ج5 - ف17
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
17- (الغد في الإسكندروسين)
13 / 11 / 1945
دار الإخوة الثلاثة نصفها في الظلّ والنصف الآخر تَسطَع فيه الشمس. وهي مزدحمة بالناس الذين يجيئون ويروحون مِن أجل مشترياتهم، بينما خارج الباب، في الساحة الصغيرة، يُسمع ضجيج سوق الإسكندروسين بحركة جيئة وذهاب المشترين والباعة الـمُبهَمَة، مع ضجّة الحمير والنِّعاج والحِملان والدجاج. يُفهم مِن ذلك أنّ هنا التعقيدات أقلّ، وتُجلَب حتّى طيور الدجاج إلى السوق دون خوف مِن التلوّث مِن أيّ نوع. نهيق وثغاء وقرق الدجاج وكوكوريكو الانتصار للديكة تختلط بأصوات البشر في جوقة فرحة تتصاعد أحياناً إلى طبقات صوتيّة حادّة ودراماتيكيّة على أثر مُشادَّة.
حتّى في دار الإخوة تُسيطر ضجّة مُبهَمَة وتَحدُث مشادّة إن مِن أجل السعر، وإن لغرض ما أخذه زبون وكان آخر يريد الحصول عليه. ولا تَغيب كذلك شكوى المتسوّلين المثيرة للشفقة، التي تتسرّب مِن الساحة عَبْر البوّابة طُلبة مُعبّرة عن بؤسهم في جوّ حزين، وكأنّها شكوى مُحتَضَر.
جنود رومانيّون يَروحون ويجيئون كمعلّمين في المخزن والساحة. أظنُّ أنّهم شُرطة حفظ النظام، ذلك أنّني أراهم مسلّحين، وما مِن أحد بمفرده، وسط الفينيقيّين المسلّحين جميعهم.
يسوع أيضاً يروح ويجيء في الدار، يتمشّى مع الرُّسُل الستّة، مُنتَظِراً اللحظة المناسبة للتحدّث. ثمّ يَخرُج لبرهة إلى الساحة مارّاً قرب المتسوّلين الذين يعطيهم الصَّدَقَة. وعلى مدى بضعة دقائق يتلهّى الناس بالنَّظَر إلى مجموعة الجليليّين والتساؤل مَن تراهم يكونون هؤلاء الغرباء. وهناك مَن يُجيب لأنّهم سألوا الإخوة الثلاثة عَمَّن يكون ضيوفهم.
هَمهَمة تَتبع خطوات يسوع الذي يمضي بسكينة مداعباً الأطفال الذين يصادفهم على دربه. ووسط الهمهمة يوجد كذلك هزء وأوصاف لليهود فيها القليل مِن التملّق، وكذلك رغبة نزيهة بسماع هذا «النبيّ»، هذا «الرابّي»، هذا «القدّيس»، هذا «مَسيّا» إسرائيل، وهذه هي الأسماء التي يُطلقونها عليه أثناء كلامهم، حسب درجة إيمانهم واستقامة نفوسهم.
أَسمَع اثنتين مِن الأُمّهات: «ولكن هل هذا صحيح؟»
«دانيال قال لي ذلك، لي أنا مباشرة. وقد تحدّث في أورشليم إلى أناس رأوا معجزات القدّيس.»
«نعم، اتفقنا! ولكن هل هو هذا الرجل بالذات؟»
«آه! قال لي دانيال إنّه لا يمكن أن يكون إلّا هو، بسبب ما يقول.»
«إذن... ما قولكِ؟ هل يُنعِم عليَّ حتّى ولو لم أكن سِوى صابئة؟»
«أقول نعم... حاولي. قد لا يعود إلينا أبداً. حاولي، حاولي! وهو حتماً لن يُسيء إليكِ!»
«أنا ذاهبة إليه» تقول المرأة القصيرة وقد أَهمَلَت بائع الأدوات المنـزليّة الذي كانت تساومه على صحون؛ والبائع الذي سَمِع حديث المرأتين، وقد خاب أمله، وسَخط بسبب البيعة التي تبخّرت في الهواء، ويثور على المرأة التي بَقيَت، موجّهاً إليها الشتائم مثل: «صابئة ملعونة. دم يهوديّ. امرأة مُباعة» إلخ…
أَسمَع رَجُلين وَقُورين ومُلتَحِيين: «أودُّ لو أَستَمِع إليه. يُقال إنّه رابّي عظيم.»
«بل قام نبيّ. أعظم مِن المعمدان. لقد قال لي إيلي أشياء كثيرة! أموراً كثيرة! إنّه على اطّلاع، ذلك أنّ له أُختاً متزوّجة مِن أحد خُدّام رجل ثريّ جدّاً مِن إسرائيل، وللاطّلاع على أخبارها يَستَعلم مِن الخُدّام. وهذا الثريّ هو صديق مقرّب مِن الرابّي...»
ثالث، وقد يكون فينيقيّاً، سَمِع الحديث لأنّه كان قريباً منهما، فَيُلِج وجهه المراوغ بينهما، ويقول بسخرية: «يا للقداسة البهيّة! المكبوسة في الغنى! برأيي، على القدّيس أن يعيش بفقر!»
«اصمت يا دورو، أيّها اللسان الملعون. فأنتَ لستَ أهلاً، كوثنيّ، لأن تحكم على هذه الأمور.»
«آه! أنتما أهل لذلك، أنتَ بشكل خاصّ، يا صموئيل! الأفضل لكَ أن تدفع ما لي عليكَ مِن دَين.»
