ج6 - ف155
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
155- (في تراقية)
27 / 04 / 1946
إنّ شبه جزيرة تراقية الصغيرة تمتدّ على البحيرة مُشكِّلةً شَرماً عميقاً إلى الجنوب الغربيّ، لذا فيصحّ القول، بدلاً مِن شبه جزيرة، إنّها برزخ محاط تقريباً بالكامل بالماء، وتتّصل بالأرض بممرّ. على الأقلّ هي كانت كذلك في زمن يسوع، الحقبة التي أراها فيها. ولا أدري فيما إذا بعد ذلك، وخلال عشرين قرناً، الرمال والحصى التي حملها السيل الصغير الذي يصبّ بالضبط في الخليج الجنوب-غربي قد بدّلت مظهر المكان، مالئة الخليج الصغير بالطميّ وموسّعة أرض البرزخ.
الخليج هادئ، زرقته صافية تتخلّلها خطوط بلون اليشب (حجر كريم أخضر) حيث تنعكس خُضرة أوراق الأشجار التي تميل مِن الشاطئ صوب البحيرة. العديد مِن القوارب تتماوج بخفّة فوق المياه التي تكاد تكون ساكنة.
ما يسترعي انتباهي هو سدّ غريب، بقناطره المرتكزة على حصى الضفّة، مُشكّلاً نوعاً مِن مُنتزه، رصيف، يمتدّ غرباً على ما أظنّ. لا أفهم فيما إذا كان بغرض التجميل، أم أنّه قد بُنِيَ لغرض ذي فائدة وأنا لا أعلمه. إنّ المنتزه، أو السدّ، أو الرصيف، مغطىً بطبقة سميكة مِن التراب، حيث زُرعت الأشجار الصغيرة بكثافة، بحيث أضحت تُشكّل رواقاً أخضر فوق الطريق. أناس كُثُر يتنزّهون تحت الرواق الكثيف، حيث النسيم العليل والمياه والأغصان الـمُورِقة تحمل متعة الانتعاش الثمينة.
يمكن رؤية مَصبّ الأردن بوضوح، ومياه البحيرة التي تصبّ في مجرى النهر، التي تشكّل دوّامات واختناقات عند دعامات جسر، أقول بأنّه جسر روماني، بالنظر إلى تصميم الدعامات المتينة، المبنيّة كما المصدّات عند المنعطفات، حيث يتكسّر التيّار في لعبة الأنوار المتلألئة، تحت الشمس التي تسطع عليها حيث تتكسّر المياه لتجري في عنق مجرى النهر، لتنحصر بعد تمدّدها على راحتها في البحيرة. وعند نهاية الجسر تقريباً، على الضفة المقابلة، هناك بلدة صغيرة، تتناثر بيوتها البيضاء في الريف الأخضر الخصيب. وفي الأعلى، إلى الشمال، إنّما عند الضفّة الشرقيّة للبحيرة، تقع القرية التي تتقدّم إيبّو، والأحراج العالية عند الجرف، وإلى ما بعدها جَمَلا المرئية بوضوح على قمّة التلّة.
قافلة الناس تتبع يسوع مِن عِمّاوس، ويزاد عددهم بوجود أولئك الذين هم بانتظاره في تراقية. ومِن بينهم يُوَنّا التي جاءت بالقارب. يتّجه يسوع مباشرة صوب السدّ المزروع بالأشجار ويتوقّف في منتصفه، مياه البحيرة على يمينه، والضفّة على يساره. ومَن يتمكّن مِن الناس يتوقّفون على الطريق الظليلة، والذين لا يجدون مكاناً هناك ينزلون إلى الضفّة، التي لا تزال إلى حدّ ما رطبة بسبب المدّ الليليّ العالي، أو لسبب آخر، وهي ظليلة جزئيّاً بالأشجار التي على السدّ. آخرون يَطلبون مِن أصحاب القوارب أن يقتربوا مِن الضفّة ويَجلسون في ظلّ الأشرعة.
يسوع يرفع يده في إشارة إلى أنّه يريد أن يتكلّم، والكلّ يصمت.
«مكتوب: "لقد سرتَ لتخلّص شعبكَ، لتخلّصه بفضل مسيحكَ." ومكتوب: "وسوف أغتبط بالربّ وأبتهج بالله مخلّصي."
