ج5 - ف30
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
30- (يسوع في قادس)
26 / 11 / 1945
مدينة قادس قابِعة على جبل صغير معزول قليلاً، إلى الشرق مِن سِلسلة طويلة تمتدّ مِن الشمال إلى الجنوب، بينما في الغرب سلسلة روابي تكاد توازيها، وهي تمتدّ كذلك مِن الشمال إلى الجنوب. خَطّان متوازيان يتقاربان ليتقاطعا على شكل حرف x. وفي نقطة التقاطع، النقطة التي ترتكز على السِلسلة الشرقيّة أكثر منها على الغربية، يقع الجبل الذي تمتدّ على منحدره مدينة قادس مِن قمّته إلى سفحه بانحدار خفيف، وتطلّ على الوادي النديّ والأخضر، والذي يضيق جدّاً في الشرق، ليتّسع في الغرب.
مدينة جميلة مُحاطة بالأسوار، فيها بيوت رائعة ومعبد مَهيب، كما هو مَهيب النبع ذو العيون المتعدّدة التي تَصبّ مياهاً غزيرة ومنعشة في حوض منخفض تتفرّع منه جداول قد تكون تغذّي ينابيع أخرى، أو بساتين، لستُ أَعلَم.
يَلِجها يسوع في يوم يُقام فيه السوق. لم تعد يده مضمّدة، إنّما ما تزال فيها نُدبة سوداء كبيرة، ومساحة مِن الازرقاق واسعة على ظهرها. ويعقوب بن حلفى كذلك له ندبة سوداء على الصّدغ، ومساحة زرقاء واسعة حولها. أندراوس ويعقوب بن زَبْدي، جرحهما أخف، وقد اختفت آثار الذكرى الماضية، ويسيران بخفّة وهما ينظران حولهما، وبشكل خاصّ خلفهما وعلى الجوانب، ذلك أنّهم على نَسَق يتراصّ فيه بعضهم على بعض، أمام ووراء يسوع. لديَّ انطباع بأنّهم قد توقّفوا في المكان الموصوف في الأمس أو في تخومه يومين أو ثلاثة، لأخذ قسط مِن الراحة، أو ليكونوا بعيدين عن الرابّيين، خشية أن يكونوا قد توجّهوا إلى المدن الرئيسيّة، أملاً في مَسكهم على زلّة والإساءة إليهم مرّة أخرى. فهذا على الأقلّ ما توحي به مناقشاتهم.
«إنّها مدينة اعتصام (لجوء)!» يقول أندراوس.
«هل تظنّ أنّ مِن عادتهم احترام الـمُعتَصَم (اللاجئ) وقدسيّة أيّ مكان؟ كم أنتَ ساذج وعلى نيّاتكَ يا أخي!» يُجيبه بطرس.
يسوع يتوسّط يهوذا ويوضاس. أمامه يعقوب ويوحنّا كالحرّاس، ثمّ يعقوب الآخر مع فليبّس ومتّى؛ وخلفه أندراوس وتوما وبطرس. وفي الآخِر سمعان الغيور وبرتلماوس.
كلّ شيء يسير على ما يرام إلى أن وَلَجوا ساحة جميلة، حيث الحوض والمعبد، وحيث يتزاحم أناس يتحدّثون عن أعمال. أمّا السوق، فعلى النقيض، إنّه في مكان منخفض أكثر وإلى الجنوب الغربيّ مِن المدينة، حيث تتفرّع الطريق الرئيسيّة القادمة مِن الجنوب، والأُخرى التي سَلَكَها يسوع، والقادمة مِن الغرب. تلتقي الطريقان في زاوية قائمة، وتندَمِجان في طريق واحدة تمتدّ تحت البوّابة، وتتحوّل إلى ساحة رَحبة مستطيلة الشكل، يوجد فيها حمير وحظائر، باعة وزبائن والضجيج المعتاد…
ولكن، لدى وصولهم إلى هذه الساحة التي هي الأجمل -أظنُّها قلب المدينة، ليس لأنّها في مركز السّور بقدر ما لأنّ الحياة الروحيّة والتجاريّة لمدينة قادس تخفق هنا، ويبدو أنّ هذا ما يُعبِّر عنه موقعها المرتفع فوق المدينة التي تطلّ عليها، ويمكن حمايتها منها وكأنّها قلعة- تبدأ الصعوبات. كما الكلاب الشرسة التي ستُهاجِم جرواً لا حول له ولا قوة، أو بالحريّ مثل كلاب الصيد تشمّ رائحة طريدة، تُرى مجموعة كثيرة العدد مِن الفرّيسيّين والصدّوقيّين وقد انضمّ إليهم، كَرَشَّة البُهار، حَفنة مِن الرابّيين الذين شوهِدوا في جيسكالا، ومن بينهم عوزيل، وهُم يَستَنِدون إلى بوّابة المعبد الثريّ الضخمة والمزيّنة بالنحت والأفاريز. وعلى الفور يُشيرون بالإصبع إلى يسوع والرُّسُل.