«خُذ! ولا تَعُد تحوم حولي يا مصّاص الدماء في وجه إله الريف فوني! (إله وثني)»…
أَسمَع عجوزاً شبه أعمى، تُرافقه فتاة صغيرة، يَسأَل: «أين؟ أين هو مَسيّا؟» وتصرخ الفتاة: «دعوا العجوز مرقس يمرّ! مِن فضلكم قولوا للعجوز مرقس أين يمكن إيجاد مَسيّا!»
والصوتان: صوت العجوز الضعيف والمرتجف، وصوت الفتاة فضّيّ الرنّة والواثق، يَنتَشِران في الساحة، دونما جدوى، إلى أن قال رجل آخر: «هل تَطلبان الرابّي؟ لقد عاد إلى بيت دانيال. وها هو قد توقَّفَ ليتحدّث إلى المستجدّين.»
وأَسمَع جنديّين رومانيّين: «المفروض أنّه هو الملاحق مِن قِبَل اليهود، ذوي الجلد الناعم! ولمجرّد النَّظَر إليه نرى أنّه أفضل منهم.»
«لذلك هو يُسبّب لهم المتاعب!»
«هيّا بنا لنقول ذلك لحامل الراية. إنّها الأوامر.»
«أمر غبيّ، يا كايوس! تخاف روما مِن الحِملان، وتتحمّل ، بل قل، تُداعِب النّمور.» يقول شيبون.
«لا يبدو لي ذلك، يا شيبون! فبنطس يَقتُل بسهولة!» يقول كايوس.
«نعم. ولكنّه لا يُغلِق بابه في وجه الضِّباع الذين يتملّقونه.» يقول شيبون.
«السياسة، يا شيبون! السياسة!» يقول كايوس.
«جُبن، يا كايوس وحماقة. فعليه أن يكون صديقاً لهذا، ليحظى بالعَون في المحافظة على طاعة حثالة الناس الآسيويّين هؤلاء. بنطس لا يُجيد خدمة روما بإهماله هذا الرجل الصالح، وبمجاملة السيّئين.» يقول شيبون.
«لا تنتقد الحاكم. نحن جنود، والرئيس مقدّس كآلهة. لقد أقسمنا على طاعة قيصر الإلهيّ، والحاكم هو مُمثّله.» يقول كايوس.
«هذا يتماشى مع ما يخصّ الواجب تجاه الوطن المقدّس والخالد. إنّما هذا لا يلائم الحُكم الداخليّ.» يقول شيبون.
«ولكنّ الطاعة تأتي مِن الحكم. وإذا كان حكمكَ ثائراً على أمر ويَنتَقِده، فلن تطيع طاعة كاملة. روما تعتمد على طاعتنا العمياء لتحمي فتوحاتها.» يقول كايوس.
«تبدو كالمحامي وتُجيد الكلام. ولكنّني ألفت انتباهكَ إلى أنّه وإن كانت روما مَلِكَة، فنحن لسنا عبيداً، بل رعايا. وليس لدى روما، بل ينبغي ألّا يكون لديها مواطنون عبيد. فالعبوديّة هي التي تفرض الصمت على عقل المواطنين. أنا أقول إنّ عقلي يَحكُم بأنّ بنطس يسيء التصرّف بإهماله هذا الإسرائيليّ، سَمِّه حسب ما يحلو لكَ: مَسيّا، قدّيس، نبيّ أو رابّي. وإحساسي أنّ بإمكاني قول ذلك، لأنّ إخلاصي لروما لم ينقص، ولا حبّي لها. بل على العكس، أنا أريده لأنّه، بتعليمه احترام القوانين والحاكم، كما يفعل، يُساهم في ازدهار روما.» يقول شيبون.
«أنتَ مثقّف يا شيبون... وتشقّ طريقكَ. وأنتَ منذ الآن متقدّم! أمّا أنا فجنديّ مسكين. ولكن، في هذه الأثناء، هل تَرَى هناك؟ تَـجَمُّع حول ذاك الرجل. هيّا بنا لننقل ذلك للرئيس.» يقول كايوس…
بالفعل، قرب بوّابة الإخوة الثلاثة، هناك جمع غفير حول يسوع، الظاهر جليّاً، بسبب طول قامته. ثمّ فجأة يرتفع صُراخ، ويضطرب الناس. يَهرَع البعض مِن السوق، بينما يبتعد آخرون صوب الساحة وما بعدها. وأسئلة... وأجوبة…
«ماذا حصل؟»
«ماذا هناك؟»
«الرجل الإسرائيليّ شفى العجوز مرقس!»
«الغِشاء الذي على عينيه قد اختفى.»
وبينما هُم على هذه الحال، يَدخُل يسوع إلى الدار، يتبعه جمع مِن الناس. في الخلف، أحد المستجدّين، يَجر نفسه بعناء، مُخلَّع يَزحَف بيديه أكثر ممّا يفعل بساقيه. ولكن، وإن تكن ساقاه معوجتين وفاقدتي القوّة، ولا يمكنه التقدّم بغير الاستعانة بالعكازات، فإنّ صوته قويّ جدّاً! وكأنّه صفارة إنذار تشقّ جوّ الصباح المشمس: «أيّها القدّيس! أيّها القدّيس! يا مَسيّا! أيّها الرابّي! ارحمني!» يهتف بغير توقّف.
يَعود رجلان أو ثلاثة: «وفّر جهدكَ! مرقس يهوديّ، أمّا أنتَ فلا.»
«يُغدِق النِّعم على الإسرائيليّين الحقيقيّين، وليس على أولاد الكلاب!»
«أُمّي كانت يهوديّة...»
«وضَرَبها الله بإعطائها إيّاكَ، أنتَ المسخ، بسبب خطيئتها. اذهب يا ابن الذئبة! عُد إلى مكانكَ، أيّها الكائن المجبول بالوحل...»
