ج3 - ف40
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الأول
40- (في مطبخ بطرس. تعليم وإعلان إلقاء القبض على المعمدان)
07 / 06 / 1945
ها نحن مِن جديد في مطبخ بطرس. ولقد كانت الوجبة وَافِرة، ذلك أنّ الأطباق، وفيها بقايا الأسماك واللحوم والجبن والفواكه المجفّفة، أو أقلّه المتغضِّنة، وفطائر العسل، تتكدّس في مَعجَن يشبه معاجننا في توسكانا. وما تزال الجِّرار والكؤوس على الطاولة في حالة فوضى.
زوجة بطرس صَنَعَت العجائب لترضي زوجها، وقد عَمِلَت طوال اليوم. والآن هي تَعِبَة إنّما مسرورة، تَقبَع في زاويتها وتصغي إلى ما يقوله زوجها والآخرون. تَنظُر إليه، إلى سمعانها الذي ينبغي أن يكون بالنسبة إليها رَجُلاً عظيماً، حتى ولو كان مُتطلِّباً قليلاً. وحينما تَسمَعه يتكلّم بألفاظ جديدة، وهو الذي لم يكن يتحدّث إلاّ عن الـمَراكِب والشِّباك والسمك والدراهم، تَرفُّ عيناها، كما لو أنّ نوراً عظيماً كان قد بَهَرَها. وبطرس، إنْ بفرح كون يسوع على مائدته، وإنْ بفرح المائدة العامرة، هو بالحقيقة محظوظ هذا المساء، وقد اتَّضَحَت في داخله معالم بطرس المستقبل الذي يُبشِّر الجموع.
لستُ أدري أيّة ملاحظة مِن رفيق أدَّت إلى إجابة حادّة جدّاً مِن بطرس: «سوف يحصل لهم ما حَصَلَ لبُناة برج بابل. فكبرياؤهم سوف يؤدّي إلى انهيار مبادئهم وسوف يُسحَقُون.»
يَعتَرِض أندراوس على أخيه: «ولكنّ الله رحيم. وسوف يمنع الانهيار ليمنحهم فرصة للندامة.»
«لا تُفكّر في هذا. فَلِتتويج كبريائهم سوف يَعمَدون إلى الافتراء والاضطهاد. آه! لقد بَدَأتُ أُحِسُّ بذلك مسبقاً. اضطهادنا لتشتيتنا كشهود ممقوتين. وبما أنّهم سيهاجِمون الحقّ غدراً، فسوف ينتقم الله، وسيَهلَكون.»
«هل ستكون لنا القدرة على الصمود؟» يَسأَل توما.
«أمّا أنا... فلستُ أملكها، ولكنّني أعتمد عليه.» ويشير بطرس إلى المعلّم الذي يصغي ويَصمت واقفاً وحانياً رأسه قليلاً، كما ليخفي وجهه الذي يبدو عليه التأثر.
«أظنُّ أنّ الله لن يُعرِّضنا لتجارب تفوق قدراتنا.» يقول متّى.
«أو على الأقلّ سوف يزيد القُدرات بنسبة التجارب.» هذا ما يَخلص إليه يعقوب بن حلفى.
«إنّه يقوم بذلك بالفِعل، فلقد كنتُ ثريّاً وذا نفوذ. ولو لم يكن الله يبغي الاحتفاظ بي لمقاصده، لكنتُ هلكتُ يائساً عندما أضحيتُ أبرصاً مُضطَهَداً. لقد ضَغَطتُ على نفسي... وعوضاً عن ذلك، هَبَطَ على انهياري الكامل ثَراء جديد لم أكن قد حصلتُ عليه مِن قَبل: غِنى اليقين: "الله موجود". سابقاً... الله... نعم، كنتُ مؤمناً. كنتُ إسرائيليّاً أميناً. ولكنّه كان إيماناً شكليّاً. كان يبدو لي أنّ أجره، على الدوام، كان أدنى مِن فضائلي. كنتُ أسمح لنفسي بمناقشة الله، لأنّني كنتُ ما أزال أعتبر نفسي مهمّاً على الأرض. سمعان بطرس على حقّ. فأنا كذلك كنتُ أبني برج بابل بالمدائح الذاتيّة وإرضاء الأنا لديَّ. عندما انهار كلّ شيء عليَّ، وقد أصبحتُ دودة مُنسَحِقة تحت ثِقل كلّ هذه الأمور البشريّة التي لا طائل منها، حينئذ لم أعد أناقش الله، بل أناقش ذاتي، ذاتي المجنونة، وانتهيتُ إلى تقويضها. وكلّما كنتُ أفعل ذلك، سائراً على الدرب المؤدّي إلى ما كنتُ أُفكِّر أنّه الإله الكامن فوق كياننا كأرضيِّيِن، وكنتُ أُصادِف قُدرة، غِنى جديداً. اليقين بأنّني لم أكن وحدي، وأنّ الله كان يسهر على الإنسان المقهور مِن الإنسان، ومِن الشرّ.»
