الدفاتر: 07 / 06 / 1943
دفاتر 1943
ماريا فالتورتا
I QUADERNI - THE NOTEBOOKS - LES CAHIERS
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
(07 / 06 / 1943)
بادئ ذي بدء أسجّل هنا شكري لكَ لتفكيركَ الـمُحِبّ بأن تحمل لي نسخة الابتهال1 وقبولكَ عن طيب خاطر لورقتي بلطف كثير. ولكنّه لم يكن ابتهالي "أنا". منّي لم يكن سوى جهد الكتابة. فالفكرة ليست منّي. فأنا لستُ بذاك السموّ لأُخرِج مِن قلبي أفكار مسامحة فوق بشريّة.
لقد قلتُ لكَ بالأمس بأنّي بينما كنتُ أكتبها، وكنتُ أشعر بمدى صلاحها، كان عليّ أن أبذل مجهوداً معنويّاً حقيقيّاً لقبولها. وكما أنّكَ لاحظتَ أثناء قراءة النقاط حول حياتي، بأنّه حتماً لم تكن لديّ شخصية يعقوب. إنّني، أنا ماريا فالتورتا، بشرية جدّاً، مع كل ما تحمله هذه الإنسانيّة مِن نَزَق، كبرياء، ميول، الخ... وعليَّ، لجعل ماريّا-الصليب تحيا، أن أحيل ذاتي إلى رماد في كلّ لحظة كي أعاود الولادة مِن رمادي البشري مِن جديد، مثل طائر الفينيق الملحميّ، بشكل جديد، وحتماً، أكثر قبولاً مِن الله الصالح.
عندما يقول لي "الصوت"2: "أنتِ لستِ بشيء؛ أنتِ، مِن ذاتكِ، ما كنتِ لتكوني قادرة على تحقيق أي شيء أبداً"، أكون مقتنعة تماماً بذلك. فلا أقدّم صوراً خادعة عن بشريّتي البائسة وطبيعتي الروحيّة الجنينيّة. أعلم أنّ الأولى مجنونة مثل مهر في الربيع، والأخرى جنينيّة لدرجة أنّها ليست سوى رسم باهت. وبالتالي أعزّي ضعفي وأكبح بشريّتي بصليب المسيح. فقط بتشبّثي بالمسيح المصلوب يمكنني الحفاظ على نفسي مستقيمة، وفقط بقيامي بتثبيت بشريّتي بمسامير متينة ومُهِينة، يجعلني قادرة على أن أبقيها هناك، خاضعة، عاجزة عن ارتكاب حماقاتها.
فلا نقولنّ إذاً "ابتهالي". فهو مِن آخر. فلا ينبغي لي أن أنسب لنفسي ما ليس لي. فأزدهي بذلك تكبّراً بالكذب على نفسي، على العالم وعلى الله. وإذا ما أفادت تلك الكلمات -ولا يمكنها ألاّ تفيد لأنّها كانت آتية مِن منطقة نور، وأيّ نور!- فلنُرجِع الفضل في ذلك لله وكفى.
هناك أمران يجعلانني أفتح أكثر عينيّ وأذنيّ لرصد أقلّ حركة لعدوّ النفوس، الّذي يزحف، يندسّ ويُصَفّر أغنيته المغوية بمهارة بالغة ليُبهرنا ويُخضعنا. الأمر الأوّل، ميول الجسد، الـمُعانِدة جدّاً رغم كلّ المسوح؛ والأمر الآخر، تخمّرات الكبرياء الّتي تسعى دائماً لأن تتضخّم... أشعر غريزيّاً أنّ هذا وتلك لا تموت إلّا بعدنا بثلاثة أيام، وأنّ فقط صلاح الله وإرادة عظيمة، بل عظيمة جدّاً مِن قِبَلنا، إرادة لا تتعب، يَقِظَة، فَطِنة، يمكنها أن تجعلها غير مؤذية، مُعَقِّمةً إياها عند كلّ موجة جديدة مِن بذورها الـمُفسِدة. وأشعر كذلك أنّني إذا ما تركتُ حبائل الأحاسيس والكبرياء تلفّني، فإنّ حالة النعمة الحاليّة لسوف تتوقّف فجأة، قبل، بل قبل كثيراً ممّا يريده يسوعي، الّذي لا يني يحملني بين ذراعيه ويهمس لي بكلام الحياة.
