ج10 - ف1

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

{المجد}

 

1- (صباح القيامة. صلاة مريم.)

 

01 / 04 / 1945

 

تستأنف النسوة العمل على الطُيُوب، الّتي خلال الليل، في برودة الفناء، تصلّبت إلى عجينة كثيفة.

 

يوحنّا وبطرس يفكِّران بترتيب العلّيّة، وتنظيف أواني المائدة، ولكنّهما أعادا كلّ شيء إلى ما كان عليه عندما انتهى العشاء.

 

«هو قال ذلك.» يقول يوحنا.

 

«وقد قال أيضاً: "لا تناموا"! لقد قال: "لا تكن متكبّراً يا بطرس. ألا تعلم بأنّ ساعة التجربة توشك على أن تحلّ؟" و... وقال: "سوف تُنكرني"...» بطرس يبكي مجدّداً بينما يقول بغمّ شديد: «وأنا، أنكرتُه!»

 

«كفى يا بطرس! لقد ثبتَ إلى رشدكَ للتوّ. كُفّ عن هذا العذاب!»

 

«أبداً، لن أكفّ أبداً. حتى لو كنتُ لأُصبِح مسنّاً مثل الأحبار الأوّلين، حتّى لو كنتُ لأعيش السبع مئة أو التسع مئة عام الّتي عاشها آدم وأحفاده الأوّلون، فأنا لن أكفّ أبداً عن المعاناة مِن هذا العذاب.»

 

«ألا تأمل برحمته؟»

 

«بلى. فلو لم أكن آمل بذلك، لكنتُ مثل الإسخريوطيّ: إنساناً يائساً. إنّما حتّى لو هو غفر لي مِن حضن الآب حيث عاد، فأنا لن أغفر لنفسي. أنا! أنا! أنا الّذي قلتُ: "لا أعرفه"، لأنّ معرفته كانت خطرة في تلك اللحظة، وكنتُ خَجِلاً مِن كوني تلميذه، لأنّني كنتُ خائفاً مِن العذاب... هو كان ماضياً إلى الموت… وأنا، أنا كنتُ أفكّر بإنقاذ حياتي. ولإنقاذها، فقد نبذتُه، كما امرأة آثمة، تتخلّى عن ثمرة أحشائها، بعد أن وَلَدتها، لأنّ مِن الخطر إبقاءها قربها عند عودة زوجها المخدوع. إنّني أسوأ مِن زانية... أسوأ مِن…»

 

تدخل مريم المجدليّة، منجذبة إلى الصراخ. «لا تصرخ هكذا. مريم تسمعكَ! هي منهكة للغاية! لم يتبقَّ لديها أيّة قوّة، وكلّ شيء يؤذيها. صرخاتكَ عديمة الجدوى والمضطربة تعيد لها عذاب المعاناة ممّا كنتم عليه…»

 

«أترى؟ أترى يا يوحنّا؟ إنّ امرأة بإمكانها إسكاتي. وهي على حقّ. لأنّنا نحن، الذكور الـمُكرّسين للربّ، كنّا قادرين فقط على أن نكذب أو أن نهرب بعيداً. النسوة كُنّ جريئات. أنتَ يا يوحنّا، كنتَ شجاعاً أكثر قليلاً مِن امرأة، مِن فرط فتوّتكَ وطهارتكَ، استطعتَ أن تبقى. نحن، نحن، الأقوياء، الذكور، لُذنا بالفرار. آه! أيّ ازدراء سوف يكنّه العالم لي! قولي لي، قولي لي، يا امرأة! إنّكِ على حقّ! ضعي قدمكِ على هذا الفم الّذي كذب. فلربّما هناك القليل مِن دمه على نعل خُفّكِ. ووحده ذلك الدم، الممزوج بوحل الدرب، بوسعه أن يمنح الناكر قليلاً مِن الغفران، قليلاً مِن السلام. إنّما عليّ أن أعتاد على ازدراء العالم على حدّ سواء! ماذا أكون؟ إنّما قولوا: ماذا أكون؟»

 

«أنتَ متكبّر عظيم.» تجيب مريم المجدليّة بهدوء. «الألم؟ أيضاً هذا. إنّما ثق مع ذلك بأنّه مِن أصل عشرة أجزاء مِن ألمكَ، فإنّ خمسة أجزاء، كي لا أهينكَ بقول ستّة أجزاء، تتأتّى مِن ألمكَ بأن تكون محطّ ازدراء. وأنا سأزدريكَ بحقّ إن لم تفعل سوى النوح ووضع نفسكَ في كلّ الحالات الّتي تفعلها امرأة حمقاء بالضبط! ما حدث قد حدث. ولا يمكن للصرخات الهائجة أن تُصلحه أو أن تُلغيه. إنّها لا تُجدي نفعاً سوى بجذب الأنظار، أو باستجداء شفقة غير مستحقّة. كُن رجوليّاً في ندامتكَ. لا تصرخ. إعمَلْ. أنا... أنتَ تعرف مَن كنتُ... إنّما، عندما أدركتُ بأنّني كنتُ أكثر قَرَفاً مِن قيء، فإنّني لم أستسلم لنوبات التشنّج. لقد عَمِلتُ. علناً. مِن دون أن أكون متساهلة تجاه نَفْسي، ومِن دون استجداء التساهل. هل كان العالم يزدريني؟ لقد كان على حقّ. لقد كنتُ أستحقّ ذلك. العالم كان يقول: "نزوة جديدة للساقطة"؟ وكان يدعو لجوئي إلى يسوع تجديفاً؟ كان على حقّ. إنّ مسلكي السابق يتذكّره العالم، وهو كان يبرّر كلّ ملاحظاته. ومِن ثمّ؟ اضطرّ العالم إلى أن يُقنِع نفسه بأنّ الخاطئة مريم لم تعد موجودة. فبالأفعال، أقنعتُ العالم. وأنتَ، افعل هكذا، واصمت.»

