِق، ويتكشّف كلّ شيء، ويُحدَّد كلّ شيء. لا يمكن للملائكة أن يخطئوا وهم يقودونني... لفرحي وفرحكم. هو ذا: إنّ إيلي قد جاء مِن ذاك الحقل إلى هذا، مع نِعاجه، وقد طَلَبَ منه يوسف بعض الحليب لي. وهنا في هذا المرج توقَّفنا، بينما كان يَجلب الحليب الساخن والمغذّي ويقدّم ليوسف نصائحه.

 

تعالوا، تعالوا... هو ذا، هو ذا السبيل إلى آخِر واد قبل بيت لحم. ولقد سَلَكناه لأنّ الشارع الرئيسيّ في ضواحي بيت لحم كان مكتظّاً بالناس والـمَطايا... هي ذي بيت لحم! آه! الحبيبة! أرض آبائي الحبيبة التي مَنَحَتني قُبلة ابني الأولى! أنتِ الـمُنفَتِحة والطيّبة والعَطِرة مثل الخبز الذي تحملين اسمه لِتَمنَحي الخبز الحقيقيّ إلى العالم الذي يموت مِن الجوع! لقد عانَقتِني أنتِ التي سَكَنَ فيها حُبّ راحيل الأُموميّ، مِثل أُمّ، يا أرض بيت لحم داود المقدَّسة، الهيكل الأوّل الذي أُقيمَ للمُخلِّص، لنجمة الصُّبح التي وُلِدَت مِن يعقوب لِتُعلِّم الإنسانيّة كلّها طريق السماوات! انظروا كم المدينة جميلة في هذا الربيع! إنّما حينذاك كذلك، على الرغم مِن أنّ الحقول والكروم كانت عارية، فقد كانت جميلة. وِشاح خفيف مِن الجليد كان يجعل الأغصان العارية تتألّق وهي مغطّاة بغبار مِن الماس كما لو كانت مُغلَّفة بوِشاح مِن الجنّة غير حسّيّ. وفي كلّ بيت كان الدخان يتصاعد مِن الـمَوقِد مِن أجل العشاء الوشيك، والدخان المتصاعد درجة درجة حتّى تلك القمّة يُظهِر المدينة ذاتها مُوَشَّحة... وكلّ شيء كان عفيفاً، خاشعاً، وفي حالة انتظار... انتظاركَ أنتَ، أنتَ يا بنيّ! كانت الأرض تَشعُر بقدومكَ... وقد أَحَسَّ كذلك أهالي بيت لحم، إذ إنّهم ليسوا أشراراً، حتّى ولو لم تَكونوا تَظُنّون ذلك. فلم يكن بمقدورهم تقديم المأوى لنا... ففي بيت لحم النـزيهة والصالحة، كانوا يَكتَظُّون، مُتغطرِسين كعادتهم، صُمّاً ومُتكبِّرين، مَن هُم ما يزالون كذلك الآن. وهؤلاء لم يكن باستطاعتهم الإحساس بكَ... كَم مِن الفرّيسيّين والصدّوقيّين والهيروديّين والكَتَبَة والأسينيّين كانوا هناك! آه! يا لقلوبهم المنغلقة الآن، وهذه عاقبة قسوة القلوب آنذاك. فلقد أَغلَقوا قلوبهم في وجه حُبّ أُخت لهم فقيرة في تلك الليلة... وظَلّوا، ويَظلّون في الظلمات. لقد أَبعَدوا الله منذ تلك اللحظة بإبعادهم عنهم حُبّ القريب.

 

تعالوا ولِنَمضِ إلى المغارة. عَبَثاً دخولنا إلى المدينة، فأعظم أصدقاء ابني لَم يعودوا هناك. وتكفي الطبيعة الصديقة بحجارتها ونهرها الصغير وحَطَبها لإشعال النار. الطبيعة التي أَحَسَّت بقدوم ربّها... تعالوا نَدور هنا مطمئنّين... هي ذي أنقاض برج داود. آه! وهي أَحَبُّ إليَّ مِن قصر مَلَكيّ! أنقاض مُبارَكة! جدول مُبارَك! شجرة مُبارَكة! وكأنّ معجزة جَعَلَت الريح تُعرّي أغصاناً منها لِنَجِد حطباً يُمَكِّننا مِن إشعال النار!»