تصوّر أن أريد فقدان هذه الغبطة بخطأ منّي! إنّها هي الّتي تمنعني مِن الشعور بلسعة الأحداث البشريّة الّتي تهوي عليّ، واللسعة المزدوجة للذكريات الّتي تتزاحم في داخلي. كلّ شيء ينقضّ عليّ، كلّ شيء يتدفّق عليّ كما الماء، كما السيل، كالموجة، إنّما بقدر ما تطول غبطتي الحاليّة، فأنا مثل كتلة كريستال ينزلق عليها كلّ شيء دون أن يترك أثراً، دون التمكّن مِن الولوج.
سيأتي الوقت الّذي فيه سيصمت يسوع ويغادرني. صبراً! وإذاً؟ هل سأتشكّى مِن ذلك؟ لا. بالتأكيد، سوف أتألّم ولكنّني سأتقبّل الاختبار الجديد، مستمرّة في حبّه حتّى ولو تركني وحيدة. فإذا ما فعل ذلك، فبالتأكيد له أسبابه. وعندئذ ستكون لي بالتأكيد استحقاقات أكثر، بأن أحبّه آنذاك، والتي لا أمتلكها الآن.
كم هو دافع عظيم لأن أتحلّى بالمحبّة الآن وهو يحمل لي كل هذا القدر مِن المحبّة! وما لم يكن للمرء قلب يهوذا، فمن يشعر أنّه محبوب يحبّ. ولكنّ أسمى حبّ هو الّذي يعرف الاستمرار في الحبّ حتّى في حال ظنّه بأنّه لم يعد محبوباً. عندما نفعل ذلك مع البشر، لا نستفيد شيئاً، أو نادراً جدّاً ما نستفيد. إنّما عندما نفعل ذلك مع الله الصالح، فيمكن التأكّد بأنّ حصّة حبّ حتّى أكثر كثافة ستأتي لاحقاً، لأنّ الله يكافئنا دائماً بعدما يتمّ اختبارنا، إذا ما عرفنا البقاء أمناء.
----------
يقول يسوع:
«أتابع حديثي معكِ عن النّعمة3، الّتي تمنح حياة الروح.
عندما خلق الله الإنسان الأوّل، نفخ فيه، علاوة على حياة المادّة، وهي حتّى ذلك الحين لم تكن محيية، حياة الروح. وإلاّ لما تمكّن مِن القول أنّه خلقكم على صورته وشبهه.
لا يمكن لأيّ منكم تصوّر كمال هذه الخليقة الأولى. فقط نحن يمكننا رؤية، في الحاضر الأبديّ الذي هو أبديّتنا، كمال العمل الملكيّ لذكائنا الـخَلاّق. إنّ ذرية آدم، لو كان آدم قد أحسن البقاء مَلِكاً كما صنعناه، مع سلطان على كلّ شيء ومرتبطاً بالله فقط، ارتباط ابن محبوب، لكانت ذريةً ذات كمال دائم. إلاّ أنّ مهزوماً كان متربّصاً لينتقم.
أنتِ، يا ماريا، التي تقولين أنّه لا يمكن أن يخرج مِن قلبكِ بشكل عفويّ أفكار مسامحة لأنّ طبيعتكِ البشريّة تقودكِ إلى روح الانتقام، وبأنّكِ تعرفين أن تسامحي فقط إكراماً لي، هل فكّرتِ أنّ روح الانتقام هو الّذي دمّركم، أنتم أبناء آدم، وأرسلني، أنا، ابن الله، إلى الصليب؟
إنّ لوسيفوروس -والذي كان الأجمل بين المخلوقات الّتي خلقتُها- مِن عمق الهوّة الّتي سقط فيها، قبيحاً إلى الأبد على أثر تمرّده التجديفيّ على خالقه، كان متعطّشاً للانتقام. وبذلك، إلى خطيئة الكبرياء الأولى، ضمّ سلسلة لا نهائيّة مِن الجرائم، منتقماً لنفسه عبر الدهور. وعمله الانتقاميّ الأوّل كان موجّها إلى آدم وحوّاء. نابه المسموم وضع علامة بهيميّته في كمال خليقتي، ناقلاً إليها عدوى شهيّته للفجور، للانتقام، للكبرياء. ومنذ ذلك الحين تُصارع روحكم في داخلكم ضدّ سمّ اللسعة الجهنّميّة.
نادراً ما يتغلّب الروح على اللحم والدم، ويمنح للأرض والسماء قدّيساً جديداً! أحياناً يحيا الروح بعناء، في مراحل مِن السُّبات يكون خلالها كأنّه ميت؛ حينئذ تعيشون ككائنات محرومة مِن النور، مِن نوري. أحياناً أخرى يكون الروح مقتولاً حرفياً بيد خليقة تهوي بإرادتها مِن عرشها كابنة لله وتصبح أسوأ مِن وحش. تصبح شيطاناً، ابنة شيطان.