 

«إنّكِ صارمة يا مريم.» يعترض يوحنّا.

 

«مع نفسي أكثر منه مع الآخرين. لكنّني أعترف. أنا ليست لي يد الأُمّ الناعمة. هي الحُبّ. أنا... آه! أنا! لقد حطّمتُ أحاسيسي بِسوطِ إرادتي. وسوف أفعل ذلك أكثر بعد. أتعتقد ‏بأنّني غفرتُ لنفسي أنّني كنتُ فاجرة؟ لا، لم أفعل، لكنَّني لا أقول هذا إلاّ لنفسي. وسوف أقوله دوماً لنفسي. سوف أموت مستنزَفةً بهذا الندم المكتوم بأنّني كنتُ مُفسِدة نفسي، بهذا الألم الّذي لا عزاء له بأنّني كنتُ قد دنّستُ نفسي، وبأنّني ما تمكّنتُ مِن أن أمنحه سوى قلب مُداس... أترى... لقد عَمِلتُ أكثر مِن كلّ الأُخريات في الحُنوط... وبشجاعة أعظم مِن الأُخريات سوف أكشف عنه... آه! يا الله! كيف سيكون شكله الآن! (شحبت مريم المجدلية لمجرّد التفكير بذلك) وسوف أكسوه بحُنوط جديد، نازعةً تماماً كلّ ذاك الّذي سيكون حتماً قد فسد على جروحه الّتي لا تُعدّ ولا تُحصى... سوف أفعل ذلك، لأنّ الأُخريات سَيَبدين كاللبلاب بعد المطر... ولكن يؤلمني بأنّ عليّ أن أفعل ذلك بهاتين اليدين اللّتين كانتا مُعتادتين على الـمُداعبات الفاسقة، وبأن أدنو مِن قداسته بجسدي الدَّنِس... أودّ... أودّ لو أمتلك يد الأُمّ العذراء لإتمام المسحة الأخيرة…»

 

الآن مريم المجدليّة تبكي على مهل، مِن دون نحيب. كم هي مختلفة عن مريم المجدليّة الـمُتصنّعة الّتي يُظهِرونها لنا دوماً! إنّها تبكي بصمت، كما كانت تبكي يوم غُفِر لها في منـزل الفرّيسيّ.

 

«أتقولين بأنّ... النسوة سيخفن؟» يَسأَلها بطرس.

 

‏«لن يخفن... بل سيضطربن أمام جسده، الّذي سيكون بالتأكيد قد فسد... مُنتفخاً... أسوداً. وفوق ذلك، بالتأكيد، سيخفن مِن الحرّاس.»

 

«أتريدينني أن آتي؟ ومعي يوحنّا؟»

 

«آه! هذا لا! نحن النسوة سنذهب كلّنا. لأنّ، على اعتبار أنّنا كنّا كلّنا هناك فوق، فمِن الإنصاف أن نكون كلّنا حول سرير موته. أنتَ ويوحنّا تبقيان هنا، فلا يمكن أن تبقى وحيدة!…»

 

«ألن تذهب؟»

 

«لن ندعها تأتي!»

 

«إنّها مُقتنِعة بأنّه سيقوم... وأنتِ؟»

 

«أنا، بعد مريم، الأكثر إيماناً بذلك. لقد آمنتُ دوماً بأن هذا الأمر يمكن أن يتحقّق. هو كان يقول ذلك. وهو لا يكذب أبداً... هو!... آه! قبلاً كنتُ أدعوه يسوع، الـمعلّم، الـمُخلّص، الربّ... الآن، الآن أشعر بأنّه عظيم جدّاً بحيث أنّني لا أعلم، لا أجرؤ بعد على إعطائه اسماً... ماذا سأقول له عندما سأراه؟...»

 

«إنّما أتؤمنين حقاً بأنّه يقوم؟...»

 

«أتعاود سؤالي ثانيةً! آه! مِن فرط قولي لكما إنّني أؤمن، وسماعكما تقولان أنّكما لا تؤمنان، فسوف ينتهي بي المطاف إلى أن أكُفّ عن الإيمان بذلك أنا أيضاً! لقد آمنتُ وأُؤمن. لقد آمنتُ وحَضَّرتُ له ثوبه منذ زمن. وغداً، باعتبار أنّ الغد هو اليوم الثالث، فسوف أجلب الثوب إلى هنا، ليكون جاهزاً...»

