ج5 - ف3

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

3- (إلى يفتائيل)

 

31 / 10 / 1945

 

يُفتَرَض أنّها أمطَرَت طوال الليل. إنّما، مع قيام الفجر، هَبَّت رياح جافّة أزاحت الغيوم صوب الجنوب، إلى ما وراء هضاب الناصرة. وكذلك ظَهَرَت شمس شتاء خجولة، وبأشعّتها أثارت هياج ماسة على كلّ ورقة زيتون. ولكنّه ثوب رسميّ سرعان ما تفقده أشجار الزيتون بفعل الريح التي تهزّها، فتتساقط مِن أوراقها التي تبدو وكأنّها تذرف دموعاً ماسيّة مُشعّة تضيع بعدئذ في العشب المغطّى بالندى أو على الأرض الموحلة.

 

بطرس، ويساعده يعقوب وأندراوس، يُجهِّزون العربة والحمار. ما يزال الآخرون غير ظاهرين. ولكنّهم يَخرُجون بعد قليل، الواحد تلو الآخر، ممّا قد يكون مطبخاً، لأنهم يقولون للثلاثة الذين في الخارج: «اذهبوا أنتم الآن لتستعيدوا قواكم.» ويمضي هؤلاء لِيَخرُجوا بعد قليل، إنّما هذه المرّة مع يسوع.

 

«لقد تدثَّرتُ بالغطاء بسبب الريح.» يُفسّر بطرس. «إذا كنتَ حقّاً تريد الذهاب إلى يفتائيل، فهي أمامنا... والبرد فيها قارس. ولستُ أدري لماذا لا نسلك الطريق مباشرة إلى سيكامينون [حيفا]، ثمّ طريق الساحل... إنّها أطول، ولكنّها أقلّ صعوبة. هل سمعتَ ما قاله الرّاعي الذي شجّعتُه على الكلام؟ قال: "يوطاباط في أشهر الشتاء معزولة. ولا يوجد سوى طريق واحدة للذهاب إليها، ولا يمكن الذهاب إليها مع الحِملان... وينبغي ألّا يكون شيء على الأكتاف، ذلك أنّ هناك ممرّات تُستَخدَم فيها الذراعان أكثر مِن الساقين، ولا يمكن للحِملان أن تسبح... يوجد مَجرَيان للماء غالباً ما يكونان فائِضَين، والطريق ذاتها سيل يَهدر على قاع صخريّ. أنا أذهب إليها بعد عيد المظالّ، وفي الربيع، وأبيع فيها كثيراً لأنّهم في ذلك الحين يشترون مؤونة لأشهر كثيرة". هذا ما قاله... ونحن... مع كلّ هذه التجهيزات... (ويَركُل إطار العربة)... ومع هذا الجّحش... هوم!...»

 

«الدرب المباشر مِن سيفوري إلى سيكامينون [حيفا] أفضل. ولكن مرتاديه كُثُر... تَذكَّر أنّه يجدر بنا عدم ترك آثار ليوحنّا...»

 

«المعلّم على حقّ. يمكننا أن نجد كذلك إسحاق مع بعض التلاميذ... ثمّ في سيكامينون [حيفا]!...» يقول الغيور.

 

«إذاً... هيّا بنا...»

 

«سأنادي هذين الاثنين...» يقول أندراوس.

 

وبينما يَفعَل ذلك، يستأذن يسوع مِن عجوز ومعها صبيّ بالانصراف، يَخرُجان مِن حظيرة، وكلّ منهما يحمل دلوا مِن الحليب. ويُقبِل كذلك رُعاة مُلتَحون يشكرهم يسوع على الضيافة أثناء الليلة الممطرة. يَصعَد يوحنّا وسِنْتيخي إلى العربة التي يقودها بطرس باتّجاه الطريق. يسوع، يرافقه الغيور ومتّى ويتبعه أندراوس ويعقوب ويوحنّا وابنا حلفى يَحثّون الخُطى للّحاق بها.