يَسند الرجل ظهره إلى الجدار، ذليلاً، وقد أخافه تهديد القبضات الممدودة…
يتوقّف يسوع، يلتفت، يَنظُر. يأمُر: «أيّها الرجل، هلمّ إلى هنا!»
يَنظُر الرجل إليه، ويَنظُر إلى الذين يهدّدونه... ولا يجرؤ على التقدّم.
يَشقّ يسوع صف الجمع الصغير، ويَمضي إليه. يُمسكه بيده، أي يضع يده على كتف ذاك، ويقول: «لا تخف. تعال معي.» وناظراً إلى الناس غليظي القلب، يقول بصرامة: «الله لكلّ الناس الذين يطلبونه وهُم رُحماء.»
يُدرِك الناس إلامَ يلمح، والآن هُم الذين يبقون في الآخر، أو بالحريّ يمكثون حيث هم.
يعود يسوع. يَراهُم مضطربين، ويَهمّون بالانصراف، فيقول لهم: «لا، تعالوا أنتم أيضاً. هذا يفيدكم كذلك، هذا يُقوِّم ويُقوّي نفسكم، كما يُقوِّم ويقوّي هذا الرجل لأنّه عَرف أن يؤمن. أيّها الرجل، أقول لكَ، ابرأ مِن عاهتكَ.» ويَسحبّ يده مِن على كتف الـمُخلَّع، بعد أن يَختَبِر ذاك هزّة.
يَنتَصِب الرجل بثقة على ساقيه، يَرمي عكّازتيه القديمتين ويهتف: «لقد شفاني! التسبيح لإله أُمّي!» ثمّ يجثو لِيُقبِّل طرف ثوب يسوع.
هياج الناس الذين يريدون أن يَروا، أو الذين رأوا ويَروون الحَدَث، هو الآن في ذروته. ففي عمق المدخل الواصل بين الساحة والدار، تُدوّي صيحات الجمع التي يتردّد صداها على جدران المخيّم.
خاف الجّند أن يكون قد حَصَلَ شجار -وهذا يحصل بسهولة في مثل تلك الأماكن حيث الاختلافات الكثيرة في الأصل والدّين- ويَهرع حامل الراية شاقّاً له طريقاً فجأة وهو يَسأَل ما الذي يجري.
«معجزة، معجزة! يونا المخلّع شُفِيَ. ها هو إلى جانب الرجل الجليليّ.»
يَنظُر الجنود بعضهم إلى بعض. لا يتكلّمون حتّى يمضي الجمع كلّهم، ولكن في المؤخّرة، تجمّع أناس آخرون كانوا في المخازن أو في الساحة، حيث لم يبقَ سِوى الباعة الذين ملأت قلوبهم الخيبة بسبب التحوّل المفاجئ الذي حوّل سوق ذاك اليوم إلى لا شيء. ثمّ، لدى مرور أحد الإخوة الثلاثة، يَسأَلون: «يا فليبّس، هل تَعلَم ماذا سيفعل الرابّي الآن؟»
«إنّه يتحدّث، يُعلِّم، وفي داري!» يقول فليبّس فَرِحاً.
يتساءل الجنود: «أنبقى؟ أنمضي؟»
«لقد أَمَرَنا الرئيس أن نُراقِب...»
«مَن؟ الرجل؟ ولكن بالنسبة إليه، يمكننا اللعب بالنرد على قارورة نبيذ قبرصيّ.» يقول شيبون، الجندي الذي كان يُدافِع عن يسوع لدى رفيقه.
«أنا أقول إنّه هو الذي يحتاج إلى أن نحميه، وليس قانون روما! هل تَرَونه هناك؟ ليس بين آلهتنا مَن هو أكثر وداعة، وفي الوقت ذاته يَظهَر بهذه الرجولة. وسَفَلة القوم هؤلاء غير جديرين بالاحتفاظ به، وغير الجديرين هُم فاسِدون على الدوام. فلنبق لحمايته. إذا لزم الأمر ننقذه ونُلاطِف أكتاف أولئك الـمُدانين.» يقول آخر. ومُداخَلَته هي مزيج مِن التهكّم والإعجاب.
«إنّكَ تُجيد الكلام يا بودنس. على كلّ حال فإن آزيو سينادي بروكوري الرئيس. يتخيّل دائماً بأنّ هناك مؤامرات ضدّ روما و... تَرقيات له مُكافأة على نشاطه الدؤوب والساهر مِن أجل مجد قيصر الإلهيّ والآلهة روما، أُمّ العالم وسيّدته. وسوف يَقتَنِع بأنّه لن يحصل هنا على شريطة ترقية ولا على إكليل.»
يَمضي جنديّ شاب جرياً ويعود كذلك وهو يقول: «بروكوري لن يأتي. وقد أَرسَلَ أكيلا أحد جنود الصفّ الثالث...»
«حسناً! حسناً! هو أفضل مِن سيسيليوس مكسيموس ذاته. لقد خَدَم أكيلا في أفريقيا، وفي غول (عند جبال البيرينيه) وكان في الأدغال التي سلبتنا فاروس وجيوشه. إنّه يَعرف اليونانيّين والبريتونيّين، وهو مُتبصِّر في التعرّف إليهم... آه! السلام! ها هو أكيلا الشهير! تعال، عَلِّمنا، نحن المساكين، كيفيّة التعرّف على قيمة الكائنات!»
«يَحيا أكيلا قائد الجند!» يَهتف الجنود جميعهم وهم يُصفِّقون للجندي العجوز ذي الندبات التي لا تحصى على وجهه وذراعه وبطّتي ساقيه العاريتين.
أمّا هو فيبتسم بدماثة ويهتف: «لِتَحيَ روما سيّدة العالم! وليس أنا الجنديّ المسكين. ما الذي يجري؟»
«يَجب حراسة ذلك الرجل الكبير والأشقر مثل النحاس الأكثر صفاء.»
