ج2 - ف45

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

45- (عند مخاضة نهر الأردن. الالتقاء بالرُّعاة يوحنّا، متّياس وشمعون)

 

18 / 01 / 1945

 

إني أرى مِن جديد مخاضة نهر الأردن: شبه غابة خضراء تحدّ النهر على ضفّتيه، يقصدها المسافرون كثيراً بسبب ظلالها. قوافل مِن الحمير يرافقها الرجال يَغدُون ويَعودون.

 

على ضفّة النهر، ثلاثة رجال يرعون بعض النِّعاج على الطريق، يَنظُر يوسف إلى الأعلى وإلى الأسفل. مِن بعيد، حيث يتفرّع درب عن هذا السبيل النهريّ، يُلَوِّح يسوع مع التلاميذ الثلاثة. ينادي يوسف الرُّعاة، وهؤلاء يَدفَعون النِّعاج إلى الدرب، مُسيِّرين إيّاها على المرعى العشبيّ. يمضون للقاء يسوع بتشوُّق.

 

«أنا لا أجرؤ أبداً... بأيّ كلام أُلقي عليه السلام؟»

 

«آه! إنّه طيّب جدّاً. ستقول له: "السلام لكَ". فهو أيضاً يُحيِّي هكذا دائماً.»

 

«هو، نعم... أمّا نحن...»

 

«وأنا، مَن أكون؟ فإنّي لستُ حتّى مِن أوائل عابِدِيه، وهو يحبّني كثيراً... آه! كثيراً!»

 

«أيّهم هو؟»

 

«الأكبر والأشقر.»

 

«هل سنحدّثه عن المعمدان يا متّياس؟»

 

«آه! نعم.»

 

«أفلا يظنّ أنّنا فَضَّلناه عنه؟»

 

«لا يا سمعان، إذا كان هو مَسيّا فإنّه يرى ما في القلوب، ويرى في قلوبنا أنّنا لم نكن نبحث في المعمدان عن سواه.»

 

«أنتَ مُحِقّ.»

 

أصبَحَت المجموعتان الآن على بُعد أمتار الواحدة عن الأخرى. ويبتسم يسوع ابتسامته التي لا يمكن وصفها. ويحثّ يوسف الخطى. وكذلك النِّعاج أَضحَت تقفز هي الأخرى يدفعها الرُّعاة. «السلام لكم.» يقولها يسوع رافعاً ذراعيه كما ليُقَبِّلهم. ويُحدّد: «السلام لكَ يا سمعان، ويا يوحنّا، ويا متّياس، الأوفياء لي وليوحنّا النّبي! السلام لكَ يا يوسف.» ويُقَبِّله مِن وجنته. يجثو الثلاثة الآخرون. «هلمّوا أيّها الأصدقاء إلى ظلّ هذه الأشجار على شاطئ النهر ولنتحدّث.»

 

يَنحَدِرون، ويجلس يسوع على قرمة ناتئة، والآخرون على الأرض. يبتسم يسوع ويَنظُر إليهم بانتباه شديد، فرداً فرداً: «دعوني أتعرّف إلى وجوهكم. فالنُّفوس أنا أعرفها، كنفوس مستقيمين يتعلّقون بالخير الذي يحبّونه، في مقابل كلّ منافع العالم. إيلي ولاوي، إنّي أحمل لكما السلام مِن إسحاق، وسلاماً آخر: سلام أُمّي. هل لديكم أخبار عن المعمدان؟»

 

الرجال الذين خرسوا حتّئذ بفعل التهيُّب، عادت إليهم الطمأنينة، وها هم يَجِدون الكلمات: «إنّه ما يزال في السجن، وقلوبنا ترتعش مِن أجله، فهو بين يديّ إنسان مجرم، تسيطر عليه مخلوقة جهنّمانيّة، ومُحاط بِبَلاط فاسد. نحن نحبّه... أنتَ تعلم أنّنا نحبّه وأنّه يستحقّ حبّنا. منذ غادرتَ بيت لحم، صُعِقنا بالناس... لم نُفجع بكراهيتهم بقدر انهيارنا لفقدانكَ أنتَ، مثل أشجار حَطَّمتها العاصفة. ثمّ بعد سنوات مِن المعاناة، كَمَن كانت جفونه مُخاطَة وهو يبحث عن الشمس، غير قادر على رؤيتها لأنّه كذلك في سجن ولا يستطيع اكتشافها، مع الفتور الذي يشعر به في جسده، إلى أن أَيقَنَّا أنّ المعمدان هو رجل الله الذي تنبّأ عنه الأنبياء بأنّه يُعِدّ طريق مسيحه، فذهبنا إليه. لقد قلنا لأنفسنا: "إذا كان هو السابق، فبذهابنا إليه سوف نجده". إذ إنّ مَن كُنّا نبحث عنه هو أنتَ يا سيّد.»

