ج4 - ف157

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

157- (عِظَة وعجائب في بصرى)

 

02 / 10 / 1945

 

...والعالم كذلك هو قريب جدّاً بأمواج حقده وخيانته وألمه وحاجته وفضوله. تأتي الأمواج، كأمواج البحر في المرفأ، لتموت هنا، في باحة فندق بصرى التي نظّفها مِن بقايا الأوساخ، احترام صاحب الفندق، الذي يملك قلباً أفضل كثيراً مما يوحي به مَظهَره. جموع غفيرة مِن تلك البقعة، أو مِن بقاع أخرى، إنّما هم، مع ذلك، مِن أهالي المنطقة، وأناس آخرون، يجعلني حِوارهم أُدرِك أنّهم أتوا مِن بعيد، مِن شواطئ البحيرة، أو ممّا وراء البحيرة. أسماء بلدات، شهادات آلامّ، يتمّ التعبير عنها في الحوارات التي تَختَلِط، أثناء انتظارهم ليسوع. جدرة، جرجسا، جملا، أَفِيقَ، ناحيم وعين دور وجزرائيل ومجدلة وقورازين، أسماء تنتقل مِن فم إلى فم، ومعها شرح عن مبررات المجيء مِن البعيد إلى هنا.

 

«عندما علمتُ أنّه جاء عَبْر بلدات ما وراء الأردن، خارت عزيمتي. ولكن، بينما كنتُ عازماً على العودة إلى جزرائيل، أتى تلاميذ وقالوا لنا، نحن الذين كنّا ننتظر في كفرناحوم: "في هذه الساعة، هو حتماً قد تجاوَزَ جيراسا. فلا تضيّعوا الوقت واذهبوا إلى بصرى أو أربيلا." وأتيتُ معهم.»

 

«أنا، مِن جِهَتي، إذ كنتُ آتياً مِن جدرة، رأيتُ فرّيسيّين مارّين. وكانوا يَسأَلون ما إذا كان يسوع الناصريّ هو الذي كان في المنطقة. وأنا لديَّ امرأتي مريضة. فانضممتُ إليهم. ثمّ، أمس، في أربيلا، عَلِمتُ أنّه كان ينوي المجيء أوّلاً إلى بصرى، فأتيتُ إلى هنا.»

 

«أنا آتٍ مِن جَمَلا بسبب هذا الصبيّ. لقد ضَرَبَته بقرة هائجة. وبقي على هذه الحال...» ويريهم ابنه منكفئاً على نفسه، عاجزاً حتّى عن تحريك ذراعيه بِحُريّة.

 

«أنا لم أستطع جلب ابني. إنّني مِن مجدّو. ما قولكم؟ هل سيشفيه لي مِن هذا المكان؟» تقول امرأة وهي تئنّ، وقد احمرّ وجهها مِن البكاء.

 

«ولكن يجب أن يَحضُر المريض.»

 

«لا. الإيمان يكفي.»

 

«لا. إن لم يضع يديه فلا شفاء. هذا ما يفعله كذلك تلاميذه.»

 

«لقد قطعتِ كلّ هذه المسافات على لا شيء، أيّتها المرأة!»

 

وتَشرَع المرأة بالبكاء وهي تقول: «آه! يا لشقائي! ولقد تركتُه في حالة شِبه نِزاع، وأنا أرجو... هو لن يشفيه، وأنا لن أكون معه وهو يموت...»

 

تواسيها امرأة أخرى. «لا تصدّقيه، يا امرأة. أنا آتية لأشكره، لأنّه عمل معي معجزة عظيمة دون مغادرة الجبل حيث كان يتحدّث.»

 

«ماذا كان مرض ابنكِ؟»

 

«لم يكن ابني، بل كان زوجي الذي أَصبَحَ مجنوناً...» وتُتابِع المرأتان الحديث بصوت خافت.

