ج7 - ف181
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
181- (يسوع في الهيكل مِن أجل عيد المظالّ. "ملكوت السموات لا يأتي بأبّهة")
03 / 09 / 1946
يسوع يدخل الهيكل، إنّه برفقة رُسُله والكثير مِن التلاميذ، الّذين أعرفهم أقلّه بالشكل. وخلفهم جميعاً، إنّما متّحدين بالمجموعة كما لو أنّهم كانوا يريدون إظهار رغبتهم بأن يُعتبروا كتلاميذ للمعلّم، وجوه جديدة، جميعها غير معروفة، باستثناء ذاك الحَذِق اليونانيّ الآتي مِن أنطاكية. إنّه يتحدّث مع الآخرين، ربّما هم وثنيون مثله، وفي حين يواصل يسوع وأتباعه التقدّم لدخول باحة الإسرائيليّين، فهو، وأولئك الّذين يحادثونه، يتوقّفون في باحة الوثنيّين.
بالطبع إنّ دخول يسوع إلى الهيكل المكتظّ لا يمرّ دون ملاحظته. همهمة جديدة ترتفع، كما لو أنّ خليّة نحل قد أُزعِجت، وتَطغى على أصوات المعلّمين الّذين يعطون دروسهم تحت رواق الوثنيّين. إنّ دروس البقيّة تُعطَّل كما لو بفعل سحر، وتلاميذ الكَتَبَة يتراكضون في كلّ الاتّجاهات لنقل خبر وصول يسوع، بحيث أنّه، عندما يدخل إلى الضميمة الثانية حيث ردهة الإسرائيليّين، فإنّ عدّة فرّيسيّين، كَتَبَة وكَهَنة، كانوا قد تجمّعوا بالفعل لمراقبته. لكنّهم لا يقولون له شيئاً، طالما يصلّي، ولا حتّى يدنون منه. يكتفون بمراقبته.
يعود يسوع إلى باحة الوثنيّين، وهم يتبعونه. وطابور ذوي النوايا الخبيثة يتعاظم،كما يتعاظم ذاك الّذي للفضوليّين وذوي النوايا الحسنة. وهمهمة خافتة تنتشر بين الناس. مِن حين لآخر، ملاحظة بصوت مرتفع: «أترون أنّه قد أتى؟ إنّه بارّ. ما كان ليتخلّف عن العيد.» أو «ماذا أتى يفعل؟ أليضلّل الشعب أكثر بعد؟» أو أيضاً: «أأنتم مسرورون الآن؟ أترون أين هو الآن؟ لقد طلبتموه كثيراً!»
أصوات فرديّة ومكبوتة على الفور، تخنقها في الحناجر نظرات التلاميذ والأتباع المعبّرة، المهدّدة للأعداء الحاقدين بدافع المحبّة. أصوات متهكّمة، سامّة، مِن أعداء يَنفثون دفقات سمّ ومِن ثمّ يَهمدون بدافع خوف مِن الجمع. ثمّ تصمت الجموع بعد عرض مَهيب في صالح المعلّم، خوفاً مِن انتقام النافذين. عالم الخشية المتبادلة…
الوحيد غير الخائف هو يسوع. إنّه يسير على مهل، بجلال، نحو المكان الّذي يقصده، مستغرقاً قليلاً، إنّما المستعدّ للخروج مِن استغراقه لمداعبة طفل تُقدّمه له أُمّه، أو كي يبتسم لعجوز يحيّيه وهو يباركه.
في رواق الوثنيّين، هناك غَمَالائيل، منتصب وسط مجموعة مِن التلاميذ. ذراعاه متصالبتان، بثوبه البهيّ الناصع البياض والفضفاض، والّذي يبدو أكثر بياضاً بعد، قبالة السجّادة الحمراء القاتمة والكثيفة الممدودة على الأرض حيث يقف غَمَالائيل. يبدو أنّه يفكّر، حاني الرأس بعض الشيء، غير مكترث بما يحدث. أمّا وسط تلاميذه، فعلى العكس تسري حماسة الفضول الأعظم. إلى درجة أنّ أحدهم، وهو صغير القدّ، يصعد على مقعد عالٍ، كي يرى بشكل أفضل.