 

«أعلَم ذلك، وقد وجدتموني. ها أنا ذا معكم.»

 

«لقد قال لنا يوسف إنّكَ أتيتَ إلى المعمدان. لم نكن هناك يومئذ. قد نكون حينذاك ذهبنا نقضي له حاجة في مكان ما. كنّا في خدمته، في الخدمات الروحيّة التي كان يطلبها منّا، بحبّ جمّ، كما كنا نستمع إليه نحن أيضاً بحبّ، رغم صرامته الشديدة، لأنّه لم يكن أنتَ الكَلِمَة، ولكنّ كلام الله هو ما كان يتفوّه به على الدوام.»

 

«أعلم ذلك. وهذا ، أفلا تعرفونه؟» ويشير إلى يوحنّا.

 

«كُنّا نراه مع جليليّين آخرين فيما بين الجماعة الأكثر وفاء للمعمدان. وإذا لم نكن مخطئين فأنتَ تُدعى يوحنّا، وقد كان يقول لنا عنكَ، نحن المقرّبين إليه: "هاكم: الآن أنا الأوّل وهو الأخير، أمّا بَعد فسيكون هو الأوّل وأنا الأخير". ولم نكن أبداً لنُدرك ما كان يرمي إليه بقوله هذا.»

 

يلتَفِت يسوع يساراً حيث يوحنّا. يضمّه إلى قلبه بابتسامة مُشِعّة... ويَشرَح: «هو كان يريد القول بأنّه كان أوّل الـمُعلِنِين: "هو ذا الحَمَل"، وهذا سيكون آخر أصدقاء ابن الإنسان الذي سيُحَدِّث الجُّموع عن الحَمَل؛ ولكنّه في قَلب الحَمَل هو الأوّل لأنّه أحبّ إليه مِن أيّ إنسـان آخر. ذاك ما كان يريد المعمدان قولـه. ولكن حينمـا سَـتَرَونه -إذ سوف تعودون وتَرَونه، وأيضاً تخدمونه، حتّى الساعة المحدّدة- فقولوا له إنّه ليس الآخير في قلب المسيح. فليس بالدم، بل بالقداسة هو الأَحَبّ كهذا. وأنتم احفظوا هذه الذكرى في قلوبكم. إذا كان تَواضُع القدّيس جَعَلَه يُعلِن أنّه "الأخير"، فكلمة الله يُعلِن أنّ مكانته في قلبه مثل مكانة التلميذ المحبوب هذا. فقولوا لـه إنّني أحبّ هذا التلميذ لأنّه يحمل اسمه، وأجد فيه ملامح مِن المعمدان المكلّف بتهيئة النفوس للمسيح.»

 

«سوف نقول له ذلك... إنّما هل سنراه فيما بعد؟»

 

«سوف تَرَونَه.»

 

«نعم، إنّ هيرودس لا يجرؤ على قتله خوفاً مِن الشعب، وفي هذا البلاط الجَّشِع والفاسِد، كان ممكناً، بل مِن السهل تأمين حرّيته لو كنا نملك المال الكثير. إنّما... إنّما رغم المبلغ الكبير الذي دَفَعَه الأصدقاء، ما يزال ينقصنا الكثير. ونخشى كثيراً أن نتأخّر... فيكون مع ذلك قد قُتِل.»

 

«كم تظنّون ينقصكم لافتدائه؟»

 

«ليس لافتدائه، يا معلّم. هيروديا تكرهه كثيراً، وتلحّ كثيراً على هيرودس ليعتقد بأنّنا نستطيع التوصّل إلى افتدائه. ولكن... في مكرونة، أظنُّ أنّ كلّ الذين يطمحون إلى العرش مجتمعون. والجميع يبتغون المسرّة، الجميع يبتغون السيطرة: مِن الوزراء حتّى الخَدَم. إنّما لإنجاز هذا يبالغون بطلب المال... وقد كان مِن الممكن إيجاد مَن يُطلِق سراح المعمدان مقابل مبلغ ضخم. حتّى هيرودس نفسه مِن الممكن أن يتمنّى ذلك... لأنّه خائف. لا لشيء سوى هذا. إنه يخاف الشعب ويخشى زوجته. وهكذا يُرضِي الشعب، وكذلك زوجته لا تتّهمه بأنّه أَثَارَ سُخطَها.»

 

«وكم يَطلُب هذا الرجل؟»

 

«عشرين وزنة فضّة، ونحن لا نملك منها سوى اثنتي عشرة وزنة ونصف.»

