ج2 - ف90
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
90- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "لا تَزنِ بالجسد ولا بالرّضى")
04 / 03 / 1945
يقول لي يسوع:
«اصبري يا نفسي على التَّعَب الـمُضاعَف. إنّه زمن الألم. أَتعلَمين كم كنتُ تَعِباً في الأيّام الأخيرة؟ أنتِ تَرَين. لكي أمضي أتّكئ على يوحنّا وبطرس وسمعان وحتّى على يهوذا... نعم. وأنا مَن كانت المعجزات تَصدر منّي لمجرّد لمس ثيابي، لم أكن أستطيع تغيير ذلك القلب! دعيني أتّكئ عليكِ، يا يوحنّاي الصغير، لأكرّر الأقوال التي قِيلَت في أيّامي الأخيرة لتلك النفوس الـمُتصلِّبة والمنغَلِقة التي كان إعلان الحكم عليَّ ينـزلق عليها دون وُلوج. وكذلك دَعي المعلّم يتحدّث عن ساعات كرازيّة في سهل المياه الحلوة البائس. أبارككِ مرّتين: مِن أجل التَّعَب ومِن أجل الرحمة... إنّني أُحصي جهودكِ وأتقبّل دموعكِ. فَمِن أجل الجهود في حبّ الإخوة، سوف تُمنَحين مكافأة الذين يتفانون في تعريف الناس على الله. وبالنسبة لدموعكِ التي تذرفينها على آلام أسبوعي الأخير، فَسَتُمنحين قبلة يسوع كمكافأة. اكتبي وكوني مباركة.»
يسوع واقف على كَوم مِن الطاولات، أُعِدَّت كمِنبر في إحدى الغرف. يتحدّث بصوت مُرتَفِع جدّاً قرب الباب ليسمعه الذين في الغرفة، والذين في العَنبر على السواء، وحتّى الذين في الدار الغارقة تحت المطر، وهُم، تحت معاطفهم القاتمة المصنوعة مِن الصوف الخام، والتي ينـزلق عليها الماء، تحسبهم رجال دِين. أمّا في الغرفة فيوجد الأكثر ضُعفاً، وأمّا تحت رواق العَنبر، فالنساء، وفي الدار الـمُعرَّضة لمياه المطر فيوجد الناس الأشدّاء، خاصّة الرجال.
يَروح بطرس ويَجيء، حافي القدمين، يرتدي فقط ثوبه القصير، ويحمي رأسه بقطعة قماش. وهو لا يتخلّى عن مَرَحه، حتّى ولو اضطُرَّ إلى الخوض في الماء وتَلقِّي حَمَّام غير مُتَوقَّع، يساعده يوحنّا وأندراوس ويعقوب. إنّهم ينقلون المرضى، بكلّ حِرص، إلى الغرفة الأخرى، ويقودون عمياناً ويُعينون كَسيحِين.
ينتَظِر يسوع بكلّ صبر ليأخذ كلّ مكانه، ويتكدّر فقط لكون التلاميذ الأربعة مُبلَّلين كالإسفنجة المستخرَجَة مِن دلو ماء.
«هذا لا شيء، لا شيء! نحن كالخشب المطليّ بالزفت. لا تهتمّ. إنّنا نتقبّل معموديّة أخرى، والـمُعمِّد هو الله ذاته.» يُجيب بطرس على تأسُّف يسوع.
أخيراً كلّ في مكانه، وبطرس يفكّر في إمكانيّة المضيّ لارتداء ثوب جاف. ويقوم بذلك مع الثلاثة الآخرين. ولكنّه حال عودته إلى المعلّم مِن جديد، يرى المعطف الرماديّ للمرأة المحجّبة، ويتقدّم إلى زاوية العَنبر. لم يعد يُفكّر سوى بالذهاب إليها، دون الاكتراث بوجوب قَطع الدار بشكل قُطري تحت وابل المطر الغزير، وفي بِرَك الماء التي تَصِل حتّى الرُّكَب، والقطرات الكبيرة التي تَطرقه. يذهب لملاقاتها، يُمسكها مِن مِرفقها دون زحزحة المعطف، ويأخذها إلى الأعلى، جانب جدار الغرفة، في مَأمن مِن الماء، ثمّ ينتَصِب إلى جانبها جامداً بلا حراك مثل حارس خفير.