إنّ شعب إسرائيل قد استأثر بهذا الكلام وأعطاه معنىً وطنيّاً، معنىً شخصيّاً وأنانيّاً، الأمر الذي لا يتوافق مع حقيقة شخص مَسيّا. لقد أعطى لذلك الكلام معنىً ضيّقاً يحطّ مِن عَظَمَة الفكرة المسيانيّة إلى مستوى إظهار قُدرة بشريّة وانتصار ساحق على الحكّام الموجودين في إسرائيل، بالمسيح.
لكنّ الحقيقة مختلفة. إنّها عظيمة، لا محدودة. إنّها متأتّية مِن الله الحقّ، مِن خالق وربّ السموات والأرض، مِن خالق البشريّة، ممّن كَثَّرَ النجوم في قبّة السماء، وغطّى الأرض بنباتات مِن كلّ الأنواع، وجَعَلَ الحيوانات تستوطنها، وجعل الأسماك في المياه، والطيور في السماء، وبالطريقة ذاتها كَثَّرَ أبناء الإنسان الذي خَلَقَه كي يكون مَلِك الخليقة ومخلوقه المفضّل. والآن، كيف يمكن للربّ، أب كلّ الجنس البشريّ، ألّا يكون عادلاً مع أبنائه المولودين مِن الرجل والمرأة، الّلذين كَوَّنهما هو مِن مادّة: التراب، ومِن نَفْس: نَفَسه الإلهيّ؟ وكيف له أن يُعامِل البعض بشكل مختلف عن الآخرين، كما لو أنّهم ليسوا فقط مِن مَصدر واحد، كما لو أنّهم ليسوا مِن مَنبع واحد، كما لو أنّهم ليسوا منه، بل مِن كائن آخر فائق الطبيعة معادٍ كانت أغصان أخرى قد خُلقت، وبالتالي فهم غرباء، غير شرعيّين، محتقَرون؟
إنّ الله الحقّ ليس إلهاً مسكيناً لهذا الشعب أو ذاك، ليس صنماً، ليس صورة وهميّة. إنّه الحقيقة الأسمى، الحقيقة الأشمل، إنّه الكائن الأوحد، السامي، خالق كلّ الأشياء وكلّ البشر. فهو إذاً إله كلّ البشر. إنّه يَعرفهم حتّى ولو لم يكونوا يَعرفونه. إنّه يحبّهم: حتّى ولو، لعدم معرفتهم به، فهم لا يحبّونه، أو إن كانوا لا يعرفونه بشكل جيّد ويحبّونه بشكل سيّئ، أو حتّى ولو كانوا يعرفونه، إنّما لا يعرفون أن يحبّوه.
الأُبوّة لا تتوقّف عندما يكون الابن جاهلاً، طائشاً أو سيّئاً. فالأب يسعى لتعليم ابنه، إذ إنّ إرشاده هو المحبّة. إنّ الأب يجهد ليجعل ابنه القاصر أقلّ طيشاً. إنّ الأب يسعى لتقويم ابن سيّئ وجعله صالحاً بالدموع، بتسامحه، بعقوبات مفيدة، بغفرانات رحيمة. هذا ما يفعله الأب-الإنسان. وهل يا ترى يكون الأب-الإله، أدنى مِن الأب-الإنسان؟ فإذن الله-الآب يحبّ كلّ البشر ويريد خلاصهم. هو، مَلِك ملكوت أزليّ، الـمَلِك الأزلي، ينظر إلى شعبه، الـمُشكَّل مِن كلّ الشعوب المنتشرة في الأرض، ويقول: "ها هو الشعب الذي خلقتُه، الشعب الذي سوف يخلّصه مسيحي. هذا هو الشعب الذي مِن أجله خُلِقَ ملكوت السموات. وها قد حانت ساعة خلاصه على يد المخلّص."
مَن هو المسيح؟ مَن هو المخلّص؟ مَن هو مَسيّا؟ كثيرون هم اليونانيّون المتواجدون هنا، وآخرون كثيرون، حتّى ولو لم يكونوا يونانييّن، إنّما يعلمون ماذا تعني كلمة المسيح. فالمسيح هو الشخص المكرَّس، الشخص الممسوح بالزيت الملكيّ كي يُتمّ رسالته. مكرَّس لماذا؟ ألعلّه لمجد عرش زائل؟ ألعلّه لمجد كهنوت أعظم؟ لا. إنّه مكرّس كي يجمع تحت صولجان واحد، في شعب واحد، تحت عقيدة واحدة، كلّ البشر، كي يكونوا إخوة لبعضهم البعض، وأبناء لأب واحد أوحد، أبناء يعرفون أباهم ويطيعون شريعته كي يكون لهم نصيب في ملكوته.