 

«يا يهوذا، لقد قُلتَ إنّ هذه الحُليّ جميلة جدّاً.»

 

«إنّها جميلة وثمينة.»

 

«كم يمكن أن يَبلُغ ثمنها؟ يبدو لي أنّ لكَ خِبرة في ذلك.»

 

«نعم، لي خبرة. لماذا تريد معرفة قيمتها يا معلّم؟ هل تبغي بيعها؟ لماذا؟»

 

«مُمكِن... قُل لي كم يمكن أن يَبلُغ ثمنها؟»

 

«إذا بيعَت في أحسن الظروف، فعلى الأقل... على الأقل ستة وزنات.»

 

«هل أنتَ متأكّد؟»

 

«نعم يا معلّم. فالعِقد وحده، وهو كبير وثقيل، يبلغ ثمنه على الأقل ثلاث وزنات. لقد تفحّصتُه جيّداً. وكذلك الأساور... أتساءل كيف كان مِعصَما أغليّا الناعمان يتحمّلان ثقلها.»

 

«لقد كانت أغلالاً في يديها، يا يهوذا.»

 

«صحيح يا معلّم... ولكنّ كثيرين يتمنّون مثل هذه الأغلال!»

 

«أتعتقد ذلك؟ مَن؟»

 

«ولكن... كثيرون!»

 

«نعم، كثيرون ممّن لا يحملون مِن الإنسان سوى اسمه. هل تعرف مُشتَرياً مُحتَمَلاً؟»

 

«بالنتيجة، تريد بيعها؟ ومِن أجل المعمدان؟ إنّما تَبَصَّر. فهي مِن الذهب الملعون!»

 

«آه! يا لهذا التَّضارُب! منذ لحظة قلتَ بلهفة إنّ الكثيرين يَبغون اقتناء هذا الذهب، ثمّ تسمّيه ملعوناً؟! يهوذا، يا يهوذا!... هو ذهب ملعون، نعم ملعون. ولكنّها قالت: "يتقدّس حينما يَخدم مَن هو فقير وقدّيس". ولأجل ذلك تَبَرَّعَت به، لكي يُصلّي المستفيد مِن أجل نفسها المسكينة التي مثل خادرة تَنبت في زَرع قلبها. تُرى مَن هو الأكثر قداسة وفقراً مِن المعمدان؟ إنّه، في رسالته، مساوٍ لإيليا، إنّما في القداسة فهو أعظم مِن إيليا. إنّه أكثر فقراً منّي، فأنا لي أُمّ وبيت... ومَن يمتلكهما طاهِرَين ومقدَّسَين مثلما أمتلكهما، فهو ليس بمهمَّش أبداً. أمّا هو فلم يعد يمتلك بيتاً ولا حتّى قبر أُمّه. لقد انتُزِعَ منه كلّ شيء، وانتُهِكَت قداسته بفساد الأخلاق البشريّة. مَن هو إذاً المشتري؟»

 

«هنالك واحد في أريحا وكثيرون في القدس. إنّما الذي في أريحا!!! آه! إنّه مشرقيّ، طَرَّاق ذهب، مرابٍ، تاجر سلع مستعملة، سمسار، وهو لصّ بكلّ تأكيد وقد يكون مجرماً... مِن المؤكّد أنّه مُلاحَق مِن روما. يَدَّعي أنّ اسمه إسحاق، لكي يبدو يهوديّاً، ولكنّ اسمه الحقيقي ديوميد. إنّني أعرفه جيّداً...»

 

«واضِح!» يُقاطِعه سمعان الغيور، الذي يتكلّم قليلاً ولكنّه يُلاحِظ كلّ شيء. ويسأل: «كيف تَوَصَّلتَ إلى معرفته بهذا الشكل البديع؟»

 

«لكن... تَعلَم... لإرضاء أصدقاء ذوي مكانة رفيعة، ذهبتُ لمقابلته... وقد قضيتُ بعض الأعمال... نحن الذين مِن الهيكل... تَعرِف...»

 

«نعم!... تقومون بكلّ المهن.» يَستَخلِص سمعان بسخرية باردة. فيحمرّ وجه يهوذا، ولكنّه يصمت.

 

يسأل يسوع: «هل يمكنه الشراء؟»

 

«أظنّ ذلك، فالمال لديه كثير. بكلّ تأكيد، ينبغي معرفة كيفيّة البيع، فهو يونانيّ وماكر، وإذا رأى أنّ له مصلحة مع رجل شريف ونزيه، مع حمامة تَخرُج مِن عشّها، فإنه ينتف ريشها بكلّ سرور. إنّما لو كانت له مصلحة مع جَشِع مثله...»

