ج7 - ف188

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

188- (قرب نبع عين روجيل)

 

16 / 09 / 1946

 

يسوع يعود مِن بيت عنيا عبر الطريق السفليّة (أقصد بقولي تلك الطريق الأطول، الّتي لا تمرّ بجبل الزيتون، والّتي تدخل المدينة مروراً بضاحية توفيت).

 

يتوقّف أوّلاً لتقديم إعانات للبرص، الّذين لم يحسنوا سوى أن يطلبوا منه خبزاً، ومِن ثمّ يذهب مباشرة إلى حوض مستطيل كبير، مغطّى ومقفل مِن جميع الجهات ما عدا واحدة. إنّه بئر، بئر كبير مغطّى، الأكبر ممّا رأيتُ على الإطلاق. إنّه أكبر مِن بئر المرأة السامريّة، ومِن المفروض أن يكون أيضاً أكثر غزارة بالماء، لأنّ الأرض المحيطة به تتأثّر بتغذيته وتُبدي خصوبة كثيرة، وذلك على النقيض مِن وادي هنّوم القاحل والـمَدفَنيّ، الّذي يمكن لمحه جزئيّاً إلى الشمال الغربيّ. وحده بناء مِن حجارة ضخمة، مثل حجارة البئر وغطائها، كان يمكنه مقاومة رطوبة الأرض. والحجارة، الّتي حتّى مِن دون أن نكون خبراء يمكننا الحكم عليها بأنّها قديمة، مقاومة، سوداء وضخمة، لحماية الماء الثمين.

 

رغم كون النهار معتماً، ورغم قرب قبور البرص، الّتي وإن كانت تنشر كآبة عظيمة في الأرجاء، فإنّ المكان ممتع، لخصوبته، كما لأنّه يضمّ مِن الخلف، إلى الشمال، بساتين فسيحة مزروعة بأشجار مِن جميع الأنواع، الّتي ترفع تيجانها الـمُورِقة صوب السماء الرماديّة الّتي تنخفض صوب المدينة، ومِن الأمام، جنوباً، وادي قدرون الّذي يتّسع مجراه ويحمل مياهاً أكثر غزارة، كذلك الوادي يغدو بهيجاً أكثر وأكثر إشراقاً، محاذياً الطريق الّتي تمضي صوب بيت عنيا وأريحا لمسافة لا بأس بها.

 

أناس كُثُر، نساء مع جِرار، راكبو حمير مع دِلاء، قوافل تغادر أو تُقبِل، هم قرب البئر ويسحبون الماء. الأرض رطبة على جزء كبير بسبب الدلاء الّتي تفيض أثناء سكبها في الأوعية.

 

أصوات نسوة، ناعمة وعذبة، أصوات أطفال حادّة بعض الشيء، أصوات رجال عميقة، غليظة، قويّة، حمير تنهق وجمال تكشّر، جاثية تحت أحمالها، منتظرة عودة الجَمَّال بالماء. مشهد مميّز جدّاً، في غروب قاتم، حيث في السماء لطخات غريبة بلون أصفر غير طبيعيّ، مفاجِئة، تنشر نوراً غريباً فوق كلّ شيء، فيما إلى الأعلى قليلاً غيوم رماديّة كثيفة تتداخل متراكضة نحو الغرب.

 

الأجزاء الأعلى مِن المدينة طيفيّة الـمَظهَر في النور الغريب بمواجهة الأفق الرصاصيّ الملطّخ بمشحات كبريتيّة.

 

«كلّ هذا ماء، وريح...» يقول بطرس بتفخيم ويَسأَل: «إلى أين نذهب هذا المساء؟»

 

«عند رجل البساتين. غداً أصعد إلى الهيكل و...»

 

«مجدّداً؟ انتبه لما تفعل! بالأحرى اقبل دعوة المعتَقين إلى معبدهم» ينصح سمعان الغيور.

 

«إذن، معبد بمعبد، هناك أخرى، وقد أظهرت أنّها كانت تريد ذلك، لماذا هم بالتحديد؟» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«لأنّهم الأكثر أمانة. وذلك غنيّ عن القول» يردّ الغيور.