إنّ المسيح، الـمَلِك باسم الآب الذي أَرسَلَه، يملك كما هي عليه طبيعته، أي إلهيّاً، لأنّه مِن الله. إنّ الله قد وَضَعَ كلّ شيء مرقاة لمسيحه. لا لأجل أن يَستبدّ، بل كي يُخلّص. إنّ اسمه في الواقع هو يسوع، الذي يعني بالعبرية الـمُخلّص. وحينما يُخلّص المخلّص شعبه مِن أخطر شرك وجرح، فإنّ جبلاً سوف يكون تحت قدميه، وحشوداً مِن كلّ الأعراق سوف تغطّي الجبل،كرمز على مَلَكيّته وسموّه على كلّ الأرض وعلى كلّ الشعوب. لكنّ الـمَلِك سوف يكون معرّىً مِن كلّ الثروات، ما عدا تضحيته، كي يرمز إلى أنّ اهتمامه ينصبّ فقط على أمور الروح، وبأنّ أمور الروح تُكتَسَب وتُخلّص بشجاعة روحيّة وتضحية بطوليّة لا بالعنف والذَّهَب. هو سوف يكون كذلك ليجيب -على أولئك الذين يخافونه، كما على أولئك الذين ومِن خلال محبّة زائفة، فهم يمجّدونه أو يهينوه، مُريدين أن يجعلوا منه مَلِكاً بحسب العالم. هو سوف يكون كذلك أيضاً لأولئك الذين يكرهونه فقط بسبب خوفهم مِن أن يُحرَموا ممّا هو عزيز عليهم- بأنّه مَلِك روحيّ، ولا شيء سوى ذلك، وقد أُرسِل ليُعلّم الأرواح كيف تفوز بالملكوت، الذي هو الملكوت الوحيد الذي جئتُ كي أؤسّسه.
أنا لن أعطي شرائع جديدة. إنّني أؤكّد على شريعة سيناء بالنسبة للإسرائيليّين، وللوثنيّين أقول: إنّ شريعة الفوز بالملكوت هي ليست سوى شريعة الفضيلة، التي يفرضها على نفسه كلّ مخلوق وجدانيّ ليرتقي بنفسه، والتي، ومِن خلال الإيمان بالله الحقّ، ومِن خلال القانون الأخلاقيّ والفضيلة البشريّة، تغدو شريعة أخلاقيّة فائقة للطبيعة.
أيا أيّها الوثنيّون! إنّ مِن عادتكم أن تُسبِغوا صفة آلهة على أشخاص وطنكم العظماء، وأنتم تضعونهم وسط مجموعات الكثير مِن الآلهة غير الحقيقيّة التي تجعلون الأولمب عامراً بها، لقد خَلَقتم كلّ هذه الآلهة كي تحظوا بشيء ما تؤمنون به، ذلك أنّ الدين ضروريّ للإنسان، تماماً كما أنّ الإيمان هو ضرورة، كون الإيمان هو الحالة الدائمة للإنسان، والتشكّك هو الشذوذ العَرَضي. وأولئك المرفوعون دوماً إلى مصافّ الآلهة ليست لهم قيمة ولا حتّى كمجرّد بشر، لأنّ عَظَمَتهم تتأتّى إمّا مِن قوّتهم الوحشيّة، وإمّا مِن سِعة حيلتهم، وإمّا كذلك بسبب سطوتهم التي اكتسبوها بطريقة ما. كما لو أنّهم يَحملون في ذواتهم، كمؤهّلات فائقة للبشر، شقاءات معيّنة يعرفها الإنسان الحكيم على حقيقتها: فساد أهواء مُفرِطة. إنّ صحّة ما أقوله تؤكّده حقيقة أنّكم لم تُحسِنوا أن تضعوا في أولمبكم الوهميّ ولا حتّى واحدة مِن تلك النُّفوس العظيمة التي استشعَرَت بالحدس الكينونة العليا، وكانت العامل الوسيط بين الإنسان الحيوانيّ والألوهة، والتي كانت مُدرَكَة غريزياً مِن قِبلهم مِن خلال روحهم الفاضلة المتأمّلة. إنّ مِن روحٍ مُفكّرٍ لفيلسوف، فيلسوف عظيم وحقيقيّ، إلى روح مؤمن حقّ يعبد الإله الحقّ، هناك خطوة وحيدة، بينما مِن روح مؤمن بِأَنَا إنسان ماكر أو طاغٍ، أو روح إنسان بطولته ليست سوى مادّيّة، فهناك هاوية. مع ذلك فإنّكم لم تضعوا في أولمبكم أولئك الذين ارتقوا بحياتهم الفاضلة فوق الكتلة البشريّة بحيث اقتَرَبوا مِن ممالك الروح، في حين أنّكم وضعتم أولئك الذين تخافونهم كونهم سادة قساة، أو الذين تتملّقونهم بِذُلّ العبيد، أو الذين قَدَّرتموهم كأمثلة حيّة على حرّيّة تلك الغرائز الحيوانيّة التي تعتبرها شهواتكم المختلّة بمثابة هدف وغاية الحياة.