«حسناً! ولكن مَن يكون؟»
«يُدعى مَسيّا. اسمه يسوع وهو مِن الناصرة. وهو، كما تَعلَم، الذي مِن أجله صدرت الأوامر...»
«هوم! ممكن... ولكن يبدو لي أنّنا نَجري خَلف السُّحُب.»
«يقولون إنّه يريد أن يُنصِّب نفسه مَلِكاً ويزيح روما ليحلّ محلّها. ولقد وَشَى به المجمع، والفرّيسيّون والصدّوقيّون والهيروديّون إلى البنطيّ. وأنتَ تَعلَم أنّ لدى اليهود هذه الدودة في الرأس، وبين الحين والحين يَخرج منهم مَلِك...»
«نعم، نعم... ولكن إذا كانوا قلقين مِن أجل هذا!... على كلّ الأحوال فلنسمع ما الذي يقوله. أخالُه يستعدّ للبدء بالحديث.»
«لقد عَلِمتُ مِن أحد جنود قائد المئة أنّ بوبليوس كينتيليانوس قد تحدَّث عنه كما عن فيلسوف إلهيّ... نساء الامبراطوريّة متحمّسات له...» يقول جنديّ آخر، وهو شابّ.
«أنا على ثقة مِن ذلك! أنا كذلك، كنتُ سأكون متحمّساً لو كنتُ امرأة، وكنتُ رَغِبتُ به في فراشي...» يُصرّح جنديّ شاب آخر ضاحكاً.
«اصمت، قليل الحياء! الفسق يلتهمكَ!» يمزح آخر.
«وأنتَ لا، يا فابيوس! حنّة، سيرا، ألبا ومريم...»
«اصمت يا سابين! إنّه يتحدث وأريد أن أسمع» يَأمر قائد الجنود، ويصمت الجميع.
يَصعد يسوع على كرسيّ مُلاصِق للجدار، فهو إذن في وضع يجعل الجميع يرونه. ويَنتَشِر سلامه العذب في الجوّ وقد تَبِعَته الكلمات: «يا أبناء الخالق الوحيد، اسمعوا» ثم يُتابِع في صمت الناس المتيقّظ.
«لقد حلّ زمن الخلاص مِن أجل الجميع، ليس مِن أجل إسرائيل فقط، بل مِن أجل العالم أجمع.
أيّها اليهود الذين تتواجدون هنا لأسباب مختلفة، الصابئة، الفينيقيّون والوثنيّون، أَنصِتوا إلى كلمة الله، افهموا العدل، واعرفوا المحبّة. بامتلاككم الحكمة والعدل والمحبّة، ستكون لكم الوسيلة للوصول إلى ملكوت الله، الملكوت الذي لن يكون حِكراً لأبناء إسرائيل فقط، بل إنّما لكل الذي سيحبّون الإله الحقيقيّ والوحيد، ويؤمنون بقول كلمته.
اسمعوا. لقد جئتُ مِن البعيد البعيد، ليس بمطامع مُغتَصِب، ولا بعنف مُجتاح. لقد أتيتُ فقط كي أكون مُخلِّص نفوسكم. السُّلطة، الغِنى، والمسؤوليّات لا تَغويني. أو بالحريّ أَنظُر إليها لِأُشفِق عليها لأنّها تجعلني أَرثي لها، لأنّها مجرّد سلاسل تأسر روحكم، بمنعها مِن الوصول إلى الربّ الأزليّ، الوحيد، الشامل، القدّوس والمبارك. أَنظُر إليها مُعتَبِراً إيّاها أعظم المآسي. وأَعمَل على شفاء الناس مِن خديعتها الفتّانة والفظيعة التي تُضلِّل أبناء البشر، ليتمكّنوا مِن استخدامها بعدل وقداسة، وليس كأسلحة رهيبة تَجرَح وتقتل الإنسان، والبدء على الدوام بِروح الذين لا يعرفون استخدامها بقداسة.
ولكن، الحقّ أقول لكم: أن أُشفي جسداً مُشوّهاً أسهل عليَّ مِن أن أُشفي نفساً مشوّهة، وأن أَهِب النور لعيون مُطفأة، والصحّة لجسد يموت، أسهل عليَّ مِن أن أمنح النور للأرواح والصحّة للنُّفوس المريضة. لماذا هذا؟ لأنّ نهاية حياة الإنسان الحقيقيّة قد غابت عن نظره، واستسلَمَ لما هو عابر. والإنسان لا يعرف أو لا يتذكّر، أو إن تذكّر، فهو لا يريد أن يطيع أمر الربّ المقدّس هذا، وأقول للوثنيّين الذين يسمعونني كذلك، أن افعلوا الخير، لأنّ الخير موجود في روما كما هو موجود في أثينا، في الشمال الإيطالي كما في أفريقيا، ذلك أن شريعة الضمير موجودة تحت السماء كلّها، في كلّ الأديان، وفي كلّ قلب مستقيم. والديانات، بدءاً مِن تلك التي مِن الله وانتهاء بالتي مِن الضمير منفرداً، تُجمِع على أنّ ما هو الأفضل فينا يَخلد، وكأنّ مصيره مُثبت في الطرف الآخر.
نهاية الإنسان إذن هي الحصول على السلام في الحياة الأخرى، وليس العَبَث، الفجور، السيطرة، المتعة، هنا في الأسفل، لزمن قصير، التي تُوجِب دفع الثمن في الأبديّة، عذابات قاسية للغاية. إذن فالإنسان لا يَعرِف، أو لا يتذكّر، أو لا يريد أن يتذكّر هذه الحقيقة. إذا كان لا يعرفها، فخطيئته أقلّ، وإذا كان لا يتذكّرها، فهو مُخطئ إلى حدّ ما، ذلك أنّه يجب الإبقاء على الحقيقة مضاءة كجذوة مقدّسة في الأرواح والقلوب. أمّا إذا لم يكن يريد أن يتذكّرها، وعندما تَضطَّرِم يُغلِق عينيه كي لا يراها، كارهاً إيّاها كصوت متفاصِح متحذلِق، حينذاك تكون خطيئته جسيمة، جسيمة جدّاً.