يراه يسوع. يبتسم، مُخفِضاً رأسه، لإخفاء بريق ابتسامته. وهو الآن يتكلّم.
«أنتم يا مَن أتيتم لسماع تعليمي بشكل مُنتَظَم، لا تقولوا إنّني لا أتحدّث بحسب ترتيب الوصايا، وإنّني أتجاوز بعضها. إنّكم تُنصِتون. أرى ذلك. بل إنّكم تُنصِتون بشكل جيّد. إنّني أُعمِل فِكري في الآلام والجراح التي أراها فيكم، أنا الطبيب. والطبيب يتوجّه أوّلاً إلى مَن هُم أَبلَغ مَرَضاً، مَن هُم أكثر دُنوّاً مِن الموت، وبعد ذلك يتوجّه إلى مَن إصابتهم أخف. وأنا أفعل كذلك.
واليوم أقول: ”لا تَزن“.
لا تتلفّتوا حولكم مُحاوِلين قراءة كلمة "فاجر" على وجه أحدكم. كونوا مُحبّين بعضكم بعضاً. هل ترغبون في أن تُقرأ هذه العبارة على وجهكم؟ لا. إذن فلا تحاولوا القراءة في عين القريب الـمُضطَرِبة، على جبهته الـمُحمَرّة والمنحنية إلى الأرض.
وثمّ... آه! قولوا، خاصّة أنتم أيّها الرجال: مَن منكم لم يَذُق أبداً خبز الرماد والأقذار هذا الذي هو إشباع الحسّ؟ أَما مِن فُجور سوى ذلك الذي ينمو لساعة بين ذراعيّ خَليلة؟ أليس فُجوراً أيضاً انتهاك حُرمة الزواج مع الزوجة؟ انتهاك حُرمة، ذلك أنّه يجعل الرذيلة التي تَبحَث عن إشباع الحواسّ الـمُتَبادَل شرعيّة، مع حجب النتائج التي تنجم عن الزواج؟ فالزواج هو مُشارَكَة في عمليّة الخَلق، والفِعل يعني وينبغي أن يكون إخصاباً. وكلّ ما هو خلاف ذلك فهو فِسق. وعلينا ألّا نُحَوِّل الزواج إلى بيت دعارة، ذلك أنّه يصبح كذلك إذا ما لُوِّث بالشهوة ولم يُكرَّس بالأمومة. الأرض لا ترفض البذور. إنّها تتقبّلها وتجعل منها نباتاً. والبذور لا تترك الأرض المزروعة بعد أن تُرمى فيها، ولكنّها تُخرِج فيما بعد جَذراً يلتصق بها لينمو ويُشَكِّل سنبلة. والنبتة تُولَد مِن تزاوج الأرض والبِذار. فالرجل هو البِذار والمرأة الأرض، والسنبلة هي الطفل. ورفض إنتاج السنبلة وإضاعة قُوَّتها بشكل شهوانيّ، خطيئة. إنّها دعارة مُرتَكَبَة على سرير الزوجيّة، وهي لا تختلف عن غيرها، ولكنّها أغلظ بفعل مخالفة الوصيّة القائلة: "كونوا جسداً واحداً وتكاثروا بأبنائكم".