حينئذ، عندما يصبح يسوع بمحاذاة غَمَالائيل، فإنّ الرابّي يرفع وجهه، وعيناه الغائرتان تحت الجبهة الّتي لحكيم، تحدّقان للحظة بوجه يسوع الوديع. نظرة متقصّية، مُوجِعة ومتوجّعة. يسوع يشعر بها ويلتفت. ينظر إليه. الوميضان: ذاك الّذي للعينين شديدتيّ السَّواد وذاك الّذي للعينين السفيريّتين، يتقابلان. ذاك الّذي ليسوع منفتح، وديع، قابل للتفحّص، ذاك الّذي لغَمَالائيل مُبهَم، تَوّاق للمعرفة ويحاول تمزيق سرّ الحقيقة –ذلك أنّ الرابّي الجليليّ بالنسبة له هو سرّ- لكنّه فرّيسيّاً هو غيور على فِكره، بحيث أنّه منغلق أمام أيّ تمحيص ليس مِن الله. برهة، ثمّ يتقدّم يسوع، والرابّي غَمَالائيل يخفض رأسه مجدّداً، صامّاً أذنيه عن كلّ سؤال صريح، مُستَفسِر، مِن قِبَل بعض المحيطين به، أو خبيث وحاقد مِن قِبَل الآخرين: «إنّه هو يا معلّم؟ ما قولكَ؟»، «حسناً! ما هو حكمكَ؟ مَن يكون؟»
يسوع يذهب إلى المكان الّذي اختاره. آه! ما مِن سجّاد تحت قدميه! إنّه حتّى ليس تحت الرواق. إنّه ببساطة يستند إلى عمود، واقفاً على الدرجة الأعلى، في نهاية الرواق. إنّه الموضع الأكثر دونيّة. يحيط به الرُّسُل، التلاميذ، الأتباع، فضوليّون، وأبعد، فرّيسيّون، كَتَبَة، كَهَنَة، رابّيين. غَمَالائيل لا يبارح المكان حيث هو.
يسوع يبدأ بالتبشير للمرّة المائة بمجيء ملكوت الله والتهيئة لهذا الملكوت. ويسعني القول بأنّه يكرّر، إنّما بمزيد مِن السلطان، الأفكار ذاتها التي طُرِحَت تقريباً في الموضع ذاته، قبل عشرين عاماً. إنّه يتكلّم عن نبوءة دانيال، عن السابق الذي تنبّأ عنه الأنبياء، يُذكّر بنجمة المجوس، بمذبحة الأبرياء. وبعد هذه المقدّمة لعرض علامات مجيء المسيح إلى الأرض، فهو يعرض، تأكيداً على مجيئه، العلامات الحاضرة التي ترافق المسيح المعلّم، كما كانت الأخرى سابقاً ترافق مجيء المسيح المتجسّد، أي أنّه يُذكّر بالمعارضة الّتي ترافقه، موت السابق، المعجزات الّتي تجري باستمرار، مؤكّدة أنّ الله مع مسيحه. هو أبداً لا يهاجم خصومه. يبدو وكأنّه لا يراهم حتّى. يتكلّم ليثبّت في الإيمان الّذين يتبعونه، لينير بالحقيقة مَن هم، دونما خطأ منهم، لا يزالون في الظلمة.
صوت أجشّ ينطلق مِن آخر الجمع: «كيف يمكن أن يكون الله في معجزاتكَ إذا كانت تُجتَرَح في يوم محرّم؟ فحتّى أمس قد شفيتَ أبرصاً على طريق بيت فاجي.»
يسوع ينظر إلى مَن قاطَعَه ولا يجيب. يتابع الحديث عن التحرر مِن القوّة التي تظلم البشر، وعن تأسيس ملكوت المسيح، الأزلي، المنيع، المجيد، الكامل.