 

«صحيح. حتّى الأُمّ التي مِن أربيلا قد شُفِيَ ابنها دون أن يراه المعلّم.» يقول أحد سكان أربيلا، ويتابع الحديث مع جيرانه…

 

«أفسحوا المجال، الرحمة! أفسحوا الطريق!» يَصيح أُناس وهُم يَحملون مِـحفّة مُغطّاة.

 

يتباعد الناس، وتمرّ الـمِحفّة مع حِملها المتألّم. يَمضون إلى صدر المكان، تقريباً خلف مِتبَنَة (مكان لوضع التِّبن). أهو رجل أم امرأة، ذاك المتمدّد على الـمِحفّة؟ مَن يدري!

 

يَدخُل فرّيسيّان متعاليان ومتأنّقان، وهما متفاخران كثيراً. يُهاجِمان صاحب الفندق المسكين كمجنونين وهما يصرخان: «أيّها الكاذب اللعين! لماذا قلتَ لنا إنّه لم يكن هنا؟ أأنتَ شريكه؟ أتهزأ هكذا بنا، نحن قدّيسي إسرائيل، لتسهيل أمور... مَن؟ ماذا تعرف عنه؟ ماذا يكون بالنسبة إليكَ؟»

 

«ماذا يكون؟ ما لا تكونونه أنتم. ولكنّني لم أكذب. لقد وَصَلَ بعد قدومكم بقليل. لم يختبئ، وأنا لم أُخبّئه. ولكن، بما أنّني هنا أنا المعلّم، فإنّني أقول لكم الآن: "اخرجوا مِن البيت!" هنا لا إهانة للناصريّ. هل تفهمون؟ وإذا كنتم لا تفهمون بالكلام، فسوف أجعلكم تفهمون بالفِعل، يا أولاد الثعالب!»

 

يبدو صاحب الفندق، ذو العضلات المفتولة، مصمّماً جدّاً على الفِعل، لدرجة أنّ الفرّيسيَّين يُغيّران اللهجة، ويَتزلَّفان مِثل كلبين مُهَدَّدَين بالسّوط. «ولكنّنا كنّا نبحث عنه لنكرّمه! ماذا تظنّ أنتَ؟ وما أغضَبَنا هو فِكرة عدم تمكّننا مِن رؤيته بسبب غلطتكَ. نحن نَعلَم مَن يكون. مَسيّا القدّيس والمبارك، الذي نحن غير أهل لأن نرفع نظرنا إليه. نحن التراب وهو مجد إسرائيل. خذنا إليه. قلبنا يتحرّق شوقاً لسماع كلامه.»

 

يُعيد صاحب الفندق لهما نقود غرفتهما وهو يجيب: «آه! هكذا إذاً! كيف أمكنني التفكير بأنّه لم يكن الأمر هكذا، وأنا الذي كنتُ أعرف استقامة الفرّيسيّين مِن شهرتهم؟! إنّما، بكلّ تأكيد، أنتم أتيتم لتكريمه! وأنتم تتحرّقون رغبة بذلك! سأقول له ذلك. أنا ماضٍ إليه... لا، بحقّ الشيطان! لا تتبعني! ولا أنتَ كذلك، وإلّا أصدمكُما، الواحد بالآخر، أيّها المومياء السامّة، حتّى أجعل أحدكما يَدخُل في الآخر. ابقيا هنا. أنتَ حيث سأزرعكَ، وأنتَ هناك. آسف لعدم تمكّني مِن إدخالكما في الأرض حتّى العنق، لاستخدامكما وتداً أربط به الخنازير التي عليَّ ذبحها.» وإذ يَقرن القول بالفِعل، فإنّه يُمسِك أوّلاً بالفرّيسيّ الأضعف مِن تحت إبطيه، ويرفعه، ثمّ يغرسه في الأرض بعنف، لدرجة أنّ الأرض، لو لم تكن قاسية إلى حدّ كافٍ، لكان انغَرَسَ فيها، أقلّه حتّى الكاحل. ولكنّ الأرض قاسية، وبعد هزّة عنيفة، يبقى الرجل واقفاً كدمية متحرّكة. ثمّ يتدبّر صاحب الفندق أمر الآخر، ورغم كونه بديناً، فإنّه يَرفَعه ويُنـزِله بالعنف ذاته، وبما أنّه كان يَنفَعِل ويتخبّط قبل أن يَزرَعه واقفاً، أَجلَسَه على الأرض: صرّة حقيقيّة مِن لحم وأقمشة... ويمضي وهو يردّد كلمة بذيئة تَضيع وسط أنّات الاثنين وانفجار ضحكات عدد كبير مِن الناس.