«أواه! ربّي! إنّهم هنا أيضاً!» يقول يوحنّا فَزِعاً بينما هو يعود ليتحدّث إلى يسوع.
«لا تخف. تقدّم بهدوء. ولِيَعُد الذين لا يشعرون بأنّهم في وضع يسمح لهم بمواجهة هؤلاء البؤساء إلى النَّـزل. فأنا مُصِرٌّ على الحديث هنا، في المدينة اللاويّة القديمة، ومدينة اللَّجوء.»
يحتجّ الجميع: «يا معلّم، هل يمكنكَ تصوّر أنّنا سنترككَ وحدكَ؟! فليقتلونا كلّنا، إذا أرادوا. ولكنّنا سنقاسمكَ المصير.»
يَعبُر يسوع أمام الجماعة المعادية ليتوقّف مُستَنِداً إلى جدار حديقة حيث تتساقط بتلات زهور شجر الإجاص البيضاء. الجدار الداكن والسحابة البيضاء تحيط بيسوع وأمامه الاثنا عشر.
يبدأ يسوع حديثه: «أنتم يا مَن تجمّعتم هنا، تعالوا واستمعوا إلى البُشرى الجديدة التي هي أكثر فائدة مِن التجارة، والمال فيها هو اكتساب ملكوت السماوات.» صوته الجميل والقويّ ملأ الساحة، وجَعَلَ الناس المتواجدين فيها يلتفتون.
«آه! ولكنّه الرابّي الجليليّ!» يقول أحدهم. «هيّا بنا لنستمع إليه. قد يجترح معجزة.»
ويقول آخر: «أنا رأيتُه يجترح واحدة في بيت جِنّا [بيت جِمال]. وكم هو متحدّث جيّد! ليس كهؤلاء البواشق الكاسرة والـحَيّات المخادعة.»
وبسرعة تحيط الجموع بيسوع، ويتابع الحديث إلى الجموع المنتبهة.
«لا أريد أن أُذكِّر بالشريعة في قلب هذه المدينة اللاويّة. أعرف أنّها محفوظة في قلوبكم كما هي الحال في مدن قليلة في إسرائيل، وما يُظهِر ذلك هو الترتيب الذي لاحظتُه فيها، والنزاهة التي اختبرتُها لدى الباعة الذين ابتَعتُ منهم القُوت لمجموعتي الصغيرة ولي، وهذا المعبد المزيَّن كما يليق بالمكان الذي يُكرَّم الله فيه. ولكن فيكم أيضاً يوجد مكان يُكرَّم الله فيه، مكان فيه الرغبات الأكثر قداسة، فيه رَجْع الكلمات التي تمنحنا رجاء إيماننا الأكثر عذوبة، والصلوات الأكثر حرارة، كي يتحوّل رجاؤنا إلى حقيقة. النَّفْس، هي المكان المقدّس والوحيد الذي يتمّ فيه الحديث عن الله ومع الله، في انتظار أن يتحقّق الوعد.
ولكنّ الوعد قد تحقَّقَ. وإسرائيل حَصَلَت على مَسيّا، الذي يحمل إليكم الكلمة والتأكيد بأنّ زمن النعمة قد حان، وأنّ الفِداء قريب، والـمُخلِّص فيما بينكم، والملكوت الذي لايُهزم قد بدأ.