«حسب رأيكَ، ماذا تعتقد يكون الله الذي عَبَّرتَ عنه "الإله الكامن فوق كياننا كأرضيِّيِن"؟ ماذا تقصد؟ لستُ أُدرِك، وهذا يبدو لي هرطقة. فالله هو الذي نعرفه مِن خلال الشريعة والأنبياء. فلا يوجد إله غيره.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ بقليل مِن الجدّيّة.
«لو كان يوحنا هنا لَعَبَّرَ بأفضل مني، إلا أنني أقول ذلك على قدر معرفتي. فالله هو الذي نعرفه من خلال الشريعة والأنبياء، صحيح. ولكن بأي شيء نعرفه؟ كيف؟»
يَقفز يوضاس بن حلفى: «قليلاً وبشكل سيّئ. فالأنبياء الذين وَصَفوه لنا، هُم يعرفونه أيضاً، أمّا نحن فلدينا نشرة مشوَّشَة تتسرَّب عَبرَ أكداس مِن الشروح التي جَعَلَتها الطوائف تتراكم.»
«طوائف؟ ولكن كيف تقول ذلك؟ فليس لدينا طوائف، جميعنا أبناء الشريعة.» يقول الاسخريوطيّ ساخِطاً ومتهجِّماً.
«أبناء الشرائع، وليس أبناء الشريعة. فهناك اختلاف بسيط بين الـمُفرَد والجمع. إنّما في الواقع هاكَ الفرق: نحن أبناء ما ابتَدَعْنا وليس ما أعطانا الله.» يجيب تدّاوس.
«الشرائع تَوَلَّدَت مِن الشريعة.» يقول الاسخريوطيّ.
«الأمراض كذلك تتولّد مِن أجسادنا، وأنتَ لا تودُّ القول لي إنّها أشياء صالحة.» يجيب تدّاوس.
«ولكن اسمحوا لي أن أعرف ما هو إله سمعان الغيور الكامِن.» الاسخريوطيّ الذي لم يتمكّن مِن الإجابة على ملاحظة يوضاس بن حلفى، يُحاول إعادة السؤال إلى نقطة البداية.
يقول سمعان الغيور: «حسب مفاهيمنا، يجب أن تكون هناك على الدوام عبارة لإدراك فِكرة ما. وكلّ منّا، أتحدّث عنّا نحن المؤمنين، يؤمن بقوّة الإيمان بالربّ تعالى والخالِق، الله الأزليّ الذي في السماء. ولكن كلّ كائن يحتاج إلى أكثر مِن هذا الإيمان العاري، النقيّ، غير الجسديّ، الأهل والكافي للملائكة الذين يَرَونَ الله ويحبّونه روحيّاً، متقاسِمِين معه الطبيعة الروحيّة، ومالِكِين القدرة على مشاهدة الله. أمّا نحن فإنّنا نحتاج إلى خَلق "صورة" لله. وهذه الصورة مؤلَّفة مِن المزايا الأساسيّة التي نُسبِغها على الله لنُطلِق اسماً على كماله المطلق واللامتناهي. وكلّما رَكَّزَت النَّفْس، كلّما توصَّلَت إلى الدقّة في معرفة الله. وهذا ما أُعبِّر عنه "بالإله الكامِن". لستُ فيلسوفاً. قد لا تنطبق العبارة تماماً. إنّما على كلّ حال، فالإله الكامن بالنسبة إليَّ هو الشعور بالله، هو إدراك الله في روحنا، والشعور به وإدراكه، ليس كفكرة مجرّدة، بل كوجود حقيقيّ يمنحنا قوّة وسلاماً جديداً!»