تَرين إذن، أيّتها النساء العاقرات بإرادتكن، الزوجات الشرعيّات والشريفات، ليس في عيون الله، بل في عيون البشر، ورغم ذلك يمكن أن تَكُنَّ فاجرات، وترتكبن الزنى كذلك، مع كونكنّ تُقِمْن مع العروس الأوحد، لأنكنّ لا تبحثن عن الأمومة، بل عن اللذّة، وفي أكثر الأحيان. لا يخطر ببالكنّ أنّ اللذّة سمّ نتجرّعه، وهو يأتي مِن فَم مُعدٍ. يَحرق بالنار التي، باعتقادنا أنّنا قد أُشبِعنا، تشقّ طريقها خارج إطار العائلة وتلتهم بأكثر نَهَماً على الدوام. إنّها تترك طعم رماد لاذعاً على اللسان. تُسبّب القَرَف والغثيان واحتقار الذات والشريك في المتعة، لأنّ الضمير، حينما يصحو، وهو يصحو بين فورَتَين، لا يمكن أن يُوَلِّد سوى احتقار الذات التي انحَطَّت أدنى مِن الحيوان.
قيل: ”لا تَزن“.
الزنى، في جزئه الأكبر، يَصدر عن الرجل. وأنا لن أتوقّف عند هذا الاتّحاد الذي لا يمكن تَصَوُّره، وهو كابوس، وقد دَانَهُ سِفر الأحبار بهذه العبارات: "أيّها الرجل، أمّا الذَّكَر فلا تُضاجِعه مُضاجَعة النساء، إنّها رجاسة"، "ومع شيء مِن البهائم لا تجعل مُضاجَعتكَ ولا تتنجّس بها. ولا تقف امرأة أمام بهيمة لتنـزوها، إنها فاحشة".
ولكن، بعد إيضاح واجب الأزواج إزاء الزواج الذي يَفقد قدسيّته عندما، بمكر، يُصبِح غير خَصيب، أَنتَهي إلى الحديث عن الزنى بمعنى الكلمة، بين رجل وامرأة، يَجري فِعله بِخُبث مُتبادَل وبأجر ماليّ أو عن طريق الهدايا.
إنّ الجسد الآدميّ هو هيكل رائع يحوي مذبحاً. وعلى المذبح مكان لله الذي يُفتَرَض أن يكون موجوداً فيه. إنّما لا يمكن أن يُوجَد الله حيث يكون فساد. ففي جسد الزاني مذبح غير مُكَرَّس، ولا وجود لله فيه.
وهذا يُشبِه رجلاً سكراناً يتدحرج في حمأة الوحل وفي إقياءاته، فالرجل ينحدر بنفسه إلى بَهيميّة الفساد ويصبح أسوأ مِن دودة ومِن الحيوان الأكثر نجاسة. وقولوا لي ما إذا كان بينكم مَن فَسدَت أخلاقه إلى درجة أن يبيع جسده كما يُباع القمح أو كما يُباع الحيوان. فأي خير تكونون قد جنيتموه؟ اجعَلوا قلبكم بين أيديكم وتفحّصوه واستَجوِبوه وأنصتوا إليه وانظروا إلى جراحاته والألم الذي يجعله يرتعد، ثمّ تكلّموا وأجيبوني: هل كانت الثمرة لذيذة إلى الدرجة التي تستحقّ معها ألم القلب، ذاك الذي وُلِدَ نقيّاً، وقد أرغمتموه أنتم على العيش في جسد غير طاهِر، نَجِس، أرغمتموه على الخَفَقان ليمنح الحياة والدفء للفجور واستخدمتموه في الرذيلة؟
قولوا لي: هل وَصَلَ بكم الفساد إلى درجة ألّا تَنتَحِبوا سِرّاً لدى سماع صوت طفل ينادي "ماما"، ولدى التفكير بأُمّكنّ، يا نساء الهوى، الهاربات مِن البيت أو المطرودات منه كي لا تُفسِد الثّمرة النَّتِنة، بنتانتها، بقيّة الأولاد، بالتفكير بأُمكنّ التي قد تكون ماتت مِن الألم ومِن وجوب القول لنفسها: "لقد أَنجَبتُ وَلَداً يُسبّب لي العار"؟
