ج5 - ف29
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
29- (الأصمّ الأبكم الذي شُفِيَ قرب تخوم فينيقيا)
25 / 11 / 1945
لستُ أدري أين أمضى المسافرون ليلتهم. ما أعرفه هو أنّه الصباح مِن جديد، وأنّهم على الطريق، ودائماً عَبْر بلدات جبليّة. يد يسوع مضمَّدَة، وكذلك جبهة يعقوب بن حلفى، بينما أندراوس يَعرج، ويعقوب بن زَبْدي يسير مِن غير جعبته التي يحملها له أخوه يوحنّا.
يَسأَل يسوع مرّتين: «هل أنتَ قادر على السّير يا أندراوس؟»
«نعم، يا معلّم. أسير بصعوبة بسبب الضِّماد، ولكنّ الألم ليس شديداً.» وفي المرّة الثانية يضيف: «ويدكَ يا معلّم؟»
«اليد ليست ساقاً. فهي في وضع راحة وألمها قليل.»
«هوم! قليل، لا أظنُّ، فعلى ما هي عليه، منتفخة ومفتوحة حتّى العظم... الزيت مفيد. إنّما قد يكون مرهم أُمّكَ أفضل، كنّا قد أخذنا بعضاً منه مِن...»
«مِن أُمّي. أنتَ على حقّ.» يقول يسوع بسرعة وهو يرى ما سيَخرُج مِن بين شفتي بطرس الذي يعتريه احمرار مع اضطراب، بينما يَنظُر بحزن كبير إلى يسوعه الذي يبتسم له ويَسند يده المجروحة بالذات على كتف بطرس ليشدّه إليه.
«ستؤذي نفسكَ إن بقيتَ هكذا.»
«لا، يا بطرس. أنتَ تحبّني وحبّكَ زيت شاف جيّد.»
«آه! لو كان الأمر هكذا إذن، لكان يفترض فيكَ أن تكون قد شفيتَ! لقد تألّمنا جميعنا لرؤيتنا إيّاكَ تُعامَل هكذا، ومِنّا مَن بكى.» ويَنظُر بطرس إلى أندراوس ويوحنّا…
«الزيت والماء مِن الأدوية الناجعة، ولكنّ دموع الحبّ والرحمة هما أقوى وأنجع. وهل تَرَون؟ إنّي اليوم أكثر سعادة مِن الأمس. ذلك أنّني اليوم أعرف كم أنتم مطيعون لي ومُِحبّون. جميعكم.» ويرمقهم يسوع بنظرته العذبة التي لا تخلو عادة مِن حُزن، وحيث تُشعّ، هذا الصباح، إشراقة فَرَح بسيطة.
«ولكن يا للضِّباع! لم أرَ قطّ حقداً كهذا!» يقول يوضاس بن حلفى «المفروض أنّهم جميعاً يهود.»
«لا يا أخي. المسألة ليست مسألة مناطق. الحقد هو ذاته في كلّ مكان. تذكّر أنّني طُرِدتُ منذ بضعة أشهر مِن الناصرة، وأنّهم كانوا يريدون رجمي. ألا تَذكُر؟» يقول يسوع بسكون، ممّا يُساعِد على مواساة اليهود منهم مِن كلام تدّاوس.
لقد واساهم جيّداً لدرجة أنّ الاسخريوطيّ قال: «ولكنني سوف أقول لهم ذلك. آه! بالتأكيد سوف أقوله! لم نكن نفعل أيّ سوء. لم تَكُن لنا ردّة فِعل، وهو قد تكلّم بكلّ الحبّ الذي لديه منذ البداية. وقد رجمونا كالأفاعي. سوف أقوله.»
«ولِمَن سوف تقول، إذا كانوا جميعهم ضدّنا؟»
«أنا أعرف لِمَن. في هذه الأثناء، حالما أرى استفانوس أو هَرْماس، فسوف أقوله. وسيعرف غَمَالائيل ذلك حالاً. إنّما في الفصح فسأقوله لِمَن أَعرِف، أنا. سوف أقول: "ليس عدلاً التصرّف هكذا. هياجكم غير مشروع. أنتم المذنبون وليس هو".»
«الأفضل لكَ ألّا تُعاشِر أولئك السّادة!... يبدو لي أنّكَ أنتَ أيضاً مُذنِب في نَظَرهم» يَنصَح فليبّس بحكمة.
«هذا صحيح. مِن الأفضل عدم معاشرتهم. نعم، هذا أفضل. إنّما سوف أقوله لاستفانوس. فهو طيّب ولا يُنغّص على أحد...»
«دع عنكَ يا يهوذا. فلن تُصلِح شيئاً. أنا قد غفرتُ. فلا نفكرنّ في ذلك بعد» يقول يسوع بلهجة هادئة ومُقنِعة.
في المرّتين اللتين مرّوا بهما بِجَدَاوِل، يَغسل أندراوس واليعقوبان الضمادات التي على كَدَماتهم. أمّا يسوع فلا. بل يُتابِع بهدوء وكأنّه لم يكن ليشعر بالألم.
