ج4 - ف117
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
117- (سِنْتيخي، العَبْدة اليونانيّة)
15 / 08 / 1945
لستُ أرى مدينة دورا. الشمس توشِك على المغيب. والمسافرون يسيرون باتجاه القيصريّة. ولكنّني لم أرَ التوقّف في دورا. ربّما قد كان مجرّد توقّف، وليس هناك ما يشار إليه فيه. أمّا البحر فيبدو متوهجاً في سكونه، ويعكس لون السماء الأحمر، الأحمر الذي يكاد يكون وهميّاً، لشدّته. تَحسَبه دَماً مُراقاً على قبّة السماء.
ما زال الطقس حارّاً، رغم أنّ الهواء البحريّ، هو الذي يَجعَل تلك الحرارة قابلة للتحمُّل. ما زالوا يَسيرون بمحاذاة البحر لتحاشي حرارة الأرض الجافّة. كثيرون خَلَعوا نِعالهم ورَفَعوا ثيابهم لينغَمِسوا في الماء. وبطرس يُعلِن: «لو لم تكن النساء معنا لتعرَّيتُ تماماً، وانغَمَستُ في الماء حتّى العنق.»
إنّما كان على بطرس الخروج مِن الماء، لأنّ مريم المجدليّة، التي كانت في المقدّمة مع التلميذات الأُخريات، تتراجع إلى الخلف، وتقول: «يا معلّم، إنّي أعرف هذه النواحي جيّداً. أترى هناك، حيث يبدو في البحر خطّاً أصفر اللون وسط زرقته؟ هناك مجرى مائي محمّل دائماً، حتّى في الصيف، ويجب معرفة كيفية اجتيازه...»
«لقد اجتَزنا مثله كثيراً! ولن يكون أسوأ مِن نهر النيل! فذاك كذلك سوف نجتازه.» يقول بطرس.
«صحيح أنَّه ليس النيل، إنّما في مياهه، وعلى شواطئه، تُوجَد حيوانات مائية يمكنها أن تُسبِّب الأذى. فيجب ألّا يَمرّ أحد دون حيطة وحَذَر، ولا خَالِعاً النَّعل، لتفادي الجِّراح.»
«آه! ما تراها تكون؟ تماسيح؟»
«أحسنتَ القول يا سمعان. بالضبط، هي تماسيح، صغيرة صحيح، ولكنّها قادرة على منعكَ مِن السّير لفترة لا بأس بها.»
«ماذا تَفعَل هناك؟»
«لقد جُلِبَت إلى هناك مِن أجل العبادة، أظنّ ذلك منذ الحَقبَة التي استولى فيها الفينيقيّون على البلد. وقد بَقِيَت هناك، وهي تَصغُر حجماً باستمرار، ولكنّها لم تصبح أقلّ عدوانيّة. لقد زَحَفَت مِن المعابد واستوطَنَت في وَحل مَجرى الماء. الآن هي كالعظاءات الضخمة، إنّما لها أسنان، وأيّة أسنان! يأتي الرومانيّون إلى هنا في رحلات صيد وحَفلات لَهو مختلفة... وقد أتيتُ معهم. لقد كانوا يَفعَلون أيّ شيء لـ... لقتل الوقت. ثمّ إنّ جلودها جميلة جدّاً، وتُستَخدم في استعمالات مختلفة. فاسمَحوا لي إذن، بسبب خبرتي بالأماكن، أن أقودُكم.»
«حسناً. أُحِبّ أن أراها...» يقول بطرس.
«قد نرى بعضاً منها، رغم أنّها تُوشِك على الانقراض، بسبب الصيد الجّائر.»
