ج10 - ف36

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

36- (صعود مريم الممجّد)

 

08 / 12 / 1951

 

كم مِن الأيّام مضى؟ إنّه مِن الصعب تأكيد ذلك. فإذا حكمنا بالاستناد إلى الزهور الّتي تشكّل إكليلاً حول الجسد الساكن بلا حراك، فينبغي القول بأنّ بضعة ساعات قد مضت. أمّا إذا حكمنا استناداً إلى أغصان الزيتون الّتي وضعت فوقها الزهور النضرة، والّتي ذبلت أوراقها، واستناداً إلى الزهور الأخرى الذابلة، الموضوعة كذخائر على غطاء الصندوق، فينبغي الاستنتاج بأنّ عدّة أيام قد مضت.

 

لكنّ جسد مريم لا يزال تماماً كما كان حين توقّفت عن التنفّس. ليس هناك أيّة علامة موت على وجهها، وعلى يديها الصغيرتين. ما مِن رائحة غير مستحبّة في الغرفة. بل على العكس، فإنّ رائحة غامضة تعبق في هواء الغرفة، تُذكّر برائحة البخور، الزنابق، الورود، زنابق الوادي ونباتات جبليّة، كلّها ممزوجة معاً.

 

يوحنّا، مَن يدري كم يوماً أمضى ساهراً، كان نائماً، لقد غلبه تعبه. إنّه لا يزال جالساً على المقعد، ظهره مستند إلى الجدار قرب الباب المفتوح الّذي يؤدّي إلى الشرفة. نور المصباح الموضوع على الأرض يضيئه مِن الأسفل إلى الأعلى، ويسمح برؤية وجهه المتعب، الشاحب جدّاً، ما عدا حول عينيه المحمرّ بفعل الدموع.

 

لا بدّ أنّ الفجر قد شرع بالبزوغ، لأنّ نوره الخافت يسمح برؤية الشرفة وأشجار الزيتون الّتي تحيط بالمنزل، هذا النور يصبح أقوى فأقوى، وهو إذ ينفذ عبر الباب، يجعل الأشياء في الغرفة أكثر وضوحاً، بما فيها تلك الأشياء البعيدة عن المصباح، والّتي كانت بالكاد تُلمَح.

 

فجأة يملأ الغرفة نورٌ ساطع، نورٌ فضّي، موشّح بالأزرق، يكاد يكون فوسفوريّاً، ويتعاظم باطّراد، جاعلاً نور الفجر والسراج يتلاشيان. إنّه نورٌ أشبه بالنور الّذي غمر مغارة بيت لحم لحظة الميلاد الإلهيّ. ثمّ، وفي هذا النور الفردوسيّ، تتكشّف مخلوقات ملائكيّة، نورٌ أكثر روعة في قلب النور الساطع الّذي ظهر أوّلاً. وكما حدث حين ظهر الملائكة للرُّعاة، فإنّ رقصة شرارات مِن كلّ الألوان تتحرّر مِن أجنحتها الّتي تتحرّك بلطف، والّتي تُصدِر دندنة متناغمة وتتابعيّة، شديدة العذوبة.

 

المخلوقات الملائكيّة تُشكّل إكليلاً حول السرير الصغير، تنحني فوقه، ترفع الجسد الهامد، وتقوم بتحريك أجنحتها بمزيد مِن القوّة، ممّا يزيد مِن حدّة الصوت الّذي كان قبلاً، ثمّ عبر ممرّ انفتح إعجازيّاً في السقف، كما انفتح قبر يسوع بطريقة إعجازيّة، تمضي حاملةً معها جسد مَلِكَتها، الجسد الكلّيّ القداسة بحقّ، إنّما الّذي لم يُمَجَّد بعد، ولا يزال خاضعاً لقوانين المادّة، الّتي لم يكن المسيح خاضعاً لها، لأنّه كان قد تمجّد حين قام مِن الموت.

 

الصوت الّذي تحدثه الأجنحة الملائكيّة هو الآن قويّ كما لو أنّه صوت أُرغُن. يوحنّا، الّذي مع بقائه نائماً يتحرّك مرّتين أو ثلاث مرّات على مقعده، كما لو أنّه كان قد انزعج مِن النور الساطع ومِن نغمة الأصوات الملائكيّة، يستيقظ تماماً بفعل ذلك الصوت القويّ، وبسبب تيّار هواء قويّ، إذ يرد عبر السقف المكشوف ويخرج عبر الباب المفتوح، فإنّه يسبّب نوعاً من دوّامة تحرّك أغطية السرير الّذي أصبح فارغاً وثياب يوحنّا، والّتي تطفئ المصباح، وتصفق بعنف الباب المفتوح.

