ج3 - ف15
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
15- (شِفاء الرومانيّة الصغيرة في القيصريّة)
05 / 05 / 1945
يا يوحنّاي الصغير، هيّا معي. أودُّ أن أجعلكِ تُدوِّنين تعليماً لـمُكَرَّسي اليوم. انظري واكتبي.
ما يزال يسوع في قيصريّة الساحل. ولكنّه لم يعد في الساحة حيث كان بالأمس، بل لقد أَوغَلَ إلى الداخل، إلى مكان أضحَت السفن والرصيف تُرى منه. وفيه يوجد الكثير مِن المخازن والحوانيت. وبما أن أرض ذلك الموضع الترابيّ مفروشة ببسطات مليئة بمنتجات مختلفة، أَستَنتِج أنّني قريبة مِن الأسواق التي كانت على مَقربة مِن الرصيف والمخازن، وذلك لراحة البحارة والقادمين لشراء الحاجيّات التي تجلبها السفن. المكان يعجّ بالجموع يَروحون ويَجيئون. ويسوع ينتظر مع سمعان وولدَيّ عمّه ريثما يحصل الآخرون على المؤونة. وأطفال ينظرون بفضول إلى يسوع الذي يداعبهم بلطف وهو يتحدّث إلى رُسُله. يقول يسوع: «تسوءني رؤية الانزعاج الذي يُسبّبه ذهابي إلى الوثنيّين. إنّما لا يمكنني إلّا أن أقوم بواجبي وأن أكون صالحاً مع الجميع. حاولوا أنتم أن تكونوا صالحين، على الأقلّ أنتم الثلاثة ويوحنّا؛ وسوف يقتدي الآخرون بكم.»
«ولكن كيف العمل لنكون صالحين مع الجميع؟ عِلماً أنّ هؤلاء الناس يحتقروننا ويظلموننا ولا يفهموننا، كما أنّ الرذائل تملأ قلوبهم...» يقول يعقوب بن حلفى وهو يعتذر.
«كيف العمل؟ هل أنتَ مسرور لكونكَ وُلِدتَ مِن حلفى ومريم؟»
«نعم بكلّ تأكيد. لماذا تسألني؟»
«لو أنّ الله سَأَلَكَ قبل الحَبَل بكَ، فهل كنتَ سَتَودُّ لو تُولَد منهما؟»
«ولكن نعم. لستُ أفهَم...»
«ولو كان الأمر معكوساً ووُلِدتَ مِن وثنيّين، فماذا كنتَ ستقول لدى سماعكَ اتّهامكَ لقبولكَ الولادة مِن وثنيّين؟»
«كنتُ سأقول... كنتُ سأقول: "لستُ مسؤولاً عن ذلك. لقد وُلِدتُ منهما، إنّما كان مِن الممكن أن أُولَدَ مِن آخَرين." كنتُ سأقول: "إنّكم تظلمونني بأحكامكم. فإذا لم أكن أفعل شرّاً، لماذا تحقدون عليَّ"؟»
«أنتَ قُلتَ. هؤلاء كذلك، يمكنهم أن يقولوا الشيء ذاته، هؤلاء الذين تحتقرونهم لأنّهم وثنيّون. لا فضل لكَ في أنّكَ وُلِدتَ مِن حلفى الإسرائيليّ الحقيقيّ. ينبغي لكَ فقط شُكر الأزليّ لأنّه خَصَّكَ بعَطيّة عظيمة. وعلى سبيل ردّ الجميل والتواضع، ينبغي لكَ جَلب أولئك الذين لم يُعطوا تلك العطيّة إلى الله. يجب أن تكونوا صالحين.»
«مِن الصعب أن نحبّ الذين لا نعرفهم!»
«لا. انظر. أنتَ أيّها الصغير، تعال إلى هنا.»
يتقدّم طفل في حوالي الثامنة، كان يلعب مع اثنين آخرين في أحد الأركان. إنّه طفل قويّ البُنية، شعره بنّي غامق بينما سحنته بيضاء.
«مَن أنتَ؟»
«أنا لوشيوس، كايوس لوشيوس بن كايوس ماريوس، إنّني رومانيّ، ابن قائد الحرس الذي بقي هنا بعد أن جُرِحَ.»
«وهذان مَن يكونان؟»
«إنّهما إسحاق وطوبيّا. ولكن ينبغي ألّا نَذكر ذلك لأنّهما يُعاقَبان.»
«لماذا؟»
«لأنّهما يهوديّان وأنا رومانيّ، ولا يمكن.»