 

«أمناء!! ما الذي يجعلكَ متأكّداً مِن ذلك؟»

 

«كونهم عرفوا البقاء مؤمنين رغم ما عانوه.»

 

«لا تتجادلوا فيما بينكم. غداً أصعد إلى الهيكل. قد قلتُ ذلك. الآن لنبقَ هنا قليلاً. إنّه لا يزال مكاناً صالحاً للتبشير»

 

«ليس أكثر مِن أيّ آخر. لا أعلم لماذا تفضّله»

 

«لماذا يا يهوذا؟ لأسباب كثيرة سأقولها للمجتمعين فيه، ولسبب أقوله لكم على وجه الخصوص. عند بئر نبع روجيل هذا لبث حكماء الشرق الثلاثة حائرين وخائبين، حيث النجمة الّتي قادتهم مِن بعيد جدّاً قد اختفت هنا. فأيّ إنسان آخر كان فقد ثقته بالله وبنفسه. هم صلّوا حتّى الفجر قرب جِمالهم المتعبة، الوحيدون الساهرون وسط خدّامهم النائمين، ثمّ نهضوا عند الفجر متّجهين إلى الأبواب، متحدّين خطر اعتبارهم مجانين ومثيري شغب، متحدّين حتّى الخطر الّذي كان يتهدّد حياتهم. وقد كان يحكم هيرودس، الدمويّ، تذكّروا ذلك. وكان يكفي أقلّ بكثير مِن العبارة الّتي، هم الحكماء، أرادوا قولها له، كي يأمر بموتهم. إنّما هم كانوا يبحثون عنّي. لم يكونوا يبحثون عن المجد، الغنى، التكريم. كانوا يبحثون عنّي، أنا فقط. طفل صغير: مسيحهم، إلههم. إنّ البحث عن الله، لأنّه أمر صالح، يمنح دوماً كلّ مساعدة وجسارة. المخاوف، الأمور الدونيّة هي إرث مَن يحلمون بالأمور الدونيّة. هم كانوا توّاقين لعبادة الله. كانوا أقوياء بفعل محبّتهم تلك. وبعد ساعات قليلة، كوفئت المحبّة، لأنّه هنا، في الليلة المقمرة، عادت النجمة إلى الظهور لأعينهم. إنّ نجمة الله لا تحتجب أبداً لِمَن يبحثون عن الله ببرّ ومحبة. الحكماء الثلاثة! كان بوسعهم التوقّف للتكريمات الزائفة الّتي قدّمها لهم هيرودس بعد إجابة أمراء الكَهَنَة والكَتَبَة والأحبار. كانوا متعبين جدّاً!... لكنّهم لم يتوقّفوا ولا حتّى لليلة واحدة، وقبل أن تُغلَق الأبواب، خرجوا كي يتوقّفوا هنا حتّى الفجر. ثمّ... ليس الفجر الشمسيّ، بل فجر الله قد عاود الظهور ليجعل الدرب فضّيّاً، والنجمة نادتهم بأنوارها، وأتوا إلى النور. طوبى! طوبى لهم ولِمَن يُحسِنون الاقتداء بهم!»

 

الرُّسُل ومارغزيام مع إسحاق كلّهم آذان صاغية، بالوجه المغبوط الّذي يكون لهم دوماً حينما يستعيد يسوع ذكرى ميلاده، وإسحاق غائب، يتنهّد، يبتسم للذكرى… بوجه منتشٍ، وهو بعيد عن المكان والزمان، وقد عاد إلى الوراء ما يزيد على ثلاثين عاماً، إلى تلك الليلة، إلى تلك النجمة الّتي رآها بالتأكيد وسط قطيعه…

 

أشخاص آخرون يقتربون، لأنّها طريق كثيرة الارتياد، ويستمعون، وأحدهم يتذكّر القافلة الرائعة والنبأ الّذي كانت تحمله… وما عقب ذلك.

 

«إنّه مكان تأمّل على الدوام، التاريخ يتكرّر دوماً، إنّه مكان اختبار على الدوام: للصالحين، للأشرار. لكنّ الحياة كلّها اختبار لإيمان الإنسان واستقامته.