«حسناً، كيف حَصَلتَ على الشعور به؟ وما الفرق بين الشعور بالإيمان والشعور بالكُمُون؟» يَسأَل الاسخريوطيّ ساخِراً قليلاً.
«الله هو الأمان يا وَلَد» يقول بطرس. «وعندما يكون لديكَ الشعور الذي يتحدّث عنه سمعان باستخدامه تلك العبارة التي لا أفهمها لُغوّياً، ولكنّني أُدرِك روحها -وثِق تماماً أنّ السوء فينا يكمن في إدراك الحَرف وليس الروح في كلام الله- هذا يعني أنّكَ تنجح في إدراك، ليس فقط مفهوم عَظَمَة الله الرهيبة، بل أُبوَّته العَذبة للغاية. وهذا يعني أنّ لديكَ الشعور بأنّه، عندما يحاكمكَ العالم بأسره ويدينكَ ظُلماً، فواحد فقط، هو الأزليّ، الذي هو أب لكَ، لا يحاكمكَ، بل يغفر لكَ، وهذا يعني أنّ، في عزلتكَ في السجن أو في الصحراء، فإنّكَ تشعر على الدوام أنّ أحداً يحدّثكَ ويقول لكَ: "كُن قدّيساً لتكون مثل أبيكَ"، وهذا يعني أنّنا، بحبّ حقيقيّ لله الآب الذي نتوصّل في النهاية إلى إدراكه هكذا، نرضى ونعمل، نأخذ أو نترك، دون مقاييس بشريّة، دون التفكير سوى بردّ حبّ مِن أجل الحبّ، والتَّمَثُّل بالله قدر الإمكان في أفعاله الخاصّة.»
«يا لكَ مِن متكبِّر! التَّمَثُّل بالله! هذا غير مُعطى لكَ.» يُقدِّر الاسخريوطيّ.
«هذا ليس كبرياء. فالحبّ يقود إلى الطاعة. والتَّمَثُّل بالله يبدو لي شكلاً مِن أشكال الطاعة، لأنّ الله يقول إنّه خَلَقَنا على صورته كمثاله.» يجيب بطرس.
«لقد خَلَقَنا. ونحن علينا ألّا نرتَفِع أكثر.»
«ولكن كَم أنتَ تعيس، أيّها الولد، إذا كنتَ تُفكّر هكذا! إنّكَ تنسى أنّنا ساقِطون، والله يريد إعادتنا إلى ما كنّا عليه.»
فيأخذ يسوع زمام الحديث: «وأكثر أيضاً يا بطرس، ويا يهوذا والجميع. لقد كان كمال آدم كذلك قابلاً لأن يتعاظَم بفضل الحبّ الذي كان سيقوده إلى صورة أكثر دِقّة لخالقه. فآدم، دون وصمة الخطيئة، كان سيصبح مرآة نقيةّ جدّاً لله. لأجل ذلك أقول لكم: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ هو كامل"، كما الآب، كما الله. لقد أَحسَنَ بطرس القول، وكذلك سمعان. أرجوكم تذكّروا كلامَهُما وطبِّقوه على نفوسكم.»
تُوشِك زوجة بطرس أن يُغمى عليها مِن الفرح لدى سماعها مديح زوجها هكذا. تبكي خلف وشاحها ساكنة ومُغتَبِطَة. ويبدو بطرس وكأنّه أُصيبَ بنوبة السكتة لشدّة احمراره. ويبقى صامتاً للحظة. ثمّ يقول: «حسناً إذن. أَعطِنِي المكافأة، كما هذا الصباح...»