ألم تشعرن بقلبكن ينفطر لدى التقائكن بعجوز يجعله شَيب شَعره أهلاً للاحترام، والتفكير بأنكنّ رَشَقتُنَّ شعر أبيكنّ بالخزي والعار مثل وحل ملء اليدين، ومع الخِزي والعار احتقار مَسقَط رأسه؟
ولكن ألا تشعرن بالندم يَعصر أحشاءكنّ لدى رؤية سعادة زوجة أو براءة صبيّة ووجوب القول لذواتكنّ: "أنا قد ابتعَدتُ عن كلّ هذا ولن أحصل عليه مطلقاً!"؟
ولكن ألا تشعرن بالخزي يشوهّكنّ لدى مواجهتكنّ نظرة رجل مليئة طَمَعاً واحتقاراً؟
ولكن ألا تَتَحَسَّسنَ بؤسكنّ عندما تتعطّشن إلى قبلة طفل، ولا تجرؤن على القول: "أعطِنيها"، لأنكنّ قتلتنّ حيوات كان ينبغي لها أن تُولَد، وقد ألقيتنّ بها كَحِملٍ مُنهِك ومُضايَقة لا طائل منها، فقمتنّ بفصلها عن الشجرة التي كانت قد حَمَلَتها، ورَميها للمزبلة، والآن تصرخ هذه الحيوات الصغيرة في وجوهكنّ: "قاتلات!"؟
ولكن ألا ترتجفن بشكل خاصّ لدى التفكير بالدَيّان الذي خلقكنّ وينتظركنّ ليَسأَل كلّ واحدة بِدَورها: "ماذا فَعَلتِ بنفسكِ؟ ألأجل هذا مَنَحتُكِ الحياة؟ يا عُشّ الحشرات والنَتانة، كيف تتجاسرين على الوقوف في حضرتي؟ لقد نِلتِ كلّ ما كان بالنسبة لكِ آلهة: المتعة. اذهبي إلى حيث اللعنة الأبديّة".
مَن يبكي؟ لا أحد؟ أتقولون: لا أحد؟ ومع ذلك فنَفْسي ماضية إلى لقاء نَفْس أُخرى تَذرف الدموع. لماذا تذهب هناك؟ أَلِتَرمي الحُرم على زانية؟ لا. بل لأنّ نفسها تُثير شَفَقَتي. كلّ ما فيَّ أنا هو نفور مِن جسدها النَّجِس الذي يَرشَح عَرَقاً دَنِساً. ولكن نَفْسها!
آه! أيّها الآب! فَمِن أجل هذه النَّفْس أيضاً قد تَجَسَّدتُ وتركتُ السماء لأكون فاديها وفادي نفوس كثيرة، أَخَوات لها! فلماذا لا ينبغي لي استقبال هذه النّعجة الضالّة وأَخذها إلى الحظيرة وتطهيرها وضمّها إلى القطيع ومنحها الـمَراعي والحبّ الكامل، كما يمكن لحبّي فقط أن يكون؟ وهو المختلف تماماً عما كانت حتّى الآن تُطلِق عليه اسم حبّ، بينما لم يكن سوى حقد، إنّه حبّ شَفوق ومُكتَمِل ولذيذ لدرجة لا تعود معه تبكي الزمن الماضي، أو تبكيه فقط لتقول: "لقد أَضَعتُ أيّاماً كثيرة بعيدة عنكَ، أيّها البهاء السرمديّ. مَن ذا الذي يُعيد إليَّ الزمن الضائع؟ كيف أَتَذوّق، في الزمن القليل الباقي لي في الحياة ما كُنتُ سأتذوّقه لو عشتُ عُمري طَاهِرة؟"
ومع ذلك، فلا تبكي أيّتها النَّفْس التي تَركُلها الأَرجُل بكلّ فُجور العالم. اسمعي: أنتِ الآن حُطام مُقَزِّز، إنّما يمكنكِ أن تصبحي زهرة. أنتِ الآن مَزبَلة، إنّما يمكنكِ أن تصبحي حديقة مُزهِرة. أنتِ الآن حيوان نَجِس، إنّما يمكنكِ أن تصبحي ملاكاً. فلقد كنتِ كذلك يوماً ما. كنتِ ترقصين في الحقول الـمُزهِرة، وردة بين الورود، نَضِرَة مثلها، يفوح عطر عُذريتكِ. وغَنَّيتِ بصفاء أغنيات طفولتكِ، ثمّ كنتِ تركضين إلى أُمّكِ وأبيكِ وكنتِ تقولين لهما: "أنتما حبّي". والحارس غير المرئي، الذي لدى كلّ خَليقة إلى جانبها، كان يبتسم أمام ابيضاض نقاء نفسكِ.