 

«ولكن إن كنتِ تقولين بأنّه سيكون أسوداً، منتفخاً، بَشِعاً؟»

 

«بَشِعاً، أبداً. الخطيئة بَشِعَة. إنّما نعم! سيكون أسوداً. وإذاً؟ ألم يكن لعازر قد تفسّخ؟ ومع ذلك فقد قام، وشفي جسده. لكن، وإن كنتُ أقول ذلك!... اصمتا، أيّها الناكران! أيضاً منطقي البشريّ يقول لي: "لقد مات ولن يقوم". لكنّ روحي، "روحه هو"، لأنّني حصلتُ منه على روح جديد، يهتف، يبدو أنّ أبواقاً فضيّة تصدح: "سيقوم! سيقوم! سيقوم!" لماذا تتقاذفانني مثل قارب صغير على صخور شكّكما؟ إنّني أؤمن! إنّني أؤمن يا ربّي! إنّ لعازر أطاع المعلّم رغم تمزّقه، وبقي في ‏بيت عنيا... أنا، الّتي أعرف مَن يكون لعازر ثيوفيلوس، رجلاً شجاعاً، لا أرنباً بريّاً صغيراً جباناً، أستطيع أن أُقدّر تضحيته بالبقاء في الظلّ وليس قرب المعلّم. ولكنّه أطاع. وبهذه الطاعة كان أكثر بطولة مما لو كان انتزعه بالسلاح مِن المسلّحين. أنا آمنتُ وأؤمن. وأبقى هنا. منتظرة مثلها. إنّما اتركاني أمضي. النهار ينبلج، وحالما تصبح الرؤية ممكنة فسوف نذهب إلى القبر…»

 

وتمضي مريم المجدليّة، وجهها أحرقته الدموع، إنّما شُجاعة دوماً. تعود إلى مريم.

 

«ماذا كان خطب بطرس؟»

 

«نوبة عصبيّة. لكنّه تخطّاها.»

 

«لا تكوني قاسية يا مريم. إنّه يُعاني.»

 

«وأنا كذلك. إنّما ترين بأنّني لم أطلب منكِ ولو لمسة ملاطفة. هو سبق أن عولِجَ على ‏يدكِ... وأنا، على العكس، أعتقد بأنّكِ أنتِ وحدكِ، يا أُمّي، بحاجة إلى بلسم. يا أُمّي، القدّيسة، المحبوبة! ولكن تشجّعي... غداً هو اليوم الثالث. سوف نَسجُن نفسينا هنا، كلانا: عاشِقَتَاه. أنتِ، العاشِقة القدّيسة، أنا، العاشِقة المسكينة... إنّما أنا فبقدر ما أجيد ذلك، بكلّ ذاتي. وسننتظره... هم، أولئك الّذين لا يؤمنون، سوف نُغلِق عليهم على حدة، مع شكوكهم. وهنا سأضع وروداً كثيرة... واليوم سأعمل على جلب الصندوق إلى هنا... الآن سأذهب إلى القصر وأعطي تعليماتي للاوي. ليبقي بعيداً كلّ تلك الأشياء الرهيبة! يجب ألاّ يراها القائم مِن الموت... الكثير مِن الورود... وأنتِ سترتدين ثوباً جديداً... يجب ألاّ يراكِ هكذا. سوف أُسرِّح شعركِ، سوف أغسل وجهكِ المسكين الّذي شوّهته الدموع. أيّتها الطفلة الأزليّة، سأقوم مقام أُمّ لكِ... سأنال، أخيراً، بهجة العناية الأموميّة بطفلة أكثر براءة مِن مولودة جديدة! محبوبة!» وبعاطفتها الجيّاشة، تضمّ المجدليّة إلى صدرها رأس مريم الّتي كانت جالسة، تُقبّلها، تلاطفها، تسوّي خصلات شعرها الخفيفة المنفوشة خلف أذنيها، وبنسيج ثوبها تمسح الدموع المتجدّدة الّتي ما تزال تسيل على خدّيها، والّتي تستمرّ بالسيلان، دونما انقطاع…

 

تدخل النسوة حاملات مصابيح وقوارير وأواني واسعة الأعناق. مريم الّتي لحلفى تحمل هاوِناً ثقيلاً.

 

توضّح قائلة: «مِن غير الممكن البقاء خارجاً. هناك ريح خفيفة تُطفئ المصابيح.»

 

يصطففن على جانب واحد. يضعن كلّ أغراضهنّ على طاولة ضيّقة إنّما طويلة، ومِن ثمّ يضعن اللّمسات الأخيرة على حنوطهنّ، مازجات عجينة الخلاصات الّتي غدت كثيفة، في جرن الهاون، مع مسحوق أبيض يُخرجنه بقبضاتهن مِن كيس صغير. يمزجن بكل طاقاتهنّ، ومِن ثم يُعبّئن إناء واسع العنق. يضعنه على الأرض. ويُكرّرن العمليّة مع إناءٍ آخر. عطور ودموع تنهمر على الراتنج.

 

تقول مريم المجدليّة: «لم تكن تلك المسحة الّتي كنتُ آمل أن أتمكّن مِن تحضيرها لكَ.» بالفعل المجدليّة، الأكثر خبرة مِن الأخريات، هي الّتي ضبطت وأدارت تركيبة الطيوب، والّتي كانت مُركّزة لدرجة أنّهن يفكّرن بفتح الباب وشق النافذة الـمطلّة على الحديقة، الّتي تشرع بالابيضاض.