 

الريح تلسع الوجوه وتنفخ المعاطف. الغطاء الممدّد على حلقات العربة، يَصفّق كالشراع، فقد أثقلته أمطار الليل: «هيّا وليجفّ بسرعة!» يُهمهِم بطرس وهو ينظر إليه. «لكي لا تجف رئتا هذا المسكين!... انتظر يا سمعان بن يونا... هكذا يفعل المرء.» يُوقِف الحمار ويَخلَع معطفه ويَصعَد إلى العربة ليلف به يوحنّا بكلّ عناية.

 

«ولكن لماذا؟ لديَّ ما هو لي...»

 

« لأنّني، نتيجة جرّ الحمار، أَصبَحتُ أشعُر بالحرارة وكأنّني خارج مِن فرن. ثمّ أنا معتاد على أن أبقى بلا ثياب على الـمَركَب، وكذلك أبقى خالعاً ثيابي حتّى أثناء العاصفة. كلما وَخَزَني البرد، كلما شعرتُ بالخفة والرشاقة أكثر. هيّا، تغطَّ جيّداً. فمريم قد حَمَّلَتني جمّاً مِن التوصيات في الناصرة. وإذا ما أصابكَ مكروه فلن أتمكّن أبداً مِن الظهور أمامها.

 

يُعاوِد النزول مِن العربة ويمسك باللّجام لِيُنشِّط سير الحمار. ولكنّه لا يلبث أن يطلب العَون مِن أخيه ومِن يعقوب لمساعدة الحمار على الخروج مِن ممرّ موحل حيث غرز أحد الإطارات. ويتقدّمون وهم يدفعون العربة لمساعدة الحمار الذي تصلّبت قوائمه القويّة في الوحل وهو يجر ملطّخاً ولاهثاً مِن التعب ومِن النَّهَم، ذلك أنّ بطرس يستثيره للسير بعرض قِطَع مِن الخبز ولبّ التفّاح التي لا يعطيه منها إلّا أثناء التوقّف.

 

«أنتَ غشّاش يا سمعان بن يونا» يقول متّى مازحاً وهو يُراقِب الحركة.

 

«لا. بل أنا أجعل الحيوان يقوم بواجبه، وبطريقة لطيفة. لو لم أكن أتصرّف بهذا الشكل لتوجَّبَ عليَّ استخدام السوط. وهذا العمل لا يروق لي. فأنا لا أنكُز الـمَركَب عندما يهتز، وهو مِن الخشب. فلماذا أنخَس هذا وهو لحم؟ الآن، هو مركبي... وهو في الماء... إنَّه كذلك حقاً! وهكذا فأنا أُعامِله كما أُعامِل مَركَبي... أنا لستُ دوراس، أنا! هل تعلمون؟ قبل أن أشتريه كنتُ مُزمِعاً أن أُطلِق عليه اسم دوراس. ولكنّني سمعتُ اسمه وأعجبني، فتركتُهُ له...»

 

«ما هو اسمه؟» يَسأَل الجميع بفضول.

 

«احزروا!» ويضحك بطرس بِخَفاء.

 

ويَبدأ ذِكر الأسماء الأكثر غرابة وأسماء الأكثر وحشية مِن الفرّيسيّين والصدّوقيّين. ولكنّ بطرس يهزّ رأسه باستمرار. ويُقِرّون بعجزهم.

 

«اسمه أنطوان. أليس اسماً جميلاً؟ ذاك الرومانيّ الملعون! واضح أنّ اليونانيّ الذي باعني الحمار كان على خلاف مع أنطوان، هو أيضاً!»

 

يضحك الجميع، بينما يَشرَح يوحنّا الذي مِن عين دور: «قد يكون أحد جامعي الضرائب بعد موت قيصر. هل هو عجوز؟»

 

«قد يكون في حوالي السبعين مِن العمر... وقد يكون مارَسَ كلّ المهن... أمّا الآن فلديه نَزْل في طبريّا...»

 

إنّهم على المفرق المثلّث لصفورية، عند تقاطع طرق الناصرة-بتولمايس [عَكّا]، الناصرة-سيكامينون [حيفا]، الناصرة-يوطابات. الشاخصة تحمل الدلالات الثلاث: بتولمايس [عَكّا]، سيكامينون [حيفا]، يوطابات.

 

«هل سندخل صفورية يا معلّم؟»

 

«لا فائدة مِن ذلك. فلنمض إلى يفتائيل، دون توقّف. سوف نأكل أثناء المسير. يجب أن نَبلُغها قبل المساء.»

