ج6 - ف108

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

108- ("طوبى للفقراء بالروح")

 

19 / 07 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«في تطويباتي المختلفة عرضتُ ما هو ضروريّ ومطلوب لبلوغها، والمكافآت التي تُعطى لهؤلاء المغبوطين. ولكن إذا كانت الفئات التي أسميتُها مختلفة، فالمكافأة هي ذاتها إذا ما أمعنتم النّظر: التمتّع بالأشياء ذاتها التي تُبهِج الله.

 

فئات مختلفة. لقد أظهرتُ كيف أنّ الله يُعِدُّ بفكره لخلق نفوس بميول مختلفة لتبتهج الأرض بتوازن عادل في كل متطلّباتها المتدنّية والسامية. وإن كان تمرّد الإنسان قد أَفسَدَ هذا التوازن بإرادته المضيّ دوماً إلى الجهة المقابلة للمشيئة الإلهيّة، التي تقوده بحبّ في الطريق المستقيمة، فالخطيئة ليست لله.

 

البَشَر، المستاؤون دوماً مِن وضعهم، أو مِن ظلم موصوف، أو مِن محاولات ظلم، يجتاحون أو يكدّرون ميدان الآخر. ما تكون الحروب العالميّة والحروب العائليّة، وتلك المهنيّة، إن لم تكن ظلماً فعليّاً؟ ما تكون الثورات الاجتماعيّة، ما تكون المذاهب التي تلبس لبوس "الاجتماعيّة" والتي بالحقيقة هي عنيفة ومضادّة للمحبّة، إذ إنّها لا تعرف إرادة وممارسة العدل الذي تشيد به، ولكنّها تصل إلى تجاوز العنف الذي لا يخفّف عن المظلومين، بل يُفاقِم أعدادهم لمصلحة عدد قليل مِن الطغاة؟

 

ولكن حيث أملك، أنا، الله، لا تَحدُث هذه التبدّلات. في الأرواح التي هي في الحقيقة لي وفي ملكوتي، لا شيء يعكّر النظام. فإذن ها هي مُعاشة ومكافأة الأشكال المختلفة للقداسة المتعدّدة الأشكال لله العادل، الطاهر، الـمُحِبّ للسلام، الرحيم، الحرّ مِن الطمع بالثروات الوقتيّة، المغبوط مِن فرح حبّه.

 

بين النُّفوس، هناك مَن تميل إلى شكل، وأخرى إلى شكل مختلف. تميل بنهج سامٍ لأنّ الفضائل كلّها موجودة في كلّ قدّيس. إلاّ أنّ واحدة تكون المهيمنة، وهي التي تجعل مِن هذا القدّيس يشتهر بشكل خاص بين الناس. أنا، أباركه وأكافئه حينذاك على جميعها، ذلك أنّ المكافأة هي "الاغتباط بالله" مِن أجل أولئك المحِبّين للسلام كما مِن أجل الرحيمين منهم، للذين يحبّون العدل كما للمُضطَهَدين ظلماً، للأطهار كما للمُبتلين، للودعاء كما للفقراء بالروح.

 

الفقراء بالروح! كم يُساء فهم هذا التعريف على الدوام، حتّى مِن قِبَل الذين يفهمونه في الاتّجاه الصحيح! الفقراء بالروح بالنسبة للناس السطحيّين وسخريّتهم الحمقاء، وللجهل الذي يَعتَبر نفسه حكمة، فهذا يعني "غباء". الذين هم الأفضل يعتقدون أنّ الروح يعني الذكاء، الفكر؛ وللأكثر ماديّة، فخداع ومكر.

 

لا. الروح أسمى مِن الذكاء كثيراً. إنّه مَلِك كلّ ما فيكم. كلّ المزايا الجسمانيّة والمعنويّة هي بالنسبة لهذا الـمَلِك رعايا وخُدّام. حيث تكون خليقة مكرّسة بنويّاً لله فهي تعرف أن تحافظ على الأمور في مكانها الصحيح. وحيث تكون، على العكس، غير مكرّسة بنويّاً، حينئذ تطرأ الوثنيّة، والخادمات تصبح مَلِكات، خالعة الروح الـمَلِك عن العرش. فوضى تؤدّي إلى الخراب ككلّ فوضى.

 

الفقر بالروح يكمن في هذا التحرّر السامي مِن كلّ الأشياء التي تُشكِّل ملذّات الإنسان، والتي لأجلها يصل الإنسان حتّى إلى الجرائم المادّيّة أو الجرائم المعنويّة غير المعاقب عليها، والتي تُفلت من الشريعة الإنسانيّة، إنّما لا تسبّب مِن الضحايا أقلّ، بل حتّى تُسبّب أكثر بنتائج لا تقف عند حدّ انتزاع حياة الضحيّة، بل تنتزع أحياناً الاعتبار والخبز مِن الضحايا وأفراد عائلاتهم.

