ج3 - ف38

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

38- ("دع الموتى يدفنون موتاهم")

 

03 / 06 / 1945

 

أرى يسوع مع الأحد عشر، فيوحنّا ما زال غائباً، يتوجّهون صوب شاطئ البحيرة. يتجمهر الكثيرون حوله: كثيرون منهم كانوا على الجبل، وبشكل خاصّ الرجال الذين لحقوا به إلى كفرناحوم ليستمعوا أيضاً وأيضاً إلى كلامه. كانوا يبتغون حفظه، ولكنّه يقول: «إنّني مِلك للعالم أجمع. وينبغي للكثيرين أن يمتلكوني. وسوف أعود. وستوافونني. إنّما الآن فَدَعوني أمضي.» لقد كابَدَ كثيراً في شقّ طريق له عَبْر الجموع المتزاحمة على الدرب الضيّق. يَستَخدِم الرُّسُل مَرافِقهم ليَفسحوا له مجالاً للمرور. ولكنّهم، وكأنّي بهم يتعاركون مع مادة رَخوة، سرعان ما تستعيد شكلها كما كانت. يَغضَبون إنّما دون جدوى.

 

كانوا قد أَصبَحوا قرب الشاطئ عندما، بعد معركة عنيفة، يدنو مِن المعلّم رجل في متوسّط العمر، ذو مظهر نبيل، ولكي يلفت انتباهه يلمس كتفه. يلتَفِت يسوع وهو يَسأَل: «ماذا تريد؟»

 

«أنا كاتب، ولكن ما يتضمّنه كلامكَ لا يُقارَن بما تحويه أحكامنا. لقد غزا كلامكَ قلبي. يا معلّم لن أترككَ. سوف أتبعكَ أينما ذهبتَ. ما هي طريقكَ؟»

 

«طريق السماء.»

 

«ليس هذا ما أقصده، بل أسألكَ أين تمضي. وبعد هذا البيت، ما هي البيوت التي بإمكاني إيجادك فيها؟»

 

«للثعالب أَوجِرة، ولطير السماء أوكار، أمّا ابن الإنسان فليس له ما يضع عليه رأسه. فبيتي هو العالم بأسره، حيث توجد أرواح أُثقِّفها، ومآسٍ أُعالِجها، وخَطَأَة أفديهم.»

 

«في كلّ مكان إذن.»

 

«أنتَ قُلتَها. هل يمكنكَ أن تفعل ما يفعله هؤلاء الصغار مِن أجل حبّي، أنتَ يا علاّمة إسرائيل؟ فهنا يجب التضحية والطاعة والمحبّة تجاه الجميع، وروح التكيّف في كلّ شيء ومع كلّ شيء. ذلك أنّ التَّنازُل يَجذب. فَمَن يريد المعالجة، عليه الانحناء على كلّ الجروح. وبعدئذ تكون طهارة السماء. ولكنّنا هنا في الوحل. ويجب انتشال الضحايا الغارقين في الوحل الذي ندوس عليه، لا خَلع الثياب، ولا الابتعاد، لأنّ الوحل هنا أكثر عمقاً. ينبغي للطُّهر أن يكون في داخلنا. ويجب أن يكون قد دَخَلَ بشكل لا يمكن معه لشيء أن يَدخُل بعده. هل يمكنكَ كلّ ذلك؟»

 

«دعني أحاول على الأقلّ.»

 

«حاول. وسأصلّي لكي تكون أهلاً لذلك.»

 

يتابع يسوع طريقه، وقد جَذَبَته عينان تَنظران إليه، يقول لشاب ضخم وقويّ، وقد توقَّفَ ليسمح للموكب بالمرور، ولكنّه يبدو أنّه ذاهب إلى مكان آخر: «اتبعني.»

 

يَنتَفِض الرجل، ويتبدّل لونه، وتلمع عيناه كما لو كانتا قد بُهِرَتا بالنور، وبعد قليل يفتح فمه ليتكلّم، ولكنّه لا يجد ما يجيب به. أخيراً يقول: «سأتبعكَ. ولكنّ أبي قد توفّيَ في قورازين، وعليَّ أن أدفنه. دعني أفعل ومِن ثمّ آتي.»