يُغادِرون الشاطئ، ويتوجّهون صوب الداخل، إلى أن يَبلغوا طريقاً رئيسيّة في منتصف الدرب، بين الروابي والبحر. يَصِلون إلى جسر شديد التقوّس، على نهر صغير، مجراه عريض، إنّما حيث يجري، فمياهه ضَحلَة، وسط المجرى، وحيث لا ماء، يُشاهَد الخيزران والقَصَب، شِبه جاف، بسبب حرّ الصيف. وفي فصول أخرى، تُشكِّل جُزُراً صغيرة وسط الماء. على الشواطئ، من جهة أخرى، أدغال وأشجار كثيفة.
رغم أنّ المسافرين يُفتِّشون كلّ شيء بالنَّظَر، فإنّهم لَم يَروا أيّ حيوان. وقد خاب أمل كثيرين. ولكن في اللحظة التي كادوا فيها إنهاء اجتياز الجسر، الذي قَوسه الوحيد عال جدّاً، وقد يكون ذلك كي لا يحمله التيار أثناء الفيضان -إنّ بنيانه متين، رومانيّ بدون شكّ.- تُطلِق مرثا صيحة حادّة وتَهرب مُتراجِعة إلى الخلف، مُروَّعة. فإنّ عظاءة ضخمة، وهي لا تبدو خلاف ذلك، إنّما رأسها رأس تمساح تقليديّ، وُجِدَت في عرض الطريق، وهي تتظاهر بأنّها نائمة.
«ولكن لا تخافي!» تَهتف مريم المجدليّة. «عندما تكون هنا، هي لا تُشكِّل خطراً. الخطر يَكمُن عندما تكون مُختَبِئة، ويَمر فوقها أحدهم دون أن يراها.»
ولكن مرثا تبقى في الخلف بِحَذَر. وكذلك سُوسَنّة، فلا مزاح في ذلك... مريم التي لحلفى أكثر شجاعة، وبالمحافظة على الحَذَر، تبقى قرب وَلَدَيها، تتقدّم وتَنظُر. الرُّسُل غير خائفين، في الحقيقة، ويَنظُرون، ويُبدون تعليقاتهم على هذه الدابّة غير المستحَبَّة، التي تكرَّمَت وأدارت رأسها ببطء، لتُرى كذلك مِن الأمام. ثمّ تتظاهر بالحركة، وتبدو كأنّها تريد التوجه صوب أولئك الذين يضايقونها. صَرخة أُخرى مِن مرثا التي تتراجع، ثانية، إلى الخلف، وتقتدي بها الآن سُوسَنّة ومريم التي لحلفى. ولكن مريم المجدليّة تَلمّ حصاة وترميها على الدابة. وتلك، وقد تلقَّت الضربة في كشحها، تَهبط مِن الشاطئ وتغوص في الماء.
«تقدّمي أيّتها الخَوّافة، لَم تَعُد هنا.» تقول لأختها، وتقترب النساء مِن بعضهن.
«ومع ذلك، فهي دابّة قَذِرَة.» يُعلِّق بطرس.
«هل صحيح، يا معلّم، أنّ أضاحي بشريّة كانت تُقَدَّم لها في وقت ما؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.
«كان التمساح يُعتَبَر حيواناً مقدّساً. كان بمثابة آلهة، وكما نُتمِّم نحن الأضاحي المقدَّمة لإلهنا، فَهُم، الوثنيّون المساكين، كانوا يَفعَلون ذلك، بالممارسات والأخطاء التي كان يَفرضها ظَرفُهم.»
«ولكن، هل انتهى ذلك الآن؟» تَسأَل سُوسَنّة.
«لستُ أظنُّ أنّ ممارسة ذلك في الأصقاع الوثنيّة مِن الأمور المستحيلة.» يقول يوحنّا الذي مِن عين دور.
«يا إلهي! ولكن هل يُقدِّمونهم أمواتاً على الأقلّ؟»
«لا، بل يُقدِّمونهم أحياء، إذا كان ما يَزال يَحدُث. صبايا وصبياناً، بشكل عامّ. مِن أفضل الموجودين بين الشعب. أقلّه هذا ما قرأتُهُ.» ما زال يوحنّا يُجيب النساء اللواتي يَنظُرن مِن كلّ صوب خائفات.