 

تزيد حدّة بكائهنّ بعد الملاحظة الخافتة الصوت للمجدليّة. لقد انتهين. كلّ الأواني مُمتلئة.

 

يَخرجن حاملاتٍ القوارير الفارغة، والهاون الّذي بات عديم الجدوى، وعدداً مِن المصابيح. يبقى فقط مصباحان مُرتجفان في الغرفة الصغيرة، يبدوان مُنتحبَين هما أيضاً مع ارتجاف ضوئهما…

 

تعود النسوة ثانيةً ويُغلقن مجدّداً النافذة، لأنّ الفجر بارد قليلاً. يلبسن أرديتهنّ ويتناولن أكياساً واسعة ويضعن فيها أواني الحنوط.

 

تنهض مريم وتبحث عن ردائها، إنَّما كلّهن يتجمّعن حولها لإقناعها بعدم الذهاب.

 

«لن تصمدي يا مريم. لم تتناولي أيّ طعام منذ يومين، فقط القليل مِن الماء.»

 

«نعم يا أُمّاه، سوف نقوم بذلك بسرعة ومهارة. وسنعود فوراً.»

 

«لا تخافي. سوف نُحنّطه مِثل مَلِك. أنظري أيّ حنوط نفيس حَضّرنا! وأيّة كمّية منه!...»

 

«سنولي اهتمامنا لأعضائه ولجراحه، وسوف نسوّيها بأيدينا. نحن قويّات ونحن أُمّهات. سوف نضعه مِثل طفل في مهده. ولن يبقى على الآخرين سوى إقفال مكانه.»

 

لكن مريم تُصرّ: «إنّه واجبي.» تقول: «لطالما اعتنيتُ أنا به. فقط في السنوات الثلاث الأخيرة الّتي خرج فيها إلى العالم، تنازلتُ عن الاعتناء به لأناس آخرين عندما كان بعيداً عنّي. الآن وقد رفضه العالم وأنكره، فهو لي مُجدّداً، وسأعود ثانية خادمته.»

 

بطرس، الّذي كان قد دنا مع يوحنّا مِن الباب، مِن دون أن تراه النسوة، يهرب لدى سماعه تلك الكلمات. يهرب إلى إحدى الزاويا المعزولة كي يندب خطيئته. يوحنّا يبقى قريباً مِن العتبة. لكنّه لا يقول شيئاً. هو أيضاً يودّ الذهاب، لكنّه يُضحّي بذلك ليبقى قريباً مِن الأُمّ.

 

مريم المجدليّة تُعيد مريم إلى مقعدها. تركع أمامها، تُطوّق ركبتيها رافعة وجهها الـمتوجّع والعاشق نحوها، وتَعِدها: «هو، بروحه، يعلم ويرى كلّ شيء. لكن بقبلاتي، سوف أنقل لجسده محبّتكِ ورغبتكِ. أعلم ما يكون الحبّ. أعلم أيّ مِنخَس وأيّ جوع هو الحبّ. أيّ حنين أن نكون مع مَن هو المحبّة بالنسبة إلينا. وهذا ينطبق أيضاً على أيّة محبّة دنيئة، الّتي تبدو ذهباً وهي وَحْل. ومِن ثمّ حين تستطيع الخاطئة أن تُدرك ما هي المحبّة المقدّسة للرحمة الحيّة، الّذي لم يعرف البشر كيف يحبّونه، عندها تستطيع أن تفهم بشكل أفضل ما هي محبّتكِ يا أُمّاه. تعلمين أنّني أعرف كيف أُحبّ. وتعلمين أنّه قال ذلك، في تلك الأمسية الّتي شهدت ولادتي الحقيقيّة، هناك، على ضفاف بحيرتنا الصافية، أنّ مريم المجدليّة تُحسِن أن تُحبّ كثيراً. ذلك أنّ محبّتي الجيّاشة تلك، الّتي مثل الماء الّذي ينسكب مِن حوضٍ مائل، مثل شجرة ورد مُزهِرة تتدلّى مِن فوق سور، مِثل شعلة إذ وجدت ما يُغّذيها، فإنّها تعلو وتضطرم أكثر، قد انصبّت بكاملها عليه، وأستمدّ منه هو-المحبّة، قوّة ‏مُتجدِّدة… آه! لماذا قوة محبّتي لم تستطع أن تحلّ محلّه على الصليب!... إنّما كلّ ذلك الّذي لم أستطع أن أفعله مِن أجله -التألّم، إهراق دمي، والموت بدلاً عنه، وسط ازدراءات الجميع، سعيدة، سعيدة، سعيدة بالتألّم مكانه، وأنّ، وأنا متأكّدة مِن ذلك، أنّ مسار حياتي التعسة كان ليُستَنفَذ بالمحبّة الانتصاريّة أكثر منه بالصّليب الشائن، ولكانت برزت مِن الرماد الزهرة الجديدة، النقيّة لحياة جديدة، طاهرة، عذريّة، جاهلةً كل ما ليس هو الله- كلّ ذلك الّذي لم أستطع فِعله مِن أجله، ما زلتُ أستطيع أن أفعله مِن أجلكِ... أيّتها الأُمّ الّتي أُحبّ مِن كلّ قلبي. ثقي بي. أنا، الّتي عرفتُ، في منـزل سمعان الفرّيسيّ، أن أُلامس برفقٍ شديدٍ قدميه الـمُقدّستين، الآن، بِروحي الّتي تتفتّح أكثر فأكثر على النعمة، سوف أعرف كذلك أن أُلامس أطرافه الـمُقدّسة برفق أكثر، أعتني بجروحه، أُحنّطها بمحبّتي، أحنّطها بالحنوط المسحوب مِن قلبي وقد اعتصرته المحبّة والألم، أكثر منه بالطيوب. ولن يُفسِد الموت ذاك الجسد الّذي أعطى الكثير مِن المحبّة وتلقّى منها الكثير. الموت سوف يهرب، لأنّ المحبّة أقوى منه. المحبّة لا تُقهَر. وأنا، يا أُمّاه، بمحبّتكِ الكاملة، بمحبّتي الكلّية، سوف أُحنّط بالمحبّة مَلِك حُبّي.»