«ومتى ذلك؟» يقول كاتب فيما يبتسم بسخرية. ويضيف: «نَعلَم بأنّكَ تريد أن تجعل مِن نفسكَ مَلِكاً. إنّما مَلِك على شاكلتكَ سيكون هلاكاً لإسرائيل. أين هي قدراتكَ الملكيّة؟ أين القوّات، أين كنوزكَ كلّها، أين التحالفات؟ أنتَ مجنون!» وكثيرون على شاكلته يهزّون الرأس ضاحكين بتهكّم.
فرّيسيّ يقول: «لا تتصرّفوا هكذا. فبهذه الطريقة لن نعرف أبداً ما الّذي يعنيه بمملكة، ما هي أحكامها، أيّ مظهر ستتّخذ. وماذا؟ أربّما كانت مملكة إسرائيل القديمة متكاملة حال قيامها كما في زمن داود وسليمان؟ ألا تتذكّرون كم مِن شكوك وأوقات مظلمة قبل البهاء الـمَلَكي للمَلِك الكامل؟ ففي سبيل الفوز بأوّل مَلِك كان مِن الضروريّ إعداد رَجُل الله الذي كان عليه أن يمسحه، وبالتالي نزع عقم حنّة الّتي لإلقانة والإيحاء لها بتقدمة ثمرة أحشائها. تأمّلوا بنشيد حنّة. إنّه درس لقسوتنا وعمينا: "ما مِن أحد قدّوس كما الربّ... لا تُكثِروا، بتبجّح، الكلام المتعالي... الربّ يميت ويحيي... يرفع الفقير... وهو يمنح الثبات لخطوات قدّيسيه، والآثمون سيسكتون. فقوّة الإنسان ليست بقوّته الذاتيّة، بل بتلك الّتي تأتيه مِن الله." آه! تذكّروا! "الربّ يدين أقاصي الأرض ويُنعِم بالسيادة على مَلِكه، ويرفع قرن مسيحه." أما كان مسيح النبوءات ليكون مِن أصل داود؟ أليست كلّ تهيئة، منذ ولادة صموئيل، قد كانت تهيئة لملكوت المسيح؟ أنتَ، يا معلّم، ألستَ مِن أصل داود، كونكَ مولوداً في بيت لحم؟» هو يَسأَل أخيراً يسوعَ بشكل مباشر.
«أنتَ قلتَ» يجيب يسوع بإيجاز.
«آه! إذن أَشبِع عقولنا. أنتَ ترى أنّ الصمت ليس بالأمر الحسن، لأنّه يثير سُحُب الشكّ في القلوب.»
«ليس الشكّ، بل الكبرياء، وهو أكثر سوءاً بعد.»
«كيف؟ الشكّ بكَ هو أقلّ سوءاً مِن الكبرياء؟»
«نعم. لأنّ الكبرياء هو فِسق الفِكر. وهو الخطيئة الأكثر جسامة، كونها خطيئة لوسيفورس ذاتها. إنّ الله يغفر أموراً كثيرة، ونوره يشعّ بمحبّة لينير الجهل ويبدّد الشكوك. لكنّه لا يغفر الكبرياء الذي يهزأ به مدّعياً أنّه أعظم منه.»
«مَن منّا يقول إنّ الله أقلّ شأناً منه؟ نحن لا نجدّف...» يصيح البعض.
«لا تقولونه بشفاهكم، لكنّكم تؤكّدونه بأفعالكم. تريدون أن تقولوا لله: "لا يُعقَل أن يكون المسيح جليليّاً، مِن عامّة الشعب. لا يمكن أن يكون هو هذا." ما هو غير الممكن لدى لله؟» صوت يسوع يرعد. وإذا كان بالأحرى متواضعاً بعض الشيء في المظهر سابقاً، عندما كان مستنداً كمتسوّل إلى عموده، فالآن هو ينتصب، يبتعد عن الدعامة، يرفع رأسه فوق العنق بجلال ويرمق الجمع بعينيه البارقتين. إنّه ما يزال على الدرجة، إنّما كما لو أنّه على عرش، لشدّة ما هو مَلَكيّ مظهره.