الحقّ أقول لكِ أنّ أكثر مِن ثلثيّ الجنس البشريّ ينتمون إلى هذه الفئة الّتي تعيش تحت علامة الوحش. بالنسبة لها أنا مُتُّ عبثاً.
إنّ شريعة الموسومين بعلامة الوحش تناقض شريعتي. ففي الأولى يسيطر الجسد الّذي يولّد أعمال الجسد. في الأخرى يهيمن الروح الّذي يولّد أعمال الروح. وحيث يهيمن الروح يكون ملكوت الله؛ وحيث يسيطر الجسد يكون ملكوت الشيطان.
الرحمة اللامتناهية الّتي تحرّك الثالوث قد منحت روحكم كلّ المعونات اللازمة كي تلبث مهيمنة. لقد مَنَحَت السرّ الّذي يزيل سمة الوحش مِن جسدكم كأبناء آدم ويطبع علامتي فيه. لقد مَنَحَت كلمتي التي هي كلمة الحياة، لقد مَنَحَتني، أنا المعلّم والفادي، أعطت دمي في الافخارستيا وعلى الصليب، أعطت الباراقليط، روح الحقّ.
مَن يعرف أن يلبث في الروح يُولّد أعمال الروح. فَمِن مخلوقات يتملّكها الروح تنبع المحبّة، الوداعة، الطهارة، المعرفة وكلّ عمل صالح مترافق باتضاع عظيم. مِن الآخرين تخرج، كما ثعابين تفحّ، الرذائل والخداع والجرائم والفجور، ذلك أنّ قلبهم يكون عشّاً للحيّات الجهنّميّة.
ولكن أين هم الّذين واللواتي يعرفون أن ينزعوا صوب حياة الروح وأن يصبحوا أهلاً لاستقبال البثّ الحيويّ للمعزّي في داخلهم، الّذي يأتي مع كلّ عطاياه، إنّما الذي يشتهي كعرش له روحاً جاهزاً لاستقباله، راغباً به؟ لا، العالم لا يريد هذا الروح الّذي يجعلهم أبراراً وصالحين. العالم يريد السُّلطة بأيّ ثمن، الغنى بأيّ ثمن، إشباع الحواس بأيّ ثمن، كلّ المسرّات الأرضيّة بأيّ ثمن؛ ويلفظ الروح القدس، يجدّف ضدّه ويُنكِر حقيقته، يتزيّن بثياب نبويّة، متفوّهاً بكلام لا يخرج مِن رحم الثالوث الأقدس، إنّما مِن جحر الشيطان.
وهذا لا ولن يُغفَر. على الإطلاق. وعدم مغفرته يمكنكم رؤيته. إنّ الله ينسحب إلى أعالي السماوات لأنّ البشر يرفضون حبّه ويعيشون لأجل الجسد وفيه. تلك هي أسباب دماركم وصمتنا. مِن الأعماق تخرج مجسّات الشيطان؛ على الأرض البشر يَدَّعون أنّهم آلهة ويجدّفون على الله الحقّ؛ في الأعالي تُغلَق السماء. وهذا بحدّ ذاته رحمة، فبانغلاقها تحبس الصواعق الّتي تستحقّونها.
إنّ عنصرة جديدة كانت لتجد القلوب أكثر صلابة وأكثر قذارة مِن حجر ملقى في مستنقع وحل. امكثوا إذاً في الوحل الّذي أردتموه، في انتظار أمر، لا يمكنكم التمرّد عليه، يسحبكم منه لإدانتكم وفصل أبناء الروح عن أبناء الجسد.»
----------
والآن، يا يسوع الصالح، دعني أنا أتكلّم. لقد قلتَ أموراً كثيرة اليوم بحيث لا أستطيع كتابتها كلّها. وفي الساعات الأولى، كنتُ متعبة جدّاً وأعاني بحيث كنتُ عاجزة عن متابعة صوتكَ العذب. بعد ذلك تحسّن الحال، إنّما الآن فالألم عاودني. إنّها ساعة مِن ساعات الجتسمانيّة.