 

مريم تعانق تلك المرأة الهائِمة الّتي عرفت، أخيراً، أن تجد مَن يستحقّ هكذا هيام، وأن تستسلم لرجائها.

 

تخرج النِسوة وهُنّ حاملات مصباحاً. مصباح واحد فقط يبقى في الغرفة. المجدليّة هي آخِر مَن يخرج، بعد قُبلة أخيرة للأُمّ الّتي تبقى.

 

المنـزل مُعتِم وساكن تماماً. الدرب لا يزال مظلماً ومقفراً.

 

يوحنّا يَسأَل: «أحقّاً لا تردنني؟»

 

«كلا. يمكن أن تكون مُفيداً هنا. وداعاً.»

 

يوحنا يعود إلى مريم ويقول بتؤدة: «إنَّهن لا يردنني...»

 

«لا تكن مُحبطاً. إنّهنّ مع يسوع، أنتَ معي. يوحنّا، لنصلّ قليلاً معاً. أين بطرس؟»

 

«لا أدري. إنّه في المنـزل. لكنّني لا أراه. إنّه... كنتُ أظنّه أقوى... أنا أيضاً أُعاني، إنّما هو...»

 

«هو لديه أَلَمان اثنان، أنتَ لديكَ ألم واحد. تعال، لنصلِّ أيضاً مِن أجله.»

 

وتتلو مريم الـ "أبانا" ببطء. ثمّ تلاطف يوحنّا: ‏«امض إلى بطرس. لا تتركه وحيداً. لقد لبث في الظُلُمات لوقت طويل خلال هذه الساعات، بحيث أنّه لم يعد يحتمل حتّى ضوء العالم الخفيف. كن رسول أخيكَ التائه. ابدأ بشارتكَ به. على دربكَ، وسيكون طويلاً، سوف تجد دائماً أناساً يشبهونه. ابدأ عملكَ مع رفيقكَ...»

 

«لكن ماذا عليّ أن أقول؟... أنا لا أدري... إنّ كلّ شيء يُبكيه...»

 

«ذَكّره بوصيّة يسوع عن المحبّة. قُل له أنّ الّذي يخاف، لا يعرف الله كفاية بعد، لأنّ الله محبّة. وإذا قال لكَ: "لقد خطئتُ"، فأجبه بأنّ الله أحبّ الخطأة كثيراً إلى درجة أنّه أرسل ابنه الوحيد مِن أجلهم. قُل له إنّه مقابل محبّة بهذا الحجم ينبغي علينا الردّ بالمحبّة. والمحبّة تجعلنا نثق بالربّ الفائق الصلاح. ولا يجدر بهكذا ثقة أن تجعلنا نخاف مِن دينونته، لأنّنا مِن خلالها نتعرّف إلى الحكمة والعطف الإلهيّ ونقول: "أنا مخلوق مسكين. إنّما هو يعرف ذلك. ويمنحني المسيح كضمانة للمغفرة وعمود للمساندة. إنّ بؤسي سيغلبه اتّحادي بالمسيح". وأنّ كلّ شيء باسم يسوع يُغفَر... اذهب يا يوحنّا. قُل له ذلك. أنا سأبقى هنا، مع يسوعي...» وتتلمّس المنديل.

 

يخرج يوحنّا مُغلِقاً الباب وراءه.

 

تركع مريم، كما فعلت في الأمسية السابقة، الوجه على الوجه مع منديل فيرونيكا، وتصلّي وتتحدّث إلى ابنها. إنّها قوية لتمنح القوّة للآخرين، وعندما تكون وحدها فإنّها ترزح تحت صليبها الساحق. ومع ذلك بين فينة وأخرى، مِثل شُعلة ما عاد المكيال يخنقها، يرتفع روحها نحو رجاء لا يمكنه أن يموت فيها، والّذي على العكس ينمو مع مرور الساعات، وهي تبوح أيضاً للآب ‏برجائها. رجائها وطلباتها.

***

طوال النهار، أرى مشهد يسوع المصلوب، ومريم ويوحنّا عند أسفل الصليب.