«ولكنّكَ تبقى معهما، لماذا؟»
«لأنّنا نحبّ بعضنا كثيراً، نلعب بالنَّرد وبالقفز. ولكنّنا نختبئ.»
«وأنا هل تحبّني كثيراً؟ إنّني يهوديّ، أنا أيضاً، ولستُ طفلاً. فَكِّر: أنا معلّم، وكما يُقال كاهن.»
«وما الضّير في ذلك؟ إذا أَحبَبتَني كثيراً، أحبّكَ كثيراً لأنّكَ تحبّني كثيراً.»
«وكيف تعرف ذلك؟»
«لأنّكَ صالح. والصالح يحبّ كثيراً.»
«هاكُم يا أصدقائي سرّ الحبّ: الصَّلاح. إذن فالحبّ لا يستوجب السؤال إذا ما كان الطرف الآخر يدين بالدين ذاته أم لا.»
يُمسِك يسوع بيده كايوس لوشيوس ويمضي ليُلاطف اليهوديّين الصغيرين اللذين، لخوفهما، تَوارَيا خلف بوّابة عربات، ويقول لهما: «الأطفال الصالحون ملائكة. والملائكة لهم وطن واحد: الجنّة. ويدينون بدين واحد: دين الله الواحد. ولديهم هيكل واحد: قلب الله. أحبّوا بعضكم بعضاً كثيراً، كالملائكة، ودائماً.»
«ولكن لو رَأونا لَضَرَبونا...»
يهز يسوع رأسه بحزن ولا يُعقِّب…
امرأة فارِعَة وبدينة تُنادي لوشيوس الذي يترك يسوع وهو يهتف: «إنّها أُمّي!» ويتوجّه للمرأة: «لديَّ صديق كبير، هل تَعلَمين؟ إنّه معلّم!...»
لا تبتعد المرأة مع ابنها، بل على العكس، تمضي إلى يسوع وتسأله: «سلاماً. هل أنتَ هو الجليليّ الذي كان يتحدّث في الأمس على الرصيف؟»
«نعم. أنا هو.»
«انتظرني هنا إذن. سأُسرِع.» وتمضي مع الصغير.
وفي تلك الأثناء يَصِل الرُّسُل الآخرون عدا متّى ويوحنّا. ويَسأَلون: «مَن كانت تلك؟»
«نظنّها رومانيّة.» يُجيب سمعان والآخرون.
«وما الذي كانت تريده؟»
«قالت أن ننتظرها. وسوف نَعلَم.»
وفي أثناء ذلك يقترب الناس وينتظرون بفضول.
تعود المرأة بصحبة رومانيَّين آخرَين. «هل أنتَ إذن المعلّم؟» يَسأَل أحدهم، ويبدو عليه أنّه خادم إحدى البيوت الثريّة. وبعد أن يُؤكِّد له ذلك يَسأَل: «هل شفاء طفلة صديقة كلوديا يسبّب لكَ المشاكل؟ فإنّ الطفلة تحتضر، إنّها تختنق ولا يعرف الطبيب سبب احتضارها. أمس مساء كانت في صحّة جيّدة. ومنذ الصباح هي تعاني سكرات الموت.»
يَسيرون بضعة خطوات على الطريق المؤدّية إلى المكان الذي كانوا فيه بالأمس، ويَصِلون إلى بوّابة مفتوحة على مصراعيها وهي لبيت، يبدو أنّ ساكنيه رومانيّون.
«انتظر لحظة.» يَدخُل الرجل بسرعة ليعود في الحال قائلاً: «تعال.»
ولكن حتّى قبل أن يتمكّن يسوع مِن الدخول، تَخرج امرأة شابّة ذات مَظهَر متميّز، ولكنّها مضطَرِبة بشكل ملحوظ، وهي تحمل على ذراعيها طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها بضعة أشهر، مسترخية كَمَن يَغرَق. أظنّها مصابة بدفتريا مميتة، وأنّها على وشك الموت. تلجأ المرأة إلى صدر يسوع كما غريق إلى صخرة نجاة. دموعها تحجب عنها القدرة على الكلام.
