ج4 - ف94
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
94- (مَثَل النَّعجة الضَّالة)
12 / 08 / 1944
يتحدّث يسوع إلى الجَّمع، وقد صَعَدَ إلى حافّة السَّيل الـمُشَجَّرة، يتحدّث إلى حشد كبير انتَشَرَ في حقل حُصِد القمح فيه، وهو يوحي بحزن السُّوق التي أحرَقَتها الشمس.
إنّه المساء، والغَسَق يُرخي سدوله، ولكنّ القمر بدأ رحلة صعوده. إنّها ليلة جميلة ومُنيرة في مَطلَع صيف. قطعان تعود إلى الحظيرة، ورنين أجراسها يختلط بغناء الجَّداجِد وزيز الحصاد الحاد: كري، كري، كري.
ويستمدّ يسوع التَّشبيه مِن القِطعان التي تمرّ. يقول: «إنّ أباكم كالرَّاعي السَّاهِر بانتباه. ماذا يفعل الرَّاعي الصَّالح؟ إنّه يبحث عن المراعي الجيّدة مِن أجل خِرفانه، حيث لا شوكران ولا نباتات خطرة، بل شذر لذيذ وعشب عَطِر وهندباء مُرَّة إنّما مفيدة صحّيّاً. يُفتِّش لها عن مكان يتوفّر فيه الانتعاش إلى جانب الغذاء، ساقية مياه عذبة، أشجار تَفرد الظلال، حيث لا ثعابين وَسَط الخضرة. لا يهتمّ بإيجاد المراعي الأكثر نُضرة، لأنّه يَعلَم أنّها تُخفي، بسهولة ويُسر، الحيَّات المترصِّدة، والأعشاب الضارّة، ولكنّه يُفضِّل مراعي الجبال، حيث الندى يجعل العشب نقيّاً ونديّاً، والشمس تخلِّصه مِن الزواحف، وحيث الجوّ لطيف، يحرّكه النسيم، إنّما ليس ثقيلاً ومُضرّاً بالصحّة كالذي في السهل. الرَّاعي الصَّالح يُراقِب نِعاجه واحدة واحدة. يُداويها إن كانت مريضة، ويُضمِّد جرحها إن كانت جريحة. يَرفَع صوته في وجه التي تُصاب بالنَّهَم، والتي تؤذي نفسها بالمكوث في مكان رطب، أو تحت الشمس الحارقة، فيجعلها تُبدِّل موضعها. أمّا إذا كانت فاقدة للشهيّة، فإنّه يَجلب لها الأعشاب الحَامِضة والعَطِرة، التي يمكنها فتح شهيّتها، ويُقدِّمها لها بيده، وهو يُحدِّثها كما يُحدِّث إنساناً صديقاً.
هكذا يتصرّف الأب الذي في السماوات مع أبنائه الذين يَهيمون في الأرض. حُبّه هو العصا التي تجمعهم، والصوت الذي يقودهم، ومراعيه هي شريعته، والسماء الحظيرة.
ولكن هي ذِي نَعجَة تتركه. كَم كان يحبّها! كانت صغيرة، نقيّة وطاهرة، مثل سحابة رقيقة في سماء نيسان (أبريل). كان الرَّاعي يتطلَّع إليها بحبّ كثير، وهو يُفكِّر بكلّ الخير الذي كان يمكنه تقديمه لها، وبكلّ الحبّ الذي يمكنه تلقّيه. وتتركه.
على مدى الطريق التي تَحدّ الـمَرعى، يَمرّ مُجرِّب. إنّه لا يرتدي سترة متقشِّفة، بل ثوباً بألف لون. وهو لا يتمنطق حزاماً جلديّاً، تتدلّى منه فأس وسِكّين، بل نطاقاً مِن الذهب تتدلّى منه جُريسات، رنّاتها فضّيّة رخيمة مثل صوت البلبل، وحبابات العُطور الـمُنعِشة... لا يملك العصا التي بها يَجمَع الرَّاعي الصَّالح خِرافه ويُدافِع عنها، وإذا لم تكن العصا كافية، فيكون مُستعدّاً للدفاع عنها بالفأس والسكّين، وحتّى بتعريض حياته هو للخطر. ولكنّ ذلك الـمُجرِّب الذي يَمرّ، يحمل بين يديه مَبخَرة تَشعّ بأحجارها الثمّينة، ويتصاعد منها دخان، هو في الوقت نفسه نَتانة وعِطر. يُدهِش بالانبهار الذي تُسبّبه سطوح الأحجار الكريمة والجواهر. آه! يا لذاك الغشّ! فإنّه يمضي مُغنّياً، رامياً قَبضات مِن الملح تَلمَع على الدرب المظلم…
وتَنظُر تسع وتسعون نعجة إليه دونما حراك.
أمّا النَّعجَة المائة، الأصغر والأحبّ، فإنّها تَقفِز وتختفي خلف الـمُجرِّب. يناديها الرَّاعي، ولكنّها لا تعود. إنّها تمضي أسرع مِن الريح، لِلَّحاق بالذي مَرَّ، وللحفاظ على قواها أثناء جريها، تأكل مِن ذاك الملح الذي يَنفَذ إلى أعماقها، ويَحرقها بنشوة غريبة تَدفَعها للبحث عن المياه السوداء والخضراء في ظُلمة الغابات. وهناك في الغابات، في إثر الـمُجرِّب، تَغرَق، تُختَرَق، تَصعَد، تهبط وتقع... مرّة، مرّتين، ثلاث مرّات، ومرّة، مرّتين وثلاثاً تحسّ بِعِناق الزواحف الدَّبِق حول عنقها، ولشدّة عطشها تَشرَب مِن المياه الآسنة، ولجوعها تقضم أعشاباً تَلمَع بِلعاب مُقرِف.