كم مِن مرّة سمعتُم قراءة حبقوق! والأكثر تأمّلاً فيكم همسوا: "أنا أيضاً يمكنني القول: ’إلى متى يا ربّ أستغيث ولا تستجيب؟‘". منذ أجيال وإسرائيل تئنّ هكذا. إنّما الآن فقد أتى الـمُخلِّص. العنف العظيم، والضيق الدائم، الفوضى والظلم التي يُسبّبها الشيطان، سوف تسقط، لأنّ الـمُرسَل مِن الله سوف يعيد دخول الإنسان في كرامة البنوّة لله والمشاركة في ملكوت الله. فلننظر إلى نبوءة حبقوق بعيون جديدة، وسوف نُدرِك أنّها تشهد لي، وأنّها تتحدّث بلغة البُشرى الجديدة التي أحملها إلى أبناء إسرائيل.
ولكن هنا، أنا مَن عليه أن يئنّ: "الحُكم أُقيم، ولكنّ النقيض يَغلب". وأئنّ مِن ذلك بألم كبير. ليس مِن أجلي، فأنا فوق الحُكم البشريّ، بقدر ما ذلك مِن أجل الذين يدينون أنفسهم بسبب معارضتهم، ومِن أجل الذين يجعلون غيرهم يَخرج عن الطريق المستقيمة. هل يُدهِشكم ما أقول؟ يوجد فيما بينكم باعة مِن مناطق أخرى مِن إسرائيل. يمكنهم أن يقولوا لكم إنّني لا أكذب. لا أكذب بأن أحيا عكس ما أُعلِّم، بألّا أفعل ما هو مُرتجى مِن الـمُخلِّص، ولا أكذب بقولي إنّ مقاومة الناس موجّهة ضدّ حُكم الله الذي أَرسَلَني، وضدّ حُكم الجموع المتواضعة والصريحة التي سَمِعَتني وكوَّنَت رأيها في مَن أكون.»
البعض، مِن الجمع، يُهمهِمون: «صحيح! صحيح! نحن الذين مِن الشعب نحبّه ونرى فيه قدّيساً. أمّا هُم (ويُشيرون إلى الفرّيسيّين ومَن معهم) فيقاومونه.»
يُتابع يسوع: «لكي تقوم المعارضة، تُمَزَّق الشريعة، وهي في ازدياد متنامٍ، إلى أن يتمّ إبطالها، لدرجة ارتكاب الظلم الأقصى الذي، مع ذلك، لن يَدوم طويلاً. في أثناء فترة قصيرة ومُخيفة، ستبدو المعارضة وكأنّها انتصرت عليَّ، وطوبى للذين سيعرفون آنذاك الاستمرار في الإيمان بيسوع الناصريّ، كابن لله، وكابن للإنسان، الذي تنبّأ عنه الأنبياء. فأنا أملك سُلطان إتمام حُكم الله كاملاً، بأن أُخلِّص كلّ أبناء إسرائيل، ولكنّني لن أتمكن مِن ذلك لأنّ الكافر سينتصر على ذاته، على أفضل ما فيه، وكذلك يَدوس على حقوقي ويَدوس على الذين يؤمنون بي، وسوف يَدوس على حقوق روحه الذي هو في حاجة إليَّ ليخلص، والذي يكون قد أُعطي للشيطان ليُمنَعَ عنّي، أنا.»
يُطلِق الفرّيسيّون صيحة استهجان. إنّما منذ برهة، تقدَّم مِن المكان الذي فيه يسوع، رجل مَهيب، والآن، في لحظة صمت، يقول: «أرجوكَ، ادخل إلى المعبد لِتُعلِّم فيه. فما مِن أحد يملك الحقّ في ذلك أكثر منكَ. أنا متياس رئيس المعبد. تعال ولتكن كلمة الله في بيتي كما هي على شفتيكَ.»
«شكراً لكَ، يا بارّ إسرائيل. وليكن السلام معكَ على الدوام.»