 

الرسول ينظر حوله وهو لا يزال شبه نائم، ليتبيّن ما الّذي يحدث. يلاحظ أنّ السرير فارغ وأنّ السَقف مكشوف. يتنبّه إلى أنّ حدثاً إعجازياً قد حصل. يهرع خارجاً إلى الشرفة، وكما بفعل غريزة روحيّة، أو نداء سماويّ، يرفع رأسه، حامياً عينيه بيده، ليرى مِن دون أن تعيقه الشمس الّتي تشرق.

 

ويرى. يرى جسد مريم، الّذي لا يزال مجرّداً مِن الحياة، والّذي هو مماثل تماماً لجسد شخص نائم، يصعد أعلى فأعلى، محمولاً مِن قِبَل سرب ملائكيّ. وكما لو أنّه وداع أخير، فإنّ طرفاً مِن الرداء والحجاب يتحرّكان، ربّما بفعل الهواء الّذي يسبّبه الصعود السريع وحركة الأجنحة الملائكيّة، وبعض الزهور، تلك الّتي كان قد وضعها يوحنّا حول جسد مريم وقام بتجديدها، والّتي بالتأكيد كانت قد بقيت بين ثنايا الثياب، تنهمر على الشرفة وعلى بيت جَثْسَيْماني، فيما الهوشعنا القويّة ‏للسرب الملائكيّ تبتعد باطّراد وبالتالي يخفّ وقعها.

 

يوحنّا يتابع التحديق في ذلك الجسد الّذي يرتفع نحو السماء، بالتأكيد بفعل معجزة منحها الله له، لتعزيته ومكافأته على محبّته لأُمّه بالتبنّي، إنّه يرى بوضوح أنّ مريم، وقد لفّتها الآن أشعّة الشمس الّتي أشرقت، تخرج مِن النشوة الّتي فصلت نَفْسها عن جسدها، تعود حيّة، تنتصب واقفة، لأنّها الآن تتمتّع هي أيضاً بالمواهب الخاصّة بالأجساد الـّتي أصبحت ممجّدة.

 

يوحنّا ينظر وينظر. والمعجزة الّتي منحه إيّاها الله، تتيح له القدرة، خلافاً لكلّ القوانين الطبيعيّة، على رؤية مريم الّتي تصعد الآن سريعاً نحو السماء، فيما تحيط بها، إنّما مِن دون مساعدتها على الصعود، الملائكة التي تُنشِد هوشعنا. إنّ يوحنّا مأخوذ برؤيا الجمال تلك، والّتي ما مِن قلم إنسان، أو كلمة بشريّة، أو صنيعة فنّان، يمكنها أبداً وصفها أو إعادة إنتاجها، لأنّها ذات جمال لا يوصف.

 

يوحنّا، الّذي لا يزال مستنداً إلى جدار الشرفة المنخفض، يتابع التحديق في صورة الله البديعة والمتألّقة تلك -لأنّه حقّاً يمكن قول ذلك عن مريم، الّتي كَوَّنَها الله بطريقة فريدة، والّتي شاءها بلا دَنَس، لكي تكون صورة للكلمة المتجسّد- الّتي تصعد دوماً أعلى فأعلى. معجزة أخيرة وفائقة يمنحها الله-المحبّة لمن هو محبوبه الكامل: أن يرى لقاء الأُمّ الكلّية القداسة مع ابنها الفائق القداسة. الابن الّذي ينزل سريعاً مِن السماء، بهيّاً ومتألّقاً هو أيضاً، ووسيماً وسامةً لا تُوصَف، يصل إلى أُمّه، ويضمّها إلى قلبه، ومعاً، وبسطوع أكثَر مِن كوكبين، يعودان إلى حيث جاء. رؤيا يوحنّا انتهت.