 

يَدخُل إلى ممرّ، يَنتَقِل منه إلى دار صغيرة، يَصعَد سلّماً، يَضَع رِجله على شُرفة ذات أروقة، ومنها يَعبُر إلى غرفة واسعة، حيث يسوع وأتباعه ومعهم التاجر يتناولون طعامهم.

 

«لقد وَصَلَ اثنان مِن الفرّيسيّين الأربعة. تمعّن قليلاً. حاليّاً أبقيتُهُما في مكانهما. لقد كانا يريدان أن يتبعاني، لم أشأ. إنّهما الآن في الأسفل، في الباحة، حيث الكثير مِن المرضى وآخرون أيضاً.»

 

«سأذهب إلى هناك في الحال. شكراً يا فرا. يمكنكَ الانصراف.»

 

يَنهَض الجميع، ولكنّ يسوع يأمر التلاميذ بالبقاء في مكانهم، وكذلك النساء، عدا أُمّه ومريم التي لحلفى وسُوسَنّة وسالومة. وإذ يرى الحزن بادياً على وجوه الذين استُبعِدوا، يقول: «اذهبوا إلى الشُّرفة، وستسمعون بشكل جيّد.»

 

يَخرُج مع الرُّسُل والنساء الأربعة. يُعاوِد سلوك الدرب ذاته الذي سَلَكَه صاحب الفندق، ويَلِج الباحة الكبيرة. يرفع الناس رؤوسهم ليروا، والأكثر دهاء منهم يَصعَدون على كومة التّبن، على العربات الواقفة جانباً، وعلى حوافّ البِركة…

 

يذهب الفرّيسيّان للقائه بمجاملة مُفرِطة. يحيّيهما يسوع تحيّته المعهودة، كما لو كانا مِن أخلَص أصدقائه. ومع ذلك لا يتوقّف للردّ على أسئلتهما اللطيفة: «هل أنتم قليلو العدد هكذا؟ وبدون تلاميذ؟ هل تركوكَ إذن؟»

 

ويُجيب يسوع بجدّية وهو يسير: «لم يَترُك أحد. أنتما قادمان مِن أربيلا حيث التقيتُما الذين سَبَقوني، وفي اليهودية التقيتما يهوذا بن سمعان وتوما ونثنائيل وفليبّس.»

 

لَم يَعُد الفرّيسيّ البدين يجرؤ على اللحاق به، ويتوقّف فجأة، أحمر كالجَّمر. والآخر أكثر وقاحة، يُصرّ: «صحيح. ولكنّنا كنّا نعرف تماماً أنّكَ كنتَ مع تلاميذ مُخلِصين ومع النساء، وقد كنّا مندَهِشين لرؤيتكَ مع عدد قليل جدّاً مِن الناس. كنّا نودُّ رؤية إنجازاتكَ الجديدة لنبتهج معكَ.» ويضحك ضحكة مزيّفة.