وينضمّ الآخرون كذلك إلى بطرس «نعم، لقد قلتَ ذلك. الأمثال مفيدة جدّاً لإدراك المقارنة، ولكنّنا، نحن، نفهم أنّ لها معنى يتجاوز المقارنة. فلماذا تُحدِّثهم بالأمثال؟»
«لأنّهم لم يُمنَحوا فَهم أكثر ممَّا أَشرَح. أمّا أنتم فقد مُنِحتُم أكثر بكثير لأنّكم، أنتم، رُسُلي. وينبغي لكم أن تُدرِكوا السرّ، وبالنتيجة فقد مُنِحتُم إدراك أسرار ملكوت السماوات. لأجل ذلك أقول لكم: "اسألوا إذا لم تَفهَموا روح الـمَثَل". أنتم تُعْطَون كلّ شيء، وكلّ شيء مُعطى لكم لكي تستطيعوا أن تُعطوا كلّ شيء بدوركم. تُعطون كلّ شيء لله: عواطف، زمن، فوائد، حرّية وحياة. والله يمنحكم كلّ شيء كتعويض، ويجعلكم قادرين على إعطاء كلّ شيء باسم الله لِمَن يأتي بعدكم. وهكذا، فالذي أَعطى سوف يُعطَى وبوفرة. والذي أعطى بشكل جزئيّ، أو لم يُعْطِ شيئاً البتّة، فما له يؤخذ منه.
أُحدِّثهم بالأمثال لكي، وهم يَنظُرون، يَكتَشِفوا فقط ما يُنيرُ إرادتهم بالالتصاق بالله، وهم يَسمَعون، ودائماً بإرادتهم بالالتصاق بالله، يَسمَعوا ويَفهَموا. أنتم تَرَون: أناس كثيرون يَسمَعون كلامي، وقليلون منهم يلتصقون بالله. أرواحهم محرومة مِن الإرادة الحَسَنَة. وفيهم تتمّ نبوءة إشَعياء: "تُصغون بآذانكم ولا تَسمَعون وتَنظُرون بعيونكم ولا تُبصِرون". لأنّ لهذا الشعب قلباً قاسياً، آذاناً صُلبَة، وعيوناً مُغلَقَة لكي لا يُبصِروا ولا يَسمَعوا، لكي لا يَسمَعوا بقلوبهم ولا يَهتَدوا فأُشفيهم. ولكن طوبى لكم بسبب عيونكم التي تُبصِر وآذانكم التي تَسمَع، بسبب إرادتكم الصالحة! الحقّ أقول لكم: إنّ أنبياء كثيرين وبَرَرَة عديدين اشتهوا رؤية ما تَرَون، ولَم يَروا، وسماع ما تَسمَعون، ولم يَسمَعوه قطّ. لقد ذابوا رغبة في إدراك سرّ الكلام، ولكن ما أن انطفأ نور النبوّة حتّى بقي الكلام كالفَحم الـمُطفَأ، حتّى بما يخصّ القدّوس الذي كانوا له.
وحده الله يَكشِف عن ذاته. وعندما يَنسَحِب نوره، بعد بلوغ هدفه في إنارة السرّ، تلفّ عدم القُدرة على الإدراك الحقيقةَ الـمَلَكيّة للكلمة التي تمّ تلقّيها، مثل أربطة المومياء. لأجل ذلك قُلتُ لكَ هذا الصباح: "يأتي يوم سَتَجِد فيه كلّ ما أَعطَيتُكَ". الآن لا يمكنكَ أن تَحفَظ. إنّما، فيما بعد، سوف يحلّ فيكَ النور، ليس للحظة، بل إنّما في تَزَاوُج لا تَنفَصِم عراه للروح الأزليّ مع روحكَ، مما سوف يجعل تعليمكَ معصوماً مِن الخطأ فيما يخصّ ملكوت الله. وكما سوف يكون بالنسبة إليكَ، سيكون بالنسبة إلى خُلفائكَ إذا ما عاشوا بالله وكأنّه الخبز الأوحد.