«أنا، إذا ما فُرِضَ عليَّ الاقتراب منها، فإنّني أموت مِن الخوف.» تقول مرثا.
«حقّاً؟ ولكن هذا ليس بشيء أمام التمساح الحقيقيّ. فإنّه أطول ثلاث مرات على الأقلّ وأَضخَم.»
«وجائِع كذلك، فهذا كان شبعاناً مِن الثعابين والأرانب البرّية.»
«رحماكَ يا ربّ! ثَعابين كذلك! ولكن إلى أين أتيتَ بِنا يا سيّدي؟» تُتمتِم مرثا. إنّها خائفة إلى درجة أنّ الجميع قد استسلموا للضحك بلا مُقاومة.
هرمست، الذي ظَلَّ صامتاً حتّى الآن، يقول: «لا تخافوا أبداً، يَكفي إحداث أصوات كثيرة حتّى يهرب الكلّ. أنا عارف بذلك، فلقد كنتُ، ولمرّات عديدة، في مصر، الوجه البحريّ.
يُعاوِدون المسير وهم يُصفِّقون بأيديهم ويَضربون جذوع الأشجار. لقد تمَّ اجتياز الممرّ الخَطِر. واتَّخَذَت مرثا مكاناً لها قرب يسوع، وهي تَسأَل كثيراً: «أصحيح أنّه لَم يَعُد لها وجود الآن؟»
يَنظُر إليها يسوع ويهزّ رأسه مبتسماً، ولكنّه يُطمئِنها: «سَهل شارون ما هو إلّا جمال، وها نحن قد أدركناه. إنّما اليوم، في الحقيقة، النساء التلميذات قد فاجَأنَني! حقّاً لستُ أدري لماذا أنتِ هَلوعة إلى هذا الحدّ.»
«أنا نفسي لاأعرف. إنّما كلّ ما يَزحَف يُرهِبني. يبدو لي أنّني أُحِسُّ برودة تلك الأجسام، الباردة بالتأكيد والدَّبِقة. وأتساءل كذلك عن سبب وجودها. هل هي ضروريّة؟»
«يجب توجيه هذا السؤال إلى مَن صَنَعَها. إنّما ثِقي أنّه طالما هو صَنَعَها، فتلك إشارة إلى إنّها مفيدة، فهي ليست فقط لإبراز بطولة مرثا.» يَقول يسوع وعيناه تَسطَعان بِوَداعة.
«آه! سيدي! إنّكَ تمزح، وأنتَ محقّ. ولكنّني أخاف، ولن أتمكن مِن التغلّب على ذلك.»
«سوف نرى ... ماذا يتحرّك هناك، في ذاك الدَّغل؟» يقولها يسوع رافعاً رأسه وهو يَنظُر إلى الأمام، صوب تشابُك علّيق مع نباتات أخرى تتسلّق عليها مِن خلال سياج مُتراجِع عنها بفروعه القاسية بقدر ما أغصان النباتات الأخرى مَرِنة.
«أهو تمساح آخر يا سيّدي؟!...» تُتَمتِم مرثا هَلِعَة.
ولكن الصوت يَرتَفِع، ويَخرُج مِن هناك وجه آدمي، وجه امرأة. تَنظُر إلى كلّ أولئك البشر، وتتساءل إذا ما كانت سَتَهرُب عَبْر القرية، أو تختبئ في السّرداب البرّيّ. ولكنّ الفِكرة الأولى سيطَرَت عليها، وهَرَبَت مُطلِقة صيحة.
«مجذومة؟» «مجنونة؟» «مُستَحوَذ عليها؟» يتساءلون ويَظلّون في حَيرة.