 

«إنجازاتي الجديدة؟ ها هي!» ويشير يسوع، على شكل نصف دائرة أمامه، إلى الجموع، وقد أتى أكثرهم مِن ما وراء الأردن، أي مِن تلك المناطق التي بصرى منها. ثمّ، ومِن غير أن يَترُك مجالاً للفرّيسيّ ليُجيب، يبدأ بالكلام:

 

«أُناس بَحَثوا عنّي، ولم يكونوا قبلاً قد استَعلَموا عنّي. أُناس وَجَدوني، ولم يكونوا قبلاً يبحثون عنّي. وقلتُ: "ها انا ذا، ها انا ذا!" لِأُمّة لم تكن تلتمس اسمي. المجد للربّ الذي يضع الحقيقة على فم الأنبياء! حقّاً إنّني، إذ أرى هذه الجموع تتراصّ حولي، أبتهج في الربّ، لأنّني أرى النبوءات التي جَعَلها الأزليّ عنّي، عندما أَرسَلَني إلى العالم، تتحقّق. تلك النبوءات التي أَجَّجتُها أنا، مع الآب والباراقليط في فِكر وفم وقلب الأنبياء، أولئك الأنبياء الذين عَرفوها قبل أن أتجسّد، وشجَّعَتني كي ألبس جسداً. والتي تمنحني القوّة. نعم إنّها تواسيني في مقابل كلّ حقد وضغينة وشكّ وكذب. الذين لم يَستَعلِموا عنّي سابقاً قد بحثوا عنّي. والذين لم يكونوا يبحثون عنّي قد وَجَدوني. فلماذا، بالمقابل، نَبَذَني الذين مددتُ لهم يديّ قائلاً: "ها أنا ذا"؟ مع أنّ هؤلاء كانوا يعرفونني، بينما أولئك لم يكونوا يعرفونني. وإذن؟

 

هو ذا مفتاح السرّ. الجهل ليس خطيئة، ولكنّ الإنكار خطيئة. كثيرون مِن أولئك استَعلَموا عنّي، والذين مددتُ لهم يديّ، قد أَنكَروني كما لو كنتُ ابن زنى أو لصّاً، شيطاناً مُفسِداً، لأنّهم، في كبريائهم، قد أَخمَدوا شعلة الإيمان، وتاهوا في الدروب التي لم تكن صالحة، بل مُلتوية خاطئة، تاركين الطريق التي كان صوتي يدلّهم عليها. الخطيئة في القلب، في الأطباق، في الأَسِرّة، إنّها في قلوب ونفوس ذاك الشعب الذي ينبذني، والذي، إذ يَرى في كلّ مكان انعكاس نجاسته الخاصّة، فإنّه يراها فيَّ، وحقده ما يزال يحرّضه أكثر، حينئذ يقول لي: "ابتعد، فأنتَ نَجِس".

 

وماذا سيقول حينئذ ذاك الذي يأتي بثوبه الملوّن بالأحمر، بَهيّا في ثيابه، والذي يَسير في عَظَمَة قوّته؟ هل سيتمّ ما قاله إشَعياء، فلا يصمت، بل يَسكب في صدورهم ما يستحقّون؟ لا. يجب أوّلاً أن يُهرَس في معصرته، وحيداً، وقد تَرَكَه الجميع، لِيَصنَع خَمر الخلاص. الخَمر الذي يُسكِر البارّين ليجعل منهم مغبوطين، الخَمر الذي يُسكِر مرتكبي الخطيئة العظيمة، ليجعل سلطانهم المدنَّس حطاماً. نعم. إنّ خمري الذي يَنضُج ساعة إثر ساعة، في شمس الحبّ الأزليّ، سيُصبِح حُطاماً ومَجداً لكثيرين، كما قيل في إحدى النبوءات التي لم تُكتَب بعد، ولكنّها مُودَعَة في الصخرة الصمّاء، حيث نَبَتَت الكَرمة التي تَهَب الحياة الأبديّة.