 

تَهبط مريم مُسرِعة إلى المغارة، تَعْبر الجدول على خشبة وُضِعَت بمثابة الجسر، تَهرَع إلى الموضع الذي بجانب الأنقاض، وتجثو على عَتَبَة المغارة. تنحني وتُقبِّل الأرض، يقتدي بها الآخرون جميعهم. إنّهم متأثّرون... والصبيّ الذي لا يفارقها لحظة، يبدو وكأنّه يستَمِع إلى قصّة ساحرة، وتَنهَل عيناه السوداوان كلمات وحركات مريم دون إضاعة واحدة منها.

 

تَنهَض مريم وتَدخُل قائلة: «كلّ شيء كما كان آنذاك!... إنّما حينذاك كان ليلاً... وقد أنار لي يوسف الطريق لِأَدخُل. وحينئذ، حينئذ فقط، وأنا أنزِل مِن على الحمار، أحسستُ إلى أيّة درجة كنتُ متعبة ومتجمِّدة... حَيَّانا ثَور، ومَضَيتُ إليه لِأَنعَم بقليل مِن الدفء، لأستَنِد إلى القَشّ... يوسف هنا، حيث أنا، فَرَشَ قَشّاً ليَجعَل لي منه سريراً، وقد جَفَّفَه مِن أجلي كما مِن أجلكَ، يا بني، بالنار التي أُضرِمَت في هذا الرُّكن... فإنه كان طيّباً كأب في حبّه كملاك-عروس... وممسكاً بيدي كأَخَوَين تائِهَين في ظلمة اللّيل، أَكَلنا خبزاً وجبناً، ثمّ ذَهَبَ لِيُغذّي النار هناك، وخَلَعَ معطفه لِيُغلِق به فتحة المغارة... في الحقيقة، لقد أَسدَلَ الستار أمام مجد الله الهابط مِن السماوات، أنتَ يا يسوعي... وبقيتُ على القَشّ في دفء الحيوانَين، مغطّاة بمعطفي وغطاء صوفي... وعروسي الحبيب!... في ساعة القلق تلك، حيث كنتُ وحيدة أمام سِرّ الأُمومة الأولى، المفعَمَة دائماً بالمجهول بالنسبة إلى امرأة، وبالنسبة إليَّ في أُمومتي الوحيدة، المليئة كذلك بالسرّ الذي هو رؤية ابن الله وهو يَظهَر مِن جسد قابل للموت. فهو، أي يوسف، كان لي بمثابة الأُمّ، فلقد كان ملاكاً... كان عزائي... حينذاك وعلى الدوام…

 

بعد ذلك، كان الصمت والنُّعاس قد غَلَّفا البارّ... لكيلا يَرَى ما كان بالنسبة إليَّ قبلة الله اليوميّة... وبَعد فاصل الاحتياجات البشريّة، هي ذي موجات النَّشوة التي لا قياس لها، القادمة مِن البحر الفردوسي، والتي كانت قد رَفَعَتني مِن جديد إلى ذُرىً مُنيرة أكثر سموّاً على الدوام، حامِلة إيّاي إلى الأعلى، إلى الأعلى، معها، في محيط مِن النور، ومِن الفرح والسلام والحبّ، حتّى وَجَدتني تائهة في بحر الله، صَدر الله... ومرّة أخرى صوت مِن الأرض: "أتنامين يا مريم؟" آه! بعيد جداً!... صدى، ذكرى مِن الأرض!... وضعيف لدرجة أنّه لَم يُلامِس النَّفْس، ولستُ أدري أيّة إجابة صَدَرَت منّي عندما كنتُ أَصعَد، أرتقي باستمرار في تلك النار التي لا قرار لها، في تلك الغِبطة اللّامتناهية، وفي استشعار الله... حتّى وصولي إليه، إليه... آه! أكان أنتَ مَن وُلِدَ أَمْ كنتُ أنا مَن وُلِدتُ مِن سطوع الثالوث، تلك الليلة؟ أأنا مَن أَنجَبتُكَ، أَم إنّكَ أنتَ مَن سَحَبَني لِيُنجِبني؟ لستُ أدري…

 