ثمّ لماذا؟ لماذا انتَزَعتِ جناحيكِ وأنتِ بريئة صغيرة؟ لماذا دُستِ بقدميكِ قلب أب وأُمّ لتَلهَثي خلف قلوب لم تكوني واثقة منها؟ لماذا جَعَلتِ صوتكِ الصافي ينحطّ بتلفّظه بعِبارات كاذِبة عن حبّ زائف؟ لماذا كَسَرتِ ساق الوردة بانتهاككِ حُرمة نفسكِ؟ تُوبي يا ابنة الله. فالتوبة تَجديد وتَطهير وانطلاقة إلى الأعالي. ألا يمكن لإنسان أن يَغفر لكِ؟ حتّى أبوكِ لا يمكنه ذلك؟ ولكنّ الله يمكنه. فلا مجال لمقارنة صَلاح الله بالصّلاح البشريّ، ورحمته أعظم بما لا نهاية له مِن بؤس الإنسان. كَرِّمي ذاتكِ بأن تجعلي نفسكِ أهلاً للشَّرَف، وذلك بممارسة حياة نزيهة وشريفة. بَرِّئي ذاتكِ لدى الله، بأن لا تعودي بعد تُخطِئين بحقّ نفسكِ. فليكن لكِ اسم جديد لدى الله. فهذا ما يمكنه أن يكون ذا قيمة. أنتِ الآن الرَّذيلة، فَصِيري النَّـزاهة والشَّرَف، صِيري التضحية، صِيري شهيدة توبتكِ. لقد عرفتِ جيداً جعل قلبكِ يستشهد ليستمتع الجسد. أمّا الآن فاعرفي كيف تجعلين جسدكِ يستشهد لتمنحي قلبكِ السلام الأبديّ.
اذهبي. امضوا جميعاً. كلّ مع وِزره وفِكره. فَكِّروا. فالله ينتظركم جميعاً، وهو لا يتخلّى عن أيّ مِن الذين يتوبون. فليمنحكم الربّ النُّور لتَعرفوا نفسكم. امضوا.»
يَمضي كثيرون منهم صوب البلدة. يَدخُل آخرون الغرفة. أمّا يسوع فيذهب إلى المرضى ويشفيهم.
مجموعة مِن الرجال يتناقشون في أحد الأركان. تَتَنازعهم آراء مختلفة، يشوّرون ويتحمّسون. البعض يتّهمون يسوع والبعض الآخر يُدافِعون عنه، والبعض كذلك يَنصَحون الجميع بالتعقّل في الحُكم. وفي النهاية، الأكثر تشدّداً، مِن المحتمل أن يكون ذلك لأنّهم الأقلّ عدداً بالنسبة إلى المجموعتين الأُخرَيَين، يَسلكون ممرّاً متوسّطاً، يذهبون إلى بطرس الذي يَنقُل، مع سمعان، مِـحَفّات لم تَعُد لازمة، لثلاثة قد بَرئوا بمعجزة، ويقتَحِمون باستعلاء الغرفة التي أضحت نَزلاً للزوّار المسافِرين، ويقولون: «اسمع أيّها الجليليّ.»