 

ويسيرون، ويسيرون، متجاوزين سَيلَين مُوحِلَين، ويبلغون أولى منحدرات سلسلة هضاب باتّجاه شمال-جنوب، وهي في الشمال تُشكِّل عقدة ذات رأس لتمتدّ بعد ذلك صوب الشرق.

 

«هنا تقع يفتائيل.» يقول يسوع.

 

«لستُ أرى شيئاً.» يقول بطرس.

 

«إنها في الشمال، مِن جهتنا، توجد منحدرات ذات رأس، ومثلها في الشرق وفي الغرب.»

 

«بشكل يُوجِب الدَّوران حول الجبل بأكمله؟»

 

«لا. بل يوجد درب قرب الجبل الأعلى، في أسفله، في الوادي. إنّه قصير جدّاً، ولكنّه شديد الانحدار.»

 

«هل ذهبتَ إلى هناك؟»

 

«لا، ولكنّني أعرفه.»

 

بالحقيقة، يا له مِن درب شديد الانحدار! يبدو أنّه متعجّل للقاء المساء، إذ إنّ النور قد شحّ في عمق ذلك الوادي الذي يعيد إلى ذهني ذكرى مالبولج (Malebolge: الطبقة الثامنة من الجحيم كما وصفها دانتي أليغييري في قصيدة الملحمية الكوميديا الإلهية، والتي ألَّفَها في القرن الرابع عشر) الـمُرعِب لشدّة انحداره ووحشته، طريقه محفورة حقاً في الصخر، ويمكن القول بأنّها على شكل دَرَج، لأنّها محفوفة بالتعرُّجات، درب ضيّق، موحِش، محصور بين هياج سيل وحافّة أشدّ انحداراً تَصعَد بسرعة صوب الشمال. لدرجة أنّهم، حينما وصلوا، كانوا مذعورين…

 

وإذا كان النور يتزايد كلّما ارتقى المرء، فإنّ التعب يزداد بالمقابل كذلك. يُفرِغ الرُّسُل العربة مِن الأكياس الشخصيّة، وتهبط سِنْتيخي كذلك كي تكون العربة بأخفّ وزن ممكن. ويوحنّا الذي مِن عين دور، الذي بعد بضعة كلماته تلك لم يعد يفتح فاه إلّا لكي يسعل، أراد النزول هو أيضاً. ولكنّه لم يُسمح له، فيبقى في مكانه، بينما الجميع يَدفَعون أو يَجرّون الدابّة والعربة، ويمسحون العرق لدى كلّ تغيّر في المستوى. ولكنّ أحداً لا يحتج، بل على العكس يُحاوِل الجميع الظهور بأنّهم راضون عن العمل كي لا يشعر الاثنان اللذان يَفعَلون ذلك مِن أجلهما بالخجل، وقد عَبَّرا، في أكثر مِن مرة، بالكلام، عن أسفهما لهذا التعب.

 

الطريق على شكل زاوية قائمة، ثمّ التفاف آخر أقصر، ينتهي في بلدة جاثمة على منحدر، وهي تولِّد انطباعاً، بحسب قول يوحنّا بن زَبْدي، بأنّها ستنـزلق ببيوتها إلى الوادي.

 

«ولكنّها صلبة للغاية، وكأنّها قطعة واحدة مع الصخر.»

 

«إذن فهي مثل راموت...» تقول سِنْتيخي التي تتذكّرها.

 

«بل أكثر. هنا الصخر جزء مِن البيوت وليس فقط الأساس. وهذا يذكّر أكثر بجَمَلا. هل تذكرينها؟»

 

«نعم، ومعها نُفكِّر بالخنازير...» يقول أندراوس.

 

«لقد انطلقنا مِن هنا بالضبط إلى تريشة وطابور وعين دور...» يُذكِّر سمعان الغيور.

 

«قَدَري أن أُذكِّركم ذكريات أليمة وأُسبِّب لكم التَّعَب الكثير...» يُهمهِم يوحنّا الذي مِن عين دور.