ومع ذلك يَغفر الله له، إذا ما تخلَّت النَّفْس عن طريقتها السيّئة في التصرّف، وتنوي متابعة ما بقي مِن حياتها بُغية بلوغ نهاية الإنسان الحقيقيّة، التي هي الحصول على السلام الأبديّ في ملكوت الله الحقّ. هل سلكتم حتّى الآن طريق سوء؟ هل تُفكِّرون مُتَّضِعين أنّ الأوان قد فات لتسلكوا طريق الصَّلاح؟ هل تقولون متأسّفين: "لم أكن أعرف شيئاً مِن كلّ ذلك! والآن أنا جاهل ولا أُجيد التصرّف"؟ لا، لا تُفكِّروا بأنّ الأمر يُشبِه الأمور الماديّة، ويَلزَم وقت كثير وعناء لإعادة عَمَل ما قد عُمِل، بل بقداسة. لأنّ صلاح الأزليّ، الربّ الإله الحقيقيّ، بالتأكيد، لا يجعلكم تَسلُكون الدرب مِن جديد ليقودكم إلى المفترق الذي تُهتُم فيه، فتركتم السبيل الجيّد لتسلكوا السبيل الرديء. فصلاحه عظيم لدرجة أنّه، مِن اللحظة التي تقولون فيها: "أريد أن أنتمي إلى الحقيقة"، أي إلى الله، لأنّ الله حقّ، فإنّ الله، بمعجزة محض روحيّة، يَسكُب في أعماقكم الحكمة التي تحوّلكم مِن جاهلين إلى مُقتَني العلوم فائقة الطبيعة، كالذين يَقتَنونها منذ سنوات.
الحكمة هي ابتغاء الله، حُبّ الله، العناية بالروح، الطموح إلى ملكوت الله بالتخلّي عن كلّ ما هو جسد، عالَم، وشيطان. الحكمة هي الطاعة لشريعة الله التي هي شريعة المحبّة والطاعة والعفّة والنزاهة. الحكمة هي أن نحبّ الله بكلّ كياننا، ونحبّ القريب كنفسنا. وهذان هما العنصران اللذان لا بدّ منهما ليكون المرء حكيماً بحكمة الله. وقريبنا ليس فقط مَن كان رابط الدم هو الذي يربطنا به ولا العرق ولا الدين، بل هو كلّ إنسان، غنيّاً كان أم فقيراً، حكيماً أو جاهلاً، يهوديّاً كان أو صابئاً أو فينيقيّاً أو يونانيّاً أو رومانيّاً...»
ويُقاطِع يسوع بعض الهائجين بأصوات مُتوعِّدة.
يَنظُر إليهم ويقول: «نعم هذا هو الحبّ. أنا لستُ معلّماً متزلّفاً. أنا أقول الحقّ، لأنّ هذا ما عليَّ فِعله لأبذُر فيكم ما هو ضروريّ للحياة الأبديّة. أأعجَبَكم ذلك أم لم يعجبكم، عليَّ أن أقوله لكم لأقوم بواجبي كفادي. وعليكم القيام بواجبكم كمحتاجين للفِداء. أَحِبّوا إذن القريب، كلّ قريب، حبّاً مقدّساً. ليس بعلاقة مصالح غامضة يُعتبر معها "محروماً" كلّ رومانيّ وفينيقيّ أو صابئ أو مَن كان على شاكلتهم، طالما ليس هناك مصالح تتعلق بالشهوة أو المال، بينما إذا ما كان هناك عطش للشهوة أو مصلحة ماليّة يَنتَفِي الحُرم...»
يَضجّ الجمع مرّة أخرى، بينما يهتف الرومان مِن مكانهم في الردهة: «وجوبيتير! إنّه يُجيد الكلام!»
يَنتَظِر يسوع هدوء الضجّة لِيُعاود الحديث: «لنحبّ القريب بالقدر الذي نريد أن نكون محبّوبين فيه. ذلك أنّه لا يرضينا أن تُساء معاملتنا، أو يُنكَّد علينا، أو نُغتَصَب أو نُسرَق أو نُظلم أو يُفترى علينا أو نُشتَم. ولدى الآخرين أيضاً التأثّر ذاته وطنيّاً كان أو شخصيّاً. فلا نصنعنّ بالتالي الشرّ الذي لا نريد بالمقابل أن يُفعَل لنا.
الحِكمة هي إطاعة الوصايا العشر: "أنا هو الربّ إلهكَ، لا يكن لكَ إله غيري. لا يكن لكَ أصنام ولا تُقدَّم لها عبادة.
لا تحلف باسم الله باطلاً. إنّه اسم الربّ إلهكَ، والله يُجازي مَن يستخدم اسمه دون مبرّر، أو لأجل استنـزال اللّعنات، أو مِن أجل إثبات خطيئة.
تذكَّر أن تُقدِّس الأعياد. السبت مكرَّس للربّ الذي ارتاح فيه مِن الخَلَق، وبَارَكَه وقَدَّسَه.
أَكرِم أباكَ وأُمّكَ لِيَطول عمرك بالسلام على الأرض وأزليّاً في السماء.
لا تقتل.
لا تزنِ.
لا تسرق.
لا تشهد بالزور على قريبكَ.
لا تشتهِ بيت، امرأة، خادم، خادمة، ثور، أو حمار قريبكَ، ولا أيّ شيء آخر يقتنيه.