 

«اذهب أنتَ يا يهوذا. أنتَ هو النّموذج المطلوب. فلديكَ مكر الثعلب وضراوة النسر. آه! سامحني يا معلّم فقد تكلّمتُ قبلكَ!»

 

«أشاطركَ الرأي، وأقول ليهوذا بأن يذهب إليه. اذهب معه يا يوحنّا وسوف نلتقي عند غروب الشـمس. سـيكون الملتقى في سـاحة السوق. اذهب وافعل ما بوسعكَ.»

 

يَنهَض يهوذا حالاً. بينما عَينا يوحنّا تتوسّلان مثل عيني كلب طَرَدَه صاحبه. لكنّ يسوع يُتابِع حديثه مع الرُّعاة دون أن يعير انتباهاً لتلك النَّظرة المتوسِّلة. ويلحق يوحنّا بيهوذا.

 

يقول يسوع: «أريد أن أجعلكم تفرحون.»

 

«إنّنا مسرورون بكَ على الدوام، يا معلّم. فليبارككَ العليّ مِن أجلنا. هل هذا الرجل صديقكَ؟»

 

«هو كذلك. أفلا يبدو لكَ أنّه يمكن أن يكون كذلك؟»

 

يَخفض الرَّاعي يوحنّا رأسه ويصمت. يتكلّم سمعان التلميذ: «فقط طيّب القلب يمكنه أن يرى. أنا لستُ طيّب القلب. فلا أرى ما تراه طيبة القلوب. إنّي أرى الظَّاهر بينما طيّب القلب ينفذ إلى الأعماق. أنتَ كذلك يا يوحنّا، ترى مثلي، ولكنّ المعلّم طيّب القلب... ويرى...»

 

«ماذا ترى في يهوذا؟ آمركَ أن تتكلّم.»

 

«هاك: عندما أَنظُر إليه، تخطر ببالي مَواطِن كثيرة مُبهَمَة، تبدو مثل أوكار حيوانات مُفتَرِسة ومستنقع محموم. لا يبدو منه سوى متاهة كبيرة فقط، ندور فيها في بحر مِن الخوف. وبالعكس... بالعكس، مِن الجهة المقابلة هناك كذلك يمامات وحَسْاسين والأرض غنيّة بينابيع خيّرة وأعشاب ذات نفع. أريد الاعتقاد بأنّ يهوذا كذلك... أعتقد ذلك لأنّكَ أنتَ ارتضيتَه، أنتَ الذي تَعلَم...»

 

«نعم، أنا الذي أَعلَم... هناك ثنايا كثيرة في قلب هذا الرجل... إنّما فيه جوانب كثيرة خَيِّرة. فقد رأيتُه في بيت لحم وفي إسخريوط. إذا كان هذا الجانب الإنسانيّ الخيّر والذي ليس سوى صلاح إنسانيّ يرتقي إلى سموّ الصلاح الروحيّ، حينئذ يصبح يهوذا ما ترغب أن يكونه. إنّه شاب...»

 

«ويوحنّا كذلك شاب...»

 

«وتُكمِل في قلبكَ: وهو أفضل. إنّما يوحنّا هو يوحنّا! يا سمعان، أَحِبَّ هذا المسكين يهوذا... أرجوكَ. ولو أحببتَه.. فإنّكَ تبدو أفضل.»

 

«أحاول بكلّ جهدي، مِن أجلكَ... ولكن هو الذي يحطّم كلّ محاولاتي، كما يفعل بقصب النهر... إنّما، يا معلّم، ليس لديَّ سـوى شـريعة واحـدة: أن أفعـل ما تريده أنتَ. ولذلك أنا أحبّ يهوذا، بالرغم مِن أنّ شيئاً ما يصيح في داخلي وفي ضميري ضدّه.»

 

«شيء ما، يا سمعان؟»

 

«لا أدري بالتحديد... شيء ما مثل صراخ الحارس في الليل... وهو يقول لي: "لا تَنَم! راقِب!" لستُ أدري... هذا الشيء لا اسم له. ولكنّه... صوت يرتفع في داخلي ضدّه.»

 

«لا تَعُد تفكّر فيه يا سمعان، لا تحاول تحديده. إنّ معرفة بعض الحقائق تُلحِق الضّرر... ومعرفتها يمكن أن تكون بالنسبة لكَ سبباً للخطايا. دع ذلك لمعلّمكَ. أمّا أنتَ، فأعطِني حبّكَ، وفكّر أن ذلك يسرّني...»

 

وينتهي كل شيء.