 

أُذكّركم بولاء حوشاي، صادوق وأبياثار، يوناثان وأخيمعص، الّذين انطلقوا مِن هذا المكان لإنقاذ مَلِكهم وكانوا محميّين مِن الله لأنّهم كانوا يتصرّفون باستقامة.

 

أذكركم بحدث متّصل بهذا المكان بالذات، ولم يثمر خيراً لأنّه كان تعسّفياً، وبالتالي لم يكن مباركاً مِن قبل الله. بجانب حجر زويليت، قرب نبع روجيل، تآمر أدونيا ضدّ مشيئة أبيه، ونُصِّب مَلِكاً مِن قبل أولئك الموالين له، لكنّ هذا التعدّي لم يفده، لأنّه قبل نهاية الوليمة، كانت الهوشعنات الّتي تردّدت في جيحون، قد جعلته يَعلَم، حتّى قبل أن يتكلّم يوناثان بن أبياثار، بأنّ سليمان كان مَلِكاً، وهو، الذي أراد الاستيلاء على العرش، عليه أن يعوّل فقط على رحمة سليمان.

 

إنّ كُثُراً يكرّرون تصرّفات أدونيا ويحاربون ضدّ الـمَلِك الحقّ، أو يتآمرون ضدّه تابعين الحزب الّذي قد يبدو أنّه هو الأقوى. وقلائل جدّاً، ممّن يتصرّفون هكذا، يحسنون بعد ذلك التشبّث بالمذبح طالبين المغفرة والوثوق برحمة الله.

 

أيمكننا، نحن الّذين تأمّلنا بأحداثٍ ثلاثة وقعت قرب هذا البئر، أن نقول إنّ الموضع قد خضع لتأثيرات جيّدة أم غير جيّدة؟ لا. ليس الموضع، ليس الزمن. ليست الأحداث، إنّما إرادة الإنسان هي التي تعكّر أفعال الإنسان. إنّ عين روجيل قد شهدت وفاء خدّام داود وخطيئة أدونيا، كذلك شهدت إيمان الحكماء الثلاثة. إنّه البئر ذاته. اتّكأ على حجارته وارتوى مِن مياهه يوناثان وأخيمعص، كما أدونيا وأتباعه، كما الحكماء الثلاثة. لكنّ المياه والحجارة قد شهدت ثلاثة أمور مختلفة: وفاء للمَلِك داود، خيانة ضدّ الـمَلِك داود، ووفاء لله ولـمَلِك الملوك. إنّها دوماً إرادة الإنسان الّتي تفعل الخير أو الشرّ. وعلى إرادة الإنسان تُلقي مشيئة الله أنوارها، وإرادة الشيطان أبخرتها السامّة. ويعود للإنسان أن يتقبّل النور أم السمّ ويغدو صالحاً أو خاطئاً.

 

لقد وُضِع حارس عند البئر كي لا يُفسد أحدٌ المياه. وبالإضافة للحارس فقد زُوّد بجدران وسقف، لئلّا تدفع الريح إلى الداخل أوراقاً وقاذورات تلوّث المياه الثمينة. كذلك أقام الله للإنسان حارساً: إرادة الإنسان العاقلة والواعية، وملاذات: الوصايا ونصائح الملائكة، لئلّا تُفسَد روح الإنسان بقصد أو مِن دون قصد. ولكن عندما يُفسِد الإنسان ضميره، عقله، لا ينصت لإلهامات السماء، يدوس الشريعة بقدميه، فهو مثل حارس يترك البئر دون مراقبة، أو مثل مجنون يفكّكك دفاعاته. يدع المجال حراً للأعداء الشيطانيّين، لشهوات العالم والجسد، وللتجارب الّتي، حتّى وإن لم يتمّ الرضوخ لها، فإنّه دوماً مِن الحكمة مراقبتها وصدّها.

 

يا أبناء أورشليم، أيّها العبرانيّون، الـمُهتَدون، عابرو السبيل الّذين جمعتكم الصدفة هنا لسماع صوت الله، كونوا حكماء بالحكمة الحقّة، الّتي هي معرفة الدفاع عن الأنا الذاتيّة مِن الأفعال الّتي تخزي الإنسان.