الناس يتراجعون، خائفين، وما مِن أحد يجيب على السؤال الأخير.
ثمّ، رابّي، صغير القدّ، متغضّن، كالِـح المظهر كما بالتأكيد هي نَفْسه، يَسأَل، سابقاً السؤال بقهقهة مصطنعة ومُقَوقِئة (القَوقَأة صوت الدجاجة): «الفِسق يتمّ باجتماع شخصين. فمع مَن يتمّه الفِكر؟ إنّه ليس جسداً. فكيف إذاً يمكنه ارتكاب خطيئة الفِسق؟ فإن كان غير جسديّ، فمع مَن يقترن ليخطئ؟» ويضحك خالطاً الكلمات والقهقهة.
«مع مَن؟ مع الشيطان. إنّ فِكر المتكبّر يزني مع الشيطان ضدّ الله وضدّ المحبّة.»
«ومع مَن زنى لوسيفورس ليصير الشيطان، إن لم يكن مِن وجود للشيطان بعد؟»
«مع ذاته. مع فِكره الـمُدرِك والمضطرب. ما هو الفِسق أيّها الكاتب؟»
«ولكن... قد قلتُ لكَ! ومَن لا يعرف ما هي الشهوة؟ كلّنا قد اختبرناها...»
«لستَ رابّياً حكيماً، لأنّكَ لا تعرف طبيعة هذه الخطيئة الشاملة، الثمرة الثلاثية للشرّ. كما أنّ الآب، والابن، والروح القدس هم الشكل الثلاثي للمحبّة. إنّ الشهوة فوضى، أيّها الكاتب، فوضى يقودها فِكر حرّ وواعٍ، والذي يعي أنّ رغبته شرّيرة، ولكنّه يريد إشباعها رغم ذلك. الشهوة فوضى وعنف ضدّ الشرائع الطبيعيّة. ضدّ الاستقامة والمحبّة تجاه الله، تجاه أنفسنا، تجاه إخوتنا. كلّ شهوة. تلك الجسديّة كما تلك الـمُنصبّة نحو ثروات وسلطان الأرض، كما تلك الّتي لأولئك الّذين يسعون لمنع المسيح مِن إتمام رسالته، حيث يتواطؤون مع مطامحهم الجامحة الّتي ترتجف مِن أن أنال منها».
همهمة كبيرة تسري بين الجمع. غَمَالائيل، الّذي بقي وحده على سجّادته، يرفع رأسه ثانية ويرمق يسوع بنظرة حادّة.
«فمتى إذن يحلّ ملكوت الله؟ لم تجب...» يلحّ مجدّداً الفرّيسيّ السابق.
«حين يكون المسيح على العرش الذي يعدّه له إسرائيل، الأكثر علوّاً مِن أيّ عرش آخر، الأعلى مِن هذا الهيكل ذاته.»
«لكن أين يتمّ الإعداد له، إذ ما مِن تحضيرات جليّة؟ أيمكن أن يكون صحيحاً أنّ تسمح روما لإسرائيل بأن يقوم ثانية؟ أغدت النسور عمياء إذن بحيث لا ترى ما يتمّ إعداده؟»
«ملكوت الله لا يأتي بأبّهة. وحدها عين الله تراه يتشكّل. لأنّ عين الله تقرأ باطن البشر. كذلك لا تذهبوا باحثين عن مكان هذا الملكوت، وأين يتحضّر. ولا تصدّقوا مَن يقول: "يُعدّ له في بطانيا، يُعدّ له في مغاور برّيّة عين جدي، يُعدّ له على شواطئ البحر." إنّ ملكوت الله هو فيكم، في داخلكم، في روحكم الّذي يستقبل الشريعة الآتية مِن السموات، باعتبارها شريعة الوطن الحقيقيّ، الشريعة الّتي تجعل مِن مُمارسِها مِن رعايا الملكوت. لذلك أتى يوحنّا قبلي ليهيّئ دروب القلوب، الّتي مِن خلالها تلجها عقيدتي. بالتوبة قد أُعدّت الدروب، وبالمحبّة يقوم الملكوت، وتسقط العبوديّة للخطيئة الّتي تمنع ملكوت السموات عن البشر.»
