ج3 - ف18

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

18- (يسوع يتحدّث إلى يُوَنّا امرأة خُوزي على البحيرة)

 

08 / 05 / 1945

 

يسوع على البحيرة في مَركَب بطرس، خلف مَركَبين آخَرَين، الواحد مَركَب صيد عادي صنو (يشبه) مَركَب بطرس، والآخر مَركَب نزهة خفيف وفَاخِر. إنّه مَركَب يُوَنّا امرأة خُوزي، ولكنّ مالِكَته ليست فيه؛ إنّها عند قدميّ يسوع في مَركَب بطرس البسيط.

 

أظنُّها الصُّدفة هي التي جَمَعَتهم في مكان ما مِن ضفّة جنّسارت الـمُزهِرة. فالشاطئ جميل للغاية في مَطلَع ربيع فلسطين هذا الذي بَسَطَ سحاب اللوز الـمُزهِر وأودَعَ لآلئ الزَّهر التي ستتفتّح على أشجار الأجاص والتفّاح والرمّان والسفرجل، على كلّ الأشجار الأفخر والأشهى بزهرها وثمارها. وفيما يُسايِرَ الـمَركَب ضفّة تُنيرها الشمس، تَظهَر ملايين البراعم الـمُنتفخة على الأغصان في انتظار الإزهار، بينما تتطاير كالفراشات في الجوّ الساكن حتّى تتوضّع على مياه البحيرة الصافية بَتلات اللوز الباكوريّة. الضّفاف، وسط العشب الجديد الذي يبدو كسجّادة مَرِحَة مِن الحرير الأخضر، مُرصَّعَة ببراعم ذهبيّة مِن الحوذان (زَهر)، والنجمات الـمُشِعّة مِن الأقحوان، وإلى جانبها حمحميّات (نبتة ذات أزهار صغيرة) رشيقة متصلِّبة على سيقانها مثل مَلِكات صغيرات مُتَوَّجات، وهي تبتسم ابتسامة خفيفة، ساكنة مثل عيون الأطفال، بلونها اللازورديّ الذي يبدو وكأنّه يقول «نعم، نعم» للشمس والبحيرة، ولأخواتها مِن الأعشاب السعيدة بإزهارها، والإزهار تحت عينيّ سيّدها الزرقاوين المشرقتين.

 

في بداية الربيع هذا، لم يكن للبحيرة ذلك الرخاء الذي سيجعلها احتفاليّة في الأشهر المقبلة. لم تكن لها بعد تلك الأُبّهة، أقول الحِسّيّة، التي لآلاف شجيرات الورد الصلبة أو المرنة التي تُشكِّل كُتَلاً في الحدائق، أو التي تُجلِّل الجدران، آلاف وآلاف مِن الأكاسيا والزهور المائيّة، آلاف وآلاف مِن صفوف الـمِسك الروميّ الـمُزهِر، وألف ألف نجمة مِن الحمضيات، مِن كلّ هذا المزيج مِن الألوان والعطور القويّة والمثيرة التي تحيط وتستثير الرغبة البشريّة بالاستمتاع، تُنتَهَك كثيراً حُرمة تلك البُقعة مِن الأرض الطاهرة التي هي بحيرة طبريّا، المكان المختار منذ دهور ليكون مسرحاً لأكبر عدد مِن معجزات سيّدنا يسوع.

 

تَنظُر يُوَنّا إلى يسوع الـمُستَغرِق في جمال بحيرته الجليليّة، ويبتسم وجهها عاكساً مثل مرآة صافية ابتسامته هو. في الـمَركَبين الآخرين يجري حديث. أمّا هنا فَصَمت. الصوت الوحيد هو صوت أقدام بطرس وأندراوس العارية، وهُما يُنظِّمان قيادة الـمَركَب، وتَنَهُّد الماء الذي تشقّه مقدّمة المركب ويُهمهِم ألمه عند حوافّه، أَلَم يتحوّل إلى ضحك في مؤخرته عندما يلتئم الجرح في مَخْر فضّيّ تؤجّجه الشمس وكأنّه غبار الماس.

 

أخيراً يَقطَع يسوع تأمُّله ويلتَفِت إلى التلميذة. يبتسم لها. يَسأَلها: «نكاد نصل، أليس كذلك؟ وسوف تقولين إنّ المعلّم قليل الظُّرف جدّاً، فلم أقل لكِ كلمة واحدة.»