تلك هي الحكمة. ومَن يَتبَع ذلك هو حكيم، ويحصل على الحياة والملكوت إلى الأبد. إذن، منذ اليوم، فَلتَنووا أن تَحيوا بحسب الحكمة بتفضيلها على أمور الأرض التافهة.
خَرَجَ ربّ بيت عند الفجر ليستأجر عَمَلَة لِكَرمه. فاتّفق معهم على دينار في اليوم، وأَرسَلَهم إلى كَرْمه.
ثمّ خَرَجَ نحو الساعة الثالثة، وهو يفكّر أنّ العَمَلَة الذين استأجرهم قليلون، ورأى عَمَلَة آخرين قياماً في الساحة بطّالين، فقال لهم: "اذهبوا أنتم أيضاً إلى كَرْمي، وسأعطيكم ما وعدتُ به الآخرين." فَذَهَبوا.
وخَرَجَ أيضاً نحو الساعة السادسة فرأى آخرين أيضاً وقال لهم: "هل تريدون العمل في كَرْمي؟ أنا أُعطي ديناراً في اليوم لعمّالي". فوافَقَ هؤلاء وذَهَبوا.
وخَرَجَ نحو الحادية عشرة، فلقيَ أناساً آخرين قائمين هناك، فقال لهم: "ما لكم قائمين هنا طوال النهار بَطَّالين؟ ألا تخجلون مِن البقاء طوال النهار بغير عمل؟" قالوا له: "لم يستأجرنا أحد. لقد رَغبنا في العمل لكسب قُوتنا، ولكنّ أحداً لم يَدْعُنا إلى كَرْمه". فقال لهم: "حسناً أنا استأجركم لكَرْمي. اذهبوا وسيكون لكم أجر الآخرين". قال هذا لأنّه كان معلّماً صالحاً، وكانت تأخذه الرحمة تجاه غمّ قريبه.
ولما جاء المساء، وانتهى العمل، استدعى صاحبّ الكَرْم وكيله وقال له: "أدعُ العَمَلَة وادفع لهم الأجرة التي حدَّدتُها أنا، مبتدئاً بالآخِرين الأكثر عَوَزاً، والذين لم يحصلوا خلال النهار على الطعام الذي حَصَلَ عليه الآخَرون مرّة أو أكثر، والذين، عرفاناً بجميل شَفَقَتي، عَمِلوا أكثر مِن الجميع. لقد رأيتُهم؛ وأُرسِلهم لينالوا الراحة التي يَستَحِقّون، وليتمتّعوا مع ذويهم بثمرة عملهم". وفَعَلَ الوكيل ما أَمَرَه به المعلّم وأعطى كلاً منهم ديناراً.
أخيراً جاء الذين عَمِلوا منذ الساعة الأولى. ودُهِشوا لحصولهم فقط على دينار واحد لكلّ منهم كذلك، وتذمَّروا فيما بينهم واعتَرَضوا على الوكيل الذي قال لهم: "هذا هو الأمر الذي تلقَّيتُهُ. اذهبوا واشكوا أمركم للمعلّم وليس لي أنا". فَمَضوا إليه وقالوا: " أنتَ لستَ بعادل! لقد عَمِلنا اثنتي عشرة ساعة، أوّلاً تحت الندى، ثمّ تحت الشمس الحارقة، وثمّ مجدداً في رطوبة المساء، وأعطيتَنا الأجر ذاته الذي أعطيتَه لأولئك الكسالى الذين لم يَعمَلوا سِوى ساعة واحدة!... لماذا هذا؟" وواحد منهم، بشكل خاصّ، رَفَعَ صوته لِيُعلِن أنّه قد غُدِر واستُغلَّ بشكل غير لائق.
"يا صديقي، بماذا أخطأتُ معكَ؟ علامَ اتّفقتُ معكَ عند الفجر؟ يوم عمل متواصل مقابل دينار واحد كأجر. أليس كذلك؟"
"صحيح، ولكنّكَ أعطيتَ الشيء ذاته للذين عَمِلوا قليلاً جدّاً ..."
"ألم تقبل بهذا الأجر الذي بدا لكَ مناسباً؟"
"نعم، قبلتُ، لأنّ الآخرين يُعطون أقلّ مِن ذلك".
"هل أسأتُ معاملتكَ هنا؟"
"لا، ضميريّاً، لا".
"لقد منحتُكَ فترة راحة طويلة أثناء النهار، وأيضاً الغذاء، أليس كذلك؟ قَدَّمتُ لكَ وجبات ثلاث. ولم نكن قد اتّفقنا على الغذاء والاستراحة. أليس كذلك؟"
"نعم، لم يكن ذلك متضمِّناً في الاتفاق".
"لماذا قَبِلتَها إذن؟"
"ولكنكَ قُلتَ: ’أُفضِّل التصرف هكذا لكي لا تكونوا مُنهَكين لدى عودتكم إلى بيوتكم‘. وكان يبدو لنا ذلك رائعاً... غذاؤكَ لذيذ، وكان بمثابة الوَفر لنا، كان..."
"كان إكراماً منحتُكُم إيّاه مجّاناً ولم يكن أحد يتوقّعه. أليس كذلك؟"
"صحيح".