«إنّما حقّاً هذا الرجل لعظيم! وتقولون إنّه حِرَفيّ؟» يقول بصوت عالٍ أحدهم كان يصغي بانتباه. وآخرون، يهود بالنظر إلى ثيابهم، وربّما كانوا قد ضُلّلوا مِن قِبَل أعداء يسوع، يتبادلون النظر مندهشين، وينظرون إلى مُضَلِّلِيهم سائلين: «ما الذي أوحيتم به إلينا؟ مَن يستطيع القول إنّ هذا الرجل يثير الشعب؟» وأيضاً آخرون: «إنّنا نتساءل ونسألكم عن هذه الأمور: إذا كان صحيحاً أنّ لا أحد منكم قد علّمه، فكيف له هذه الحكمة؟ أين تعلّمها، إذا لم يدرس أبداً مع أيّ معلّم؟» ويتوجّهون إلى يسوع: «قل لنا إذن. أين حظيتَ بمذهبكَ هذا الّذي تُعلّمه؟»
يسوع يرفع وجهاً مُلهَماً ويقول: «الحقّ الحقّ أقول لكم بأنّ هذا المذهب ليس لي، بل إنّما هو لِمَن أرسلني وسطكم. الحقّ الحقّ أقول لكم بأنّ ما مِن معلّم قد علّمني إيّاه، ولا وجدتُه في أيّ كتاب حيّ، ولا في أيّة لُفافة، أو نُصب حجري. الحقّ الحقّ أقول لكم بأنّني قد تهيّأتُ لهذه الساعة منصتاً إلى الحيّ يخاطب روحي. الآن قد حانت الساعة بالنسبة لي كي أعطي شعب الله الكلمة الآتية مِن السموات. وأنا أفعل ذلك، وسأفعله حتّى النَّفَس الأخير، وبعد أن أكون قد لَفَظتُه، فإنّ الحجارة الّتي سمعتني، والّتي لن تلين، ستختبر خوفاً مِن الله أقوى مِن ذاك الّذي اختبره موسى على سيناء، وفي الخوف، مع صوت الحقيقة، لاعِناً أو مُبارِكاً، فإنّ كلمات مذهبي المرفوض سوف تُنقَش على الحجارة. وتلك الكلمات لن تمحى بعد. العلامة ستبقى: نوراً لِمَن يتقبّلها، أقلّه آنذاك، بمحبّة؛ وظلمة مطلقة لأولئك الّذين، حتّى آنذاك، لن يُدركوا أنّ مشيئة الله هي مَن أَرسَلَني كي أؤسّس ملكوته.
عند بداية الخلق قيل: "ليكن نور." وكان النور في الخَواء. وفي بداية حياتي قيل: "السلام لذوي الإرادة الصالحة." إنّ الإرادة الصالحة هي الّتي تَعمَل مشيئة الله ولا تحاربها. إذ إنّ مَن يَعمَل مشيئة الله ولا يحاربها يشعر بأنّه لا يستطيع أن يحاربني، لأنّه يشعر بأنّ مذهبي يتأتّى مِن الله لا مِن ذاتي. أأبحث ربّما عن مجد لي؟ أأقول ربّما بأنّني مبتدع شريعة النعمة وعهد المغفرة؟ لا. فأنا لا آخذ المجد الّذي ليس لي، بل أعطي مجداً لمجد الله، مُبدِع كلّ ما هو حسن. ذلك أنّ مجدي هو في أن أعمل ما يريدني الآب أن أعمله، لأنّ ذلك يعطيه مجداً. إنّ مَن يتكلّم لصالح نفسه كي يُمتَدَح يسعى لمجده الخاصّ. إنّما مَن هو قادر، حتّى دون طلب منه، على تلقّي المجد مِن البشر لأجل ما يفعله أو يقوله، ويرفضه قائلاً: "إنّه ليس لي، مخلوقاً مِن قِبَلي، ولكنّه منبثق مِن ذاك الّذي للآب كما أنا منه منبثق."، فهو في الحقّ وليس فيه ظُلم، حيث يعطي لكلّ واحد ما هو له دون أن يُبقِي لنفسه ما ليس له. وأنا كائن، لأنّه هو أرادني.»