ثمّ جاء دور الهبوط، مِن جوقة إلى جوقة، مِن نجم إلى نجم، مِن غيمة إلى غيمة، ناعمة، بطيئة، ومطمئنَّة مِثلَ وردة حَمَلَها نَسر إلى الأعالي وتَرَكَها تَسقُط، وهي تَهبُط على مَهل على أجنحة الهواء، وقد أضحَت أكثر جمالاً بِفَضل مَطَر مِن الحجارة الكريمة، وبِفِعل قطعة مِن قوس قزح مُنتَزَع مِن السماء، وموضوع على مسقط الرأس... وتاجي: أنتَ! أنتَ على قلبي…

 

وحين جلستُ هنا، بعد أن سجدتُ لكَ على ركبتيَّ، أحببتُكَ. أخيراً استطعتُ أن أحبّكَ دون حاجز الجسد، ومِن هنا نَهَضتُ لأحملكَ إلى حُبّ مَن كان مِثلي أهلاً لأن يكون مِن أوائِل الذين أحبّوكَ. وهنا، بين هذين العامودين الريفيّين، وَهَبتُكَ للآب... وهنا، استقرّيتَ للمرة الأولى على صدر يوسف... ثمّ قَمَّطتُكَ، ومعاً وضعناكَ هناك... كنتُ أُهدهِد لكَ بينما كان يوسف يُجفِّف القَشّ باللَّهَب ويُسَخِّنه ويَضَعهُ على صدركَ، ثُمّ، في هذا الـمَوضِع، لكي نَسجُد لكَ معاً، مُنحَنيين عليكَ، هكذا، هكذا كما أنا الآن، لِنَنهَل مِن تنفُّسكَ، لِنَرى إلى أيّ حَدّ مِن الامِّـحاء يمكن أن يَصِل الحبّ، لِنَسكب الدموع التي تُسكَب بالتأكيد في السماء مِن جَرّاء الفرح الذي لا يَنضَب لرؤية الله.»

 

راحَت مريم ورَجِعَت أثناء هذا الاستذكار، مُشيرة إلى الـمَواضِع، ناهِجَة بالحبّ، في عينيها الزرقاوين تَلمَع دمعة، وعلى شفتيها ابتسامة فَرَح، تَنحَني بِحَقّ على يسوعها الذي جَلَسَ، أثناء هذا الاستذكار، على صخرة ضخمة، وتُقبِّل شَعره باكية وهائِمة به كما في ذاك الحين…

 

«ثُمَّ الرُّعاة... في الداخل، هنا، لِيَعبدوكَ بِنَفْسهم الصالحة، مع زفرة الأرض العظيمة التي وَلَجَت معهم، مع رائحتهم كبشر، ورائحة القطعان والعشب؛ وفي الخارج، في كلّ مكان، الملائكة يعبدونكَ بحبّهم وأناشيدهم التي لا يمكن لِبَشَر أن يُردِّدها، وبِحُبّ السماوات، بجوّ السماوات الذي كان يَدخُل معهم، والذي كانوا يَحمِلونه معهم بشفافيّتهم... يا لِمَولِدكَ المبارَك!...»

 

جَثَت مريم إلى جانب ابنها وهي تبكي مِن التأثُّر، رأسها مُستَنِد إلى ركبتيه. على مدى لحظات، لَم يَجرؤ أحد على الكلام. يَنظُر الحاضِرون حولهم بأكثر أو أقلّ تأثّراً، كما لو أنّهم، وسط العناكب والحصى الوَعِرَة، كانوا يأمَلون الحصول على مَشهَد الحَدَث الموصوف…

 

تعود مريم لتتمالَك نفسها وتقول: «ها قد رَوَيتُ لكم وِلادة ابني ببساطتها اللّامتناهية وعَظَمَتها اللّامتناهية، بقلبي كامرأة، وليس بحكمة المعلّم. ليس هناك شيء آخر، فلقد كان ذلك أعظم ما على الأرض، مختفياً تحت الأعراض الأكثر عموميّة.»

 

«ولكن في الغد؟ وبعد ذلك؟» يَسأَل البعض، ومنهم مريم ومريم.