وقد حَسَدتم أولئك الذين حُسِبوا مِن بين الآلهة، مُهمِلين أولئك الذين كانوا أقرب إلى الألوهة بفعل ممارساتهم الشريفة، وبفعل العقيدة، التي عَلَّموها، والتي عاشوها حياة فاضلة. والآن فإنّني أمنحكم بحقّ الوسيلة لتصبحوا آلهة. والذي يعمل بما أقول ويؤمن بما أُعلّم، سوف يصعد إلى الأولمب الحقّ وسوف يكون إلهاً، إلهاً ابن إله، في سماء حيث لا فساد على الإطلاق، وحيث المحبّة هي الشريعة الوحيدة. في سماء حيث نحبّ بعضنا روحيّاً، بلا تبلّد ومكائد الحواس التي تجعل قاطنيها يُعادون بعضهم البعض، كما يحصل في دياناتكم.
أنا لم آتِ لأطالب بأفعال بطوليّة صاخبة. لقد جئتُ كي أقول لكم: عيشوا كمخلوقات موهوبة نفساً وعقلاً، لا كما البهائم. عيشوا بحيث تستحقّون الحياة، أن تحيوا بحقّ، بالجزء الخالد الذي فيكم، في ملكوت مَن خَلَقَكم. أنا الحياة. لقد أتيتُ كي أدلّكم على الطريق التي تُوصِل للحياة. لقد جئتُ كي أُعطي الحياة لجميعكم، وأنا أعطيكم إيّاها كي تَنهَضوا مِن الموت، مِن قبور خطاياكم ووثنيّتكم. أنا الرحمة. جئتُ أدعوكم وأجمعكم كلّكم معاً. أنا المسيح المخلّص. ملكوتي ليس مِن هذا العالم. ومع ذلك فإنّ الذي يؤمن بي وبكلمتي، يُخلَق ملكوت في قلبه، منذ أيّام هذا العالم، وهو ملكوت الله، ملكوت الله فيكم.
مكتوب عنّي بأنّني مَن سيُحلّ العدل بين الأمم. هذا صحيح. لأنّه لو كان كلّ فرد مِن كلّ أمّة يَعمَل بما أُعلّم، فإنّ الكراهية، الحروب، والمناكدة سوف تنتهي. مكتوب عنّي بأنّني لن أرفع صوتي لألعن الخطأة، أو يدي لأبيد أولئك الذين هم مثل القصب المكسور والفتائل المدخّنة بسبب طريقة حياتهم غير اللائقة. هذا صحيح. أنا المخلّص وقد جئتُ كي أعضد الضعفاء، لأعطي زيتاً لأولئك الذي تدخّن مصابيحهم بسبب افتقارها للمادة الضروريّة. مكتوب عنّي بأنّني مَن يفتح عيون العميان، ويحرّر السجناء، ويجلب النور لأولئك الذين كانوا في ظلمة السجون. هذا صحيح. إنّ أكثر العميان عمىً هم أولئك الذين لا يستطيعون رؤية النور، أي، الله الحقّ، ولا حتّى ببصيرة نفوسهم. أنا، الذي هو نور العالم، جئتُ كي يروا. إنّ المسجونين الأشدّ تقييداً هم أولئك الذين تقيّدهم شهواتهم الشرّيرة. إنّ كل قيد آخر يزول مع موت السجين. لكنّ قيود الرذيلة تدوم وتُكبِّل حتّى بعد موت الجسد. وأنا قد أتيتُ كي أفكّها.
جئتُ كي أُخرِج مِن ظلمات زنزانات جهل الله كلّ أولئك الذين تخنقهم الوثنية تحت ثقل وثنيّتها. تعالوا إلى النور والخلاص. تعالوا إليَّ لأنّ ملكوتي هو الملكوت الحقّ وشريعتي صالحة. كلّ ما تتطلّبه منكم هو أن تحبّوا الله الأوحد وأن تحبّوا قريبكم، وبالتالي أن تتبرّؤوا مِن الوثنيّة والشهوات التي تُقسّي قلوبكم الـمُجدِبة، الشهوانيّة، اللصة، القاتلة.