يسوع يتوقّف برهة. يجيل نظرة على الجمع، يتفحّص الضمائر. يقرأها. يزنها. يعاود الكلام: «إنّكم صامتون. النصف منكم إعجاباً، والنصف الآخر متسائلاً كيف يمكنكم إسكاتي. مِـمّن هي الوصايا العشر؟ مِن أين أتت؟ مَن أعطاكم إيّاها؟»
«موسى!» يصرخ الجمع.
«لا. العليّ. موسى، خادمه، قد حملها إليكم. لكنّها مِن الله. أنتم، الّذين لديكم الصّيغ ولكن ليس لديكم الإيمان، تقولون في قلوبكم: "نحن لم نرَ الله. ولا العبرانيّون عند قاعدة سيناء". آه! لم تكن كافية، للإيمان بأنّ الله كان حاضراً، ولا حتّى الصواعق الّتي أَشعَلَت الجبل فيما كان الله يرمي الصاعقة والرعد في حضور موسى، لا تفيدكم حتّى الرعود والزلازل للإيمان بأنّ الله هو فوقكم لكتابة الميثاق الأبديّ للخلاص والإدانة. تجلّياً جديداً، رهيباً، سترون، وقريباً، داخل هذه الأسوار. والمكامن المقدّسة سوف تخرج مِن الظلمات، حيث سيكون ملكوت النور قد ابتدأ، وقدس الأقداس سوف يرُفع في حضرة العالم ولن يُخفى بعد تحت الحجاب الثلاثي. ولن تؤمنوا بعد. فما هو إذن المطلوب لجعلكم تؤمنون؟ أأن تَحفر صواعق العدالة جسدكم؟ لكنّ عندئذ العدل سيكون قد سَكَن، وستنزل صواعق المحبّة. ومع ذلك، فحتّى هي لن تخطّ الحقّ في قلوبكم، في قلوب جميعكم، ولن تستثير الندامة ومِن ثمّ المحبّة...»
وجهه غَمَالائيل الآن متوتّر، وعيناه مسمّرتان على وجه يسوع…
«إنّما تعلمون أنّ موسى كان إنساناً وسط البشر، وقد ترك لكم مؤرّخو زمنه وصفاً له. ومع ذلك، ومع علمكم مَن كان، ومِـمّن وكيف تلقّى الشريعة. فهل تتقيّدون بها يا ترى؟ لا، لا أحد منكم يتقيّد بها.»
صيحة احتجاج تسري بين الجمع.
يسوع يفرض الصمت: «أتقولون بأنّ هذا غير صحيح؟ وبأنّكم تراعونها؟ فلماذا إذن تَسعون إلى قتلي؟ ألا تمنع الوصية الخامسة قتل الإنسان؟ ألا تتعرّفون بي على المسيح؟ إنّما لا يمكنكم إنكار أنّني إنسان. فلماذا إذن تَسعون إلى قتلي؟»
«ولكنّكَ لمجنون! أنتَ ممسوس! إنّ شيطاناً يتكلّم فيكَ ويجعلكَ تهذي وتتفوّه بأكاذيب! لا أحد منّا يفكّر بقتلكَ! مَن الّذي يريد قتلكَ؟» يصيح بالضبط الّذين يريدون فِعل ذلك.
