ج1 - ف60
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الأول
60- (العائلة المقدَّسة في مصر)
25 / 01 / 1944
الرؤيا العذبة للعائلة المقدَّسَة. إنّها في مصر. لا يمكن الشكّ في ذلك، فأنا أرى الصحراء وأحد الأهرامات.
إنّي أرى بيتاً مُوَشَّحاً بالبَياض، هو عبارة عن طابق أرضيّ فقط، بيتاً مُتواضِعاً لأناس فقراء جدّاً. جدرانه بالكاد مطليّة ومكسوّة بطبقة واحدة مِن الكلس. لهذا المنزل الصغير بابان، الواحد إلى جانب الآخر، إنّهما مَدخَلان لغرفتين وحيدتين لم أَدخُلهما بعد. السَّكن وسط أرض صغيرة رمليّة مُسوَّرة بقصب مغروس في الأرض ليُشكّل دفاعاً واهياً ضدّ اللصوص. إنّه لا يفيد إلّا ضد كلب أو قطّة شاردة. ولكن، بالفعل، مَن ذا الذي يَخطر له على بال أن يسرق مكاناً يبدو جليّاً أنّ لا أثر للغنى فيه؟
على سور القصب عَرَّشَت بعض النباتات المتسلِّقة، جاعلة السور أكثر سماكة وأقلّ بؤساً، وتبدو لي أنّها مِن اللبلاب المتواضع. في طرف واحد فقط توجد شجيرة ياسمين مُزهِرة ودَغل مِن الورد مِن النوعيّة الصغيرة. أمّا الأرض فمُعتَنى بها بصبر رغم كونها قاحلة وجافّة ومُتواضِعة، لتُصبِح حديقة صغيرة. أرى خضراوات هزيلة جدّاً في بعض المساكب الصغيرة في الوسط تحت شجرة ضخمة لم أستطع تمييز نوعيّتها، وهي تُظلّل الأرض المحروقة بالشمس، وكذلك المنزل. ولقد رُبِطَت إلى هذه الشجرة عنزة بيضاء وسوداء، وهي تقضم وتجترّ أوراق بعض الأغصان الملقاة على الأرض.
وهنا على حصيرة ممدودة على الأرض كان الطفل يسوع. يبدو لي ابن سنتين إلى سنتين ونصف على الأكثر. يلعب بقطع خشبيّة منحوتة تُشبِه النّعاج أو الخيل مع شرائط مِن الخشب الأبيض. وهو يحاول بيديه الربيلتين الصغيرتين وضع هذه الأطواق الخشبية في رِقاب الحيوانات.
إنّه طيّب باسم. إنّه جميل جدّاً. رأس صغير ذو شعر ذهبيّ مُقصَّب بمجمله، عيناه مُتّقدتان لامعتان لازورديّتان غامقتان، مِن الطبيعيّ ألاّ يكون التعبير دقيقاً، ولكنّني أعرف لون عينيّ يسوع: إنّهما قطعتا سفير عاتمتان جميلتان جدّاً. وهو يرتدي قميصاً طويلاً ذا لون أبيض، يستخدمه كجلباب، تَصِل أكمامه حتّى المرفق. هو الآن حافي القدمين، وحذاؤه الصغير على الحصيرة وقد تحوَّلَ بين يديه إلى لعبة، وهو يَقطره بحيواناته التي تجرّه بالسير كما لو كانت عربة صغيرة. إنّه صندل بسيط جدّاً: نعل وسيران (رباطان)، أحدهما مِن الرأس والآخر مِن الكعب. والذي مِن الرأس يتفرّع فيما بعد في مكان ما، فيَدخُل قسم منه في فتحة مِن سير (رباط) العقب ليشتبك مع القسم الآخر مُشكّلاً حَلَقة حول عنق القدم.
على مسافة قريبة منه كانت السيّدة العذراء، وهي كذلك في ظلّ الشجرة، تَنسج على نول ريفيّ وتُراقِب الطفل. أرى يديها الناعمتين البيضاوين تروحان وتجيئان مع رمي المكّوك على اللحمة، والقدم الـمُحتَذِية بصندل تُحرّك الدوّاسة. إنّها ترتدي جلباباً بنفسجيّاً مائلاً إلى الورديّ مثل لون زهرة الخبّيزة. رأسها عارٍ، وبذلك أستطيع ملاحظة شعرها الأشقر المفروق إلى خصلتين على رأسها ثمّ تجدلان بشكل بسيط وتنزلان بلطف على العنق. أكمام ثوبها طويلة وضيّقة. لا زينة أخرى غير جمالها وتعبير وجهها العذب، لون بشرتها، لون شعرها وعينيها، شكل وجهها، كلّ شيء كما أراه في العادة. وهي تبدو هنا شابّة في العشرين مِن عمرها. بعد قليل تَنهَض وتنحني على الطفل تُلبِسه حذاءه وتربط له السير (الرباط) بعناية. ثمّ تُداعِبه وتَطبَع قبلة على رأسه وعينيه. يُتعتِع الطفل بكلام فتُجيبه، ولكنّني لم أفهم الكلام. ثمّ تعود إلى نولها لتمدّ قطعة قماش على السداة واللحمة وتأخذ الكرسي الذي كانت تجلس عليه إلى داخل المنزل. ويتبعها الطفل بِنَظَره دون إزعاجها عندما تتركه وحيداً.