يلتفت بطرس وينظر إليهم وكأنّما إلى حيوانات نادرة. لا يتكلّم، ولكنّ وجهه قصيدة بحدّ ذاته. أمّا سمعان فيكتفي بإلقاء نظرة إلى الخمسة الممسوسين مِن الشيطان، ثمّ يترك الجميع ويَخرُج.
يُعاوِد أحد الخمسة الحديث قائلاً: «أنا صموئيل الكاتب، وهذا الآخر هو صادوق الكاتب؛ وذاك هو أليعازر اليهوديّ المشهور جدّاً وصاحب النفوذ؛ وذاك الآخر هو قلاشبونا الشيخ العظيم، أمّا هذا الأخير فهو ناحوم، أَتُدرِك؟ ناحوم!» الصوت مُفَخَّم تماماً.
ينحني بطرس قليلاً بعد كلّ اسم، إنّما للاسم الأخير فلا ينحني سوى نصف انحناءة، ويقول بلا مبالاة هائلة: «لا أعرف... لم أسمع به أبداً. ثمّ أنا لا أَفهَم شيئاً.»
«أيّها الصيّاد الفظّ! إِعلَم أنّه كاتِم أسرار حنّان!»
«لا أعرف حنّان. بالأحرى إنّني أعرف نساء كثيرات اسمهنّ حنّة. حتّى إنّ إحداهن بائعة فطر بارعة في كفرناحوم. ولكنّني لستُ أَعلَم أيّ حنّان يكون ذاك كاتِم أسراره.»
«ذاكَ؟ لي أنا تقول: "ذاكَ"؟»
«ولكن ماذا تريدني أن أدعوكَ؟ أحماراً أم عصفوراً؟ عندما كنتُ أذهب إلى المدرسة، عَلَّمَني الأستاذ أن أقول "ذاكَ" حينما أتحدّث عن رَجُل، وإذا لم يكن بَصَري غَشيّاً، فأنتَ رَجُل.»
يَنتَفِض الرَّجل وكأنّ هذه الكلمة سَلَخَتهُ حَيّاً. أمّا الآخر الذي تَكَلَّم أوّلاً فيَشرح: «ولكن حنّان هو حمو قيافا...»
«آه!... مفهوم!!! وإذن؟»
«وإذن فاعلَم بأنّنا قد أُغِظنا!»
«ممّ؟ مِن الطقس؟ أنا أيضاً. فللمرّة الثالثة أُبَدِّل ثيابي، ولم يَعُد لديَّ الآن ما هو جاف منها.»
«ولكن لا تَتَبالَه!»
«أَتَبَالَه؟ بل هي الحقيقة. فإذا لم تكونوا مشمئزّين مِن الطقس، فَمِن أيّ شيء إذن؟ مِن الرومان؟»
«مِن معلّمكَ! مِن النبيّ المزيَّف.»
«إيه! صموئيل يا عزيزي! انتبه لئلّا تَستَثيرني! فأنا كالبحيرة، مِن السكينة إلى النَّوّ في خلال لحظة. فانتبه لعباراتكَ...»
وفي هذه الأثناء يَدخُل أيضاً ابنا زَبْدي وحلفى ومعهم الاسخريوطيّ وسمعان. يَدنون مِن بطرس الذي يَرفَع صوته باستمرار.
«لا تلمس عُظماء صهيون بيديكَ، يا مَن أنتَ مِن عامَّة الشعب!»
«آه! يا لروعة السادة! وأنتم إيّاكم أن تَلمسوا المعلّم. لأنّكم، بعبارة أخرى، ستطيرون مباشرة إلى البئر لتتطهّروا مِن الداخل ومِن الخارج.»