«مَن؟ أنتم. وتبحثون عن أعذار لِفِعل ذلك. وتنسبون لي آثاماً زائفة. إنّكم تلومونني، وهي ليست المرّة الأولى، لأنّني شفيتُ رجلاً في السبت. أوَلم يقل موسى بوجوب التحلّي بالرحمة كذلك تجاه الحمار والثور إذ يقع لأنّ ذلك يشكّل خيراً لأخيكَ؟ أفلا يتوجّب عليَّ أن أتحلّى بالرحمة تجاه جسد مريض لأخ، حيث الصحة المستعادة هي خير مادّي وواسطة روحيّة كي يبارك الربّ ويحبّه مِن أجل إحسانه؟ والختان الذي أعطاكم إيّاه موسى أَخْذاً عن الآباء، أربّما لا تمارسونه كذلك في السبت. وإذا كان ختان رجل في السبت لا ينتهك شريعة السبت الموسويّة، لأنّه يفيد في جعل صبيّ ابناً للشريعة، فلماذا تثورون عليَّ إذا ما شفيتُ إنساناً بكلّيته في السبت، بالجسد والروح، وجعلتُه ابناً لله؟ لا تحكموا تبعاً للمظهر والحرف. بل احكموا حكماً صائباً ووفقاً لروحكم، لأنّ الحرف، الصيغ، المظاهر، هي أمور مائتة، لوحات مرسومة، لا الحياة الحقّة، بينما روح الكلمة والمظاهر هي حياة حقيقيّة وينبوع أبديّة. لكنّكم لا تفهمون هذه الأمور لأنّكم لا تريدون فهمها. هيّا بنا.»
ويدير ظهره للجميع، متّجها صوب المخرج، يتبعه ويحيط به رُسُله وتلاميذه، الذين ينظرون إليه حزينين عليه وساخطين على أعدائه.
هو شاحب، يبتسم لهم قائلا: «لا تحزنوا. أنتم أصدقائي. وإنّكم تفعلون الصواب بكونكم كذلك، لأنّ زماني يقترب مِن نهايته. قريباً سيحلّ وقت تتمنّون فيه أن تروا واحداً مِن أيّام ابن الإنسان هذه. إنّما لن يكون بمقدوركم أن تروه بعد. عندئذ سوف يكون عزاء لكم القول: "لقد أحببناه وكنّا أوفياء له طالما كان وسطنا." وكي يسخروا منكم ويجعلوكم تظهروا بمظهر المجانين سيقولون لكم: "إنّ المسيح قد عاد. إنّه هنا! إنّه هناك!" لا تصدّقوا كلامهم. لا تذهبوا، لا تتبعوا هؤلاء المستهزئين الكَذَبة. إنّ ابن الإنسان، ما إن يرحل، فلن يعود ثانيةً إلّا في يومه. وعندئذ سيكون ظهوره كما البرق الساطع الّذي يومض مِن موضع إلى آخر عبر السماء، خاطفاً بحيث يشقّ على العين تتبّعه. أنتم، وليس فقط أنتم، بل ما مِن إنسان سوف يكون بوسعه أن يتبعني عند ظهوري الأخير لجمع كلّ الذين وُجِدوا، والموجودين والذين سوف يوُجَدون. إنّما قبل حدوث ذلك يتوجّب أن يتألّم ابن الإنسان كثيراً. أن يعاني كلّ شيء. كلّ ألم البشريّة، وفوق ذلك سيكون منبوذاً مِن هذا الـجِيل.»
«إنّما عندئذ، يا ربّي، سوف تعاني كلّ الشرّ الذي سيكون هذا الجيل قادراً على إلحاقه بكَ» يلاحظ الرّاعي متّياس.
«لا. لقد قلتُ: "كلّ ألم البشرية". التي وُجِدت قبل هذا الـجِيل والّتي ستُوجَد، لأجيال وأجيال، بعد هذا الِجيل. والّتي ستخطئ على الدوام. وابن الإنسان سوف يتجرّع كلّ مرارة الخطايا الماضية، الحاضرة والمستقبليّة، وصولاً إلى آخر خطيئة، بروحه، قبل أن يكون الفادي. وفضلاً عن مجده سوف يظلّ يتألّم، بروحه المحبّ، لرؤيته البشريّة تدوس على محبّته. لن يمكنكم أن تفهموا حالياً... الآن لندخل هذا المنزل. إنّه منزل صديق.»
ويَقرع أحد الأبواب، الّذي يُفتَح فاسحاً له المجال للدخول مِن دون أن يُظهِر البواب دهشته مِن عدد الأشخاص الّذين يدخلون خلف يسوع.