 

هذا الصباح، عندما كنتُ أتقدّم مِن المناولة المقدّسة، كان يبدو لي أنّني أمام مذبح حيّ، لأنّهم كانوا هنا وينظرون إليّ بنظراتهم فائقة الحُبّ. هذه المناولة الّتي جرت هكذا هي أمر مِن غير الممكن وصفه.

 

وبعد ذلك، عند المساء، بدأتُ أسمع في داخلي هذه العبارة: «لم تكن تلك المسحة الّتي أملتُ أن أتمكّن مِن تحضيرها لكَ. قالها صوت نسائي، صوت قويّ، حارّ، رنّان، هائم. ليس صوت مريم الناعم، الفتيّ، النقيّ، البتوليّ بنبرته النديّة.

 

أُدرِك أنّ أحداً ما يتكلّم لأوّل مرة، إنّما لا أُحسِن إعطاءه اسماً ووجهاً إلى أن تظهر الرؤيا.

 

ما زلتُ أرى الغرفة حيث كانت مريم تبكي في المنـزل الـمُضيف. إنّها لا تزال هناك على مقعدها، مُضناة، مُنهَكة، مُشوَّهة بدموعها الّتي لا تتوقف.

 

النسوة هناك أيضاً، يَقُمنَ بإعداد الطُيُوب على ضوء مصابيح الزيت، حيث يَقُمنَ بمزجها معاً، في هاون، بعد سحبها مِن قوارير مُتعدّدة، ومِن ثمّ يضعنها في أوانٍ واسعة العنق حيث مِن الممكن استخدام الأصابع بسهولة لاستخراج الحنُوط منها.

 

تعمل النسوة وهنّ يبكين. ومريم المجدليّة، الموسوم وجهها بدموع كأنّ حرقاً سَبَّبها، تقول تلك ‏الكلمات الّتي تُبكي النسوة كلّهنّ بشدّة.

 

ثمّ، حين انتهين مِن تحضير كلّ شيء، يتدثّرن بأوشحتهنّ أو معاطفهن، تنهض مريم أيضاً، لكنّهنّ يحطن بها لإقناعها بعدم الذهاب. لأنّه سوف يكون قاسياً للغاية أن ترى ثانيةً -وذلك عند فجر اليوم الثالث- ابنها الـمُثخَن بالرضوض والجراح كما كان عليه، وبالتأكيد الـمُسوَدّ كُلّياً بفعل التحلّل. عدا عن أنّها مُنهَكة لدرجة أنّها لن تتمكن مِن السير. إنّها لم تكن تفعل سوى البكاء والصلاة. لم تتناول أيّ طعام أبداً، لم ترتح أبداً. عليها أن تبقى هادئة وتثق بهنّ. سوف تقوم التلميذات بدور الأُمّ، بحبهنّ، مانحاتٍ ذلك الجسد المقدّس كلّ العناية الّتي يتطلّبها التدبير النهائيّ للدفن.

 

مريم تستسلم. المجدليّة، جاثية عند قدميها، إنّما مستندة على عقبيها، في وضعها المألوف، تعانق ركبتيها وتنظر إليها بوجهها الّذي أحرقته الدموع، وتَعِدها بأنّها ستبوح ليسوع بكلّ حُبّ أُمّه، فيما هي تحنّطه. إنّها تعرف ما هو الحبّ. لقد انتقلت مِن الحبّ الدنيء، إلى الحبّ المقدّس للرحمة الحيّة الّتي قَتَلَها البشر، وتعرف أن تحبّ. يسوع قال لها ذلك في المساء الّذي غدا صباح حياتها الجديدة، إنّها تعرف أن تحبّ كثيراً. الأُمّ تثق بها. هي، الـمُفتَدَاة، الّتي عرفت آنذاك ملامسة قدميّ يسوع، سوف تعرف الآن ملامسة جروحه وتحنيطها بلطف كبير، أكثر بحبّها منه بالحنُوط، لئلاّ يتمكّن الموت مِن إفساد ذلك الجسد، الّذي منح الكثير مِن الحبّ وتلقّى الكثير منه.

 

صوت المجدليّة مملوء هياماً. كأنّه مُخمَلٌ يغطّي أُرغُناً، مِن فرط ما لها صوت مِثل أُرغُنٍ ‏تُلطّفه أنغامٌ حارّة وهائمة. يُحَسُّ فيه بنَفْسٍ ترتعش. عرفت أن ترتعش. كان عليها أن ترتعش وتحبّ. وهي، الآن وقد خلّصها يسوع، تعرف أن ترتعش وتحبّ مِن أجل الحبّ الإلهيّ. لن أنسى صوت المرأة ذاك، الّذي كان يُعبّر عن نفسها. لن أنساه.

 

تخرج النسوة حاملات مصباحاً. المنـزل مُعتِم وكذلك الدرب. بالكاد هناك أثر لنورٍ، في العمق، نحو الشرق. نور صباح نيسانيّ [أبريل] مُنعِش ونقيّ. الدرب صامت ومُقفِر. النسوة، متدثّرات كلّهن بمعاطفهن، يمضين بصمت نحو قبر يسوع.

 

أنا لا أذهب معهن. أعود إلى مريم. يسوع يُعيدني إليها.