وفي تلك الأثناء، ماذا تُراه يَفعل الرَّاعي الصَّالح؟ إنّه يُقفِل الباب على التسع والتسعين نَعجَة أمينة، في مكان آمن، ويمضي في بحث حثيث عن النَّعجة الضَّالّة، ولا يتوقّف حتّى يقتفي أثرها. وبما إنّها لا تعود إليه، وقد ائتَمَن الريح على نداءاته، فإنّه يَمضي إليها. يراها مِن بعيد، سكرانة، وقد شَبَكَتها الزواحف، سكرانة لدرجة لا تحسّ معها بحنين الوجه الذي يحبّها، وتَسخَر منه. ويراها مِن جديد مُذنِبة لِدُخولها كالسارق في بيت الغير، مُذنِبة لدرجة لا تعود تَجرؤ معها على النَّظَر إليه... ومع ذلك، لا يتعب الرَّاعي... بل يمضي، ويَبحَث عنها، يَنشدها، يتبعها، يطالبها بإلحاح، يبكي على آثار الضّالّة: نُتَف مِن جزّة، نُتَف مِن نَفْس؛ آثار دم: جُنَح مِن كلّ الأشكال؛ نفايات: شهادات عن فسقها. فيمضي ويَلحَق بها.
آه! لقد وجدتُكِ يا محبوبتي! لقد لحقتُ بكِ! كَم سَلَكتُ مِن الدروب لأجلكِ! حتّى أعود بكِ إلى الحظيرة. لا تَحني جبهتكِ الملطّخة. لقد دَفَنتُ خطيئتكِ في قلبي. لَن يعرفها سواي، أنا الذي أحبّكِ. سوف أُدافِع عنكِ في مواجهة انتقادات الغير، سوف أحميكِ بِذاتي كمجنّ في وجه حجارة الذين يُدينونك. تعالي. هل أنتِ جريحة؟ آه! أَرِني جراحكِ. أَعرِفها، ولكنّني أريدكِ أن تُريني إيّاها، بالثقة التي كانت لكِ عندما كنتِ نقيّة، عندما كنتِ تَنظُرين إليَّ، أنا راعيكِ وإلهكِ، بِعَين بريئة. هي ذي. وجميعها لها اسم. آه! كم هي عميقة! من ذا الذي جَعَلَ جراحكِ في عُمق القلب بهذا العُمق؟ الـمُجَرِّب. أَعلَم ذلك. إنّه هو الذي لا يملك عصاً ولا فأساً، ولكنّه يَجرَح أكثر عُمقاً بعضّته السامّة، وبعده تأتي الجواهر المزيّفة في مَبخَرته، التي أَغرَتكِ ببريقها... وقد كانت كبريتاً جهنّميّاً يُصنَع في النور ليحرق قلبكِ. انظري كَم مِن الجِّراح وكَم مِن الأسمال الممزَّقة، وكَم مِن الدم، وكَم مِن العلّيق!
آه! أيّتها النَّفْس الصغيرة المسكينة المخدوعة! إنّما قولي لي: إذا غفرتُ لكِ، فهل ستحبّينني بعد؟ قولي لي: لو مَدَدتُ لكِ ذراعيّ، فهل ترتمين فيهما؟ بَل قولي لي: هل أنتِ عطشى إلى حُبّ صالح؟ إذاً تعالي وعودي إلى الحياة، عودي إلى المراعي المقدَّسة. أنتِ تبكين. ودموعكِ، إذ تَمتَزِج بدموعي، تَغسل آثار خطيئتكِ، وأنا، لكي أغذّيكِ، لأنّ الشرّ الذي أحرقكِ قد أنهككِ، أَفتَح صدري، أَفتَح عروقي وأقول لكِ: "تغذّي ولكن عيشي!"
تعالي أضمّكِ بين ذراعيّ. وسنمضي بشكل أسرع إلى المراعي المقدَّسة والآمنة. سوف تنسين كلّ شيء عن ساعة اليأس هذه إلى جانب أخواتكِ التسع والتسعين، الصالحات اللواتي يغتبطن لعودتكِ. وأقول لكِ، يا نَعجَتي الضَّالّة، يا مَن بَحَثتُ عنها، وأنا قادم مِن بعيد، وَوَجَدتُها وخَلَّصتُها، بأنّه يكون فرح عظيم بين الصالحين لِنَعجة واحدة ضالّة تعود، أكثر مِن التسع والتسعين البارّة التي لَم تَبتَعِد عن الحظيرة.»
لَم يلتفت يسوع أبداً لِيَنظُر إلى الطريق التي خلفه، والتي وَصَلَت عَبْرها، في شبه عتمة المساء، مريم المجدليّة، التي ما تزال أنيقة جدّاً، ولكنّها مُحتَشِمة، على الأقلّ، وقد التَحَفَت بِوشاح داكن يخفي تقاطيعها وشَكلها. ولكن، حينما بَلَغَ يسوع إلى تلك الكلّمات: "لقد وجدتُكِ يا محبوبتي." مَرَّرَت مريم يدها تحت الوشاح، وأَخَذَت تبكي على مهل، بنعومة وبلا توقّف. لا يراها الناس، لأنّها خلف الـمُنحَدَر الذي يَحدّ الطريق. فما مَن يراها سوى القمر العالي وروح يسوع…
ثُمَّ يقول لي: «التفسير يَكمن في الرؤيا، إنّما سوف أُحدِّثكِ عنها أيضاً وأيضاً. استريحي الآن، لقد حان الوقت. أبارككِ أيّتها الوفيّة ماريا.»