 

«في الغد؟ آه! في غاية البساطة! كنتُ الأُمّ التي تُرضِع وَليدَها، التي تَغسِله وتُقمِّطه، كما تفعل كلّ الأُمّهات. كنتُ أُسخِّن الماء الذي يُجلَب مِن الجدول، على النار المشتعلة خارجاً، حتّى لا يَجعَل الدخان عينيه الزرقاوين تَدمَعان. ثُمّ في الركن الأكثر حماية، في دلو خشبي قديم، كنتُ أغسل ابني وأَضَعهُ في القُمط النظيفة. كنتُ أذهَب إلى النهر أغسل القُمط وأنشرها في الشمس... ثمّ، وبِفَرح وسط هذه الأفراح، كنتُ أعطيه صدري، وكان، وهو يَرضَع، يَكتَسِب ألواناً، وكان سعيداً... في اليوم الأوّل، في الساعة الأكثر حرارة، جَلَستُ خارجاً لأراه جيّداً. فهنا يتسلّل النهار دون أن يَدخُل، والنور واللَّهَب يُضفِيان على الأشياء مَظهَراً غريباً. ذهبتُ خارجاً إلى الشمس... ونظرتُ إلى الكلمة المتجسّد. فالأُمّ آنذاك عَرِفَت ابنها، وأَمَةُ الله ربّها. وأَصبَحتُ أُمّاً وعابِدة... وبعد ذلك، بيت حنّة... الأيّام قُربَ الـمَهد، الخطوات الأولى، الكلمة الأولى... ولكنّ ذلك كان فيما بعد في أوانه... ولم يكن شيء شبيهاً بساعة ولادتكَ... فلن أجد تلك الملاءَة إلّا في العودة إلى الله...»

 

«إنّما مع ذلك... فالسَّفَر هكذا في آخر الوقت! تَهوُّر هو! لماذا عدم الانتظار؟ فالمرسوم كان يَمنَح مِهلة لحالات استثنائيّة مثل الولادة والمرض. هكذا قال حلفى...» تقول مريم التي لحلفى.

 

«الانتظار؟ آه! لا! ففي تلك الليلة، عندما حَمَلَ يوسف النبأ، اهتززنا فَرَحاً أنا وأنتَ يا بنيّ. لقد كان النداء... لأنّه كان هنا، هنا فقط ينبغي أن تُولَد كما قال الأنبياء. وهذا المرسوم غير المتوقّع كان رحمة مِن السماء تمحو لدى يوسف حتّى ذكرى الرَّيبَة. وقد كان ما كنتُ أنتظره مِن أجلكَ، مِن أجله، مِن أجل العالم اليهوديّ وعالم المستقبل، حتّى نهاية الدهر. لقد قيل. وكما قيل حَصَل. الانتظار! هل يمكن لعروس تأجيل حلم عرسها؟ لماذا الانتظار؟»

 

«ولكن مِن أجل كل ما كان مِن الممكن أن يَحدُث...» تقول أيضاً مريم التي لحلفى.

 

«لم يكن لديَّ أيّ خوف. كنتُ أستريح في الله.»

 

«ولكن هل كنتِ تَعلَمين أنّ كلّ شيء كان سيجري هكذا؟»

 

«لم يكن أحد قد قال لي ذلك، ولم أكن أنا أُفكِّر فيه على الإطلاق، لدرجة أنّني، لكي أُطَمئِن يوسف، تركتُهُ يُفكِّر، وأنتم كذلك، أنّه ما زال هناك وقت ليحين موعد الولادة. إنّما أنا فقد كنتُ أَعلَم، هذا كنتُ أَعلَمُه، كنتُ أَعلَم أنّ في عيد الأنوار كان سَيُولَد نور العالم.»

 

«وأنتِ يا أُمّي لماذا لَم تَصحَبي مريم؟ لماذا لَم يُفكِّر أبي في ذلك؟ كان ينبغي لكم أنتم أيضاً أن تأتوا إلى هنا. لماذا لم نأتِ جميعنا؟» يَسأَل بجدّيّة يوضاس تدّاوس.

 

«لا تَلُمه يا يوضاس. رأينا، باتّفاق مشتَرَك، أنّه مِن العدل أن نُسدِل حجاباً على سِرّ هذه الولادة.»

 

«ولكن، ومع تلك الدلائل، هل كان يوسف يَعلَم أنّها كانت ستحدث؟ إذا كنتِ أنتِ لا تعرفين ذلك، فهل كان باستطاعته هو معرفته؟»

 

«لم نكن نَعلَم شيئاً سوى أنّه ينبغي له "هو" أن يُولَد.»

