ج4 - ف173
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
173- (أُمسية في بيت الناصرة)
19 / 10 / 1945
نَول النسيج مُتوقِّف عن العمل، ذلك أنّ مريم وسِنْتيخي تخيطان الأقمشة التي جَلَبَها الغيور. قِطَع الثياب التي أَصبَحَت مُفصَّلة، تُطوى وتُرتَّب فوق بعضها على الطاولة بحسب اللون، ومِن حين إلى حين، تأخذ النسوة منها قطعة، وتُسرِّجها (تجمعها معاً بِغُرَز مؤقتة) على الطاولة، مما دَفَعَ الرجال إلى الرُّكن، حيث النَّول المتوقّف عن العمل، إنّما مِن غير أن يَكتَرِثوا في ذلك لِعَمَل النّسوة. وهناك كذلك الرَّسولان يوضاس ويعقوب ابنا حلفى، اللذان يَنظُران مِن جهتهما إلى العمل النسائي دون طرح أسئلة، إنّما، حسب ظنّي، ليس دون فضول.
ابنا العم يتحدّثان عن أخويهما، وبشكل خاص عن سمعان الذي رافَقهُما حتّى الباب، ثمّ مَضى، «لأنّ له وَلَداً يتألّم»، يقول يعقوب لِيُلطِّف الخبر ويَجِد عذراً لأخيه. يوضاس أكثر جدّيّة وصَرامة ويقول: «مِن أجل هذا بالتحديد كان يجب أن يأتي، إنّما يبدو أنّه هو أيضاً قد أُصيب بالغباء. مثل كلّ الناصريّين، على كلّ حال، لو وضعنا حلفى والتلميذين جانباً، ومَن يدري أين هُم الآن، يمكن إدراك أنّ ما مِن شيء آخر صالح في الناصرة. فلقد انتُزِع الصّلاح بأكمله، وكأن له طعماً مُقزّزاً في مدينتنا...»
«لا تتكلّم هكذا.» يرجوه يسوع. «لا تُسمِّم روحكَ... الخطأ ليس خطأهم...»
«خطأ مَن هو إذن؟»
«أمور كثيرة... لا مجال لبحثها. ولكنّ الناصرة ليست كلّها عَدوّة. فالأطفال...»
«هذا لأنّهم أطفال.»
«والنّسوة...»
«لأنّهنّ نسوة. إنّما ليس الأطفال والنّسوة هُم مَن يُثبّتون مِلككَ.»
«لماذا يا يوضاس؟ إنّكَ لَعَلى خطأ. فأطفال اليوم هُم بالضبط مَن سيكونون تلاميذ الغد، هُم مَن سَيَنشُرون الملكوت على كلّ الأرض. والنّسوة، لماذا لا يمكنهنّ فِعل ذلك؟»
«بالطبع لا يمكنكَ أن تجعل مِن النساء رسولات. جُلّ ما يمكنهنّ القيام به هو أن يَكُنَّ تلميذات، كما قلتَ، لمساعدة التلاميذ.»
«سوف تُغيّر رأيكَ في أمور كثيرة، في المستقبل، يا أخي. إنّما أنا، فلن أُحاول حتّى أن أجعلكَ تُغيّر رأيكَ. لقد اصطَدَمتَ بمنطق وَرثتَه عن أجيال مِن الأفكار والأحكام المسبقة والخاطئة عن المرأة. أرجوكَ فقط أن تَنظُر وتُلاحِظ بنفسك الاختلافات التي تراها بين النساء التلميذات والتلاميذ، وأن تُلاحِظ بتجرُّد كيف يَستَجِبن لتعاليمي. وسوف ترى، بدءاً مِن أُمّكَ، لو أردتَ، التي كانت أولى النساء التلميذات في ترتيب الزمن والبطولة، وما زالت كذلك، وتُجابِه بشجاعة بَلدة تَهزَأ منها لأنّها وفيّة لي، مُقاوِمة حتّى صوت دمها الذي لا يوفّر الملامات لأمانتها لي، وسترى أنّ النّسوة أفضل منكم.»
«أعرف ذلك، حقيقة. إنّما في الناصرة، حتّى النساء التلميذات، أين هُنّ؟ بنات حلفى، أُمّ إسماعيل وأُمّ أَشِير وأخواتهما. فقط. قليلات جدّاً. أودُّ ألّا أعود إلى الناصرة كي لا أرى كلّ هذا.»
«يا للأُمّ المسكينة! قد تُسبِّب لها ألماً كبيراً.» تقول مريم في مُداخَلة لها في الحوار.
«صحيح.» يقول يعقوب. «إنّها تأمل كثيراً في التوصّل إلى مصالحة أخَوَينا مع يسوع ومعنا. أظنُّها لا تتمنّى سوى هذا. ولكنّنا بالتأكيد لن نتوصّل إلى ذلك ببقائنا بعيدين. حتّى الآن أعطيتُكَ الحقّ بالبقاء في عُزلة، إنّما منذ الغد، أودُّ الخروج والتقرُّب مِن هذا وذاك... لأنّه إن كان علينا أن نُبشِّر حتّى الوثنيّين، فلماذا لا نُبشِّر مدينتنا؟ أنا أرفُض الاعتقاد بأنّها سيّئة كلّها، ومستحيلة هِدايتها.»
يوضاس تدّاوس لا يُعلِّق، ولكنّه مُضطَرِب بشكل جليّ.