العالم يقول: "لنُرهِق الفقير، الضعيف، المنبوذ. لتكن القوّة حقّنا، القسوة عمق كياننا، ولنجعل التصلّب، الكراهية، الشراسة، هي أسلحتنا. لنسحق البارّ تحت أقدامنا، بما أنّه لا يُبدي مقاومة. لنضطهد الأرملة واليتيم الضَّعيفيّ الصوت." وأنا أقول: كونوا طيّبين وودعاء، اغفروا لأعدائكم، ساعدوا الضعفاء، كونوا نزيهين في البيع والشراء، كونوا حليمين حتّى عندما يكون الحقّ إلى جانبكم، لا تستغلّوا قدراتكم كي تُرهِقوا الـمُتعَبين. لا تنتقموا لأنفسكم. دعوا لله أمر حمايتكم. كونوا معتدلين في كلّ ميولكم، لأنّ الاعتدال هو دليل على القوّة الأخلاقيّة، فيما الشَّهوة دليل على الضعف. كونوا بشراً لا وحوشاً، ولا تخافوا أبداً فيما لو انحدرتم عميقاً جدّاً مِن ألّا تستطيعوا النهوض مجدّداً.
الحقّ أقول لكم بأنّه كما يعود الماء الـمُوحِل نقياً مجدّداً بالتبخّر بالشمس، فيتنقّى بالتسخين، بالارتفاع إلى السماء، ليعود فيهطل مطراً نقيّاً أو ندىً نافعاً، بشرط أن يعرف كيف تضربه الشمس، كذلك الأرواح التي تقترب مِن النور العظيم الذي هو الله وتهتف نحوه: "لقد أخطأتُ، إنّني وحل، لكنّني أتوق إليكَ، أيا أيّها النور" فسوف تصبح أرواحاً تصعد نقيّة نحو خالقها. انزعوا عن الموت فظاعته مُحوّلين حياتكم نقوداً تشترون بها الحياة. تخلّصوا مِن ماضيكم كما لو كان ثوباً قذراً، والبسوا الفضيلة.
أنا كلمة الله، وباسمه أقول لكم بأنّ الذي يؤمن به ويمتلك الإرادة الصالحة، والذي يتوب عن ماضيه، ونواياه للمستقبل مستقيمة، سواء كان عبرانيّاً أم وثنيّاً، فسوف يغدو ابناً لله، ومُستَحوِذاً على ملكوت السماوات. في بداية كلامي قُلتُ لكم: "مَن هو مَسيّا؟" والآن أقول لكم: أنا الذي أكلّمكم هو، وملكوتي في قلوبكم إذا ما كنتم ترغبون باستقباله، ومِن ثمّ سيكون في السماء، التي سوف أفتحها لكم إذا أحسنتم المثابرة في عقيدتي. هذا هو مَسيّا وليس شيئاً آخر. إنّه مَلِك لملكوت روحيّ، والذي بتضحيته سيفتح الأبواب لكلّ البشر ذوي الإرادة الصالحة.»
أنهى يسوع كلامه ويهمّ بالمضيّ سالكاً دَرَجاً يُوصِل بين السدّ والضفة. ربّما يريد الذهاب إلى قارب بطرس الذي يتمايل قرب رصيف بدائيّ. لكنّه يستدير فجأة، ينظر إلى الجمع ويصيح: «مَن ناداني بروحه والجسد؟»
ما مِن أحد يجيب.
يُكرّر السؤال ويُجيل النَّظَر بعينيه الجميلتين في الحشد المحيط به مِن الخلف، ليس فقط على الطريق، إنّما أيضاً في الأسفل عند الضفّة. أيضاً ما مِن إجابة.
متّى يعلّق: «يا معلّم، مَن يَعلَم كم منهم الآن قد تاق إليكَ تحت تأثير كلماتكَ...»
«لا. إنّ نَفْساً قد صَرَخَت: "الرحمة" وأنا سمعتُها. ولأقول لكم بأنّ ذلك صحيح فأنا أجيب: "ليكن لكِ كما طلبتِ لأنّ مشاعر قلبكِ صادقة."» وبقامته الممشوقة، يبدو بغاية الروعة وهو يمدّ يده بسلطان باتّجاه الضفّة.