ويسوع، عَبْر الجموع التي تفتح طريقاً لتدعه يمرّ، كما في موجة، وتعود لتنضمّ كمجرّة السفينة (الأثر الذي تتركه السفينة خلفها) لتتبعه، يجتاز الساحة مِن جديد، مارّاً، مرّة أخرى، مِن أمام الفرّيسيّين المشاكِسين. وهؤلاء، مع ذلك، يَدخُلون أيضاً إلى المعبد مُحاوِلين شقّ طريق لهم بكبرياء. ولكنّ الناس يَنظُرون إليهم شزراً ويقولون: «مِن أين أنتم قادمون؟ اذهبوا إلى مجالسكم وانتظروا الرابّي. فهنا بيتنا، ونحن نقيم فيه.» فكان على الرابّيين والصدّوقيّين والفرّيسيّين أن يتلملموا ويَبقوا باتّضاع أمام الباب لكيلا يطردهم سكان قادس.
أَخَذَ يسوع مكاناً إلى جانب الرئيس وآخرين مِن المعبد، لستُ أدري إذا ما كانوا أبناءه أم هُم مُساعدوه. ويُعاود الحديث: «يقول حبقوق -وكأنّه يدعوكم لأن تعيروه انتباهكم!- "انظروا بين الأمم وأَبصروا. تعجّبوا وتحيَّروا فإنّ عملاً يُعمَل في أيّامكم إذا حُدِّث به لا تُصدّقونه". الآن ما يزال لدينا أعداء مادّيّون على أرض إسرائيل. ولكن فلندع ما هو خصوصيّ وقليل الأهميّة في النبوءة ولننظر فقط إلى رسالتها العظيمة الروحيّة كلّها. بالفِعل، إنّ النبوءات، حتّى ولو بدت أنّها تعود إلى أمور مادّيّة، فإنّ محتواها دائماً روحيّ. فالحدث الذي جرى -وهو بشكل أنّ أحداً لا يمكنه قبوله إن لم يكن على اقتناع تامّ بصلاح الله الحقّ اللامتناهي- هو أنّ الله أَرسَلَ كلمته لِيُخلِّص ويفتدي العالم. الله الذي ينفصل عن الله لِيُخلِّص الخليقة الخاطئة. وأنا مَن أُرسِلتُ لأجل ذلك. ولا يمكن لأيّ مِن قوى العالم أن توقف انطلاقتي كغالبٍ كلّ الملوك والمستبدّين، كلّ الخطايا والجهالات. سأنتصر لأنّني أنا، الظافر.»
وانطَلَقَت مِن آخر المعبد ضحكة استهزاء وصيحة. يحتجّ الناس، ورئيس المعبد، الذي بقي حتّى ذلك الحين مُغمِضاً عينيه، جاهداً في الإصغاء ليسوع، يَنتَصِب ويفرض الصمت على المشاغِبين مهدّداً بطردهم.
«دعهم يفعلون، بل حتّى ادعهم لِيَعرضوا حُججهم الدّاحضة» يقول يسوع بصوت عالٍ.
«آه! حسناً! دعنا نأتي إلى قربكَ. نريد السؤال» يَصرخ المعارضون بتهكّم.
«تعالوا، دعوهم يَمرّون يا أهل قادس.»
ويَدَعهم الجمع يمرّون، وهم يرشقونهم بنظرات عدائيّة وتجهّم -ولا يخلو الأمر مِن بعض النعوت المتزلّفة قليلاً-.
«ما الذي تريدون معرفته؟» يَسأَل يسوع بصرامة.
«إذن فأنتَ تقول إنّكَ مَسيّا؟ هل أنتَ متأكّد حقّاً؟»
يَنظُر يسوع إلى الذي يتكلّم، ويداه متصالبتان على صدره، بسلطان يجعل ذاك يتوقّف عن السخرية ويصمت.
ولكن آخَر يتكلّم، فيقول: «لا يمكنكَ التكهّن بأنّه يمكن الإيمان بكَ لمجرّد الكلام. فيمكن لأيّ كان أن يكذب حتّى ولو كان مؤمناً. إنّما لأجل الإيمان، تلزم الأدلّة. فهات الأدلّة التي تؤيّد ما تقول إنّكَ هو.»
«إسرائيل تفيض بالأدلّة التي أَعطَيتُ» يقول يسوع بشكل جازم.