ولكنّ المرأة تتراجع، لأنّ عربة رومانيّة تتقدّم مِن القيصريّة التي أَضحَت قريبة. وأَصبَحَت المرأة كَفَأر في مصيدة. لا تدري أين تذهب، لأنّ يسوع وأتباعه أَصبَحوا الآن قُرب الدَّغل الذي كان مَلجَأها، ولَم تَعُد قادرة على العودة إليه، وهي لا تريد المضيّ صوب العربة... فتُشاهَد، في بدايات ضبابيات المساء، حيث يَهبط الليل بسرعة بعد غَسَق قويّ، شابّة جميلة، رغم شعرها الأشعث وثيابها الممزَّقة.
«يا امرأة! تعالي هنا!» يَأمر يسوع.
تَمدّ المرأة ذراعيها متوسِّلة: «لا تؤذني!»
«تعالي هنا. مَن تكونين؟ لن أؤذيكِ.» يُكلِّمها يسوع بِلُطف يجعلها تَقتَنِع.
تتقدّم المرأة منحنية، وترتمي أرضاً قائلة: «أيّاً تكون فارحمني. اقتلني، إنّما لا تُسلِّمني إلى معلّمي. أنا عَبْدة فارَّة...»
«مَن كان معلّمكِ؟ ومِن أين أنتِ؟ حتماً أنتِ لستِ يهودية. فلهجتكِ تُشير إلى ذلك، وكذلك ثوبكِ.»
«أنا يونانيّة. العَبْدة اليونانية لـ... آه! احجبوني! سَتَصِل العربة...»
يتجمّعون حول المسكينة التي تَجلس القُرفصاء على الأرض. الثوب الذي مَزَّقَه العلّيق يَكشِف عن الكتفين، وقد شَقَّت الضربات فيهما أخاديد، وتَرَكَت الخدوش عليهما آثاراً. تمرّ العربة ولم يُبْدِ أحد مِن شاغليها اهتماماً بالجماعة الواقفة قرب السياج.
«لقد ذَهَبوا بعيداً، تكلّمي. إذا كان بإمكاننا مساعدتكِ فسنساعدكِ.» يقول يسوع واضعاً رؤوس أصابعه على الشعر الأشعث.
«أنا سِنْتيخي، عبدة يونانية لنبيل رومانيّ مِن أتباع الوالي.»
«إذن فأنتِ عَبْدة فاليريان!» تَهتف مريم المجدليّة.
«آه! الرحمة! الرحمة! لا تشي بي إليه.» تتوسَّل المسكينة.
«لا تخافي.فأنا لن أتكلّم مع فاليريان مطلقاً.» تُجيب مريم المجدليّة. وتَشرَح ليسوع: «إنّه أحد أغنى الرومانيّين المتواجدين هنا، وأكثرهم إثارة للاشمئزاز. وبِقَدر ما هو مُقرِف هو غَليظ القلب.»
«لماذا هَرَبتِ؟» يَسأَل يسوع.
«لأنّ لي نَفْساً. فأنا لستُ بضاعة... (تتجاسر المرأة عندما ترى أنّها وَجَدَت أُناساً يتعاطفون معها) أنا لستُ بضاعة. هو اشتراني، صحيح. إنّما يمكنه شِراء شخصي لتزيين بيته، لِأُبهِج أوقاته بالقراءة، لأخدمه، إنّما ليس أكثر. أمّا نَفْسي فهي تخصّني! وهي ليست شيئاً يُشترى. وهو يريدها كذلك.»