 

الآن وهي وحيدة، عادت إلى الصلاة، جاثيةً بجانب شال فيرونيكا الممدّد على طول جانبِ رفّ، يثبّته في مكانه الملاءة المأتميّة والمسامير. إنّها تصلّي وتتحدّث إلى ابنها. إنّها لا تزال في الألم نفسه الممزوج بأملٍ يجعلها قلقة.

***

صلاة مريم:

يقول يسوع:

 

(يمكنكِ أن تضعي هنا صلاة العام الماضي، رثاء مريم في الفجر الفصحيّ المؤرّخ في 21 / 02 / 1944، ضعيها تماماً كما هي، لأنّها ليست بحاجة لإجراء أيّة تعديلات عليها).

 

«يسوع، يسوع! ألم تعد بعد؟ أُمّكَ المسكينة لم تعد تحتمل فكرة أنّكَ هناك، ميّتاً. أنتَ قلتَ ذلك ولم يفهمكَ أحد. أمّا أنا فقد فهمتُكَ! "اهدموا هيكل الله، وأنا، سأعيد بناءه في ثلاثة أيّام". إنّها بداية اليوم الثالث. آه! يا يسوعي! لا تنتظر لنهايته حتّى تعود إلى الحياة، إلى أُمّكَ الّتي هي بحاجة لرؤيتكَ حيّاً كي لا تموت وهي تراك ميتاً مجدّداً، والّتي هي بحاجة لرؤيتكَ وسيماً، سليماً، منتصراً، لئلاّ تموت وهي تتذكّركَ على تلك الحال الّتي تركتكَ فيها!

 

آه! يا أيّها الآب! أيّها الآب! أعد ابني إليّ! لأراه عائداً رجلاً وليس جثّة، مَلِكاً، وليس مداناً. أعرف أنّه سيعود إليكَ بعد ذلك، إلى السماء. إنّما سأكون قد رأيتُه متعافياً مِن أذى كثير، سأكون قد رأيتُه قويّاً بعد الكثير مِن الضعف، سأكون قد رأيتُه منتصراً بعد صراع طويل، سأكون قد رأيتُه إلهاً بعد إنسانيّة بهذا الكمّ مِن المعاناة مِن أجل البشر، وسأشعر بالسعادة حتّى ولو فقدتُ إمكانيّة بقائه بقربي. سأعرف أنّه معكَ، أيّها الآب القدّوس، سوف أعرف أنّه سيكون بمنأى عن الألم إلى الأبد. أمّا الآن، فعلى العكس، لا يمكنني، لا أستطيع أن أنسى أنّه في قبر، بأنّه هناك مقتول متأثّراً بالآلام الكثيرة الّتي سبّبوها له، وأنّه هو، ابني-الله، يتقاسم مصير البشر في ظُلمة قبر. هو، ابنكَ الحيّ.

 

أيّها الآب، أيّها الآب، أَنصِت إلى خادمتكَ. لأجل تلك الـ "نَعَم..." إنّني لم أطلب أبداً شيئاً منكَ لقاء إطاعتي لمشيئتكَ؛ كانت مشيئتكَ، ومشيئتكَ كانت مشيئتي؟ لم أُطالِب بأي شيء لقاء التضحية بإرادتي لمشيئتكَ أيّها الآب القدّوس. إنّما الآن، إنّما الآن، مِن أجل تلك الـ "نَعَم" الّتي قُلتُها للملاك الـمُرسَل مِن قبلكَ، أيا أيّها الآب، أَنصِت إليّ!

 

هو في منأىً عن العذابات، لأنّه أتمّ كلّ شيء بنـزاعه تلك الساعات الثلاث بعد عذابات الصباح. إنّما أنا، أنا أعيش ذلك النـزاع منذ ثلاثة أيّام. أنتَ ترى قلبي وتسمع اختلاجاته. يسوعنا قال بأنّه لا تسقط ريشة مِن طائر لا تراها أنتَ، وبأنّ زهرة لا تموت في حقل دون أن تُعزّي نزاعها بشمسكَ ونداكَ. آه، أيّها الآب، إنّني أموت مِن هذا الألم! عاملني كما تُعامِل العصفور الّذي تكسوه ريشاً جديداً، والزهرة الّتي تُدفّئها وتروي ظمأها مِن شفقتكَ. إنّني أموت متجمّدةً مِن الألم. لم يعد مِن دم في عروقي. قد استحال يوماً حليباً يغذّي ابنكَ وابني؛ والآن قد غدا كلّه دموعاً لأنّه لم يعد لديّ ابن. لقد قتلوه، لقد قتلوه، أيّها الآب، وأنتَ تعرف بأيّة طريقة!