 

«وإذن؟»

 

«وإذن، كانت الحكمة الإلهيّة هي التي قادَتنا هكذا، كما كان تماماً. ولادة يسوع، حضوره في العالم، كان ينبغي أن يَظهَر مُحتَجِباً عن كلّ إبهار كان سَيُثير الشيطان... وتَرَون أن حقد بيت لحم الحاليّ تجاه مَسيّا إنّما هو نتيجة الظهور الأوّل للمسيح. وقد استَخدَمَ بُغض الشيطان هذا الظُّهور لإراقة الدماء، وبالدم الـمُراق لانتشار البُغض. هل أنتَ مسرور يا سمعان بن يونا، يا مَن لا تتكلّم، وتبدو حابِس الأنفَاس؟»

 

«جدّاً... جدّاً، حتّى ليبدو لي أنّني في غير هذا العالم، في مَوضع أكثر قداسة حتّى مما لو كنتُ فيما وراء Velarium (حجاب) الهيكل... كثيراً لدرجة... لدرجة أنّني، وقد رأيتُكِ الآن بِنُور ذلك الحين، أخشى ألّا أكون قد عاملتُكِ باحترام، نعم، إنّما كامرأة عظيمة، امرأة على الدوام. الآن... الآن لن أستطيع القول لكِ كالسابق: "مريم". فلقد كُنتِ بالنسبة إليَّ في السابق أُمّ معلّمي. والآن، الآن رأيتُكِ على قمّة تلك الموجات السماويّة، لقد رأيتُكِ مَلِكَة، وأنا، البائس، هذا ما أفعله بالعبد الذي أنا هو.» ويرتمي أرضاً وهو يُقبِّل قَدَميّ مريم.

 

يتكلّم يسوع الآن: «انهض يا سمعان، تعال هنا قربي.» يَمضي بطرس إلى يسار يسوع، إذ إنّ مريم إلى يمينه. «ماذا نحن الآن؟» يَسأَل يسوع.

 

«نحن؟ ولكن يسوع ومريم وسمعان.»

 

«حسناً، ولكن كَم نحن؟»

 

«ثلاثة يا معلّم.»

 

«ثالوث إذاً. وذات يوم، في السماء، جاء في فِكْر الثالوث الإلهيّ: "لقد آن الأوان لِيَمضي الكلمة إلى الأرض". وبِرَعشَة حبّ، أتى الكلمة إلى الأرض. وقد انفَصَلَ عن الآب والروح القدس. لقد أتى ليَعمل على الأرض. وفي السماء، تأمَّلَ الأقنومان، اللذان كانا قد بَقِيا هناك، أَعمَال الكلمة، وهما أكثر اتّحاداً لِنَشر الفِكر والحبّ لمساعدة الكلمة الذي كان يعمل على الأرض. وسيأتي يوم يَرِد فيه أمر مِن السماء: "لقد آن أوان العودة، إذ قد تَمَّ كلّ شيء"، حينئذ يعود الكلمة إلى السماء، هكذا... (ويرجع يسوع خطوة إلى الوراء تاركاً مريم وبطرس حيث هما). ومِن عالي السماوات سيتأمَّل أعمال الإثنين الباقِيَين على الأرض. وهما، وبحركة مقدّسة، سَيَتَّحِدان أكثر مِن أيّ وقت لِيُذيبا معاً قُدرة الحبّ، ويَجعَلا منها الوسيلة لإتمام رغبة الكلمة: "فِداء العالم بتعليم الكنيسة المتواصل". والآب والابن والروح القدس يَجعَلون من إشعاعهم سلسلة لِضَمّ، لِضَمّ الإثنين الباقيين على الأرض دائماً: أُمّي، الحُبّ، وأنتَ، السُّلطة. فسوف تُضطَرّ إلى إجادة معاملة مريم كَمَلِكَة، نعم، إنّما دون أن تكون أنتَ العبد. ألا يبدو لكَ ذلك؟»

 

«ما يبدو لي هو كلّ ما تشاء. إنّني أتلاشى! أأنا السُّلطة؟ آه! إذا كان عليَّ أن أكون السُّلطة، فحينئذ ينبغي لي، نعم، أن أعتمد عليها! آه! أُمّ ربّي لا تتركيني أبداً، أبداً، أبداً...»

 

«لا تَخَف، سآخذ بيدكَ على الدوام. هكذا كما كنتُ أفعل مع طفلي الوَليد حتّى أَصبَحَ قادراً على السير وحده.»