«آه! تلك!... إنّها أمور صغيرة يمكن لأيّ قدّيس أن يأتي بمثلها. لقد جرت أمور، وسوف يُجري قدّيسو إسرائيل أموراً أخرى!» يقول أحد الفرّيسيّين.
ويضيف آخر: «ولم يقل أحد إنّكَ فعلتَها بقداسة وبعون مِن الله! يُقال، ويمكن بحقّ الاعتقاد بذلك، إنّكَ تستمدّ العَون مِن الشيطان. نريد أدلّة أُخرى، أقوى منها، بحيث لا يُمكن للشيطان أن يأتي بمثلها.»
«ولكن نعم! انتصار على الموت...» يقول آخر.
«كان لكم ذلك.»
«كانت تلك مَظاهِر موت. أَظهِر لنا، مثلاً، جسداً قد تفسَّخَ وانحلَّ تعود له الحياة ويتشكّل مِن جديد. كي نتأكّد مِن أنّ الله معكَ: فالله وحده يستطيع أن يعيد نسمة الحياة للطين الذي عاد تراباً.»
«لم يُطلب ذلك مِن الأنبياء أبداً لتصديقهم.»
فيصيح أحد الصدّوقيّين: «أنتَ أكثر مِن نبيّ. أنتَ، على الأقلّ أنتَ تقول ذلك، أنتَ ابن الله!... آه! آه! لماذا إذاً لا تتصرّف كإله؟ هيّا أعطِنا علامة! علامة واحدة!»
«نعم! علامة مِن السماء، تشير إلى أنّكَ ابن الله، وحينذاك نعبدكَ» يَصيح أحد الفرّيسيّين
«بالتأكيد! أحسنتَ قولاً يا سمعان! فنحن لا نريد معاودة الوقوع في خطيئة هارون. لن نعبد الصنم، العجل الذهبيّ. إنّما يمكننا أن نعبد حَمَل الله! ألستَ أنتَ هذا الحمل؟ شرط أن تشير لنا السماء أنّكَ هو» يقول الذي يُدعى عوريل، والذي كان في جيسكالا، ويضحك ضحكة ساخرة.
ويَصيح آخر: «دعني أتكلّم، أنا صادوق، الكاتب الذهبيّ. اسمعني أيّها المسيح. لقد سَبَقَك كثيرون، ولم يكونوا "مُسحاء". كفانا تدجيلاً. إشارة على أنّكَ هو بحقّ. وإذا كان الله معكَ، فلا يمكنه أن يرفض لكَ ذلك. وسوف نؤمن بكَ ونساعدكَ. وإلّا فإنّكَ تعرف ما الذي ينتظركَ، بحسب وصيّة الله.»
يَرفَع يسوع يده اليمنى المجروحة ويُريها للمتحدّث إليه. «هل ترى هذه العلامة؟ أنتَ مَن فَعَلَها. لقد أشرتَ إلى علامة أخرى، وعندما ستراها قد خَرَقَت جسد الحَمَل، سوف تَفرَح. انظر إليها! سوف تراها كذلك في السماء، عندما تَظهَر فيها لتؤدّي حساباً على طريقة عيشكَ. ذلك أنّني أنا مَن سأدينكَ، وسوف أكون في العُلى بجسدي الممجّد مع علامات كهنوتي، وعلاماتكم، بعلامات حبّي وعلامات بغضكم. وسوف تراه أنتَ كذلك يا عوريل، وأنتَ يا سمعان، وسوف يراه قيافا وحنّان، وكثيرون غيرهم، في اليوم الأخير، يوم الغضب، اليوم المريع، وبسبب ذلك، سوف تُفضِّلون أن تكونوا في اللجّة، لأنّ يدي الجريحة ستلذعكم أكثر مِن نيران جهنم.»
«آه! كلام هذا وتجديف! أنتَ، في السماء، بجسدكَ؟! يا لكَ مِن مُجدِّف! أنتَ، دَيَّان، عوضاً عن الله؟! فلتكن محروماً! أنتَ يا مَن تَشتُم الأحبار! أنتَ تستحقّ الرجم» يَصرخ معاً الصدّوقيّون والفرّيسيّون والأحبار.