 

«ولكنّني قرأتُ كلماتكَ على وجهكَ، يا معلّم، وسَمِعتُ كلّ ما كنتَ تقوله لهذه الأشياء التي تحيط بنا.»

 

«إذن ماذا كنتُ أقول؟»

 

«أحِبّوا، كونوا أنقياء، كونوا صالحين، لأنّكم مِن عند الله أتيتم، ولأنّه لم يَخرُج مِن يده شيء سيّئ أو نَجِس.»

 

«لقد أَجَدْتِ القراءة.»

 

«ولكن ربّي، ستظلّ الأعشاب تَفعَلها، والحيوانات كذلك. أمّا الإنسان... فلماذا لا يفعلها وهو الأكثر كمالاً؟»

 

«ذلك لأنّ لسعة الشيطان اختَرَقَت الإنسان فقط. لقد حاوَلَ تدمير الخالق في معجزته العُظمى، في الأكثر شَبَهاً به.»

 

تَخفض يُوَنّا رأسها وتُفكّر. تبدو مُتردّدة وتُقارِن بين رغبتين متناقضتين. يُلاحِظ يسوع ذلك. أخيراً ترفع رأسها وتقول: «ربّي، هل تتمنّع عن الاقتراب مِن صديقاتي الوثنيّات؟ أنتَ تَعلَم... إنّ خُوزي يعمل في القصر، وحاكم الربع -وبالأخصّ ربّة القصر الحقيقيّة، هيروديّا، وبناء على الإرادة التي تخضع لها كلّ رغبات هيرودس، بـ... الصيغة، للظهور بأكثر رقّة مِن الفلسطينيين الآخرين، لنيل حماية روما، بالتدلّه لروما وكلّ ما هو رومانيّ- يُجامِل الرومانيّين في بيت الوالي... ويفرضهم علينا. في الحقيقة، ينبغي لي القول إنّ أولئك النسوة لسن أسوأ منّا. فحتّى بيننا، على هذه الضّفاف، هناك مَن قد هوى إلى أسفل. وعمّاذا يمكننا الحديث إذا لم نتحدّث عن هيروديّا؟... عندما فقدتُ طفلي وأَصبَحتُ مريضة، فقد كُنّ طَيّبات معي، أنا التي لم أطلبهنّ. ومنذئذ استمرَّت صداقتنا. ولكن لو تقول لي إنّ ذلك شرّ، فإنّني أتخلّى عنه... (يُومِىء لها يسوع بعدم الممانعة) ...لا؟ أشكركَ يا سيّدي. أوّل أمس، كنتُ عند إحدى صديقاتي، في زيارة ودّية بالنسبة إليَّ، وزيارة واجب بالنسبة لخُوزي. فلقد كانت بناء على أمر مِن حاكم الربع الذي... يودُّ العودة إلى هنا، ولكنّه لا يشعر بالأمان، ولذلك... فهو يُوطّد العلاقات الأكثر أهميّة مع روما للحصول على حمايتها. عدا ذلك... أرجوكَ... إنّكَ قريب المعمدان. أليس كذلك؟ قُل له إذن ألا يطمئنّ كثيراً. ألّا يَخرُج أبداً مِن حدود السامرة. بل على العكس، إذا لم يستخفّ بذلك، فليختبئ لبعض الوقت. فالثعبان يدنو مِن الحَمَل، ولدى الحَمَل كلّ المبررات للخوف، مِن كلّ شيء. فليكن متنبّهاً إلى أقصى حدّ، يا معلّم. ولا يعلمنّ أحد أنّني أنا مَن قُلتُ ذلك. فإنّ في ذلك تحطيم خُوزي.»

 

«كوني مطمئنّة يا يُوَنّا. سوف أُنبّه المعمدان بشكل أن أؤدّي له خدمة دون أن ينجم عنها خَطَر.»

 

«شكراً، سيّدي. أودُّ لو أُسدي لكَ خدمة، ولكن دون أن يؤدّي ذلك إلى أذيّة زوجي. مِن جهة أخرى... أنا... لا يمكنني المجيء معكَ على الدوام. فأحياناً يتوجّب عليَّ البقاء، لأنّه هو يريد ذلك، وهذا حقّ...»

 

«وستبقين يا يُوَنّا. أُدرِك كلّ شيء. فلا تقولي بعد إلّا ما هو ضروريّ.»

 

«ومع ذلك، ففي الأوقات الأكثر خطورة بالنسبة إليكَ، هل تريدني إلى جانبكَ؟»

 

«نعم يا يُوَنّا، بكلّ تأكيد.»