 

«وبعد؟»

 

«أَمّا بعد ذلك، فَسَأُسانِدكَ بصلاتي. هيّا بنا يا سمعان، لا تَشكّ أبداً بقدرة الله. فأنا لم أشُكّ بها، ولا يوسف. وأنتَ كذلك عليك ألا تَشكّ. فالله يَهِبنا عونه، ساعة إثر ساعة، إذا ما استمرّينا على تواضعنا ووفائنا... الآن تعالوا إلى الخارج قرب الجدول، في ظلّ تلك الشجرة الطيّبة. فلو كان الصيف في مرحلة منه متقدّمة أكثر، لكانت مَنَحَتكُم مِن تفّاحها إضافة إلى ظِلّها. تعالوا. سوف نأكل قبل أن نمضي... إلى أين يا بنيّ؟»

 

«إلى جالا. إنّها قريبة. وغداً نذهب إلى بيت صور.»

 

يَجلسون في ظلّ شجرة التفّاح، وتَستَنَد مريم إلى جِذعها القويّ. يَنظُر إليها برتلماوس بإمعان، وهو ما يزال شاباً وقد أنعَشَه بشكل سماويّ الاستذكار الذي قامت به العذراء، يَنظُر إليها تَتقَبَّل من ابنها الطعام الذي بارَكَه، وتبتسم له بنظرة حبّ، ويُتمتِم: «"تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ، وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي (نشيد الأنشاد 2 : 3)".»

 

يُجيبه يوضاس تدّاوس: «صحيح. لقد أَضنَاها الحبّ. إنّما حتماً لا يمكن القول إنّها استُنهِضت تحت شجرة التفّاح.»

 

«ولِم لا يا أخي؟ ماذا نَعلَم نحن مِن أسرار الـمَلِك؟» يُجيب يعقوب بن حلفى.

 

ويقول يسوع مبتسماً: «لقد حُبِل بحوّاء الجديدة بالفِكر عند جذع شجرة تفّاح الفردوس لِتَجعلَ ابتسامتَها ودموعَها الحيةَ الشرّيرةَ تَفرّ، وتَنـزَع السُمّ مِن الفاكهة المسمَّمة. فلقد أضحت شَجَرة ثَمَر الفادي. تعالوا يا أصدقاء، وكُلوا منها، فالتغذّي بعذوبتها هو التغذّي بعسل الله.»

 

«أيّها المعلّم، استَجِب لرغبة في المعرفة تَعتَمِل في داخلي منذ زمن. هل الترنيمة التي نُردِّدها تتنبّأ عن مريم؟» يَسأَل برتلماوس بلطف، بينما تهتمّ مريم بالصبيّ وتتحدّث إلى النساء.

 

«مِن بداية الكِتاب والحديث عنها، وسيكون الحديث عنها في كُتُب المستقبل، إلى أن تتبدَّل كلمة الإنسان إلى أوشعنا أبديّة في مدينة الله الأبديّة.» ويَلتَفِت يسوع إلى النساء.

 

«كما نرى فإنّه يَتحدَّر مِن داود! يا للحكمة! ويا للقصيدة!» يقول الغيور مُحدِّثاً رفاقه.

 

«هاكُم» يُقاطِع الاسخريوطيّ الذي إذ ما يزال تحت تأثير مساء الأمس، يتكلّم قليلاً، وهو يَبحَث عن الحرّيّة التي كان يتمتّع بها سابقاً. «هاكُم. أَودُّ إدراك لماذا كان ينبغي حقيقة أن يَحدُث التجسُّد. الله وحده يمكنه القول بشكل يحقِّق الانتصار على الشيطان. يمكن لله وحده أن تكون لديه القُدرة على الفِداء، ولستُ أشُكّ في ذلك. في هذه الأثناء، هاكُم، يبدو لي أنّه كان باستطاعة الكلمة التنازل بأقلّ مِمّا فَعَلَ بِوِلادته مثل كلّ الناس، خاضِعاً لشقاء الطفولة وما يَليها. أَلَم يكن بإمكانه الظُّهور على هيئة إنسان، إنّما بالِغ، في مَظاهِر البالِغ؟ أو لو كان يريد حقّاً أن تكون له أُمّ، فبإمكانه انتقاء واحدة، إنّما بالتبنّي كما فَعَلَ بالنسبة إلى الأب؟ يبدو لي أنّني سألتُهُ مَرَّة ولَم يُجِبني بإسهاب، أو إنّني لا أتذكّر.»