ومع ذلك فالألم ظاهر، إذ إنّه، عندما يتوقّفون مِن أجل تناول الطعام، يطلب مِن أندراوس أن يَقطَع له الخبز؛ وعندما يُحَلُّ سَيْر حذائه، يَطلب مِن متّى أن يربطه مِن جديد... وبخاصّة، أثناء النزول عبر طريق مختصرة حادّة الانحدار، إذا ما ارتَطَمَت يده بجذع شجرة بسبب زلّة مِن رِجله، فلا يستطع إمساك نفسه عن الأنين، ويسيل الدم مِن جديد ليصبُغ الضِّماد بالأحمر. كذلك لدى وصولهم إلى أوّل بيت في القرية التي يَصِلونها عند الغسق، يتوقّفون ليطلبوا ماء وزيتاً لمعالجة اليد التي، ما أن يُنـزَع عنها الضماد، حتّى تظهر متورّمة كثيراً، ومُزرورَقة في ظَهرها، والجرح مُحمرّ في وسطها.
وفي انتظار أن تجلب ربّة البيت ما طَلَبوا، ينحني الجميع لينظروا إلى اليد الجريحة ويُعلِّقون. أمّا يوحنّا فيبتعد ليخفي بكاءه. يناديه يسوع: «تعال هنا، فما مِن سوء. لا تبكِ.»
«أعرف. ولو كان هذا لي لما كنتُ بكيتُ. ولكن هذا لكَ أنتَ. ولا تُفصِح عن كلّ الألم الذي تُسبّبه لكَ هذه اليد الحبيبة التي لم تؤذ أحداً قط» يُجيب يوحنّا الذي يُسلِّمه يسوع يده الجريحة، فيلاطف يوحنّا بنعومة أطراف أصابعه، والمعصم وحول المنطقة المزرورقة، ويُقلِبها بنعومة لِيُقبِّل الكفّ ويضعه على خده قائلاً: «إنّها تشتعل!... آه! كم تتألّم!» وتسيل عليها دموع شفقة.
تَجلب المرأة ماء وزيتاً، وبواسطة قطعة قماش، يحاول يوحنّا إزالة الدم الذي يُلوِّث اليد. وبرفق يسيل الماء الدافئ على القسم المجروح، يدهنه بالزيت، ويضمّده بضمادات نظيفة، ويطبع على الرباط قبلة. ويضع يسوع يده على الرأس المنحني.
تَسأَل المرأة: «هل هو أخوكَ؟»
«لا، إنّه معلّمي، بل هو معلّمنا.»
«مِن أين أنتم قادمون؟» تَسأَل الآخرين أيضاً.
«مِن بحر الجليل.»
«مِن البعيد البعيد! لماذا؟»
«للتبشير بالخلاص.»
«يكاد يكون الليل، هل تبيتون في منزلي؟ إنّه بيت فقراء، إنّما نزيهين. بإمكاني أن أُقدِّم لكم الحليب حالما يعود أبنائي مع النّعاج. ورَجُلي يستقبلكم بكلّ طِيب خاطر.»
«شكراً لكِ أيّتها المرأة. إذا شاء المعلّم ذلك، نمكث هنا.»
تَمضي المرأة إلى أَشغَالها، بينما يَسأَل الرُّسُل يسوع عما ينبغي لهم فِعله.
«نعم، هذا حسن. غداً نمضي إلى قادس وبعد ذلك إلى بانياد. لقد فكَّرتُ يا برتلماوس، مِن الأجدَر أن أفعل كما تقول. لقد أسديتَ لي نصيحة جيّدة. آمل هكذا أن أجد تلاميذ آخرين وأُرسِلهم أمامي إلى كفرناحوم. أَعلَم أنّه لا بد مِن أن يوجد في قادس الآن بعضهم، ومنهم الرُّعاة الثلاثة اللبنانيّون.»
تعود المرأة وتَسأل: «وإذن؟»
«نعم، أيّتها المرأة الطيّبة، نقيم هنا هذه الليلة.»
«وفي ما يخصّ العشاء. آه! اقبلوه. فهذا لا يُثقِل عليَّ. ثمّ هناك مَن عَلَّمَنا الرحمة، وهُم تلاميذ لذاك اليسوع الجليليّ، الذي يُدعى مَسيّا، وهو يجترح الكثير مِن المعجزات ويَكرز بملكوت الله. ولكنّه لم يأتِ أبداً إلى هنا، قد يكون ذلك لأنّنا في تخوم المنطقة السورية-الفينيقيّة. ولكنّ تلاميذه أتوا، وهذا كثير. وفي الفصح، نريد، نحن أبناء القرية، أن نمضي جميعنا إلى اليهوديّة لنرى ما إذا كنّا سنرى هذا اليسوع، ذلك أنّ لدينا مَرضى، وقد شَفى التلاميذ بعضهم، أمّا الآخرون فلا. ومِن بينهم شاب، هو ابن أخ زوجة سِلفي.»