الآن اسمَعوا روح الـمَثَل:
لدينا أربعة أشكال مِن الحقول: تلك الخصبة، وتلك التي تملأها الأشواك، وكذلك المرصوفة بالحجارة، وتلك التي تَكثُر فيها الدروب. وكذلك لدينا أربعة أشكال مِن الأرواح:
لدينا الأرواح النـزيهة، أرواح الإرادة الصالحة، الـمُعَدَّة بعملها، العمل الصالح، لتكون رسولاً، رسولاً "حقيقيّاً"، إذ هناك مَن يحملون الاسم وليس لديهم الروح. فإنّهم أكثر فتكاً مِن العصافير والأشواك والحصى ذاتها بالأرواح التي ما زالت تتشكّل. فبتشدّدهم وتسرّعهم، بملاماتهم وتهديداتهم، يُضلِّلونها بحيث يُبعِدونها للأبد عن الله. وهناك بالمقابل مَن، بِسِقاية متواصلة، بِرِفق، في غير محلّه، يجعلون البِذار يتعفَّن في أرض كثيرة الرطوبة. فَبِقلَّة حَزمهم يُميِّعون النُّفوس التي يهتمّون بها. إنّما لا نتأمّلنّ بغير الرُّسُل الحقيقيّين، الذين هُم المرايا النقيّة لله. إنّهم أَبَويّون، رُحَماء، صابِرون، وفي الوقت نفسه أقوياء، أشدّاء مثل سيّدهم. فها هي الأرواح المعدّة مِن تلقاء ذاتها، وبإرادتها الصالحة تشبه الحقول الخَصبة الخالية مِن الحصى والعلّيق والعوائق والزؤان. فيها تُزهِر كلمة الله، وكلّ كلمة: بذور تُعطي السنابل الكثيفة بإعطائها هنا المائة بالمائة، وفي مكان آخر ستّين، وفي مكان آخر ثلاثين بالمائة. هل منهم بين الذين يتبعونني؟ بالتأكيد، وسيكونون قدّيسين. سيكون فيهم مِن كلّ الطبقات ومِن كلّ البلدان. فهناك، حتّى مِن الوثنيّين، مَن يُعطُون مع ذلك المائة بالمائة بإرادتهم الصالحة، وبها وحدها، أو بها وبتلك التي لِرَسول أو تلميذ يُعِدُّهم لي.
الحقول التي تملأها الأشواك هي تلك التي، بإهمال، جَعَلَت التشوُّشات الشائكة للمصالح الشخصيّة تَنفُذ، وهي التي تَخنق البِذار الجيّد، فيجب مراقبة الذات دائماً، دائماً ودائماً. يجب ألّا يُقال على الإطلاق: "آه! ها قد أَصبَحتُ كامل التكوين، مزروعاً، يمكنني الاطمئنان بأنّني سأَطرَح غِلال الحياة الأبديّة". يجب مراقبة الذات: فالنـزاع بين الخير والشرّ مستمرّ. هل لاحظتم يوماً سرب نمل في بيت؟ ترى المرأة لا تعود تترك مؤونة على الأرض، بل تَرفَعها على الطاولة، ولكنّ النمل الذي يستشعر الرائحة يقفز إلى الطاولة. وتضعه المرأة في الخزانة، فيمر النمل عبر الـمِغلاق؛ وتُدلِي المرأة مؤونتها مِن السقف، فيقطع النمل درباً طويلاً على مدى الجدران والروافد الصغيرة وينـزل على طول الحِبال ويَلتَهِم. تحرق المرأة النملات وتسمِّمها، ثمّ تجلس مطمئنّة، وهي تظنّ أنّها أَفنَتها. آه! إذا لم تسهر، فيا للمفاجأة! فها هي التي تَفقس حديثاً تَخرُج وتعود لتبدأ العمل مِن جديد. وهكذا طوال الحياة. فيجب مراقبة الذات لاقتلاع النباتات السيّئة حال بزوغها، في حال العكس، فإنّها تُنشِئ سقفاً مِن العلّيق يخنق الحبوب. الهموم الدنيويّة، وخداع الثروات تخلق التشوّش، تُغرِق النباتات التي بَذَرَها الله، وتمنعها مِن تشكيل السنابل.