 

هل تفهمون؟ لا، إنّكم لا تفهمون يا علماء إسرائيل. لا يهمّ إن فهمتم. فستهبط عليكم الظُّلُمات التي يتحدّث عنها إشَعياء: "لهم عيون ولا يَرَون. ولهم آذان ولا يَسمَعون". إنّكم، بحقدكم، تَضَعون حاجزاً في وجه النور، ولذلك يمكن القول إنّ النور قد أُقصي مِن قِبَل الظُّلمات، ولم يُرِد العالم أن يعرفه.

 

أمّا أنتم فإنّكم تبتهجون! أنتم، يا مَن، إذ كنتم في الظلمة، عرفتم أن تؤمنوا بالنور الذي بُشِّرتم به، أنتم يا مَن رَغبتموه، يا مَن بحثتُم عنه، ويا مَن وجدتموه. ابتهج، أيّها الشعب المؤمن، يا مَن قطعتَ الجبال والوديان والأنهار والبحيرات لتأتي إلى الخلاص، غير عابئ بتعب الدرب الطويل. سيكون الأمر ذاته بالنسبة إلى الدرب الآخر، الدرب الروحيّ، الذي سيقودكَ، يا شعب بصرى، مِن ظُلمة الجهل إلى نور الحكمة.

 

ابتهج، يا شعب حورانيطس [حوران]! ابتهج في فرح المعرفة. في الحقيقة، قيل عنكَ وعن الشعوب التي تحيط بكَ، عندما رَتَّلَ النبّي، أنّ جِمالكم ونوقكم سوف تتدافَع على دروب نفتالي وزبولون، لِتَحمل العبادة للإله الحقّ، ولتكونوا خُدّامه في الشريعة المقدّسة والوديعة، التي لا تفرض شيئاً آخر، لمنح الأبوّة الإلهيّة والغبطة الأزليّة، سِوى المحافظة على وصايا الربّ العشر. أَحِبّ الله الحقّ بكلّ كيانكَ، أَحِبّ القريب كنفسكَ، لا تنتَهِك حُرمة أيّام السبت، أَكرِم أباكَ وأُمّكَ، لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ. لا تشهد بالزور، لا تشته امرأة قريبكَ، لا تشته مقتنى غيركَ. آه! إنّكم لَـمَغبوطون، لأنّكم، إذ قَدِمتم مِن البعيد، فإنّكم تتجاوزون الذين كانوا في بيت الربّ وخَرَجوا منه، وقد نَخَسَتهم وصايا الشيطان العشر التي هي العَداء مع الله، وحبّ الذات، فساد العبادة، والقسوة تجاه الأهل، شهوة القتل، محاولة سرقة قداسة الغير، الزنى مع الشيطان، شهادات الزور، الحَسَد حيال طبيعة ورسالة الكلمة، والخطيئة الفظيعة التي تتخمّر وتنضج في أعماق القلوب، قلوب كثيرة.

 

ابتَهِجوا أيّها العطاش! ابتَهِجوا أيّها الجياع! ابتَهِجوا أيّها الحزانى! هل كنتم مرذولين؟ هل كنتم منفيّين؟ هل كنتم محتَقَرين؟ هل كنتم غرباء؟ هلمّوا! ابتَهِجوا! فلم يَعُد ذلك الآن. أنا أمنحكم بيتاً وخيرات وأُبوّة ووطن. أهبكم السماء. اتبعوني، أنا الـمُخلِّص! اتبعوني، أنا الفادي! اتبعوني، أنا الحياة! اتبعوني، أنا مَن لا يَرفُض له الآب نِعمة! ابتهجوا في حبّي! ابتهجوا! ولكي تَروا أنّني أحبّكم، أنتم يا مَن بحثتم عنّي رغم آلامكم، أنتم يا مَن آمنتم بي قبل أن تعرفوني، ليكون هذا اليوم يوم ابتهاج حقيقيّ، فإنّني أُصلّي هكذا: "أيّها الآب! أيّها الآب القدّوس! فليحلّ على كلّ هذه الجراح والأمراض، جِراح الجسد والضّيقات والعذابات وندامة القلوب، على كلّ إيمان يُولَد، وعلى كلّ إيمان يضطَرِب، وكلّ إيمان يتوطَّد، آه! فليحلّ الخلاص والنعمة والسلام! السلام باسمي! النعمة باسمكَ! والخلاص مِن أجل حبّنا المتبادَل! بارِك، أيّها الربّ الكلّي القداسة! اجمع واصهر في رعية واحدة، كلّ هؤلاء الأبناء، أبنائي وأبنائكَ، الـمُشَتَّتين! اجعلهم أن يكونوا حيث أكون أنا، واحداً معكَ، أيّها الآب القدوس، معكَ ومعي ومع الروح الإلهيّ".»