«كيف تَعلَمين أنّ لكِ نَفْساً؟»
«أنا لستُ أُمّيّة، يا سيّدي. إنّني غنيمة حرب مُنذ صِباي، إنّما لستُ مِن العَوام. إنّه معلّمي الثالث، وهو كريه مَقيت. إنّما يبقى لي كلام فلاسفتنا. وأَعلَم أنّنا لسنا نَملك الجَّسد فقط، بل هنا شيء مُحتوى فينا، وهو لا يَفنى، شيء ما ليس له اسم مُحدَّد بالنسبة إلينا. إنّما منذ وقت قريب أَصبَحتُ أعرف اسمه. فلقد مَرَّ رجل ذات يوم في القيصريّة، وكان يَجتَرِح المعجزات، ويتحدّث أفضل مِن سقراط وأفلاطون. وقد رُوِيَ عنه الكثير في الحَمَّامات العموميّة وفي قاعات الولائم أو في الأروقة الـمُذهَّبة، مُلَوِّثين اسمه الـمَهيب وهُم يتلفّظون به في قاعات الفجور الدَّنِسة. ومعلّمي الذي أضحى يَستَشعِر بوجود شيء لا يُفنى، وهو لا يخصّ سوى الله، ولا يمكن شراؤه كالبضاعة في سوق العبيد، جَعَلَني أُعيد قراءة أعمال الفلاسفة، لمقارنتها والبحث فيما إذا كان ذلك الشيء المجهول، الذي سَمَّاه الرجل القادم إلى القيصريّة "النَّفْس"، قد أُشير إليه فيها. ولقد جَعَلَني أنا أقرأ ذلك! أنا التي كان يُريد إخضاعي لِغرائزه! وهكذا عَلِمتُ أنّ ذلك الشيء الذي لا يَفنى هو النَّفْس. وبينما كان فاليريان والذين على شاكِلَته يَستَمِعون إلى صوتي، وبين تَجشّؤ وتثاؤُب، كانوا يُحاوِلون الإدراك والمقارنة والمناقشة، وكنتُ أنا أجمع أحاديثهم، مُقرِّبة كلام ذلك المجهول إلى كلام الفلاسفة، وكنتُ أَضَعها هنا، مُتخيِّلة عِزّة النَّفْس تزداد قوّة باستمرار، لرفض مَيله... وضَرَبَني حتّى كاد يُميتني، منذ بضعة ليال، لأنّني أقصيتُه بأسناني... وهربتُ في اليوم التالي... ومنذ خمسة أيّام وأنا أعيش في هذا الدغل، أقطُف التوت والتين ليلاً. ولكنّ الأمر سينتهي بي إلى الاعتقال. فهو، بكلّ تأكيد، يبحث عنّي. لقد اشتراني بسعر مرتَفِع جدّاً، وأنا أُرضي حواسه كثيراً، لذا هو لن يتركني أرحل... ارحَمني! أطلُب ذلك منكَ، فأنتَ يهوديّ، وبالتأكيد أنتَ تَعلَم أين يكون، أرجوكَ خُذني إلى ذاك المجهول الذي يتحدّث إلى العبيد ويتكلّم عن النَّفْس. قِيل لي إنّه فقير. وسوف أُكابِد الجوع ولكنّني أودُّ لو أكون قريبة منه لأتثقّف وأسمو. فالمرء يُصبِح وحشاً لمجرّد أنّه يحيا مع وحوش، حتّى ولو قاوَمَهم. أريد استعادة كرامتي الوجدانيّة.»
«ذلك الرجل المجهول، الذي تبحثين عنه، أمامكِ هو.»
«أنتَ؟ يا إله الأكروبول المجهول، سلاماً!» وتَحني جبهتها حتّى الأرض.
«لا يمكنكِ البقاء هنا. وأمّا أنا فماضٍ إلى القيصريّة.»
«لا تتركني يا سيّدي!»
«لن أترككِ... إني أُفكِّر.»
«يا معلّم، بالتأكيد، عَرَبَتنا في المكان المتّفق عليه تنتَظِر. أَرسِل مَن يُخطِرهم. في العربة ستكون بأمان كما في بيتنا.» تَنصَح مريم المجدليّة.
«آه! نعم يا سيّدي. عندنا، مكان إسماعيل العجوز. وسوف نُثقِّفها بتعاليمكَ. وسوف تُنتَشَل مِن الوثنيّة.» تتوسّل مرثا.