 

«ولكن لا! لقد مَنَحتَنا صداقة وفيّة، ليس أكثر، أيّها الصديق.» يقول يوضاس بن حلفى بحماس. ويؤيّده الجميع للتأكيد بوضوح.

 

«ومع ذلك... لم أكن محبّوباً... لم يقل لي أحد ذلك... ولكنّني أجيد التفكير، اجمعوا الأفعال المتفرّقة في لوحة واحدة. هذه الرحلة، لا، لم تكن متوقَّعة، والقرار لم يكن عفويّاً...»

 

«لماذا تقول هذا يا يوحنّا؟» يقول يسوع بلطف، وهو حزين.

 

«لأنّها الحقيقة. لم أكن مقبولاً. فأنا، وليس آخرون، ولا حتّى التلاميذ الكِبار، أنا مَن تمّ اختياري للذهاب إلى البعيد.»

 

«وسِنْتيخي إذن؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى الذي يَحزَن مِن هذا الوضوح الذي طرأ على فِكر الرجل الذي مِن عين دور .

 

«لقد أتت سِنْتيخي كي لا أُرسَل وحدي... لإخفاء الحقيقة، بإشفاق...»

 

«لا، يا يوحنّا!...»

 

«بلى يا معلّم. وهل ترى؟ بإمكاني أن أقول لكَ اسم الذي يُعذِّبني. هل تَعلَم أين أقرأ هذا الاسم؟ يكفيني النَّظَر إلى هؤلاء الثمانية الطيّبين! يكفيني التفكير بغياب الآخرين لأقرأه! ذاك الذي بواسطته وَجَدتَني، هو كذلك الذي يريد أن يَجِدني بعلزبول. هو مَن أَوصَلَني إلى هذه الساعة، وأوصلكَ إليها، يا معلّم، فأنتَ كذلك تعاني مثلي، وقد تكون تعاني أكثر منّي، وأَوصَلَني إلى هذه الساعة لِيُعيدَني إلى اليأس والحقد. ذلك أنّه سيّئ، غليظ القلب، هو حسود وشيء آخر أيضاً. إنّه يهوذا الاسخريوطيّ، النَّفْس المظلمة مِن بين تلاميذكَ الذين يُشعّون كما النور...»

 

«لا تتكلّم هكذا يا يوحنّا. فليس هو الوحيد الذي كان غائباً. الجميع كانوا غائبين في عيد الأنوار ما عدا الغيور الذي لم يكن لديه عائلة. وفي هذا الفصل، لا يمكن المجيء مِن إسخريوط بمراحل قليلة. فالمسافة تقارب المائتي ميل، ومن العدل أن يذهب إلى بيت أُمّه مثل توما. نثنائيل كذلك أبعدتُهُ لأنّه مُسنّ، ومعه فليبّس ليرافقه...»

 

«نعم، الثلاثة الآخرون ليسوا هنا... ولكن، يا يسوع الصالح، أنتَ عالِم بالقلوب لأنّكَ القدّيس! ولكنّكَ لستَ الوحيد الذي يعرفها! حتّى المنحرفون يعرفون المنحرفين، لأنّهم يتعرّفون على ذواتهم بهم. أنا، كنتُ منحرفاً، وقد وجدتُ نفسي، بميولي الفاسدة، في يهوذا. ولكنّني أسامحه. لسبب واحد أَغفر له جعله إيّاي أرحل لأموت في البعيد: لأنّني بفضله هو بالضبط أتيتُ إليكَ. وليغفر الله له باقي الأمور... كلّ ما تبقّى.»

 

لا يمكن ليسوع أن يكذب... فيصمُت. ويَنظُر الرُّسُل بعضهم إلى بعض بينما هُم يَدفَعون العربة بقوّة سواعدهم على الدرب الزَّلِق.

 

يَصِلون البلدة حوالي المساء، حيث لكونهم مجهولين وسط المجهولين، يأوون إلى نَزْل في أعلى جنوب البلدة. عُلوّ يُسبّب الدوار لدى النَّظَر إلى الأسفل، على مدى السُّور، بقدر ما هو مرتفع وعميق. في العمق، هناك ضجّة ليس إلّا، في الظلّ الساكن الذي يغشى الوادي وحيث يَهدر السَّيل.