 

إنّه يخفض رأسه. على وجهه المتعب يمكن رؤية ألمه لفقدان مريم، وفي نفس الوقت فرحه لمصيرها المجيد. إنّما الفرح أضحى يفوق الألم. يقول: «شكراً يا إلهي! شكراً! لقد ‏توقّعتُ حدوث هذا. وقد كنتُ أرغب بأن أبقى مستيقظاً، لئلاّ أُضيّع أيّ تفصيل مِن تفاصيل صعودها. إنّما أنا بقيتُ بلا نوم لثلاثة أيّام! إنّ النعاس والتعب، إضافة إلى الحزن، قد حطّموني وغلبوني بالضبط حين كان صعودها وشيكاً... إنّما ربّما لأنّكَ أنتَ قد شئتَ ذلك يا إلهي، لئلاّ أعكّر تلك اللحظة ولكيلاّ أعاني كثيراً... نعم. بالتأكيد أنتَ مِن شئتَ ذلك، كما أنّك الآن تشاء أن أرى ما لم يكن باستطاعتي أن أراه مِن دون معجزة منكَ. لقد وهبتَني أن أراها بعد، على الرغم مِن أنّها كانت بعيدة جدّاً، وهي ممجّدة ومجيدة، كما لو أنّها كانت بقربي. وبأن أرى يسوع ثانيةً! آه! رؤيا فائقة الطوباويّة، تفوق الآمال، لا يمكن أن آمُلَ بها! آه! عطيّة عطايا يسوع-الله ليوحنّاه! نعمة فائقة! أن أرى معلّمي وربّي مجدّداً! أن أراه قرب أُمّه! هو مثل شمس وهي مثل قمر، كلاهما ببهاء خارق، لأنّهما ممجّدان ولأنّهما مبتهجان لاتّحادهما مجدّداً إلى الأبد! ما يكون الفردوس الآن وأنتما تتألّقان فيه، أنتما، الكوكبان الأعظمان لأورشليم السماويّة؟ أيّ ابتهاج للأجواق الملائكيّة والقدّيسين؟ هو مثل الفرح الّذي مَنَحَتني إيّاه رؤيا الأُمّ مع ابنها، الأمر الذي يلاشي كلّ حزنه، كلّ حزنهما، وحتّى حزني أيضاً يتلاشى، ويحلّ محلّه السلام. مِن المعجزات الثلاث الّتي طلبتُها مِن الله، اثنتان قد تحقّقتا. لقد رأيتُ الحياة تعود إلى مريم، وأشعر بأنّ السلام قد عاد إليّ. كلّ ضيقي قد انتهى، لأنّني رأيتكما متّحدَين مجدّداً في المجد، شكراً لذلك يا الله. وشكراً لأنّكَ منحتني، أنا المخلوق الشديد الطهّارة إنّما الذي أظلّ بشرياً، إمكانية أن أرى ما هو مصير القدِّيسين، كيف سيكون الأمر عليه بعد الدينونة الأخيرة، وقيامة الجسد، وإعادة تشكّله، واندماجه ثانيةً بالروح، الّذي صعد إلى السماء لحظة موته. لم أكن أحتاج إلى أن أرى كي أؤمن، لأنّني لطالما آمنتُ بثبات بكلّ كلام المعلّم. إنّما كثيرون سوف يشكّون بأنّ الجسد، بعد مرور العصور والآلاف مِن السنين، وقد صار تراباً، يمكن أن يعود جسداً حيّاً. سيكون بإمكاني القول لهؤلاء، بالقَسَم على ذلك بأسمى الأشياء، بأن ليس فقط المسيح قد عاد إلى الحياة بقوّته الإلهيّة الذاتية، بل إنّ أُمّه أيضاً، وبعد ثلاثة أيام مِن موتها، ‏إن كان بإمكاننا أن ندعوه موتاً، قد عادت إليها الحياة مجدّداً، وبجسدها الّذي عاود الاتّحاد بروحها، اتّخذت مسكنها الأبديّ في السماء إلى جوار ابنها. سيمكنني القول: "آمنوا يا أيّها المسيحيّون جميعاً بقيامة الأجساد في نهاية العصور، وبالحياة الأبديّة للنفوس والأجساد، حياة مغبوطة للقدّيسين، ورهيبة للخطأة غير التائبين. آمنوا وعيشوا قدّيسين، كما عاش يسوع ومريم في القداسة، في سبيل أن تنالوا المصير نفسه. أنا قد رأيتُ جسديهما يصعدان إلى السماء. وأستطيع أن أشهد على ذلك. عيشوا أبراراً، لتتمكّنوا يوماً مِن أن تكونوا في العالم الجديد الأبديّ، بالنَّفْس والجسد، قرب يسوع-الشمس وقرب مريم، نجمة كلّ النجوم." أشكركَ ثانية يا الله! والآن لنجمع ما بقي منها. الزهور الّتي تساقطت مِن ثيابها، أغصان ‏الزيتون المتبقّية على السرير، ولنحتفظ بها. كلّها ستكون مفيدة... نعم، كلّها ستُفيد في مدّ إخوتي بالعون وتعزيتهم، إخوتي الّذين انتظرتُهم عبثاً. والّذين عاجلاً أم آجلاً سوف ألتقيهم…»