يهمّ مجدّداً بالانطلاق صوب الدَّرَج الصغير، ولكنّ خُوزي، الذي نزل قبلاً مِن أحد القوارب، يقف قبالته ويحيّيه بعمق. «أبحث عنكَ منذ عدّة أيام. لقد جلتُ البحيرة متتبّعاً إياكَ على الدوام يا معلّم. مِن الضروريّ أن أكلّمكَ. كُن ضيفي. معي العديد مِن الأصدقاء.»
«لقد كنتُ في طبريّا بالأمس.»
«لقد قيل لي ذلك. إنّما أنا لستُ وحدي. أترى تلك القوارب المتوجّهة إلى الضفّة الأخرى؟ فيها كثيرون يريدونكَ، ومعهم البعض مِن تلاميذكَ. أرجوكَ، تعال، أرجوكَ، إلى منزلي، فيما وراء الأردن.»
«لا جدوى مِن ذلك يا خُوزي، إنّني أعرف ما الذي تريد قوله لي.»
«تعال يا ربّ.»
«مرضى وخطأة بانتظاري، دعني...»
«نحن أيضاً ننتظركَ، إنّنا مرضى بالقلق لخيركَ. وهناك ممّن هم مرضى جسديّاً، وحتّى...»
«هل سمعتَ كلامي؟ فلماذا تلحّ إذن؟»
«يا ربّ، لا تصدّنا، نحن...»
امرأة كانت قد شقّت طريقها عبر الجمع. لقد أصبحتُ مُلمّة كفاية باللباس اليهوديّ كي أُدرك بأنّها ليست يهوديّة. وملابسها ليست لامرأة محتَشِمة. ولكن كي تغطّي ملامحها ومفاتنها، التي هي ربّما فاضحة جدّاً، فقد لفّت نفسها بالكامل بوشاح طويل، أزرق فاتح كثوبها الفضفاض، ومع ذلك فهو يظلّ مثيراً، بسبب شكله الذي يترك ذراعيها الجميلين مكشوفين. فترتمي على الأرض وتزحف على التراب حتّى تتوصّل إلى لمس رداء يسوع، الذي تَشبكه بين أصابعها، مُقبّلةً هُدبه وباكيةً، منتحبةً بتشنّج.
يسوع، الذي كان على وشك أن يجيب خُوزي: «إنّكم مخطئون و...» يخفض عينيه ويقول: «أكنتِ أنتِ مَن تناديني؟»
«نعم... وأنا غير مستحقّة للنعمة التي مَنَحتَني إيّاها. ما كان يجدر بي أن أناديكَ حتّى بروحي. لكنّ كلامكَ... يا ربّ... أنا خاطئة. لو أنّني كشفتُ عن وجهي، لكان كُثُر يقولون لكَ اسمي. إنّني... بغيّ... قاتلة وليدها... والرذيلة جَعَلَتني مريضة... لقد كنتُ في عِمّاوس، وأعطيتُكَ حلية... وقد أعدتَها لي... ونظرتكَ... اخترقت قلبي... لقد تبعتكَ... وأنتَ تكلّمتَ. وقد حفظتُ كلامكَ: "أنا وحل، لكنّني أتوق إليكَ، يا أيّها النور." لقد قلتُ: "اشفِ نفسي وبعد ذلك، إن شئتَ فجسدي". يا ربّ، لقد شُفي جسدي... إنّما ماذا عن نفسي؟»
«إنّ نفسكِ قد شُفِيَت بسبب توبتكِ. اذهبي ولا تعودي تخطئي بعد. لقد غُفِرَت لكِ خطاياكِ.»
المرأة تُقبّل مجدّداً هُدب الرداء وتنهض. وعند قيامها ينزلق وشاحها.
«غلازيا! غلازيا!» يصيح كثيرون ويشتمونها، إنّهم يلتقطون حصىً ورملاً ويقذفون بها المرأة التي تنطوي على نفسها مذعورة.
يسوع، بنظرة حازمة، يرفع يده ويفرض الصمت. «لماذا تُهينونها؟ إنّكم لم تفعلوا ذلك حين كانت خاطئة. لماذا تفعلون ذلك الآن وقد افتدت نفسها؟»
«إنّها تفعل ذلك لأنّها عجوز ومريضة» يصرخ كُثُر باحتقار.
في الحقيقة، وعلى الرغم مِن أنّ المرأة لم تَعُد في عزّ شبابها، إلّا أنّها بعيدة كلّ البعد عن أن تكون عجوزاً وبشعة، كما يقولون. ولكنّ الجمع هو هكذا.
«اعبري مِن أمامي وانزلي إلى ذاك القارب. سوف آخذك إلى المنزل مِن طريق أخرى» يأمر يسوع ويقول لرُسُله: «أبقوها وسطكم ورافقوها.»