 

الفقير بالروح لم يَعُد عبد الثروات. حتّى وإن لم يتوصّل إلى التجرّد المادّيّ عنها، بالتخلّي كما مِن كلّ رفاهيّة، بالدخول في نظام رهبانيّ (تقشّفيّ)، فهو يعرف كيف يستخدم ذلك لمصلحته بتقتير هو بمثابة التضحية المضاعفة ليكون، على العكس، كريماً لأجل فقراء العالم. هو أَدرَكَ الجملة التي قلتُها: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظّلم (لوقا 16-9)". مِن ماله، الذي يمكن أن يكون عدوّ روحه بحمله على الفسق، الشراهة وعلى الأفعال المضادّة للمحبّة، يجعل منه خادمه الذي يمهّد له طريق السماء، المفروش كلّه بالسجّاد -مِن أجل الغنيّ: الفقير بالروح- نتيجة إماتاته وأعمال المحبّة تجاه بؤس المماثلين له.

 

ما هو ظلم لا يصلح ولا يشفي الفقير بالروح! فأفعاله الظالمة في الزمن الذي فيه، كما زكّا، لم يكن سوى قلب شَرِه وقاسٍ. أفعال ظالمة للقريب، حيّاً كان أو ميتاً. أفعال ظالمة اجتماعيّة.

 

تَرفَعون نُصباً تذكاريّة لأناس لم يكونوا عظماء سوى بسلطانهم. لماذا لا ترفعون نصباً تذكاريّة للمحسنين إلى الإنسانيّة المعوزة والعاملة المتخفّين، للذين جَعَلوا مِن ثرواتهم خدمة، ليس لجعل حياتهم الخاصّة وليمة مستديمة، بل لجعل الحياة أكثر سطوعاً، أفضل، أكثر سموّاً تجاه الفقراء، المتألّمين والذين تضاءلت قدراتهم الوظيفيّة، الذين يجعلهم ذوو السلطان مغمورين لأن عدم ظهورهم يفيدهم أكثر في مشاريعهم الملعونة؟ كم يوجد منهم حتى بين مَن ليسوا في البحبوحة، الذين هم على العكس أقلّ قليلاً مِن الفقراء، والذين يعرفون التضحية حتّى "بالقطعتين النقديّتين الصغيرتين" الـمُمتلَكَتين مِن أجل التخفيف عن بؤس، لأنّه بعيد عن النور، كما هو لهم -وبما أنّهم فيه، يمكن إدراكه في أسلوبهم في التصرّف- هو أفدح مِن الذي لهم!

 

إنّهم الفقراء بالروح أولئك الذين، بفقدانهم المصادر الكبيرة أو المتواضعة التي لهم، يعرفون المحافظة على السلام والأمل، فلا يَلعَنون ولا يخونون أحداً، لا الله ولا الناس.

 

الفئة الكبرى مِن "الفقراء بالروح" التي ذكرتُها أوّلاً -إذ كان بإمكاني القول إنّ الخلوّ مِن حرّية الروح هذه، التي تسمو فوق كلّ متع الحياة، لا يُمكِّن مِن التمتّع بالفضائل الأخرى التي تمنحها التطويبات- تُقسَم وتتفرّع إلى العديد مِن الأنماط.

 

تواضُع الفكر الذي لا ينتفخ ولا يُعلِن عن نفسه بأنّه الأعلى، ولكنّه يلجأ إلى عطيّة الله مُقِرّاً أنّها الأصل في فعل الخير. فقط مِن أجل ذلك.

 

السخاء في العواطف (المشاعر)، الذي مِن أجله يَعرف التجرّد حتّى عن هذه كي يتبع الله، حتّى عن الحياة. الثروة الأكثر صحّة والأكثر حبّاً بالغريزة للخليقة الحيوانيّة. شهدائي كانوا جميعهم أسخياء بهذا المعنى، لأنّ روحهم عرف أن يجعل مِن ذاته فقيراً كي يصبح "غنيّاً" بالثروة الأبديّة الوحيدة: الله.

 

الاستقامة في حبّ الأمور الشخصيّة. حبّها، لأنّ ذلك إلى جانب كونه شهادة للعناية الإلهيّة، فهو واجب. تكلّمتُ عن ذلك في الإملاءات السابقة. إنّما عدم حبّها لدرجة تتجاوز حبّ الله ومشيئته؛ حبّها، ولكن ليس لدرجة لعن الله إذا ما انتزَعَتها منكم يد إنسان.

 

أخيراً، أُكرّر، التحرّر مِن عبوديّة المال.

 

تلك هي الأشكال المختلفة لهذا الفقر بالروح الذي قلت عنه إنّه بالاستقامة سوف يمتلك السماوات. تحت الأقدام، كلّ الثروات العابرة للحياة البشريّة، لامتلاك الثروات الأبديّة. وضع الأرض وثمارها ذات النكهة المزيّفة، اللذيذة سطحيّاً والمرّة في الوسط، في المرتبة الأخيرة والعمل على غزو السماء. آه! هناك لا ثمار بالنكهة المزيّفة. هناك الثمرة فائقة الوصف للتمتّع بالله.

 

كان زكّا قد أدرَكَ ذلك. كانت هذه الجملة هي السهم الذي فتح قلبه على النور والمحبّة، عليَّ أنا الذي كنتُ قد أتيت إليه لأقول له: "تعال". وعندما أتيتُ إليه لأدعوه، كان هو قد أصبح "فقيراً بالروح"، لأجل ذلك كان قادراً على امتلاك السماء.»