يأخذ يسوع الطفلة التي تُبدي حركات اختلاج بيديها الشاحبتين وأظافرها التي أصبَحَت بنفسجيّة اللون. يحملها، فيميل رأسها إلى الخلف دون أيّة قوّة. والأُمّ، دون أيّ تَكَبُّر لرومانيّة أمام يهوديّ، تنـزلق إلى قدميّ يسوع، على التراب، وتبكي رافعة رأسها، وشعرها شِبه أشعث، وذراعاها ممدودتان تمسكان بثوب ومعطف يسوع. خلفهما وحولهما رومانيّو البيت ويهود المدينة يَنظُرون.
يُبلِّل يسوع سبابته باللعاب ويضعها في الفم الصغير اللّاهث بعمق. فتتخبّط الطفلة وتُصبِح أكثر سَواداً. تصرخ الأُمّ: «لا! لا!» وتبدو وكأنّها تتلوّى تحت تأثير سكّين تخترقها. يَحبس الناس أنفاسهم. ولكنّ إصبع يسوع تَخرُج مع كتلة مِن الأغشية المتقيّحة. لم تعد الطفلة تتخبّط، وبعد ذرف بعض الدموع تهدأ وهي تبتسم ابتسامة بريئة، هازّة يديها ومُحرّكة شفتيها مثل عصفور يُزقزق وهو يضرب بجناحيه في انتظار الزقّة.(ما تحمله العصفورة الأم للفرخ)
«خُذيها، يا امرأة، أَرضِعيها. فلقد شُفِيَت.»
الأمّ مذهولة للغاية، لدرجة أنّها أَخَذَت الطفلة وبَقيَت على حالها على الأرض، وأَخَذَت تُقبِّلها وتُداعِبها وتعطيها صدرها بجنون غير مبالية بكلّ ما هو ليس ابنتها.
ويَسأَل رومانيّ يسوع: «ولكن كيف استطعتَ؟ إنّني طبيب الوالي وأنا حكيم. حاوَلتُ إخراج العائق، ولكنّه كان عميقاً، عميقاً جدّاً!... وأنتَ... هكذا...»
«أنتَ حكيم ولكن الله الحقّ ليس معكَ. فليكن الله مباركاً! وداعاً.» ومضى يسوع مبتعداً.
ولكن ها هي ذي مجموعة صغيرة مِن الإسرائيليّين يَشعُرون بالحاجة إلى التدخّل: «كيف سَمحتَ لنفسكَ بالدنوّ مِن الأجانب؟ إنّهم فاسِدون مُدنَّسون، وكلّ مَن يدنو منهم يصبح مثلهم.»
هُم ثلاثة، ينظر إليهم يسوع بإمعان وصَرامة، ثمّ يبدأ الكلام: «ألستَ أنتَ حَجّي، الرجل الذي مِن عازوت، وقد قَدِمتَ إلى هنا في تشرين (سبتمبر-اكتوبر) الماضي لتحلّ مسائل عمل مع تاجر يسكن قرب النبع القديم؟ وأنتَ ألستَ يوسف الذي مِن راما، وقد أتيتَ إلى هنـا لاستشارة طبيب رومـانيّ، وإنّي عـالم مثلكَ لمـاذا؟ وإذن؟ ألا تظنّون أنفسكم مُدَنَّسين؟»
«الطبيب ليس أجنبيّاً أبداً. إنّه يعالج الجسد، والجسد هو ذاته للجميع.»
«والنَّفْس كذلك، وأكثر مِن الجسد. علاوة على ذلك، ما الذي عالجتُه أنا؟ جسد طفلة بريئة. وبنفس الطـريقة أَوَدُّ شـفاء نفوس الغرباء التي ليسـت بريئـة. فكطبيب ومَسـيّا أسـتطيع الاقتراب إذن مِن أيّ كان.»
«لا، لا يمكنكَ ذلك.»
«لا يا حَجّي؟ وأنتَ لماذا تقيم علاقات عمل مع تاجر رومانيّ؟»
«إنّه لا يقربني سوى بالتجارة والمال.»
«ولأنكَ لا تلمس جسده إنما فقط ما لَمَسَت يداه فلا يبدو لكَ أنّكَ تصاب بالعدوى. آه! يا لكم مِن عميان وقُساة القلوب!
اسمَعوا جميعكم. بالتحديد في سفر النبيّ الذي يحمل هذا الرجل اسمه (حَجّي) قيل: "اسأل الكَهَنَة عن الشريعة قائلاً: ’إذا حَمَلَ إنسان لحماً مقدَّساً في طرف ثوبه ولَمَسَ بطرفه خبزاً أو طبيخاً أو خمراً أو زيتاً أو أي طعام كان أفيتقدّس؟ فأجاب الكَهَنَة وقالوا لا. فقال حَجّي: إذا لَمَسَ المتنجِّس بميت شيئاً مِن هذه أفيتنجّس؟ فأجاب الكَهَنَة وقالوا: يتنجّس..".