لكنّ غضب الجمع، الذي أثاره بعض الإسرائيليّين المتعصّبين، يرتدّ كلّه ضدّ يسوع، ويصيحون: «ملعون! مسيح دجّال! حامي البغايا! إنّ مَن يحميهنّ، يكون راضياً عن أفعالهنّ! وأكثر مِن ذلك! هو راضِ عنهنّ لأنّه يستمتع بهنّ» وعبارات مماثلة يهتفون بها أو بالأحرى ينبحون، تأتي خاصّة مِن مجموعة صغيرة مِن العبرانيّين المهووسين، والذين لا أعرف مِن أيّة طبقة هم، ومع صراخهم، يقذفون حفنات مِن رمل رطب، والتي تصيب وجه يسوع بعنف.
يسوع يرفع ذراعه وينظّف خدّه دونما احتجاج. وليس ذلك فقط، وإنّما بإشارة يوقِف خُوزي وآخرين يريدون التفاعل والدفاع عنه ويقول: «دعوهم. إنّني أتحمّل أكثر مِن ذلك مِن أجل خلاص نَفْس! إنّني أغفر لهم!»
زينون، الذي مِن أنطاكية، والذي لم يُفارق أبداً المعلّم، يهتف: «الآن، حقّاً، أنا أعلم مَن أنتَ! إله حقّ، لا خطيب دجّال! فالمرأة اليونانيّة قد قالت الحقيقة! إنّ كلامكَ عند الحمّامات الساخنة قد خَيَّبَ أملي، لكنّ كلامكَ الحاليّ قد استمالني. المعجزة أدهشتني، مغفرتكَ للمسيئين قد أَسَرَتني. الوداع يا معلّم. سوف أفكّر بكَ وأتأمّل بكلامكَ.»
«وداعاً يا رجل. ليضئ النور قلبكَ.»
خُوزي يلحّ مجدّداً وهم يمضون صوب مكان الرسوّ، فيما يجري شجار عنيف على السدّ بين الرومان واليونانيّين مِن طرف، والإسرائيليّين مِن الطرف الآخر.
«تعال! فقط لبضع ساعات. الأمر ضروريّ. سوف أعيدكَ بنفسي. إنّكَ عطوف مع البغايا، أفتكون قاسياً معنا؟»
«حسناً. سوف آتي. بالفعل، ذلك ضروريّ...» يلتفت إلى الرُّسُل الذين أصبحوا في القوارب: «هيّا انطلقوا الآن. سوف ألحق بكم...»
«أتذهب وحدكَ؟» يَسأَل بطرس الذي لا يبدو مسروراً كثيراً.
«إنّني مع خُوزي...»
«همم! ألا يمكننا أن نأتي نحن؟ لماذا يريدكَ مع أصدقائه؟ لماذا لم يأتِ إلى كفرناحوم؟»
«لقد أتينا. أنتم لم تكونوا هناك.»
«كان بوسعكم انتظارنا. وكفى!»
«على العكس فقد اقتفينا أثركم.»
«تعالوا الآن إلى كفرناحوم. أيتحتّم على المعلّم أن يأتي إليكم؟»
«سمعان على حقّ» يقول الرُّسُل الآخرون.
«إنّما لماذا لا تريدونه أن يأتي معي؟ ألعلّها المرّة الأولى التي يأتي فيها إلى منزلي؟ ألعلّكم لا تعرفونني؟»
«بلى، نحن نعرفكَ. ولكنّنا لا نعرف الآخرين.»
«وممّا أنتم خائفون؟ أَمِن أن أكون صديقاً لأعداء المعلّم؟»
«أنا لا أعلم شيئاً! لكنّني أتذكّر نهاية يوحنّا، النبيّ!»
«سمعان! إنّكَ تهينني. أنا إنسان شريف. أقسم لكَ بأنّ شعرة مِن رأس المعلّم لا تُمَسّ قبل أن أُمَزَّق أنا. عليكَ أن تصدّقني! إنّ سيفي في خدمته...»
«إيه!... إذا ما قاموا بتمزيقكَ... فبماذا ينفع ذلك؟ بعدها... نعم، أنا أصدّق ذلك، إنّني أصدقكَ... ولكن ما أن تموت، حتّى يحين دوره. إنّني أُفضّل مجذافي وقاربي الوضيع على سيفكَ، وفوق ذلك قلوبنا البسيطة أن تكون في خدمته.»