 

لم يعد لديّ دم! لقد أهرقتُه كلّه معه ليل الخميس، والجمعة المشؤومة. إنّني أشعر بالبرد كمن لم يعد فيه دم. ما عادت لي شمس، لأنه، هو، مات، هو شمسي القدّوسة، شمسي الـمباركة، الشمس المولودة مِن أحشائي لبهجة أُمّه، لخلاص العالم. لم يعد لديّ ما يرويني، لأنّني ما عدتُ أحظى به، أعذب الينابيع لأُمّه الّتي كانت تشرب كلمته، والّتي كانت تروي ظمأها بحضوره. أنا ‏كزهرة مزروعة في أرض جافّة. إنّني أموت، أموت، أيّها الآب القدّوس. إنّني لا أخاف مِن أن أموت، لأنّه هو أيضاً مات. إنّما كيف سيتصرّف أولئكَ الصغار، قطيع ابني الصغير، الضعيف جدّاً، ‏الخائف جدّاً، المتقلّب جدّاً، إن لم يكن هناك مَن يعضده؟ إنّني لا شيء، أيّها الآب. إنّما، مِن أجل رغبات ابني فأنا مثل جيش مِن الرجال المسلّحين. أدافع، سوف أدافع عن عقيدته وعن إرثه مثلما تُدافِع ذئبة عن جِرائِها. أنا، النعجة الصغيرة، سأستحيل ذِئبة لأدافع عمّا يخصّ ابني، وبالتالي عمّا هو لكَ.

 

لقد رأيتَ ذلك أيّها الآب. منذ حوالي ثمانية أيّام عَرَّت هذه المدينة أشجار زيتونها، عَرَّت منازلها، عَرَّت حدائقها، عَرَّت سكّانها، وبُحّ صوتها مِن فرط ما صاحت: "هوشعنا لابن داود؛ مبارك الآتي باسم الربّ". وفيما كان يَعبُر ماشياً فوق سجّادات مِن أغصان، مِن ملابس، مِن أقمشة، مِن زهور، كان السكّان يشيرون إليه قائلين: "إنّه يسوع، نبيّ ناصرة الجليل. إنّه مَلِك إسرائيل". وفيما لم تكن تلك الأغصان قد ذبلت بعد، وفيما كانت أصواتهم لا تزال مبحوحة بسبب الهوشعنا الكثيرة، فقد بَدّلوا صيحاتهم باتّهامات، ولعنات، ومطالبات بالموت، ومِن الأغصان الـمنتزعة للنصر، صنعوا هراوات ليضربوا بها حَمَلَكَ، الّذي كانوا يسوقونه إلى حتفه.

 

وإذا ما فعلوا كلّ ذلك فيما كان هو بينهم يحدّثهم، ويبتسم لهم، وينظر إليهم بعينيه اللتين تُذيبان القلوب، واللتين تجعلان حتّى الحجارة ترتجف إذا ما نظر إليها بهما، وفيما كان يباركهم ويُعلّمهم، فماذا سيفعلون حين يعود هو إليكَ؟

 

تلاميذه، رأيتَهم. واحد خانه، الآخرون هربوا. كان كافياً أن يُضرَب حتّى يهربوا مثل قطيع وضيع، ولم يُحسِنوا الإحاطة به فيما كان يحتضر. واحد فقط، الأصغر، بقي، الآن جاء الأكبر سناً، لكنّه سبق أن أنكره مرّة. وعندما لا يعود يسوع موجوداً هنا ليحافظ عليه، فهل سيحسن الثبات في إيمانه؟

 

أنا لا شيء، لكنّ قليلاً مِن ابني في داخلي، وحبّي يُعوّض النقص الّذي فيّ ويلغيه. هكذا أصبح شيئاً ما مفيداً لقضيّة ابنكَ، لكنيسته، الّتي لن تجد السلام أبداً، والّتي تحتاج إلى أن تغرس جذورها عميقاً لئلا تقتلعها الرياح. سأكون تلك الّتي تعتني بها. مثل بستانيّة نشيطة سأسهر عليها كي تشتدّ وتنمو في نوره. بعدها لن أكون قلقة مِن الموت. لكنّني لا أستطيع أن أحيا إذا بقيتُ وقتاً أطول مِن دون يسوع.

 

آه! أيّها الآب، الّذي تخلّيتَ عن ابنكَ لأجل خير البشر، إنّما قد شدّدتَ عزمه بعد ذلك، لأنّه مِن المؤكّد أنّكَ قَبِلتَه في حضنكَ بعد موته، لا تتركني مُهمَلة وقتاً أطول. إنّني أعاني مِن ذلك وأُقدّمه مِن أجل خير البشر. إنّما الآن شدّد عزمي، أيّها الآب. أيّها الآب، ا‏لرحمة! الرحمة، أيا بنيّ! الرحمة، أيا أيّها الروح الإلهيّ! تذكّر عذراءكَ!»

***

01 / 04 / 1945

 

بعد ذلك، تبدو مريم وهي تصلّي بحركاتها كما بقلبها، راكعة إلى الأرض. إنّها بحقّ شيء مسكين ومُنسَحِق. إنّها تبدو كتلك الزهرة الميتة عطشاً الّتي سبق أن تحدّثت عنها. إنّها حتّى لا تلاحظ الاهتزار العنيف إنّما الوجيز لزلزال قد جعل ربّ المنـزل وربّته يصرخان ويهربان، فيما بطرس ويوحنّا، يجرّان نفسيهما حتّى عتبة الغرفة، شاحِبَين مثل ميّتين. إنّما، إذ رأياها مُستغرِقة هكذا في صلاتها، بعيدة عن كلّ ما ليس الله، ينسحبان وهما يغلقان الباب، ويعودان مذعوريَن إلى العلّية.