«هل تريدين المجيء معنا؟» يَسأَل يسوع.
«مع أيّ مِن أتباعكَ، على ألّا أكون مع ذلك الرجل. ولكن... ولكن هنا امرأة قالت لي إنّها كانت تعرفه. أفلن تَخونَني؟ ألن يأتي رومانيّون إلى بيتها؟ ألا...»
«لا تخافي. لا يأتي رومانيّون إلى بيت عنيا، خاصّة مِن تلك النوعيّة.» تقول مريم المجدليّة لِتُطمئِنها.
«سمعان وسمعان بطرس... اذهبا وأتيا بالعربة. سننتظركما هنا. وبعد ذلك سوف ندخُل المدينة.» يَأمُر يسوع.
عندما تُعلِن العَرَبة الثقيلة المغطّاة عن وصولها، بصوت الحوافر والإطارات، وبالقنديل المعلَّق في الأعلى، يَنهَض الذين كانوا يَنتَظِرون على قارعة الطريق، حيث تَعشّوا بالتأكيد، ويتقدّمون إلى الطريق. تتوقّف العربة مُترجرِجة على حافة الطريق المتصدِّعة، ويَنـزل منها بطرس ويوحنّا، تتبعهما مباشرة امرأة مُسِنّة، تَهرَع لمعانقة مريم المجدليّة قائلة: «لا أريد أن أتأخّر لحظة واحدة لأقول لكِ إنّني سعيدة، وأقول لكِ إنّ أمكِ تَبتَهِج معي، وإنّكِ عُدتِ وردة بيتنا الشقراء، كما عندما كنتِ تنامين في مهدكِ بعد رضاعتكِ صدري.» ولا تعود تَنتهي مِن تَقبيلها.
تبكي مريم بين ذراعيها.
«يا امرأة، أَعهَد إليكِ بهذه الشابة، وأَطلُب منكِ تضحية الانتظار هنا الليل كلّه. غداً يمكنكِ الذهاب إلى أوّل قرية على الطريق القنصليّة، والانتظار. وسوف نأتي قبل الساعة الثالثة.» يقول يسوع للمُربّية.
«ليكن كلّ شيء حسب مشيئتكَ، أيّها المبارَك! اسمح لي فقط أن أعطي مريم الثياب التي جَلَبتُها لها.» وتُعاوِد الصعود إلى العربة، مع مريم الكُلّيّة القداسة ومريم ومرثا. وعندما يَخرجن، تكون مريم المجدليّة كما سوف نراها، فيما بعد، على الدوام: ثَوب بسيط، وِشاح كتّاني فضفاض، ومِعطف دون تزيينات.
«اذهبي باطمئنان يا سِنْتيخي. غداً، سنأتي نحن كذلك. وداعاً.» يقول يسوع محيّياً إيّاها. ويُتابع الطريق إلى القيصريّة…
الطريق البحرية تعجّ بالناس الذين يتنـزّهون على ضوء المصابيح أو الفوانيس التي يَحملها العبيد، ويتنشّقون الهواء البحريّ الذي يُنعِش كثيراً الرئتين التَّعِبَتَين مِن حرّ الصيف الخانِق. وهؤلاء المتنـزِّهون ينتمون إلى أغنياء الرومانيّين. فاليهود في بيوتهم، ويتلقّون الانتعاش مِن على شُرفاتهم. والطريق البحرية تُشبِه صالة رَحبَة جدّاً في وقت الزيارات. التنـزّه هناك يَنطَوي على ملاحظة تَفاصيل الفرد كلّها. ومع ذلك فإنّ يسوع يَمرّ مِن هناك... وعلى مدى المتَنَزَّه كلّه، دون الاكتراث بِمَن يَنظُر إليه، ويُعلِّق، ويَسخَر.
«يا معلّم، أأنتَ هنا؟ في هذه الساعة؟» تَسأَل ليديا الجالسة على أريكة حَمَلَها الصبيّة إلى حافة الطريق، وتَنهَض.