«أَلْفت انتباه عُلماء الهيكل»، يقول سمعان بهدوء، «أنّ البيت هو مِن الأملاك الخاصّة.» ويُضيف الاسخريوطيّ: «وأنّ المعلّم، وأنا كفيله، لديه تجاه بيت الغير، وفي المقام الأوّل بيت الربّ، الاحترام الأعظم. فيجب أن يُعامَل بيته بالاحترام نفسه.»
«اخرس، دُودة مُراوِغة.»
«مُراوِغ؟ بماذا؟ لقد نَفَرتُم منّي، بينما أنا أتيتُ إلى حيث لا يمكن أن يُوجَد النُّفور. وإرادة الله تَكمن في ألّا أكون قد أُفسِدتُ تماماً حتّى أبقى معكم!»
«باختصار، ماذا تريدون؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى بجفاء.
«وأنتَ مَن تكون؟»
«أنا يعقوب بن حلفى، حلفى بن يعقوب ويعقوب بن متّان ومتّان بن أليعازر، وإذا رَغِبتَ أذكُر لكَ كلّ أجدادي حتّى الـمَلِك داود الذي أَتَحدَّر منه. وأنا ابن عمّ مَسيّا. أرجوكَ إذن أن تُحَدِّثني، أنا سليل الـمُلوك، ومِن أصل يهوديّ، إذا لم يكن يُرضِي عَظَمَتكَ التحدّث إلى إسرائيليّ شريف نزيه ويَعرف الله أكثر مِن غَمَالائيل وقيافا. هيّا تكلّم.»
«معلّمكَ وقريبكَ يجعل الزانيات يتبعنه. تلك المرأة المحجّبة هي إحداهنّ. لقد رأيتُها ساعة بيعها الذهب. ولقد تعرَّفتُ عليها. إنّها خليلة شَمّاي الهاربة. وهذا يُلحِق العار بقريبكَ.»
«من؟ الرابّي شَمّاي؟ وهذا يَفتَرِض أن تكون هيكلاً عظميّاً هَرِماً. إذن، لا خطر...» يقول الاسخريوطيّ مازحاً.
«اصمت أيّها المجنون! شَمّاي بن حِلقِيّا الـمُقَرَّب الـمُفَضَّل لهيرودس.»
«عَجَباً! عَجَباً! وهذا يعني أنّها لم تَعُد ترغب به، هذا الـمُقَرَّب الـمُفَضَّل. وهي التي كانت خليلته. ولستَ أنتَ. فلماذا تُتعِب نفسكَ؟» يقول يهوذا الاسخريوطيّ بكلّ سخرية.
«أيّها الرجل، ألا تظنّ أنّكَ تُلحِق العار بنفسكَ بلعبكَ دور الجاسوس؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى. «وألا تظنّ أنّ الذي يُلحِق العار بنفسه هو ذاك الذي يَقَع في الخطيئة، وليس ذاك الذي يُحاوِل انتشال الخاطئ؟ أيّ عار يمكن أن يَلحَق بمعلّمي وأخي، إذا كان، وهو يتكلّم، يُوصِل صوته إلى الآذان التي دَنَّسَها كلام فاسِقِي صهيون الخبيث؟»
«صوته؟ آه! آه! لم يتجاوز الثلاثين عاماً، معلّمكَ وابن عمكَ، وهو ليس غير مُنافِق أكثر مِن سِواه! وأنتَ، وأنتم جميعاً تنامون ليلاً على آذانكم كالصمّ...»