بتلك الطريقة الماكرة الكاذبة وغير المتناسقة في التصرّف، تَستَبعِدون وتدينون الخير ولا تَقبَلون إلّا ما يُوائِم مصالحكم. إذن لم يعد هناك احتقار ولا اشمئزاز، بل إنّما لتفادي ضرر شخص ما تُقرِّرون إذا ما كان أحد الأمور نَجِساً أو مُنَجِّساً وإذا ما كان آخر غير ذلك. وكيف تستطيعون يا أفواه الكَذِب تعليم أنّ ما تَقدَّسَ بلمس لحم مقدَّس أو شيء مقدَّس، لا يُقدِّس ما يلمسه، وأنّ ما يلمس شيئاً نَجِساً يُنجِّس ما يلمسه؟
ألا تُدرِكون أنّكم تُناقِضون أنفسكم، أيّها القائمون الكَذَبَة على شريعة الحقّ التي تَنتَفِعون منها بلويها مثل حبل بطرف واحد، لتَخرُجوا منها بما يَخدم مصالحكم، أيّها الفرّيسيّون المنافقون، يا مَن، بِحِجَّة الدِّين، تَصبُّون جام حقدكم البشريّ، البشريّ الصَّرف، أيّها الـمُدَنِّسون كلّ ما يخصّ الله، يا أعداء الـمُرْسَل مِن قِبَل الله الذي تَشتُمون؟ الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ كلّ عمل مِن أعمالكم، وكلّ حُكم مِن أحكامكم، وكلّ خطوة مِن خطواتكم تتحوّل بآلية ماكِرة لتعمل عمل العجلات والنوابض والأوزان ولوحات الشدّ لتخدم أنانيّتكم ورغباتكم وقلّة صدقكم وأحقادكم وتعطشكم للسيطرة وشهواتكم.
يا لَهُ مِن أمر مُخجِل! أيّها النَّهِمون، الـمُرتَجِفون خوفاً، الحاقِدون، يا مَن تعيشون في الخوف المتكبِّر مِن أن يكون آخر متفوّقاً عليكم حتى ولو كان مِن غير طَبَقَتكُم. وتَستَحقّون حينذاك أن تكونوا مثل ذاك الذي يوحي إليكم بالخوف والغضب! أنتم الذين، كما يقول حَجّي، تجعلون مِن عُرمة (كَومَة) العشرين عشرة، ومِن الخمسين برميلاً عشرين، مُحوِّلين الفرق إلى جيوبكم، بينما المفروض مِن أجل الـمَثَل الذي يجب أن تعطوه للناس، ومِن أجل الحبّ الذي ينبغي لكم أن تحبّوه لله، أن تزيدوا العُرمة (الكَومَة) والبراميل مِن جيوبكم الخاصّة لصالح الجياع، لا أن تَسرقوا منها. فإنّكم تَستَأهِلون أن تَجدُب الريح الحارقة والصدأ والبَرد كلّ أعمال أيديكم.
مَن منكم يُقبِل إليَّ؟ إنّهم هؤلاء وأولئك الذين تعتبرونهم مرضى وأقذاراً وجَهَالات مُطبِقة ولا يعرفون حتّى بوجود الله الحقّ، أولئك يُقبِلون إلى الذي يتجلّى هذا الإله في كلامه وفي أعماله. أمّا أنتم، أمّا أنتم! فلقد بَنَيتُم لأنفسكم أكواخاً وأَقَمتُم فيها، مُجدِبين وباردين كالأصنام منتظرين الثناء والتبجيل. وبما أنّكم تظنّون أنفسكم آلهة، فيبدو لكم مِن غير المفيد والـمُجدي التفكير بالله الحقّ كما ينبغي التفكير به، وكم يبدو لكم أنّه مِن الخطر عليكم أن يَجرؤ آخرون غيركم على ما لا تَجرؤون عليه أنتم. في الحقيقة، لا يمكن لأحد منكم أن يَجرؤ لأنّكم أصنام ولأنّكم خُدَّام للأصنام. بينما الذي يتمتّع بالجرأة يستطيع لأنّه ليس هو الذي يعمل، بل إنما الله هو الذي يعمل مِن خلاله.