 

ذِراعَاه متصالبتان، كَفَّاه إلى الأعلى صوب السماء، وجهه مرفوع، وصوته يُدوّي كبوق فضّيّ، يسوع، لا يمكن مقاومة كلماته... يبقى هكذا صامتاً لعدّة دقائق. ثمّ تتوقّف عيناه الزفيريّتان عن النَّظَر إلى السماء، لِيَنظُر إلى الباحة الواسعة التي تغصّ بالجموع الذين يتنهّدون متأثِّرين، أو يرتعشون بالأمل، يجمع يديه، كما ليمتدّا إلى الأمام، وبابتسامة جَعَلَته يتجلّى، يُطلِق صيحته الأخيرة: «ابتهجوا، يا مَن تؤمنون وتَرجون! أيّها الشعب المتألّم، انهض وأَحبِب الربّ إلهكَ!»

 

إنّه الشفاء الآنيّ والكامل لكلّ المرضى. صيحات هذيانيّة، رَعد مِن الأصوات التي تُرتّل الأوشعنا للمُخلِّص. ومِن عُمق الباحة، وهي ما تزال تجرّ اللّحاف الذي يغطّيها، تَختَرِق امرأة الجمع، لترتمي عند قدميّ الربّ. يُطلِق الجمع صرخة أخرى، صرخة رعب: «إنّها مريم، المجذومة، زوجة يواكيم!» ويَجري الفرار في كلّ الاتّجاهات.

 

«لا تخافوا! لقد بَرِئَت. لا يمكن أن يُلحَق بكم الأذى مِن لمسها.» يؤكد يسوع، ثمّ يقول للمرأة الجاثية: «انهضي يا امرأة. إنّ رجاءكِ العظيم قد كافأكِ وحَصَلَ لكِ على المغفرة لعدم توخّيكِ الحَذَر مِن إخوتكِ. عودي إلى بيتكِ بعد مراسم التطهير الخلاصيّة.»

 

المرأة، شابّة وجميلة، تبكي وهي تَنهَض. يُريها يسوع للجمع الذي يقترب قليلاً ويَنظُر إلى المعجزة بإعجاب، مُعرِباً عن إعجابه بإطلاق الهتافات.

 

«زوجها الذي كان يحبّها حبّاً عظيماً، كان قد بنى لها ملجأ في عمق أراضيه، وكان في كلّ مساء يذهب إلى سُورها باكياً، حاملاً لها الطعام...»

 

«كانت قد أصيبت بالمرض بسبب رأفتها، أثناء عنايتها بأحد المتسوّلين الذي لم يكن قد أَعلَنَ عن إصابته بالبرص.»

 

«ولكن كيف أتت مريم الشُّجاعة؟»

 

«على هذه المحفّة. إنّما كيف لم نلاحظ وجود خُدّام يواكيم؟»

 

«لقد جازفوا بالتعرضّ للرَّجم لأجل ذلك.»

 

«إنّها معلّمتهم! وهم يحبّونها، وهي تعرف كيف تجعل الآخرين يحبّونها، أكثر مِن حبّهم لذواتهم...»