هي ذي الآن الحقول المليئة حصى. وكم هي بِوَفرة في إسرائيل! إنّهم أولئك الذين ينتمون إلى "أبناء الشرائع"، كما قالها بالضبط أخي يوضاس. فليس هناك حجر الشهادة الوحيد، حجر الشريعة غير موجود. بل إنّما هناك حجارة الشرائع البشريّة الصغيرة والمسكينة التي أَوجَدَها الناس. كثيرة، كثيرة هي التي بِثِقلها جَعَلَت على حجر الشريعة قِشرة كالدّرع، إنّه ركام يمنع كلّ تجذّر للبِذار. لم يعد الجذر يتغذّى، فليس هناك تربة ولا عُصارات مغذّية. فالماء يجعلها تتعفّن، لأنّه يَركُد في قاع الأثلام. والشمس تسخّن الأثلام، وتحرق النباتات الصغيرة. إنّها أرواح الذين استَبدَلوا مذهب الله البسيط بمذاهب بشريّة معقَّدة. إنّهم يتقبّلون كلمتي، حتّى بفرح، وهي تهزّهم وتستميلهم في حينها. إنّما بعدئذ... فتستوجب البطولة في إعمال الـمِعول، حتّى لتخليص الحقل، النَّفْس والروح، مِن حجارة المتفاصِحِين الصغيرة. حينئذ يتجذّر البِذار ويُشكِّل كَثافة قويّة. وإلّا... فلا يعطي شيئاً. يكفي الخوف مِن الاقتصاص البشريّ. يكفي التفكير: "ولكن بعد ذلك؟ ماذا يفعل بي ذوو النفوذ؟" ويَذوي البِذار المسكين دونما غذاء. يكفي أن تتحرّك كلّ الحجارة الصغيرة بالصوت الباطل للمائة والمائة أَمْر التي حَلَّت محلّ الوصيّة، وها هو الإنسان يَهلَك مع البِذار الذي تلقّاه... إسرائيل مليئة بهؤلاء الناس. وهذا ما يُفسِّر كيف يتّجه درب الله بشكل معاكس لدرب ذوي النفوذ البشريّ.
أخيراً، وختاماً للموضوع، الحقول المليئة دروباً وغباراً والـمُعرَّاة. إنّهم الدُنْيَويُّون الأنانيّون. الرفاهية شريعتهم والمتعة هدفهم. عدم التعب والنوم، الضحك والأكل... روح العالم مَلِكٌ لديهم، وغبار الدنيويّة يغطّي الأرض التي تصبح عقيمة. العصافير التي تَرمُز إلى التهتّك، تتزاحم على المسالك الألف التي شُقَّت لتجعل الحياة أكثر سهولة. روح العالم، أي روح الخُبث الشرّير، يلتَهِم ويُخرب كلّ بِذار يَسقُط على هذه الأرض الـمُنفَتِحة على كل الملذّات والشهوات وعلى كلّ التقلُّبات.
هل فهمتم؟ هل لديكم شيء آخر تستفسرون عنه؟ لا؟ إذن يمكننا الذهاب للاستراحة لنَمضي غداً إلى كفرناحوم. ينبغي لي الذهاب إلى مكان آخر قبل بدء الرحلة إلى أورشليم مِن أجل الفصح.
«هل سنمرّ أيضاً بالرّامة؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.
«ليس بالتأكيد. هذا يتوقّف على...»
يُقرَع الباب بعنف.
«ولكن مَن يُمكن أن يكون في مثل هذه الساعة؟» يقول بطرس وهو يَنهَض ليَفتَح.
إنّه يوحنّا، مُضطَرِب، يكسوه الغبار مع آثار بكاء ظاهرة على وجهه.
ويسوع الذي يَهبُّ واقفاً يقول فقط: «أُمّي، أين هي؟»
يتقدَّم يوحنّا ويجثو عند قدمي معلّمه، مادّاً ذراعيه، كما ليَطلب العون، ويقول: «الأُمّ بخير، ولكنّها حزينة مثلي، ومثل أناس كثيرين، وترجوكَ ألّا تأتي بمحاذاة الأردن مِن جِهَتنا. لقد جَعَلَتني آتي لأجل ذلك، لأنّ... لأنّ يوحنّا قريبكَ قد أُلقِيَ القبض عليه...» ويبكي يوحنا، بينما يتملّك كلّ الحاضِرِين تأثُّر عظيم.
يَشحب لون يسوع كثيراً، ولكنّه لا يَنفَعِل، بل يقول فقط: «انهض واروِ لنا.»