يَنهَض رئيس المعبد مِن جديد، بأُبّهة وروعة، وكأنّه موسى بشعره الأبيض، ويصيح: « قادس مدينة لجوء وهي مدينة لاويّة. فاحترموا...»
«قِصص قديمة! لم يعد لها أيّ اعتبار!»
«آه! أيّتها الألسُن المجدِّفة! أنتم الخطأة وليس هو، وأنا سأحميه. هو لا يتفوّه بالسوء أبداً. إنّه يشرح النبوءات ويحمل لنا البُشرى الحسنة، وأنتم تُقاطِعونه، أنتم تُجرِّبونه وتُهينونه. وأنا لا أسمح بذلك. إنّه تحت حماية ماتياس العجوز مِن نسل لاوي مِن جهة أبيه وهارون مِن جهة أُمّه. اخرجوا ودعوه يُثقِّف شيخوختي وكهولة أبنائي.» ويضع يده الخَشِنة، يد عجوز، على ساعد يسوع كما ليحميه.
«فليعطنا علامة حقيقيّة وسنذهب نحن مُقتَنِعين» يَصيح الأعداء.
«لا تغضب يا ماتياس، سأتكلّم» يقول يسوع مُهدِّئاً العجوز. ومتوجِّهاً إلى الفرّيسيّين والصدّوقيّين والأحبار يقول: «عندما يأتي المساء تتفحّصون السماء، وإذا كان الغسق مائلاً إلى الحُمرة، تقولون، بحسب مقولة قديمة: "غداً يوم جميل لأنّ الغسق يُضفِي على السماء اللون الأحمر". وكذلك عند الفجر، عندما الأبخِرة والضباب تجعل الجوّ مظلماً، ولا تَظهَر الشمس بلون الذهب، إنّما تبدو وكأنّها تَنثُر الدم على قبّة السماء، تقولون: "لن يمرّ هذا اليوم بلا عاصفة". فأنتم إذن تعرفون قراءة طقس الغد أو اليوم مِن خلال علامات غير ثابتة في السماء، وأُخرى للرياح أكثر تبدّلاً. ولا تتوصّلون إلى تمييز علامات الأزمنة؟ هذا لا يُشرِّف ذكاءكم وعِلمكم، ويُعيب تماماً روحكم وحكمتكم المفترضة. أنتم مِن جيل فاسد فاسق، مولود في إسرائيل مِن زواج الذين تمرَّغوا بالشرّ. وأنتم وَرَثَتهم، تُنمّون فسادكم وتُفاقِمون فسقكم بتكرار خطيئة أولئك الذين أَنجَبوا هذا الخطأ. فاعلم هذا يا ماتياس، واعلموا أنتم هذا يا أهل قادس الموجودون هنا كمؤمنين أو كأعداء. تلكم هي النبوءة التي أقولها أنا لتَحلّ محلّ نبوءة حبقوق التي كنتُ أريد شَرحَها: لهذا الجيل الفاسد الفاسق الذي يَطلُب علامة، لن تُعطى له سوى علامة يونان... هيّا بنا. وليكن السلام مع ذوي الإرادة الحسنة.» وعبر باب جانبيّ يؤدّي إلى طريق هادئة ساكنة بين الحدائق والبيوت، يبتعد مع الرُّسُل.
ولكنّ سكان قادس لا يَقبَلون بالهزيمة. يتبعه البعض، ولدى رؤيته يَلِج نُزُلاً صغيراً في الضواحي الشرقيّة للمدينة، ينقلون الخبر إلى رئيس المعبد ومواطني مدينتهم. وإذ كان يسوع ما يزال يتناول طعامه، تمتلئ ساحة النُزل المشمسة بالناس، ويَمثل رئيس المعبد ومعه بعض شيوخ المدينة إلى مدخل الغرفة التي كان يسوع فيها وينحنون وهم يتوسَّلون: «أيّها المعلّم، بَقِيَت فينا الرغبة في سماع كلمتكَ. كم كانت نبوءة حبقوق رائعة، وأنتَ تشرحها! فلماذا يتوجّب على الذين يحبّونكَ ويؤمنون بحقيقتكَ أن يبقوا بعيدين عن معرفتكَ، بسبب أولئك الذين يحقدون عليكَ؟»
«لا، أيّها الأب. ليس عدلاً أن يُعاقَب الصالحون بسبب الأشرار. إذن فاسمعوا...» (ويترك يسوع طعامه ليُقبِل إلى الباب ويتحدّث إلى الذين تجمّعوا في الباحة الصغيرة الساكنة).