 

أرى هنا وثنيّين كُثُراً. لهم أقول أنّه ليس هناك فقط اقتناء الثروات والبضائع، إنّما يوجد أمر آخر ينبغي اقتناؤه، وهي حياة النَّفْس الخاصّة، بالفعل للإنسان نَفْس فيه، شيء غير محسوس، إنّما هي ما تجعله حيّاً، شيء لا يموت حتّى بعد موت الجسد، شيء له الحقّ بأن يحيا حياته الحقّة، الأبديّة، وهو لا يمكنه أن يحياها إذا ما قتل الإنسان ذاته الحقّة بأفعاله السيّئة.

 

إنّ الشِّرك والوثنيّة ليسا منيعين. إنّ الحكيم يتأمّل ويقول: "لماذا عليَّ أن أتبع أصناماً وأعيش دونما رجاء بحياة أفضل، فيما بالمضيّ إلى الله الحقّ يمكنني أن أفوز بالفرح إلى الأبد؟". إنّ الإنسان شديد الحرص على أيّامه والموت يرعبه. وكلّما كان مغلّفاً أكثر بظلمات الدين الزائف أو بعدم الإيمان، كلّما خاف أكثر مِن الموت. ولكن الّذي يأتي إلى الإيمان الحقّ يتخلّص مِن الرعب مِن الموت، لأنّه يَعلَم أنّ وراء الموت هناك حياة أبديّة، حيث ستتلاقى الأرواح ولن تكون هناك بعد معاناة ولا انفصالات. ليس صعباً اتّباع درب الحياة. يكفي الإيمان بالله الحقّ الأوحد، محبّة القريب ومحبّة الاستقامة في كلّ الأعمال.

 

أنتم أيّها الإسرائيليّون تعرفون ما هي الأمور الموصى بها وما هي المحرّمة. لكنّني أقول للّذين يسمعونني والّذين سيحملون إلى البعيد، معهم، كلامي، ما هي تلك الأمور… (ويتلو الوصايا العشر).

 

الدين الحقّ يكمن في هذا، وليس في أضحيات عبثيّة وباذخة. إطاعة مبادئ أخلاقيّة كاملة، فضيلة بلا عيب، التحلّي بالرحمة، الهروب ممّا يجلب العار للإنسان، ترك الأباطيل، التنجيمات الضلاليّة، التنبّؤات الكاذبة، أحلام الأشرار، كما يقول كتاب الحكمة، استخدام عطايا الله باستقامة، أي الصحّة، الرخاء، الثروات، الفِكر، السُّلطة، عدم امتلاك الكبرياء الّذي هو علامة على البلاهة، لأنّ الإنسان هو حيّ، سليم، غنيّ، حكيم، قادر، طالما الله يمنحه ذلك، كذلك عدم امتلاك رغبات متطرّفة تقود في بعض الأحيان إلى الجريمة. بكلمة واحدة، العيش كبشر لا كبهائم، بدافع احترام كذلك تجاه أنفسهم.

 

السقوط سهل، معاودة الصعود صعبة. لكن مَن يودّ العيش في هاوية النتانة، فقط لأنّه سقط فيها، ولا يسعى للخروج مُعاوِداً الصعود إلى القمم الـمُزهِرة والمليئة بالشمس؟ الحقّ أقول لكم إنّ حياة الخاطئ في هاوية، وكذلك هي الحياة في الضلال. إنّما أولئك الّذين يَقبَلون كلمة الحقّ ويأتون إلى الحقّ يصعدون إلى القمم، في النور.

 

اذهبوا الآن جميعكم إلى أشغالكم. وتذكّروا أنّ، قرب نبع عين روجيل، ينبوع الحكمة قد أعطاكم مياهه لتشربوا كي تعطشوا إليها بعد وتعودوا إليه»

 

يسوع يشقّ طريقاً ويتّجه صوب المدينة، تاركاً الناس لتعليقاتهم، استفساراتهم وإجاباتهم.