«أنا آتٍ مِن دورا، وقد تأخَّرتُ. أَبحَث عن مأوى.»
«وأقول لكَ: هو ذا بيتي.» وتُشير إلى بناء جميل خَلفَها. «ولكنّني لستُ أدري إذا...»
«لا، أشكركِ، لا أَقبَل، فَمَعي أصحاب كثيرون، وقد سَبَقَنا اثنان منهم لإخطار أناس أعرِفهُم. أظنّهم سوف يستضيفوننا.»
وتَنظُر ليديا كذلك إلى النساء اللواتي أشار إليهنّ يسوع مع التلاميذ، وقد تَعرَّفَت في الحال على مريم المجدليّة.
«مريم؟ أهذا أنتِ؟ إذن فهذا صحيح؟»
عينا مريم تُنبِئان عن عذاب غزالة في موقف لا تُحسَد عليه. وهي على حقّ، فليست ليديا هي الوحيدة التي عليها مواجهتها، بل هناك أشخاص عديدون يَنظُرون إليها... بينما هي تَنظُر إلى يسوع وتستمدّ منه الشجاعة.
«صحيح.»
«إذن، فلقد خسرناكِ.»
«لا بل وجدتُّموني. على الأقلّ، آمل أن ألقاكم يوماً، وبِصَداقة فُضلى، على الدرب الذي وجدُّته أخيراً. قولي ذلك لكلّ الذين أعرفهم، أرجوكِ. وداعاً ليديا. انسي كلّ الشرّ الذي رأيتِني أفعله، أَطلُب منكِ الصَّفح...»
«ولكن يا مريم! لماذا تَحطّين مِن قدركِ؟ فلقد عشنا حياة الثراء ذاتها، والبطالة، وليس هناك...»
«لا، لقد عشتُ حياة أسوأ. ولكنّني تخلَّصتُ منها، وإلى الأبد.»
«تحيّتي لكِ يا ليديا.» يُوجِز يسوع ويتوجّه صوب ابن عمّه يوضاس الـمُقبِل إليه بصحبة توما.
تَحتَفِظ ليديا بمريم المجدليّة لحظة أخرى: «ولكن قولي لي الحقيقة، الآن وقد أَصبَحنا وَحدَنا: هل أنتِ حقّاً مُقتَنِعة؟»
«لستُ مُقتَنِعة وحسب، بل أنا سعيدة لكوني تلميذة. لستُ أندم سِوى على شيء واحد: أنّني لم أتعرّف قبل ذلك على النور، وبدل التغذية به، فقد أكلتُ الحمأة. وداعاً ليديا.»
وتَرنّ الإجابة بكلّ وضوح، في الصمت الذي خَيَّمَ حول المرأتين. ولَم يَعُد أحد مِن الحاضِرين الكثيري العدد يتكلّم…
تلتَفِت مريم، وتُحاوِل اللّحاق بالمعلّم مُسرِعة.
يَقطَع شاب عليها الطريق: «أهذه هي آخر صرعات جنونكِ؟» يقول ذلك مُحاوِلاً عِناقها. ولكنّه، بما إنّه شِبه سكران، لم ينجح، وتهرب منه مريم وهي تصيح به: «لا، بل هذه هي حِكمتي الوحيدة.»
وتلحَق برفيقاتها المتحجّبات كالـمُسلِمات، لشدَّة نفورِهنَّ مِن أن يراهنَّ أولئك الخَليعون.
«مريم.» تقول مرثا متأثّرة. «هل تألَّمتِ كثيراً؟»
«لا. إنّه على حقّ. فالآن لم أعد أتألّم مِن ذلك مطلقاً. إنّه على حقّ، هو...»
يَدور الجميع عَبْر درب مُظلِم، لِيَدخُلوا بعد ذلك إلى بيت رَحب، هو بالتأكيد نَزْل، لِيُمضوا فيه الليل.