 

«اسأله ذلك! طالما نحن في صَدد الموضوع...» يقول توما.

 

«أنا، لا. فلقد أغضَبتُهُ، ولستُ أشعُر أنّه صَفَح عنّي. فاسأله أنتَ ذلك مِن أجلي.»

 

«ولكن اعذرنا! فإنّنا نتقبّل كلّ شيء دون شروحات كثيرة، وهل لنا نحن أن نطرح الأسئلة؟ هذا ليس عدلاً!» يردّ بسرعة يعقوب بن زَبْدي.

 

«ما الذي ليس بعادل؟» يَسأَل يسوع.

 

فترة صمت، بعدها يَجعَل الغيور مِن نفسه ناطقاً باسم الجميع، ويُكرِّر أسئلة يهوذا الاسخريوطيّ وإجابات الآخرين.

 

«أنا لا أحمل حقداً. هذا أوّل ما أودُّ قوله. أُبدي الملاحظات التي ينبغي لي إبداؤها. أتألّمَ وأَصفَح. وهذا يقال لِمَن يَختَبِر الخوف الذي هو أيضاً ثَمَرة اضطرابه. أمّا بخصوص تَجَسُّدي الحقيقيّ الواقع فأقول: "العدل في أنّه قد تَمَّ هكذا". فكثيرون، وكثيرون سَيَقَعون، في المستقبل، في أخطاء فيما يَخصّ موضوع تَجَسُّدي. سَيَشلَحون عليّ، بالتحديد، الأشكال التي يُريد يَهوذا أن أَتَّخِذها، كإنسان، الجسد في الظَّاهِر كان مُشَكَّلاً مِن مادَّة، إنّما في الحقيقة فهو جسم سائِب غازيّ، مِثل لعبة نور، بِفَضلها أكون ولا أكون جسداً. وتُوجَد مريم بالحقيقة دون وجود للأُمومة. إنّني جسد حقّاً ومريم هي أُمّ الكَلِمَة المتجسِّد. وإذا لم تكن ساعة ولادتي سوى انتشاء، فَلِأنّها هي حوّاء الجديدة التي لا تحمل وزر الخطيئة ولا إرث القصاص. إنّما لَم يكن بالنسبة إليَّ تنازلاً أن أستقرّ فيها. هل كان قد غُضَّ مِن شأن المنّ، كونه في تابوت العهد؟ لا، بل على العكس، كان قد اكتَسَبَ شَرَفاً بوجوده في ذلك الـمَوضِع. وسيقول آخرون إنّني، كوني لستُ جسداً حقيقيّاً، لَم أُكابِد الألم ولا الموت طوال مدّة إقامتي على الأرض. نعم، ولِعَدَم التَّمَكُّن من إنكار وجودي فلن يُنكَر واقع تجسّدي أو حقيقة ألوهتي. لا، فأنا واحد مع الآب بشكل أزليّ، ومُتَّحِد بالله رغم الجسد، إذ إنّ الحبّ يمكنه أن يجمع ما لا يمكن جمعه في كماله باتّخاذه جسداً ليُخَلِّص الذين في الجسد. على كلّ تلك الأخطاء تُجيب حياتي كلّها التي تَمنَح دَمَها، منذ ولادتي حتّى موتي، والتي هي خاضعة لكلّ ما تُشارِك الإنسان به، ما عدا الخطيئة. نعم، إنّني مولود منها. ومِن أجل خيركم. أنتم لا تَعلَمون إلى أيّة درجة يَخفّ الحُكم منذ اللّحظة التي اتَّخَذتُ المرأة فيها كَمُعاوِنة. هل رضيتَ يا يهوذا؟»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«فاعمَل أنتَ كذلك على أن تجعَلني أَرضَى.»

 

يُطأطئ يهوذا رأسه مُضطَرِباً، وقد يكون في الحقيقة متأثّراً بكلّ ذلك الصَّلاح.

 

طالت الاستراحة في ظلّ شجرة التفّاح الـمُنعِش. البعض ينامون، وآخرون يتثاءبون. ولكنّ مريم تَنهَض وتعود إلى المغارة، ويتبعها يسوع.