اذهبوا وقولوا للذين أرسلوكم في أعقابي إنّني أَستَخفّ بالبائعين الذين لا يَعتَبِرون فساداً بيع البضائع أو الوطن أو الهيكل إلى مَن يَدفَع لهم الفضّة والمال. قولوا لهم إنّني أشمئزّ مِن المتوحِّشين الذين لا يَفقَهون سوى عبادة أجسادهم ودمائهم الخاصّة، والذين، مِن أجل شفائهم لا يَعتَبِرون زيارتهم لطبيب أجنبيّ فساداً. قولوا لهم إنّ الـمِكيال واحد ومتساوٍ للجميع ولا يوجد مِكيالان. قولوا لهم إنّني أنا مَسيّا، البارّ، الناصِح، العجيب، الذي قد حَلَّ عليه روح الربّ بمواهبه السبع، الذي لا يدين بحسب المظاهر، إنّما بحسب ما هو كامن في القلوب، لا يدين بحسب ما يَسمَع بأذنيه، إنما بحسب أصوات الروح التي يَسمَعها في داخل كلّ إنسان، الذي يُدافِع عن المتواضِعين ويُدين المساكين بعدل، هذا الذي هو أنا، لأنّني هكذا، قد شَرَعتُ الآن أدين وأضرب الذين هُم على الأرض ليسوا سِوى تراب، وإنّ نسمة تَنَفُّسي تُميت الكافر وتهدم جحره، بينما تكون حياة ونوراً وحريّة وسلاماً للذين، رغبة منهم في البرّ والإيمان، يأتون إلى جَبَلي المقدَّس ليَشبَعوا مِن عِلم الربّ. أليست هذه أقوال إشَعياء؟
يا شعبي، الكلّ مِن آدم وآدم مِن أبي. فالجميع إذن عَمَل أبي، وعليَّ أن أجمعكم كلّكم للآب. وأنا أقودهم لكَ أيّها الآب القدّوس، الأزليّ، القادر على كلّ شيء، أَجلب إليكَ الأبناء الضالّين بعد جمعهم داعياً إيّاهم بأصوات الحبّ، جامعاً إيّاهم تحت عصاي الرعويّة الشبيهة بعصا موسى التي رَفَعَها في وجه الحيّات التي كانت لسعاتها قاتلة، ليكون لكَ ملكوتكَ وشعبكَ. أنا لا أميّز بين الناس، لأنّه في أعماق كلّ حيّ أرى نقطة مضيئة أكثر مِن النار: النَّفْس، وهي الشرارة الآتية منكَ، أيّها الأَلَق الأزليّ. أيا رغبتي الأزليّة! يا إرادتي التي لا تكلّ!
هذا ما أريده، وهذا ما يجعلني أَضطَرِم. أرض تُشيد كلّها باسمكَ. فِداء يخلّصهم جميعاً. إرادة مُدَعِّمة تجعلهم جميعاً خاضِعين لإرادتكِ. نصر أزليّ يملأ الفردوس هتاف أوشعنا لا نهاية له... آه! أيّتها السماوات جميعاً!... ها إنّني أرى ابتسامة الله... وتلك هي التعويض عن قسوة البشر كلّها.»
يَفرّ الثلاثة تحت وابل مِن الملامات. ويظلّ الآخرون جميعهم، مِن رومانيّين ويهود، فاغِري الأفواه. المرأة الرومانيّة وابنتها التي أُشبِعَت مِن حليب أُمّها وهي تنام الآن بِسَكينة على صدرها، بَقِيَت حيث هي، قريبة مِن قدميّ يسوع وتبكي بفرح أُموميّ وفرح روحيّ. جمع كبير يبكي لدى سماعه الخُلاصة التي لا تُقاوَم والتي خَلَصَ إليها يسوع، وقد بدا متلألئاً في تجلّيه.
ويسوع، مُخفِضاً بصره وروحه مِن السماء إلى الأرض، يرى الجمع ويرى الأُمّ... ولدى مروره بعد حركة وداع للجميع، يلمس الرومانيّة الشابّة بشكل خفيف كما ليباركها بسبب إيمانها. ويمضي مع أتباعه بينما يبقى الناس في مكانهم وهم ما يزالون تحت تأثير الانفعال.
(الرومانيّة الشابة، إن لم يكن ذلك تشابهاً غير متوقَّع، فهي إحدى الرومانيّات اللواتي كنّ مع يُوَنّا امرأة خُوزي على درب الجلجلة. ولكن، بما أنّ أحداً لم يَذكُر اسمها، فلستُ متأكّدة.)