 

يقوم يسوع بحركة تجعل الجميع يصمتون. «تَرَون أنّ الحبّ والصَّلاح يَجلبان المعجزة والفَرَح. اعرفوا إذن أن تكونوا صالحين. اذهبي، يا امرأة. لن يمسّكِ أحد بأذى. السلام لكِ وفي بيتكِ.»

 

تَخرُج المرأة، يتبعها الخُدّام، الذين أحرَقوا المحفّة وسط الباحة، وأناس كثيرون.

 

يَصرف يسوع الجموع، وبعد الاستماع إلى بعض الأشخاص، ينسَحِب، ومعه الذين كانوا يُرافقونه.

 

«يا لهذا الكلام، يا معلّم!»

 

«كم كنتَ متجلّياً»

 

«يا له مِن صوت!»

 

«ويا لها مِن معجزات!»

 

«هل رأيتَ الفرّيسيَّين حين فَرّا؟»

 

«لقد مَضَيا مُنسلَّين مثل سحليّتين، بعد الكلمات الأولى.»

 

«أهل بصرى والبلدات الأخرى يحتفظون لكَ بذكرى رائعة...»

 

«أُمّي، وأنتِ ماذا تقولين؟»

 

«أبارككَ، يا بنيّ، مِن أجلي ومِن أجلهم.»

 

«حسناً، فبركتكِ سترافقني إلى أن نعود فنلتقي.»

 

«لماذا تقول ذلك، يا ربّ؟ هل ستغادرنا النساء إذن؟»

 

«نعم، يا سمعان. غداً عند مطلع النهار، اسكندر يرحل إلى "عِرا". سوف نمضي معه حتّى الطريق المؤدّية إلى أربيلا، ثمّ نتركه، وبألم، ثِق بذلك، يا اسكندر ميزاس، أنتَ يا مَن كنتَ الدليل الظريف للحجّ. سوف أذكُركَ على الدوام، يا اسكندر...»

 

العجوز متأثّر بعمق. يبقى، وذراعاه متصالبتان على صدره، في تحيّة شرقيّة عميقة، وهو منحن قليلاً، قبالة يسوع. ولكنّه، لدى سماع هذه الكلمات، يقول: «اذكرني، وبشكل خاصّ، متى أتيتَ في ملكوتكَ.»

 

«هل تشتهي ذلك، يا ميزاس؟»

 

«نعم، يا رب.»

 

«أنا كذلك أرغب في شيء منكَ.»

 

«ماذا، يا رب؟ يكفي أن يكون ضمن إمكانيّاتي، وسأعطيكَ إيّاه، حتّى ولو كان أثمن ما أملك.»

 

«إنّها الأثمن. نفسكَ، هي التي أريد. تعال إليَّ. لقد قلتُ لكَ، في بداية الرحلة، إنّني كنتُ أتمنّى أن أهِبكَ نعمة في النهاية. النعمة هي الإيمان. هل تؤمن بي، يا ميزاس؟»

 

«أؤمن يا رب.»

 

«إذاً، قَدِّس نفسكَ، كي لا يكون الإيمان بالنسبة إليكَ جامداً فقط، بل ضارّاً.»

 

«إنّ نفسي لَعَجوز. ولكنّني سأجتهد في أن أعيد لها جِدّتها. ربّي، إنّي خاطئ عتيق. ولكن أنتَ، اغفر لي خطاياي وباركني كي أبدأ، منذ الآن، حياة جديدة. سوف أحمل بركتكَ معي كأفضل حارس في طريقي إلى ملكوتكَ... ألن نلتقي ثانية أبداً، يا ربّ؟»

 

«لن نلتقي ثانية على هذه الأرض. إنّما سوف تَصِلكَ أخباري، وسوف تؤمن أكثر لأنّني لن أترككَ دون تبشير. الوداع يا ميزاس. فغداً سيضيق بنا الوقت لذلك. لنفعل ذلك الآن، قبل أن نتناول طعامنا معاً، لآخر مرّة.»