«في كلام رئيس المعبد، صدى لكلام حبقوق. مِن أجله ومِن أجلكم جميعاً يقرّ ويعترف أنّي الحقّ. حبقوق يُقرّ ويعترف: "أنتَ منذ البدء وأنتَ معنا، فلا نموت". وهكذا سيكون. مَن يؤمن لن يذوق الموت. النبيّ يُظهِرني كَمَن أقامه الله لِيدين. كمن جعله الله قويّاً ليؤدِّب، كَمَن عيناه طاهرتان للغاية ليرى الشرّ، والذي لا يمكنه تحمّل الظلم. ولكن إذا كان صحيحاً أنّ الخطيئة تجعلني أشمئزّ، فإنّكم تَرَون، مع ذلك، أنّني أفتح ذراعيّ، لأنّني الـمُخلِّص، للذين يندمون على خطاياهم. لأجل ذلك أدير نظري حتّى إلى الخاطئ وأدعو الكافر إلى الهداية…
يا أهل قادس، المدينة اللاويّة، المدينة التي قَدَّستها المحبّة تجاه مَن هو مذنب بجرم –وكلّ امرئ قد أخطأ ضدّ الله وضدّ نفسه وضدّ القريب- تعالوا إذاً إليَّ، أنا ملجأ الخَطَأَة. فهنا، في حبّي، لا يمكن أن تصيبكم لعنة الله، ذلك أنّ نظرتي المتوسّلة تُحوِّل اللعنة إلى بَرَكة غُفران. اسمعوا، أَنصِتوا! اطلبوا هذا الوعد في قلوبكم، كما كَتَبَ حبقوق نبوءته الأكيدة على لُفافة. هناك قيل: "إذا أبطأ فانتظره، لأنّ مَن ينبغي له المجيء سيأتي ولا يتأخّر". هاكم: مَن عليه المجيء قد أتى. وهذا أنا.
"ليست لِكافر نَفْس بارّة" يقول النبيّ، وفي كلامه إدانة للذين جَرَّبوني وأهانوني. لستُ أنا مَن أُدينهم، إنّما النبيّ الذي سَبَقَ فرآني، وآمَن بي. وهو، كما أنّه يَصِفني كظافر، كذلك يَصِف المتكبّر قائلاً إنّه بلا شرف لأنّه فتح نفسه للجشع والنَّهَم، كما هو جَشَع ونَهَم الجحيم. ويُهدِّد: "الويل لِمَن يُكدِّس خيرات ليست له ويتغطّى بالوحل". الأفعال القبيحة ضدّ ابن الإنسان هي هذا الوحل، والعمل على تجريده مِن قداسته لكيلا تَحجُب التي لهم، هو الجشع.
"الويل" يقول النبيّ "للذي يُكدِّس في بيته ثِمار بُخله الفاسد ليجعل عشّه في العلوّ. ظانّاً أنّه بذلك يَسلَم مِن مخالب الشرّ". فإنّه بهذا يتجرّد مِن شرفه ويَقتل نفسه.
"ويل لِمَن يبني مدينة بالدماء ويؤسّس قلاعاً على الظُّلم". في الحقيقة إنّ جزءاً كبيراً مِن إسرائيل يُدعِّم قِلاع جشعه بالدموع والدم، وينتظر الختام ليصنع الجَّبلة الأكثر صلابة. ولكن ماذا يمكن لِقَلعة أن تفعل في وجه سِهام الله؟ ماذا يمكن لحفنة مِن الرجال في مقابل عدل العالم كلّه الذي يَصرُخ هلعاً بسبب الجريمة غير العادلة؟
آه! كم يُجيد حبقوق التعبير عن ذلك! "بماذا ينفع الصَّنَم؟" والصَّنَم الوثنيّ أَصبَحَ قداسة إسرائيل الكاذبة. الربّ وحده في هيكله المقدّس، وله وحده تَسجُد الأرض وترتجف عبادة وتأثّراً، بينما العلامة الموعودة تعطى مرّة ومرّة أخرى، والهيكل الحقيقيّ حيث يستريح الله يَصعَد بمجد إلى السماوات: "لقد تمّ!" كما كان قد قالها مُنتَحِباً للأرض كي يُطهِّرها بإعلان مجيئه.