«ماذا به؟» يَسأَل يسوع مبتسماً.
«إنّه... لا يتكلم ولا يَسمَع. لقد وُلِد هكذا. قد يكون أحد الشياطين دَخَلَ في أحشاء الأُمّ ليجعلها تتألّم وتقنط. ولكنّه طَيّب، كما لو أنّه ليس مُستَحوذاً عليه. ولقد قال التلاميذ إنّه لا بد مِن يسوع الناصريّ، ذلك أنّه ينبغي أن يكون هناك شيء ما ينقص، وفقط هذا اليسوع... آه! ها هُم أولادي وزوجي! مَلكيّا، لقد استقبلتُ هؤلاء المسافرين باسم الربّ، وكنتُ أتحدّث عن لاوي... سارة، اذهبي واحلبي الحليب، وأنتَ يا صموئيل، انزل واجلب الخمر والزيت مِن المغارة، واجلب التفّاح مِن مخزن الغِلال. استعجلي يا سارة، فإنّنا سنرتب الأَسِرّة في الغُرف العلويّة.»
«لا تُتعِبي نفسكِ يا امرأة. أينما كنّا فسوف نكون على ما يرام. هل يمكنني رؤية الشاب الذي كنتِ تتحدّثين عنه؟»
«نعم... لكن... آه! سيّدي! ولكن هل يُعقَل أن تكون أنتَ الناصريّ؟»
«أنا هو.»
فتجثو المرأة على ركبتيها وهي تَصرخ: «مَلكيّا، سارة، صموئيل! تعالوا لِتُكرِّموا مَسيّا! يا له مِن يوم! يا لهذا اليوم! وأنا أحظى به في بيتي! وأُكلِّمه هكذا! ولقد جلبتُ له الماء ليغسل جرحه... آه!...» واختَنَق صوتها مِن الانفعال. إنّما بعد ذلك تَهرع إلى الوعاء فتجده فارغاً: «لماذا رميتم هذه المياه؟ لقد كانت مياهاً مقدّسة! آه! مَلكيّا! مَسيّا في بيتنا.»
«نعم. ولكن كوني عاقلة أيّتها المرأة، ولا تقولي لأحد. اذهبي بالحري وأَحضِري الأصمّ-الأبكم إلى هنا...» يقول يسوع وهو يبتسم…
...وبسرعة يعود مَلكيّا ومعه الأصمّ-الأبكم وأهله ونصف القرية على الأقلّ... فَتَسجد أُمّ المسكين أمام يسوع وتتضرّع إليه.
«نعم، سيكون لكِ ما تريدين.» ويأخذ الأصمّ-الأبكم مِن يده، ويسحبّه بعيداً قليلاً عن الجمع الذي يتزاحم، والذي يجهد الرُّسُل في إبعاده رفقاً باليد الجريحة. ويَسحَب يسوع الأصمّ-الأبكم إلى قُربِه، يضع سبّابتيه في أذنيه ويلمس بلسانه الشَّفَتين شبه المفتوحتين، ثمّ يرفع عينيه إلى السماء التي بدأت تُظلِم، يَنفُخ على وجه الأصمّ الأبكم ويهتف بصوت مرتفع: «فلتَنفَتِحي!» ويَدَعه يَمضي.
يَنظُر إليه الشاب بُرهة بينما الجمع يتهامس. مُدهِش هو التبدّل الحاصل على وجه الأصمّ-الأبكم الحزين والبليد في البدء، ثمّ بعد ذلك المندهش والمبتسم. يرفع يديه إلى أذنيه، يضغطهما، ثمّ يُبعِدهما... يَقتَنِع بأنّه يَسمَع حقّاً ويفتح فاه ليقول: «ماما! إنّي أَسمَع! آه! يا ربّ، إنّي أعشقكَ!»
وتَأخذ الجمع الحماسة الاعتياديّة، بل أكثر، والجميع يتساءل: «وكيف يمكنه معرفة الكلام إذا لم يَسمَع أبداً كلمة تُنطَق منذ أن وُلِد؟ معجزة في المعجزة! لقد حَلَّ له لسانه وفَتَح له أُذنيه، وفي الوقت ذاته، عَلَّمَه الكلام. لِيَحى يسوع الناصريّ! هوشعنا للقدّوس، لمَسيّا!»
ويتزاحمون حوله وهو يَرفَع يده الجريحة ليُبارِك، بينما البعض، وقد أنبأتهم المرأة، يَغسلون الوجه والأعضاء بالقطرات المتبقّية في الوعاء.
يراهم يسوع ويَهتف: «بسبب إيمانكم، فلتبرأوا جميعكم. اذهبوا إلى بيوتكم. كونوا صالحين ونزيهين. آمِنوا بكلمة البُشرى، واحتَفِظوا بما تَعلَمون إلى أن تحين ساعة الإعلان في الساحات وعلى الطرقات في الأرض كلّها. سلامي معكم.»
ويَدخُل إلى المطبخ الرّحب حيث تشعّ النار وتتراقص أنوار المصباحَين.