يبدو أنّ العمل قد انتهى لأنّ المساء قد حلّ. بالفعل، فإن الشمس تغيب على الرمال العارية، وكأنّ حريقاً حقيقيّاً يجتاح السماء كلّها خلف الهرم البعيد.
تعود مريم لتأخذ يسوع مِن يده وتُنهِضه مِن على الحصيرة. والطفل يطيع دون مقاومة. وبينما تلملم الأُمّ الألعاب والحصيرة وتُدخِلها إلى البيت، كان هو يركض، يُهروِل بساقيه الصغيرتين باتّجاه العنزة الصغيرة، ويلفّ ذراعيه حول عنقها. تثغو العنزة وتحكّ ثغرها بكتفيّ يسوع.
تعود مريم مرّة أخرى وهي تضع وشاحاً طويلاً على رأسها وتحمل بيديها جرّة. تأخذ يسوع بيده ويتوجّهان معاً صوب الواجهة الأخرى للمنزل وهما يَدوران حوله.
أَتبَعهُما وأنا أَنظُر بإعجاب إلى هذه اللوحة. السيدة العذراء التي تضبط خطواتها على خطوات الطفل، والطفل الذي يُهروِل إلى جانبها. فأرى الأعقاب الورديّة التي تصعد وتهبط على رمال الدرب، مع الظُّرف الخاصّ بمسيرة الأطفال. أشير هنا إلى أن الجلباب لا يصل إلى القدمين، ولكنّه يصل فقط إلى منتصف بطّة الساق. إنّه شديد النظافة، بسيط جدّاً، محصور عند الخصر بحبل أبيض.
أرى السياج في واجهة البيت الأماميّة مقطوعاً بحاجز ريفي مُشَبَّك. تفتحه مريم وتَخرج إلى الشارع. إنّه شارع فقير في طرف مدينة أو بلدة تتّصل بالريف. إنّه درب رمليّ فيه منزل صغير فقير آخر مثل هذا مع حديقة صغيرة مُتواضِعة. لا أرى فيه أحداً. تَنظُر مريم إلى جهة المدينة، وليس باتّجاه القرية، كما لو كانت تنتظر أحداً، ثمّ تتّجه صوب بركة أو بئر موجود على مسافة بضعة عشر متراً إلى الأعلى وتُضفي عليه بعض النخلات ظلاً مستديراً. كما أرى الأرض في هذا المكان مُغطّاة بعشب أخضر.
وهنا أرى رجلاً يَصِل عبر الطريق الأماميّة، وهو ليس كبيراً جدّاً ولكنّه قويّ. أتعرّف عليه، إنّه يوسف وهو يبتسم. إنّه أكثر شباباً مما رأيتُه عليه في رؤيا الفردوس. يبدو في سنّ لا يتجاوز الأربعين. شَعر اللحية كثيف وأسود، البَشَرة سمراء برونزية والعينان قاتمتان؛ وجه نزيه ورضيّ، وجه يوحي بالثقة؛ لدى رؤيته مريم ويسوع يحثّ الخطى، كان يحمل على كتفه الأيسر مِنشاراً ومِسحجاً، وفي يده أدوات أخرى مِن أدوات مهنته، تبدو مختلفة عن أدوات هذا العصر إنما ليس كثيراً. يبدو كأنّه عائد مِن عمل لدى شخص ما.
يرتدي ثوباً بلون يتراوح بين لون البندق ولون الكستناء، هو ليس طويلاً جدّاً -يَصِل إلى ما فوق الكاحل بقليل- والأكمام تَصِل إلى المرفق. يتمنطق بحزام جلدي كما يبدو لي. إنّها هيئة عامل حقيقيّ. ويحتذي صندلاً تتقاطع سيوره (أربطته) عند الكاحلين.
تبتسم مريم، ويُطلِق الطفل صرخات فرح ويمدّ يده الحرّة. وعندما يلتقي الثلاثة ينحني يوسف ليقدّم للصبيّ ثمرة تبدو مِن شكلها ولونّها أنّها تفّاحة. ثمّ يمدّ ذراعيه. فيترك الصبي أُمّه ويَتَلَملَم بين ذراعي يوسف حانياً رأسه في تجويف كتفه ويأخذ يقبّله ويتلقّى منه القبلات. حركة مفعمة بالعاطفة الـمُمتِعة.