 

يلتقط أيضاً بتلات الزهور الّتي انفصلت أثناء السقوط، يعاود الدخول إلى الغرفة حاملاً إيّاها في ثنيةٍ مِن ثنايا ثوبه. ينظر بمزيد مِن الإمعان إلى الفتحة في السقف ويهتف: «معجزة أخرى! بُعد مذهل آخر مِن معجزات حياة يسوع ومريم! هو، الله، قد قامَ مِن الموت مِن تلقائه، وبمشيئته وحدها قَلَبَ حجر قبره، وبقدرته الذاتية وحدها صعد إلى السماء. بذاته. مريم، الأُمّ الكلّية القداسة، إنّما ابنة إنسان، فبمساعدة الملائكة، قد فتح هو لها معبراً مِن أجل أن تصعد إلى السماء، ودائماً بمساعدة الملائكة صعدت إلى هناك. بالنسبة للمسيح، عاد الروح ليحيي جسده عندما كان ما يزال على الأرض، لأنّه كان ينبغي أن يكون الأمر كذلك، ليُسكِت أعداءه، وليُثبّت كلّ أتباعه في إيمانهم. أمّا بالنسبة إلى مريم، فإنّ روحها قد عاد حين كان جسدها الفائق القداسة عند عتبة الفردوس، لأنّه لم يكن يتوجّب عليها أيّ شيء آخر. القدرة المطلقة لحكمة الله اللامتناهية!... »

 

يوحنّا الآن يجمع في قطعة قماش الزهور والأغصان الباقية على السرير، ويضع معها تلك الّتي كان قد جمعها مِن الخارج، ويضعها كلّها على غطاء الصندوق. ثمّ يفتحه ويضع في داخله وسادة مريم الصغيرة وغطاء السرير، ينزل إلى المطبخ ويجمع الأغراض الأخرى الّتي كانت تستخدمها: الـمِردَن والمِغزَل والأواني الخاصّة بها، ويضعها مع الأشياء الأخرى. يُغلق الصندوق ويجلس على المقعد هاتفاً:

 

«الآن كلّ شيءٍ قد تمّ أيضاً بالنسبة لي! الآن أستطيع أن أمضي بحرّية إلى حيث يقودني روح الله. المضيّ! زرع الكلمة الإلهيّة الّتي أعطاني إيّاها المعلّم كي أعطيها للبشر. أُعلِّم المحبّة. أُعلِّمها كي يؤمنوا بالمحبّة وبقدرتها. أُعَرّفهم بما صنعه الله-المحبّة للبشر. تضحيته وأسراره وطقسه المستمرّة، حيث يمكننا بواسطتها، وحتّى نهاية العصور، أن نكون متّحدين بيسوع المسيح بالإفخارستيا، وأن نُجدّد الطقس والتضحية كما هو أمرنا بأن نفعل. كلّ عطايا المحبّة المطلقة! أن أجعلهم يحبّون المحبّة كي يؤمنوا به كما نحن آمنّا ونؤمن به. أن أغرس المحبّة ليكون الحصاد والصيد وافراً مِن أجل الربّ. المحبّة تحصل على كلّ شيء، مريم قالت لي ذلك في كلامها الأخير معي، أنا الّذي عَرَّفَتني بحقّ مِن ضِمن مجموعة الرُّسُل، بأنّني الـمُحِبّ، الـمُحِبّ بامتياز، نقيض الإسخريوطي الّذي كان الكراهية، كما بطرس بالاندفاع، وأندراوس بالوداعة، ابنيّ حلفى بالقداسة والحكمة مضافاً إليهما نُبل الأسلوب، وهكذا. أنا، الرسول الـمُحِبّ، وحيث أنّني الآن لم أعد أحظى بالمعلّم وأُمّه على الأرض لأحبّهما، سأمضي وأنشر المحبّة بين الأمم. المحبّة ستكون سلاحي وعقيدتي. وبواسطتها سوف أغلب الشيطان، والوثنيّة، وسوف أكسب نفوساً كثيرة. وهكذا سوف أتابع ما بدأه يسوع ومريم، اللذان كانا الحبّ المطلق على الأرض.»