 

يُعانِقه ويُقبّله. والرُّسُل أيضاً يفعلون ذلك، وكذلك التلاميذ. تُحيّيه النساء تحيّة واحدة. أمّا ميزاس فيجثو أمام مريم قائلاً: «فليتلألأ نوركِ كنجمة الصباح الطاهرة في فِكري حتّى الممات.»

 

«في الحياة، يا اسكندر، أَحِبّ ابني، وستحبّني، وأنا سوف أحبّكَ.»

 

يَسأَل سمعان بطرس: «ولكن هل سنذهب مِن أربيلا إلى عِرا؟ أخشى أن يُفاجِئنا سوء الطقس. فالضباب كثيف... ومنذ ثلاثة أيّام يُصادِف وجوده عند الفجر وعند الغسق...»

 

«هذا لأنّنا نزلنا إلى هنا. ألا يبدو لكَ أنّنا نزلنا كثيراً؟ ولكنّ الأمر هكذا. اعتباراً مِن الغد سوف تُعاوِد الصعود باتّجاه جبال المدن العشر، ولن تُصادِف ضباباً بعد.» يَشرح ميزاس.

 

«نَزَلنا؟ متى؟ الطريق كانت منبسطة...»

 

«نعم، ولكنّه نزول مستمرّ. آه! إنّه خفيف جدّاً لدرجة عدم الانتباه له. ولكنّه على مدى أميال وأميال!...»

 

«كم مِن الوقت سوف نمكث في أربيلا؟»

 

«أنتَ، ومعكَ يعقوب ويوضاس، ولا حتّى ساعة واحدة.» يَجزم يسوع.

 

«أنا... ويعقوب ويوضاس... ولا حتّى ساعة واحدة؟ أين سأذهب، إذا لم أبقَ معكم جميعاً؟»

 

«في الطريق إلى الأراضي التي فيها خُوزي مع الحرّاس. ستُرافِق أُمّي والنساء، مع الآخرين، إلى هناك. بعد ذلك، يمضين هنّ وحدهنّ مع خُدّام يُوَنّا، وتعودون أنتم للقائي في عِرا.»

 

«آه! يا ربّ! غاضِب أنتَ منّي وتعاقبني... أيّ ألم تُسبِّب لي، يا ربّ!»

 

«يا سمعان، المخطئ يَشعُر بنفسه معاقَباً. على ذاكَ الخطأ أن يُسبّب لكَ الألم، إنّما ليس القصاص بحدّ ذاته. ولكنّني لا أظنّ أن مرافقة أُمّي والنساء التلميذات على طريق العودة قصاص.»

 

«ولكن أليس مِن الأفضل أن تأتي معنا؟ دعكَ مِن عِرا وتلك الأماكن، وتعال معنا.»

 

«لقد وعدتُ بالذهاب إلى هناك، وسأذهب.»

 

«إذن، سآتي أنا كذلك.»

 

«أَطِع، كما يفعل إخوتي، دونما احتجاج.»

 

«وإذا صادفتَ الفرّيسيّين؟»

 

«بالتأكيد لستَ أنتَ الأكثر ملاءمة لهدايتهم. وبالضبط لأنّني سألتقيهم، أريدكَ أن تبتعد عن أربيلا، أنتَ ويعقوب ويوضاس، مع النساء ومع يوحنّا الذي مِن عين دور ومارغزيام.»

 

«آه!... فهمتُ! حسناً.»

 

يلتفت يسوع إلى النساء ويباركهنّ، واحدة واحدة، مُسدياً لكلّ منهنّ النصائح التي تناسبها.

 

مريم المجدليّة، وبينما هي تنحني لِتُقبِّل رِجلَيّ مُخلِّصها، تَسأَل: «هل أراكَ ثانية، قبل عودتي إلى بيت عنيا؟»

 

بدون أدنى شك، يا مريم. ففي شهر إيتانيم (سبتمبر-أكتوبر)، سأكون عند البحيرة.»