"إذاً، لقد أكرمتُكُم. لماذا تتذمّرون؟ هو أنا مَن كان عليه أن يتشكّى منكم أنتم، يا مَن لِعِلمكم أنّكم وقعتُم على معلّم طيّب، كنتم تَعمَلون بفتور، بينما أولئك الذين أتوا بعدكم، مع استفادتهم مِن وجبة واحدة فقط، والآخرون بغير وجبة، كانوا يَعمَلون بنشاط أكثر، مُتمِّمين بوقت أقلّ العمل ذاته الذي قُمتُم به خلال الاثنتي عشرة ساعة. كنتُ غدرتُ بكم لو أنّني، كي أدفع لأولئك، كنتُ اقتطعتُ نصف أجركم. ولم أفعل. خُذ إذن مالكَ وانصرف. هل تبغي المجيء إليَّ لِتُملي عليَّ مشيئتكَ؟ أنا أتصرّف في أموري كما أشاء، وما أراه عدلاً. فلا تكن شرّيراً وتَحمِلني على الظُّلم. ذلك لأنّني صالح أنا".
أنتم جميعاً، يا مَن تسمعونني، الحقّ أقول لكم إنّ الله الآب يَعرض على الناس جميعهم الشروط ذاتها ويَعِد بالأجر ذاته. فَمَن يَضع نفسه في خدمة الربّ بحماسة، سوف يُعامِله بعدل، حتّى ولو لم يَعمَل كثيراً بسبب موته القريب. الحقّ أقول لكم إنّ الأوّلين ليسوا الأوّلين دائماً في ملكوت السماوات، وهناك يُرى الآخرون وقد أضحوا الأوّلين، وغيرهم كانوا أوّلين فأصبَحوا آخِرين. هنا يُرى أناس كثيرون لا ينتمون إلى إسرائيل، وهُم أكثر قداسة مِن إسرائيليّين كثيرين. جئتُ لأدعو الجميع، باسم الله. ولكن إذا كان المدعوون كثيرين، فالمختارون هُم قليلون، لأنّ الذين يَرومون الحكمة قليلون.
ليس حكيماً هو ذلك الذي يحيا مِن العالم والجسد، ولا يحيا مِن الله. فهو ليس حكيماً، لا أرضيّاً ولا سماويّاً. ذلك أنّه يوجد له أعداء على الأرض، إضافة إلى القصاصات وتأنيب الضمير. أمّا في السماء فإنّه يخسر الأبديّة.
أُكرّر: كونوا صالحين مع القريب مهما يكن هذا القريب. كونوا مطيعين، تاركين لله مهمّة الاقتصاص مِن الظالمين بأوامرهم. كونوا عفيفين، مُقاوِمين للأحاسيس، ونزيهين مُقاوِمين لإغراء الذهب. كونوا متماسكين بقول حرام لما يستحقّ، لا عندما يناسبكم ذلك، معتبرين أنفسكم أحراراً بالتواصل لاحقاً مع ما لعنتموه سابقاً. لا تفعلوا للآخرين ما لا تريدون أن يَفعَله الآخرون لكم، وحينذاك...»
«انصرف عنّا أيّها النبيّ الـمُزعِج! لقد خَرَّبتَ لنا السوق!... لقد سَلبتَنا الزبائن!...» يهتف الباعة وهُم يَقتَحِمون الدار... والذين كانوا قد تَذمَّروا مع بدايات تَعليم يسوع -ولم يكونوا مِن الفينيقيّين فقط، بل إنّما أيضاً مِن اليهود المتواجدين في المدينة، لستُ أدري لأيّ سبب- ينضمّون إلى الباعة لمشاركتهم الشتم والوعيد، وخاصّة مِن أجل طرده... فيسوع لا يعجبهم لأنّه لا يَدفَع إلى الشرّ... يُصالِب يديه ويَنظُر إليهم، حزيناً، مَهيباً.
وانقسم الناس إلى مجموعتين، يُقبِلون بالأيدي إمّا مدافعين أو مهاجمين الناصريّ. شتائم، مديح، لَعَنات، بَرَكات، زَجْر: «الفرّيسيّون على حقّ. لقد بعتَ نفسكَ لروما، صديق العشّارين والزواني»، أو بالمقابل: «اصمتوا أيّها المجدِّفون! فأنتم مَن بعتُم أنفسكم لروما، يا فينيقيّي الجحيم!» «أنتم شياطين!» «فلتبتلعكم جهنّم!» اخرجوا مِن هنا! اخرجوا مِن هنا!» «اخرجوا مِن هنا أيّها اللصوص الذين جئتم للتسوّق هنا، أيّها المرابون» ...إلخ.
يتدخّل الجنود قائلين: «ليس هو مَن يَفتَعِل المشاكل، بل هو مَن تُصيبه!» ويُخلون الدار بحرابهم ويُقفِلون البوّابة.
ويبقى مع يسوع الإخوة الثلاثة والرُّسُل الستّة.
«ولكن كيف خطر في بالكم أن تجعلوه يتحدّث؟» يَسأَل قائد الجند الإخوة الثلاثة.
«هنالك الكثيرون ممّن يتحدّثون!» يُجيب إيلي.
«نعم. ولا يَحدُث شيء، ذلك أنّهم يُعلِّمون ما يروق للبشر. وليس هذا ما يُعلِّمه هو، وهُم لا يتقبّلونه...» ويَنظُر الجنديّ العجوز بانتباه إلى يسوع الذي نَزل مِن مكانه ويَقف شارد الذهن.
ما يزال الجمع يَفور في الخارج. ويَخرُج جنود آخرون مِن الثّكنة وعلى رأسهم قائد المائة شخصيّاً. يَقرَعون ويُفتح لهم، بينما يظل آخرون في الخارج ليُبعِدوا الذين يهتفون: «ليحيَ مَلِك إسرائيل!» وكذلك الذين يلعنونه.
فيتقدّم قائد المائة قَلِقاً، وبغضب، يتوجّه إلى أكيلا العجوز: «أهكذا تجعلهم يَحتَرِمون روما، أنتَ؟ بتركهم يُهلِّلون لِمَلك غريب على أرض تحت الحُكم؟»
يُحيّي الجنديّ العجوز ببرود ويُجيب: «كان يُعلِّم الاحترام والطاعة، وكان يتحدّث عن مملكة ليست مِن هذه الأرض. لأجل ذلك يمقتونه. ذلك لأنّه صالح ومحترم. ولم أجد مبرّراً لفرض الصمت على مَن لم يكن يَطعَن بشريعتنا.»