«كنتُ ماضياً إلى الجنوب مع الأُمّ والنساء. وقد كان معنا كذلك إسحاق وتيمون. ثلاثة رجال وثلاث نساء. أَطَعتُ كلامكَ بأن آخُذ مريم إلى يوحنّا... آه! لقد كنتَ تَعلَم أنّه كان الوداع الأخير!... أنّه كان ينبغي أن يكون الوداع الأخير. عواصف الأيّام الماضية جَعَلَتنا نتوقّف لبضعة ساعات، ولكنّ ذلك كان كافياً لكيلا يعود يوحنّا قادراً على رؤية مريم... وَصَلنَا في الساعة السادسة، بينما هو كان قد أُلقِيَ القبض عليه عند صياح الديك...»
«ولكن أين؟ لكن كيف؟ مَن؟ في مغارته؟» الكلّ يَسأَل، الجميع يريدون أن يعرفوا.
«لقد تَعَرَّضَ لخيانة. لقد استَخدَموا اسمكَ لخيانته!»
«يا للفظاعة! ولكن مَن كان ذاك؟» يهتف الجميع.
ويوحنّا، وهو يَرتَعِش، يقول، بصوت منخفض، عن تلك الفظاعة التي ينبغي ألّا يسمعها حتّى الهواء: «أحد تلاميذه...»
الهِياج في ذُروَتِه. فالبعض يَلعَنون، وآخرون يبكون، وآخرون يَظَلّون في ذهول بلا حراك كالتماثيل.
يَتعلَّق يوحنا بعنق يسوع ويصيح: «أنا خائف عليكَ! عليكَ! فللقدّيسين خائِنوهم الذين يبيعون أنفسهم بالذهب أو بالخوف مِن الشخصيّات الكبيرة، أو بإغراء المكافأة، بـ... بالخضوع للشيطان. لألف وألف سبب! آه! يسوع، يسوع! يا له مِن ألم! معلّمي الأوّل! يوحنّا الذي وَهَبَني لكَ!»
«هدوءاً! لن يحدث لي شيء الآن.»
«ولكن فيما بعد؟ ولكن فيما بعد؟ أَنظُر إلى نفسي... أَنظُر إلى هؤلاء... أخاف مِن الجميع، حتّى مِن نفسي. سوف يكون خائنكَ بيننا...»
«أمجنون أنتَ؟ أَتَحسَبنا لا نُمزِّقه؟» يهتف بطرس.
والاسخريوطيّ: «آه! حقيقة مجنون! فانا لن أخون على الإطلاق! إنّما لو شَعَرتُ بأنّني ضَعِفتُ إلى درجة فِعلَها، فإنّني أقتل نفسي. ويكون هذا أفضل لي مِن أن أكون قاتل الله.»
يُفلِت يسوع مِن قبضة يوحنا، ويهزّ الاسخريوطيّ بشدّة قائلاً له: «لا تُجدِّف! لا يمكن لأيّ سبب أن يجعلكَ تَضعف إذا لم تشأ أنتَ ذلك. وإذا ما حَصَلَ هذا، فينبغي الحزن وعدم ارتكاب جريمة تُضاف إلى قتل الله. فإنّ مَن يقطع الصلة الوثيقة مع الله يصبح ضعيفاً.» ثمّ يلتفت إلى يوحنّا الذي يبكي ورأسه مستند إلى الطاولة، ويقول: «تكلّم بانتظام. أنا أيضاً أتألّم. فلقد كان دَمي وسابِقي.»
«لم أرَ سوى تلاميذه، وقد كان قسم منهم واجِمِين وثائِرِين ضدّ الخائن. أمّا الآخرون فقد رافقوا يوحنّا إلى السجن ليكونوا إلى جانبه ساعة موته.»
«ولكنه لم يَمُت بعد... في المرة السابقة استطاع الهرب.» يقول الغيور الذي يحبّ يوحنّا كثيراً، مُحاوِلاً مواساته.
«لم يمت بعد، ولكنّه سيموت.» يجيب يوحنّا.
«نعم سيموت. يعرف ذلك كما أعرفه أنا. لا شيء، ولا أحد سينقذه هذه المرّة. متى؟ لا أَعلَم. أَعلَم أنّه لن يخرج حيّاً مِن بين يديّ هيرودس.»