«إنّما معي مَنَاين. أتثق بمَنَاين؟ وإليعازر، الفرّيسيّ، الذي تعرفه، وتيمون، رئيس المعبد، ونثنائيل بن فادا. إنّكَ لا تعرفه، ولكنّه قائد مهمّ، وهو يريد التحدّث إلى المعلّم. وهناك يوحنّا، المدعو أنتيباس بن أنتيباتريد، المفضّل لدى هيرودس العظيم، والآن هو مسنّ وصاحب نفوذ، مالك وادي غاهاس كلّه، و...»
«هذا يكفي! إنّكَ تسرد أسماء عظيمة، لكنّها لا تعني لي شيئاً، باستثناء اثنين... سوف آتي أنا أيضاً...»
«لا. فهم يريدون التحدّث إلى المعلّم...»
«يريدون! ومَن هم؟ يريدون؟! وأنا لا أريد. إلى القارب هنا يا معلّم، ولنمضِ. لا أريد أن أسمع عن أحد، أنا لا أثق إلّا بنفسي. هيّا يا معلّم. وأنتَ امضِ بسلام، وقل لأولئك الناس بأنّنا لسنا مشرّدين. إنّهم يعرفون أين يمكنهم أن يجدونا» ويدفع يسوع بشيء مِن الخشونة فيما خُوزي يحتجّ بصوت عالٍ.
يسوع يحسم الأمر بشكل قطعي: «لا تخف يا سمعان. لن يصيبني أيّ سوء. أعرف ذلك. وخير لي أن أذهب. لصالحي. افهمني...» ويحدّق به بعينين رائعتين كما ليقول له: «لا تلحّ. افهمني. هناك أسباب تشير عليَّ بالذهاب.»
سمعان يَرضَخ مُكرَهاً. إنّه يَرضَخ كما لو أنّه مهزوم... حينئذ يتمتم همساً، بتعابير استياء.
«اذهب مطمئنّاً يا سمعان. أنا بذاتي سوف أعيد لكَ ربّكَ وربّي» يَعِد خُوزي.
«متى؟»
«غداً.»
«غداً؟! أيلزم كلّ هذا الوقت لقول كلمتين؟ نحن الآن بين الساعة الثالثة والسادسة... وإذا لم يكن معنا قبل المساء، فسوف نأتي إليكَ، لا تنسَ هذا. ولن نكون وحدنا...» ويقول ذلك بنبرة صوت لا تترك مجالاً للشكّ حول نواياه.
يضع يسوع يده على كتف بطرس. «إنّني أقول لكَ يا سمعان بأنّهم لن يُسبّبوا لي أيّ أذىً. أَظهِر أنّكَ تؤمن بطبيعتي الحقّة. أنا مَن أقول لكَ. أنا أعرف. لن يؤذوني. إنّهم فقط يريدون أن يشرحوا لي بعض الأمور... اذهب... خُذ المرأة إلى طبريّا، توقّف كذلك عند يُوَنّا، ويمكنكَ أن ترى بأنّهم لا يخطفونني بقوارب وجنود...»
«حسناً، إنّما أنا أعرف منزله (ويشير إلى خُوزي). وأعلم أنّ هناك أرضاً وراءه، وهي ليست جزيرة، في الخلف جلجالا وجَمَلا، عِرى، أربيلا، جيراسا، بصرى، بيلّا وراموث وبلدات أخرى عديدة!...»
«إنّما لا تخف، أقول لكَ! كُن مطيعاً. أعطني قبلة يا سمعان. اذهب! وأنتم أيضاً» يقبّلهم ويباركهم. وعندما يرى القارب يبتعد، يصيح بهم: «لم تحن ساعتي. وطالما لم تأتِ ساعتي، فلا شيء ولا أحد سوف يكون قادراً على رفع يده عليَّ. الوداع يا أصدقائي.»
يستدير نحو يُوَنّا التي تبدو مستاءة وقَلِقة بشكل واضح، ويقول لها: «لا تخافي. إنّه مِن الجيّد أن يحدث ذلك. اذهبي بسلام.» ويقول لخُوزي: «هيّا بنا، كي أبيّن لكَ بأنّني لستُ خائفاً. وكي أشفيكَ...»
«أنا لستُ مريضاً يا ربّ...»
«بلى. أنا أقول لكَ. وكثيرون معكَ. هيا بنا.»
يصعد إلى القارب السريع والفخم، ويجلس. المجذّفون يبدأون بالتجذيف فوق المياه الهادئة، مُناوِرين لتجنّب التيار القويّ عند آخر البحيرة، حيث تصبّ المياه في مجرى النهر.
--- نهاية الجزء السادس---