لأجل مَن أنا أتألّم؟ مَن هي النَّفْس الّتي تحتاج لهذا النزاع لتشفى، لترجو، لتعود إليكَ؟ لن أعرف أبداً هنا على هذه الأرض، لكنّني مقتنعة أنّها موجودة وأنّ عليَّ تجرُّع كأسي الـمُرّة هذه بدافع تكفير. أفعل ذلك عن طيب خاطر حتّى ولو حفرت الدموع على خدّيّ أخاديد. ولكن دعني أبكي على قلبكَ، فإن كان عذباً الحبّ عليه، فعذب هو التألّم فيه.
كلّ الأحزان تأتي أمواجاً. أنتَ تعرفها كلّها دون أن أُحصيها لكَ. كذلك كلانا نعلم ماذا يختبئ خلف هذه الشاشة السوداء الّتي تريد أن تُغلّفني. أُغلِق عينيّ كي لا أراها. أفعل كما يفعل الأطفال الخائفين مِن الظلام. وهذا المساء أنا بحقّ مثل فتاة صغيرة مسكينة وحيدة في مكان دون نور. كلّ ركن هو عشّ لظلال تتّخذ أشكال مرعبة. إذا ما أغلقتُ عينيّ جيّداً، بعد التحديق فيكَ مُطوّلاً كما النَّظَر إلى الشمس، فلا تبقَ سوى صورتكَ في عمق شبكيّتي؛ إذا ما التصقتُ جيّداً بكَ، فلا أعود أشعر بالوحدة حولي حيث يمكن أن تظهر أخطار كثيرة. أشعر بذراعيكَ تحيطان بي، وحتّى ولو بكيتُ، فلا أعود أشعر بالخوف.
خذ دموعي هذا المساء. ليس لديّ سواها لأقدّمها لكَ في هذه الليلة مِن الألم. فلستُ أقول لكَ حتّى: "ارفع عنّي هذا الألم"؛ أقول لكَ فقط: "لتكن مشيئتكَ، ولكن، ساعدني يا يسوع".
نعم، ساعدني أيّها المعلّم الصالح. لا تدعني أغادر. كلّ ما تريده مِن الألم، يا ربّ، إنّما قربكَ على الدوام. أنا أعلم، أؤمن أنّني مِن أجل خير ما أكابد هذا العذاب المعنويّ المبرّح؛ أنا أعلم، وأرجو ألاّ يكون بلا فائدة؛ أعلم أنّني إذا ما تألّمتُ بسلام، على قلبكَ، فسيبقى السلام في داخلي ولن يستطيع حقد الشيطان تعكير صفوه. أقول لكَ إذاً: ها أنا ذا، حبّاً بكَ، جاهزة لإتمام مشيئتكَ…
ليس أبعد مِن هذا الصباح، كنتُ أقول إنّ غبطتي الحاليّة كانت تمنعني مِن الشعور بلسعة الأحداث البشريّة. على العكس، هذا المساء شعرت بمرارة الاحتياج لتلك الساعة. وعانيتُ مِن ذلك كثيراً. لو كنتُ تألّمتُ وحدي، لكان ألمي تشنّجيّاً. ولأنّني أعلم جيّداً أنّ أيّ مخلوق بشري ما كان ليستطيع مواساتي، فقد توجّهتُ إليكَ بإيمان. أنتَ تريد أفعال الإيمان الـمُحِبّ هذه، تعويضاً عن كلّ تقصير في الحبّ يُنكِر. وأنتَ تكافئ سريعاً النَّفْس السخيّة مانحاً إيّاها التعزية.
الآن تعلّمتُ، وأهرع حالاً لألتجئ إليكَ؛ لا أكتفي بالصلاة إليكَ، أدفع جرأتي إلى أبعد وأرتمي بين ذراعيكَ. أنتَ إلهي، ولكنّكَ كذلك أخي وعروسي، لذلك أستطيع، علاوة على الصلاة لكَ، أن أحتضنكَ حتّى لا أشعر أنّني وحيدة في مواجهة مستقبل حزين بالنسبة للجميع، إنّما الطافح بالمجهول الأكثر مشقّة بالنسبة لي.
دعني هكذا طوال هذا الشهر الحزين للغاية، دعني هكذا حتى ساعة موتي. حتّى وإن لم تكلّمني، يكفيني أن تدعني أبقى هكذا عند قلبكَ. تذكّر، يا ربّ، نزاعكَ، وكن أنتَ لقربانتكَ الصغيرة جدّاً الملاك المعزّي...
----------
1- تتوجّه هنا ماريا بالكلام إلى الأب ميغليوريني بما يخص الابتهال إلى سيّدة الآلام: انظر إملاء 05 / 06 / 1943.
2- في إملاء 28 / 05 / 1943
3- تابع لإملاء 06 / 06 / 1943.