«سافِل، وَقِح، اخرج قبل أن أخنقكَ.» يَصرُخ بطرس، ويُردّد يعقوب ويوحنّا قَوله، بينما يكتفي سمعان بالقول: «يا للعار! نِفَاقكَ عظيم إلى درجة أنّه يَطفَح ويَنسَكِب، ولعابكَ يَسيل مثل بَزّاقة على زهرة نقيّة. اخرج مِن هنا وصِر إنساناً، لأنّكَ الآن لا تتعدّى كونكَ روال (اللعاب الذي يَسيل مِن الفم). أنا أعرفكَ يا صموئيل. ما زال قلبكَ على حاله. فليسامحكَ الله، إنّما اذهب بعيداً عن مكان وجودي.»
ولكن، بينما الاسخريوطيّ ويعقوب بن حلفى يُهَدِّئان بطرس الذي يغلي، هو ذا يوضاس تدّاوس يتدخَّل. يبدو في مشيته، أكثر مِن أيّ وقت مضى، شبيهاً بابن عمّه، وفي نظرته الشعلة اللازورديّة نفسها، وحتّى في مظهره. إنّه يَصرخ كالرّعد: «بنفسه يُلحِق العار، ذاك الذي يُحاوِل إلحاق العار بالبريء. فالعينان واللِّسان قد جَعَلَها الله لتقوم بأعمال مقدّسة. والنمَّام يُدَنِّسها ويُفسِدها، بجعلها تقوم بأفعال سيّئة. لن أُلَطِّخ نفسي بفعل سيّئ تجاه شِيبَتكَ. ولكنّني أُذَكِّركَ أنّ الأشرار يحقدون على الإنسان النـزيه، وأنّ الأحمق يكشف عن سوء نيّته، حتّى دون التفكير بأنّه يخون ذاته. والذي يعيش في الظُّلمات يَستَبدِل الغُصن الـمُزهِر بالزواحف. إنّما الذي يعيش في النُّور يرى الأشياء على حقيقتها، ويُدافِع عنها، إذا ما وَقَعَ عليها اعتداء، حُبّاً بالعدالة والاستقامة. فنحن، نحن نعيش في النور، إنّنا جيل أبناء النور العفيف والجميل، رئيسنا هو القدّوس الذي لا يعرف امرأة ولا خطيئة. ونحن نَتبعه ونُدافِع عنه ضدّ أعدائه، الذين، كما عَلَّمَنا هو، لا نكنّ لهم أيّ حقد، بل على العكس نصلّي مِن أجلهم. تَعَلَّم أيّها العجوز الدَّرس مِن شاب حديث النّضج، لأنّ الحكمة عَلَّمَتهُ ألّا يتعلق باعتبارات طائشة، وألّا يكون، فيما يتعلّق بالخير، غير صالح لأيّ شيء. اذهب وقُل لِمَن أَرسَلكَ أنّه، ليس في البيت الـمُدَنَّس في جبل مورياح، بل في هذا الـمَسكَن الفقير، يُقيم الله بمجده. وداعاً.»
لا يَجرؤ الخمسة على الردّ، ويَمضون.
يتساءل التلاميذ هل ينبغي لهم أن يقولوا ذلك ليسوع الذي ما زال مع المرضى الذين برئوا، أم لا؟ أن يقولوا له أفضل.
يَذهَبون إليه، ينادونه ويَروُون له ما حصل. يبتسم يسوع بهدوء ويُجيب: «أشكركم على دفاعكم... ولكن ماذا تريدون أن تفعلوا؟ كلّ امرئ يُعطِي ممّا يَملك. وكلّ إناء بما فيه يَنضَح.»
«ومع ذلك معهم بعض الحقّ. فلدينا عيون وكثيرون يَرَون. إنّها على الدوام أمام الباب مثل كلب. وهي تُلحِق بكَ الأذى.» يقول كثيرون.
«دعوها. فلن تكون هي الحَجَر الذي يصيب رأسي. وإذا ما خَلَصَت... فسوف يكون فرحي أغلى كثيراً مِن كلّ تلك الانتقادات.»
وينتهي كلّ شيء عند هذه الإجابة اللطيفة.