يهدأ قائد المائة ويُهمهِم: «إذن فهذا عصيان جديد لعصبة الرّعاع النّتنة هذه... حسناً. مُر الرجل أن ينصرف في الحال. لا أريد قصصاً، هنا. التزم بالطاعة وأقصه خارج المدينة حالما يَفرغ الدرب. فليمضِ أينما يحلو له، إلى الجحيم إن أراد، إنّما فليخرج خارج حدود ولايتي. مفهوم؟»
«نعم. سوف نفعل.»
يُدير قائد المائة ظهره جاعلاً درعه يلمع ومعطفه القرمزي يتماوج، ويمضي حتّى دون أن يَنظُر إلى يسوع.
يقول الإخوة الثلاثة للمعلم: «نحن آسفون...»
«الخطأ ليس خطأكم. لا تخافوا، لن يصيبكم أيّ أذى. أنا مَن أقول لكم ذلك...»
وامتَقَع وجه الثلاثة... ويقول فليبّس: «كيف تَعلَم مدى خوفنا؟»
يبتسم يسوع ابتسامة خفيفة، وشعاع شمس على وجهه الحزين: «أَعلَم ما في القلوب، وأعرف المستقبل.»
وفي تلك الأثناء يقف الجنود في البقعة المشمسة. يُحدِّقون ويُعلِّقون…
«كيف يمكن أن يحبّونا نحن، إذا كانوا يكرهونه، هو الذي لا يسبّب لهم ضيماً؟»
«والذي يصنع المعجزات، هذا ما عليكَ قوله...»
«بحقّ هرقل! مَن الذي جاء ليخبرنا أن هناك مشتبه به يجب مراقبته؟»
«كايوس!»
«ذاك الرجل المتحمّس! وفي أثناء ذلك، فاتَنا الحساء وأُقدّر أنّني سأفقد قُبلة فتاة!... آه!»
«أيّها الشهوانيّ! أين هي جميلتكَ؟»
«لن أقول ذلك لكَ أنتَ بالتأكيد، أيّها الصديق!»
«إنّها خلف الخزّاف، مِن جهة المؤسّسات. أَعرِف. لقد رأيتكَ، منذ بضعة أمسيات...» يقول آخر.
قائد الجند، كما لو كان يَعبُر، يَمضي صوب يسوع ويدور حوله، ويَنظُر إليه، يَنظُر إليه. لا يدري ما يقول... يبتسم له يسوع ليشجّعه. لا يدري الرجل ماذا يفعل... ولكنّه يدنو باطّراد. ويشير يسوع إلى الندبات: «أَكُلّها جِراح؟ فأنتَ إذن شجاع ووفيّ، وإذن...»
ويَحمرّ وجه الجنديّ العجوز لهذا الإطراء.
«لقد تألّمتَ كثيراً مِن أجل حبّ الوطن وإمبراطوركَ... أفلا تريد أن تتألّم قليلاً مِن أجل وطن أعظم: السماء؟ مِن أجل إمبراطور أزليّ: الله؟»
يَهزّ الجنديّ رأسه ويقول: «أنا وثنيّ مسكين، ولكن ما قيل بأنّني قد أستطيع الوصول في الساعة الحادية عشرة. إنّما مَن سيثقّفني؟ كما ترى!... إنّهم يطردونكَ. وتلك هي الجراح التي تؤلم، وليست جراحي!... فأنا، على الأقلّ، قد رددتُها لأعدائي. أمّا أنتَ، فما الذي تُعطيه للذين يجرحونكَ؟»
«المغفرة، أيّها الجندي. المسامحة والحبّ.»
«إذن، أنا على حقّ. فمن الحماقة الشّك بكَ. وداعاً أيّها الجليليّ.»
«وداعاً أيّها الرومانيّ.»
يبقى يسوع وحيداً إلى أن يعود الإخوة الثلاثة والرُّسُل ومعهم الطعام. الإخوة يُقدِّمونه للجنود، بينما الرُّسُل يُقدِّمونه ليسوع. يأكلون بلا شهيّة، تحت الشمس، بينما يأكل الجنود ويَشرَبون بفرح.
ثمّ يَخرُج أحد الجنود لِيُلقي نظرة على الساحة الصامتة. يَهتف: «يمكننا الذهاب، فلقد انصرف الجميع. لم يبق سوى الدوريّات.»
يَنهَض يسوع بإذعان، يُبارِك ويُواسي الإخوة الثلاثة الذين يَضرب معهم موعداً في الفصح في جَثْسَيْماني، ويَخرُج، يُحيط به الجنود مع التلاميذ المكسورة شوكتهم يسيرون في الخلف، ويَسلكون الطريق الخالية حتّى القرية.
«سلاماً أيّها الجليليّ» يقول قائد الجند.
«وداعاً يا أكيلا. أرجوكَ لا تُلحِق الأذى بدانيال وإيلي وفليبّس. أنا وحدي المذنب. قُل ذلك لقائد المائة.»
«لن أقول شيئاً. في هذه الساعة لا يتذكّر شيئاً ممّا حدث، والإخوة الثلاثة يوفّرون لنا تمويناً جيّداً، خصوصاً النبيذ القبرصيّ الذي يحبّه قائد المائة أكثر مِن الحياة. اطمئنّ. وداعاً.»
يَفتَرِقون. يُعاوِد الجنود الدخول مِن الباب. يَسوع وأتباعه يتوجّهون صوب الشرق، عَبْر القرية الصامتة.