"ليكن!" قالها العليّ، فكان العالم. "ليكن!" سيقولها الفادي ويُفتَدى العالم. وأنا مَن يَهِب للعالم ما يُفتدون به. وسوف يُفتَدى الذين ستكون لديهم الإرادة لذلك.الآن انهضوا. ولنتلُ صلاة النبيّ، ولكن كما يَحق أن تُتلى في زمن النعمة هذا:
"يا رب، سمعتُ بشارة مجيئكَ فابتهجتُ". لَم يَعُد زمن الذعر، يا مَن تؤمنون بمَسيّا.
"يا ربّ أَحيِ عملكَ في وسط السنين، وفي وسط السنين عَرِّف به". نعم، عندما يتمّ ملء الزمن سيكون العمل قد أُنجز.
"ووسط الاحتقار تسطع الرحمة" ذلك أنّ الاحتقار سيعود فيصيب فقط أولئك الذين نصبوا الشِّباك والفِخاخ ورموا السهام ضدّ الحَمَل الـمُخلِّص.
"سيجيء الله مِن النور إلى العالم". أنا هو النور الآتي لأحمل الله إليكم. تألُّقي سيغمر الأرض وهو يَفيض ملء الأنهار "حيث القرون الحادة" ستكون قد مَزَّقَت جسد الضحيّة، آخر نصر "للموت والشيطان اللذين سيفرّان مُنهَزِمين أمام الحيّ والقدّوس".
المجد للربّ! المجد لِمَن عَمِل! المجد لِمَن أعطى الشمس والنجوم! لِمَن صَنَع الجبال. لخالق البحار. المجد، المجد الذي لا حدّ له للصالح الذي أراد المسيح لِيُخلِّص شعبه، لِيُخلِّص الإنسان!
اتّحدوا، رتّلوا معي لأنّ الرحمة قد أتت إلى العالم، وزمن السلام وشيك. الذي يمدّ لكم يديه، يحثّكم على الإيمان والعيش في الربّ، لأنّه قد حان الوقت الذي تُدان فيه إسرائيل بحقّ.
السلام لكم أيّها الحاضرون هنا، ولعائلاتكم، ولبيوتكم.»
يقوم يسوع بحركة بركة واسعة، ويهمّ بالانسحاب.
ولكنّ رئيس المعبد يطلب منه: «ابقَ أيضاً.»
«لا أستطيع أيّها الأب.»
«أَرسِل لنا تلاميذكَ على الأقلّ.»
«سيكون لكم ذلك بالتأكيد. وداعاً. اذهب بسلام.»
يبقون وحدهم…
«ولكنّني أريد معرفة مَن أَرسَلَهم على طريقنا. يبدون وكأنّهم سَحَرَة...» يقول بطرس.
يتقدّم الاسخريوطيّ شاحباً. يركع عند قدميّ يسوع. «يا معلّم، أنا المذنب. لقد تكلَّمتُ في هذه المدينة... مع أحدهم، وقد كنتُ ضيفاً عليه...»
«كيف؟ هذا شيء يَختَلِف عن التكفير! أنتَ...»
«اصمت يا سمعان بن يونا! أخوكَ يقرّ بخطئه صراحة. فاحترمه بسبب هذا التواضع. لا تقلق يا يهوذا. أسامحكَ. أنتَ تعرف أنّني أسامح. كُن أكثر حرصاً في المرّة القادمة... والآن، فلنمضِ. سنسير طالما القمر مضيء. علينا اجتياز النهر قبل الفجر. فلنمضِ. هناك في الخلف تبدأ الغابة. سوف يَفقدون أثرنا، الصالحون منهم والسيّئون. غداً سنكون على طريق بانياد.»