 

«آه! كم كان صعباً عليَّ وجوب قول ذلك! إنّما الآن فقد استراح ضميري...»

 

«إذا آمَنتِ بي فستشعرين براحة الضمير على الدّوام... ولكنّكِ كنتِ تتحدّثين عن إحدى صديقاتكِ الرومانيّات...»

 

«نعم، إنّها صديقة كلوديا الحميمة، وأظنّها إحدى قريباتها. وهي تودّ التحدّث إليكَ، أو على الأقلّ الاستماع إلى حديثكَ. وهي ليست الوحيدة. الآن وقد شَفَيتَ ابنة فاليريا، وَوَصَلَ إلينا النبأ بسرعة البرق، فقد أصبحن أكثر رغبة في ذلك. وأثناء وليمة ذاك المساء، جرى الحديث عنكَ كثيراً، في صالحكَ وفي غير صالحكَ. بالفعل كان هناك هيروديّون وصدّوقيّون... رغم أنّهم لم يريدوا الإقرار بذلك عندما سُئِلوا... وثمّ كانت هناك نساء... ثريّات و... غير نزيهات... وكانت هناك... يؤسفني قول ذلك، لِعِلمي بأنّكَ صديق أخيها، مريم المجدليّة مع صديقها الجديد وامرأة أخرى، أظنّها يونانيّة، وذات سُلوك أكثر تَحَرُّراً منها. تَعلَم... لدى الوثنيّين، تجلس النساء إلى الطاولة مع الرجال، وهذا كثير... كثير... يا للأسف! ولُطفاً مِن صديقتي، فقد اختارت لي رفيقاً هو زوجي، مما أَثلَجَ صدري كثيراً. ولكنّ الآخرين... آه! حسناً، كان الحديث يدور حولكَ، إذ إنّ معجزة فوستينا أثارت ضجّة. وإذا ما أَكبَرَ الرومانيّون فيكَ كونكَ الطبيب العظيم أو المجوسيّ -سامحني يا سيّدي- فالهيروديّون والصدّوقيّون كانوا يَرمون اسمكَ بالسمّ؛ ومريم، آه! مريم! يا للفظاعة!... فقد بَدَأَت بالهزء والسّخرية، ثمّ... لا، لا أريد قول ذلك لكَ. لقد بكيتُ بسببه طوال الليل...»

 

«دعيها تفعل. سوف تُشفى.»

 

«ولكنّ صحتها جيّدة، أَتَعلَم؟»

 

«البَدَن، نعم. أمّا الباقي فمسموم كلّه. وسوف تُشفى.»

 

«تقول ذلك... تَعلَم كيف هنّ الرومانيّات، ولقد قُلنَ: "إنّنا لا نخشى الشعوذات ولا نؤمن بالقِيل والقال، ولكنّنا نريد أن نحكم بأنفسنا". وقلن بعد ذلك: "ألا يمكننا الاستماع إليه؟"»

 

«قولي لهنّ إنّني سوف أكون في بيتكِ عند نهاية قمر سيبات (يناير-فبراير).»

 

«سوف أقول ذلك. أتظنّهن سوف يأتين إليكَ؟»

 

«لديهنّ عالم بأكمله ينبغي إعادة تنظيمه. فيجب التقويض أوّلاً ثمّ البناء. ولكن هذا ليس مستحيلاً... يُوَنّا، هو ذا بيتكِ وحديقته. اعملي فيه مِن أجل معلّمكِ، وكما قُلتُ لكِ. الوداع يا يُوَنّا. ليكن الربّ معكِ. أبارككِ باسمه.»

 

يرسو الـمَركَب. تَسأَل يُوَنّا بإلحاح: «ألا تأتي؟»

 

«ليس الآن. يجب عدم تأجيج النار. ولقد أَوشَكَت على أن تنطفئ بعد أشهر قليلة مِن الغياب. والوقت يمرّ بسرعة.»

 

يقف الـمَركَب في خليج صغير في بستان خُوزي. يَهرع الخُدَّام لمساعدة المعلّمة في الهبوط. ويَصِل مَركَبها إلى الرصيف بعد مَركَب بطرس بعد أن يغادره يوحنّا ومتّى والاسخريوطيّ وفليبّس ليَصعَدوا إلى مَركَب بطرس الذي يُغادِر بعدئذ الشاطئ ويُعاوِد مسيرته إلى الضفّة المقابلة.