 

«اتبعني، ودع الموتى يَدفنون موتاهم. أمّا أنتَ فإنّ الحياة قد اجتَذَبَتكَ. وقد رَغِبتَ بها. فلا تحزن على فراغ جَعَلَته الحياة يحيق بكَ كي تحصل عليكَ كتلميذ. فبتر العواطف هي جذور الأجنحة التي تنبت لدى الإنسان المتحوِّل إلى خادم الحقّ. دع الفساد لمصيره. ارتَفِع إلى الملكوت حيث لا فساد. وهناك سوف تجد كذلك جوهرة أبيكَ غير القابلة للفساد. إنّ الله يدعو ويمرّ. وغداً لن تجد قلبكَ على الحال التي هو عليها اليوم، ولا دعوة الله. هيّا. اذهب وبَشِّر بملكوت الله.»

 

الرَّجُل، وقد استَنَدَ إلى جدار صغير، تبقى ذراعاه متدلّيتين. يحمل أكياساً مليئة، بالتأكيد، طيوباً ولفائف. رأسه منحنٍ، ويُفكّر بالحُبَّين المتناقِضَين: حُبّ الله وحُبّ الأب.

 

يَنتَظِر يسوع ويَنظُر إليه، ثمّ يأخذ طفلاً صغيراً، يضمّه إلى قلبه قائلاً له: «قل معي: "أبارككَ أيّها الآب، وأَلتَمِس نوركَ للذين يبكون في سُحُب الحياة. أبارككَ أيّها الآب وألتَمِس قوَّتَكَ لِمَن هو كطفل يحتاج إلى أن يسانده أحد. أبارككَ أيّها الآب وألتَمِس حبّكَ لتجعل كلّ الموجودين فيكَ ولا يعرفون الإيمان، ينسون كلّ ما ليس أنتَ، وأَلتَمِس الخير لهم، هنا وفي السماء".» والطفل، وهو في حوالي السنة الرابعة مِن عمره، يُردِّد بصوته الطفوليّ الكلمات المقدّسة، ويداه مضمومتان للصلاة في اليد اليمنى ليسوع الذي يُمسك بقبضتيه الرَّبيلَتَين كما لو كانتا ساقَيّ زَهر.

 

يأخذ الرجل قراره. يُعطي اللفائف لرفيق له، ويأتي إلى يسوع الذي يضع الطفل أرضاً بعد أن يباركه. يُمسِك الشاب مِن كتفيه، ويتقدّم هكذا ، ليشجّعه ويسانده في سَعيه.

 

يَسأَله رجل آخر: «أنا أيضاً أريد المجيء معه، ولكن قبل أن أتبعكَ أودُّ لو أوَدِّع أهلي. هل تسمح لي بذلك؟»

 

يَنظُر إليه يسوع بإمعان ويجيب: «فيكَ الكثير مِن الجذور الغائِصة في البشريّة. انزَعهَا، وإذا لم تتوصَّل فاقطَعهَا. في خدمة الله ينبغي المجيء بملء حُرّية الروح. فلا ينبغي لشيء أن يَربط مَن يَهِب ذاته.»

 

«ولكن، يا سيّدي، اللحم والدم هما دائماً اللحم والدم! سوف أتوصّل رويداً رويداً إلى الحرّية التي تتحدّث عنها...»

 

«لا، لن تَصِل إلى ذلك أبداً. فالله مُتطلِّب على قدر كَرَمه اللانهائيّ عندما يُكافِئ. إذا أردتَ أن تكون تلميذاً، فيجب أن تُعانِق الصليب وتأتي. وإلّا فستظلّ في عداد المؤمنين البسيطين. فإنّ درب تلميذ الله ليس مفروشاً بالورود. إنّه مُطلَق في متطلَّباته. لا يمكن لِمَن وَضَعَ يده على المحراث ليحرث حقول القلوب ويَبذر فيها بذور مَذهَب الله، أن ينظر إلى الوراء ليرى ماذا تَرَكَ وماذا خَسِرَ، وما كان بإمكانه الحصول عليه باتِّباعه الطريق المشتركة. فالذي يتصرّف هكذا ليس أهلاً لملكوت الله. اعمَل على ذاتكَ بِذاتكَ. صِر رجلاً بنفسكَ، ثمّ تعال، وليس الآن.»

 

وَصَلوا الشاطئ. يَركَب يسوع مَركَب بطرس وهو يهمس له ببضعة كلمات. أرى يسوع يبتسم وبطرس يبدو مندهشاً، ولكنّه لا يقول شيئاً. ويركب كذلك الرجل الذي لم يذهب لدفن أبيه مِن أجل اتِّباع يسوع.