لقد فاتني القول بأنّ مريم قد أسرَعَت بأخذ الأدوات مِن يوسف لتتركه حرّاً في معانقة الطفل.
ثمّ يعود يوسف، الذي كان قد قَرفَص ليكون على مستوى يسوع، ليَنهَض ويستعيد الأدوات بيده اليسرى، أمّا بذراعه اليمنى فيشدّ يسوع الصغير إلى صدره القوي، ويتوجّه صوب البيت، بينما تمضي مريم إلى النبع لملء الجرة.
لدى دخوله مِن سور البيت، يُنزِل يوسف الطفل إلى الأرض ويُدخِل نول مريم ثمّ يَحلب العنزة. ويسوع يُراقِب هذه العمليّات بانتباه، ويَنظُر إلى يوسف الذي يُدخِل العنزة إلى تحصينة مبنيّة في إحدى زوايا البيت.
يُقبِل الليل، وأرى لون الغَسَق الأحمر الذي يتّخذ صبغة بنفسجيّة فوق الرمال، حيث يبدو الجوّ، بفعل الحرارة، وكأنّه يهتزّ. ويبدو الهرم كذلك أكثر قتامة.
يَلِج يوسف غرفة في البيت، مِن المفروض أن تكون مَشغَلاً ومطبخاً وغرفة طعام معاً. يُعتَقَد أنّ الأخرى قد خُصّصت للاستراحة. ولكنّني لم أدخل إليها. هناك على الأرض موقد مشتعل، ودائماً في هذه الغرفة، توجد طاولة نجارة، وطاولة صغيرة وكراسي صغيرة ورفوف وُضِعَت عليها بعض الأواني وقنديلا زيت. وفي إحدى زواياها نول مريم. إنّها مرتّبة جدّاً جدّاً ونظيفة جدّاً جدّاً. إنّه مَسكَن فقير جدّاً ولكنّه نظيف للغاية.
هذا ما لاحَظتُه: في كلّ الرؤى المتعلّقة بحياة يسوع البشريّة لاحَظتُ أن يسوع، وكذلك مريم ويوسف ويوحنا، يرتدون دائماً ثياباً بحالة جيّدة ونظيفة، شَعرهم معتنى به دون مُبالَغَة، الثياب بسيطة، والتسريحة بسيطة، إنما بصفاء يجعلهم متميّزين.
تعود مريم مع الجرّة. ويُغلَق الباب مع الليل الذي يهبط بسرعة. تُنار الغرفة بقنديل يُشعِله يوسف ويضعه على طاولة النجارة حيث ينحني ليعمل أيضاً أعمالاً بسيطة بينما تهيّئ مريم العشاء. والنار كذلك تضيء الغرفة. ويسوع يُمعِن النَّظَر في ما يعمله يوسف مُسنِداً يديه على الطاولة رافعاً رأسه.
ثمّ يَجلسون إلى الطاولة بعد أن يُصَلّوا. طبعاً هُم لا يرسمون إشارة الصليب، ولكنّهم يُصَلّون. يوسف يُصَلّي ومريم تُجيب. ولكنّي لم أفهم شيئاً. قد يكون مزموراً، إلّا أنّه يُتلى بلغة أجهَلُها تماماً.
ثمّ يَجلسون. القنديل الآن على الطاولة. تأخذ مريم يسوع إلى صدرها وتسقيه حليب العنزة. هي تغمس فيه قطعاً مِن خبز أسود في ظاهره وداخله. قد يكون خبز شيلم أو خبز شعير، ذلك لأنّه خبز أسمر ويُصدِر أصواتاً كثيرة. يأكلّ يوسف الخبز مع الجبن، قليل مِن الجبن مع كثير مِن الخبز. ثمّ تُجلِس مريم يسوع على كرسيّ صغير في مواجهتها، وتجلب خضاراً مطهوّة -يبدو لي أنّها مطهوة بالماء ومُبَهَّرة كما نفعلها نحن عادة- تأكل منها بعد أن يَسكب يوسف. أمّا يسوع فيأكل تفّاحته بهدوء ويبتسم مُظهِراً أسنانه الصغيرة البيضاء. تنتهي الوجبة بزيتون أو بلح: لستُ أُدرِك جيّداً؛ فالزيتون زاه جدّاً، والبلح قاس جدّاً. لا وجود للنبيذ. إنّها وجبة أناس فقراء. إلّا أنّ السلام الذي يتم تنفّسه في هذه الغرفة عظيم جدّاً. لا يمكن لرؤية مسكن ثريّ لأحد الملوك أن تُحقّق لي متعة كهذه. يا له مِن وِفاق متآلف متناغم!
لم يتكلّم يسوع هذا المساء ولم يَشرَح لي المشهد. إنه يُعلّمني مِن خلال الرؤيا التي يهبنيها، وهذا كلّ شيء. فليكن مباركاً على الدوام وبهذا الشكل.