«نعم، يديّ هيرودس. اسمع. لقد مضى إلى ذلك الفَجّ حيث مَرَرنا، نحن كذلك، أثناء عودتنا إلى الجليل، بين جبال عيبال وجزريم، لأنّ الخائن قال له: "مَسيّا يحتضر بعد أن هاجمه أحد الأعداء. يريد أن يراكَ ليفضي لكَ بسرّ". ومضى مع الخائن وبعض مِن الآخرين. وقد كان جنود هيرودس يختبئون في الوادي الصغير، وألقوا القبض عليه. وهَرَب الآخرون حامِلِين الخبر إلى التلاميذ الباقين. وكانوا قد وَصَلوا لتوّهم عندما قابَلتُهم أنا والوالدة. والفظيع في الأمر أنّه كان واحداً مِن سكان مناطقنا... وأنّ فرّيسيّي كفرناحوم هُم الذين كانوا على رأس المؤامرة. ولقد كانوا ذاهبين ليقولوا له بأنّكَ كنتَ ضيفهم، وأنّكَ كنتَ قد ذهبتَ، مِن هناك، إلى اليهوديّة... ولم يكن لِيَخرُج مِن مكمنه مِن أجل أحد سواكَ...»
وبعد حديث يوحنّا ساد صمت الأموات. أمّا يسوع فقد بدا وكأنّه مُنهَك: عيناه زرقاوان داكنتان وكأنّهما مغشيّتان. إنّه هناك، رأسه منحن، وما زالت يده على كتف يوحنّا، وتحرَّكَت يده بهزة خفيفة. لم يتجرّأ أحد على الكلام. يقطع يسوع الصمت: «سنذهب إلى اليهوديّة عن طريق أخرى. إنّما ينبغي لي أن أذهب غداً إلى كفرناحوم، في أقرب وقت ممكن. استريحوا. أصعد أنا إلى ما بين أشجار الزيتون. أحتاج إلى البقاء وحيداً.» ويَخرُج دون أيّة إضافة.
«حتماً هو يذهب ليبكي.» يُتمتِم يعقوب بن حلفى.
«فلنتبعه يا إخوة.» يقول يوضاس تدّاوس.
«لا، بل دعوه يبكي. فقط فلنَخرُج بهدوء، ولنَبقَ مُصغِين متنبّهين، فأنا أخشى الفِخاخ مِن كلّ الجهات.» يجيب الغيور.
«نعم، هيّا بنا، نحن الصيّادين، إلى الشاطئ، فإذا قَدِمَ أحد مِن العَرض (البحر) سنراه. أنتم بين أشجار الزيتون، فهو حتماً في مكانه المعتاد، قرب شجرة الجوز. وعند الفجر سنُجهِّز القوارب للذهاب بأسرع ما يمكن. الأفاعي! هه! لقد قلتُ ذلك أنا! قُل، أيّها الولد! ولكن هل الأُمّ في أمان تام؟»
«آه! نعم! فحتّى الرُّعاة تلاميذ يوحنّا قد ذَهَبَوا معها. أندراوس... لن نراه بعد اليوم، حبيبنا يوحنّا!»
«اصمُت! اصمُت! يبدو لي ذلك كغناء الوقواق... الواحد بعد الآخر و... و...»
«بحقّ تابوت العهد المقدَّس! اصمتوا! إذا كنتم ما زلتم تتحدّثون عن مكروه للمعلّم، فسأبدأ بأن أجعلكم تتذوّقون طعم مِجذافي على ظهركم!» يَصرخ بطرس ثائراً. «أنتم» يقول بعد ذلك لأولئك الذين بين الزيتون، «تَسلَّحوا بالعصيّ، أغصان ثخينة. يوجد منها هناك، في الـمِحطَبة، وتوزّعوا مع أسلحتكم. وأوّل مَن يدنو مِن يسوع لإيذائه، فلنقتله.»
«التلاميذ! التلاميذ! يجب أن نكون حذرين مع الجُّدُد!» يهتف فليبّس.
فيحسّ التلميذ الجديد أنه جُرِح ويقول: «هل تشكّ فيَّ؟ إنّه هو مَن اختارني وأرادني.»
«ليس فيكَ، بل في أولئك الذين هُم كَتَبَة وفرّيسيّون والذين يحبّونهم. فَمِن هنا يأتي الخراب. ثِق بذلك.»
يَخرُجون ويتوزّعون، البعض في الـمَراكِب، والآخرون بين أشجار زيتون الهضبة.
وينتهي كلّ شيء.