سمعان الغيور الذي كان قد بَقِيَ صامتاً طوال الوقت، يتدخّل: «أنا لا أودُّ أبداً أن أزرع الشكوك. إنّما اسمحوا لي، كي أُسَرّي عن روحكم، أن أطرح عليكم سؤالاً: هل أنتم على يقين أنّ ما مِن قوى غريبة قادمة مِن مكان آخر تؤثر في تحفّظ الناصرة، وهي تعمل هنا بشكل فاعِل، بموجب عنصر ينبغي له، لو كنّا نفكّر بشكل عادل ومستقيم، تقديم أفضل الضمانات المؤدّية إلى اليقين بأنّ المعلّم هو قدّيس الله؟ معرفة حياة يسوع المثالية، وهو ابن الناصرة، التي ينبغي لها أن تسهّل على الناصريّين تقبّله باعتباره ماسيّا الموعود. أنا، أكثر منكم، ومعي كثيرون مِمَّن هُم في مثل سنّي، في الناصرة، عَرفنا، أقلَّه مِن خلال ما تَناهَى إلى أسماعنا، كثيرين مِمَّن ادّعوا أنّهم ماسيّا. وأؤكّد لكم بأنّ أسلوب حياتهم الخاصة كان قد أعاق التصديق بمسيحانيتهم حتى مِن قِبَل مؤيّديهم الأكثر إخلاصاً. وقد لاحقتهم روما بشدّة كمتمرّدين. إنّما، بِغضّ النَّظَر عن الفِكر السياسي، الذي لم تكن روما لِتسمح بتواجده في مناطق نفوذها، فإنّ أولئك الـمُسحاء الكَذَبَة، لأسباب خاصة كثيرة، كانوا قد استحقّوا العقاب. لقد كنّا نحرّضهم وندعمهم لأنّهم كانوا مصدر تغذية الثورة ضدّ روما في نفوسنا. كنّا نناصرهم لأنّنا كنّا نَودُّ أن نرى فيهم الـمَلِك الموعود، ذلك أنّنا كنّا كَليلي البَصَر وغليظي الفهم وقليلي الإدراك. وذلك إلى أن أَظهَرَ المعلّم الحقيقة بِجَلاء، وللأسف، رغم كلّ هذا لم نكن لنؤمن كما كان ينبغي لنا أن نفعل، أي إيماناً كاملاً. أولئك المسحاء الكذبة كانوا يُعلِّلون نفوسنا المجروحة بآمال التحرّر الوطنيّ واستعادة مُلكِ إسرائيل. ولكن، آه! يا للبؤس! أيّ مُلكٍ متزعزع وفاسد كان يمكن أن يكون؟! لا، في الحقيقة، إنّ تَلقيب أولئك المسحاء الكَذَبَة بِلَقَب ملوك إسرائيل ومؤسِّسي الـمُلْك الموعود كان حطّاً مِن قَدْر الفِكرة المسيحانية. بينما لدى المعلّم، ففي عمق المذهب تقترن قداسة الحياة. والناصرة تعرفه أكثر مِن أيّة مدينة أخرى. ولا أفكّر حتّى في لوم عدم إيمان الناصرة بطبيعة مجيئه الفائقة الطبيعة التي يجهلها الناصريّون. ولكنّ الحياة! ولكنّ حياته!... الآن هناك كثير مِن الحقد، كثير مِن المقاومة المتصلّبة... ولكن ما عساي أقول! مقاوَمة بهذه الشدّة، ألا يمكن أن يكون أساسها عوامل عدائيّة؟ إنّنا نعرف مَن هُم أعداء يسوع. ونعرف مراكزهم. أتظنّونهم يظلّون هنا فقط غير فاعلين وغائبين، إذا كانوا في كلّ مكان، وهم إمّا يسبقوننا أو يرافقوننا أو يتبعوننا ليخرّبوا عمل المسيح؟ لا تلوموا الناصرة وكأنّها الـمُذنب الوحيد. بل إنّما ابكوا عليها، وقد ضَلَّلَها أعداء يسوع.»
«أَحسَنتَ قَولاً يا سمعان. ابكوا عليها...» يقول يسوع وهو حزين.
ويُعلِّق يوحنّا الذي مِن عين دور: «أَحسَنتَ كذلك بقولكَ إنّ العناصر الملائمة تصبح غير ملائمة، لأنّ الإنسان نادراً ما يكون عادلاً في تفكيره. هنا، العائق الأوّل هو الولادة المتواضعة، الطفولة المتواضعة، المراهقة المتواضعة، وشباب يسوعنا المتواضع. ويَنسَى الإنسان أنّ القيمة الحقيقيّة تختفي تحت مظاهر بسيطة، بينما عدم الكفاءة تتنكّر تحت مظاهر ذَوي سُلطة، لِتَفرض ذاتها على الجموع.»
«ممكن... إنّما لا شيء يغيّر فكرتي فيما يخصّ مواطنيَّ. مهما كان ما قيل لهم، كان عليهم معرفة الحُكم بموجب أعمال المعلّم الحقيقيّة، وليس بحسب أقوال مَجهولين.»
صَمْت طويل، يقطعه فقط صوت الكتّان الذي تقصّه العذراء شرائح لتصنع منها أردافاً. سِنْتيخي لم تَنبَس ببنت شفة، بينما هي متنبّهة على الدوام. فهي تُحاِفظ دائماً على مظهرها الذي ينمّ عن احترام عميق، عن تَحفُّظ لا يلين إلّا مع العذراء والصبيّ. أمّا الآن فقد نام الصبيّ، وهو جالس على مِقعَد، تماماً عند قدميّ سِنْتيخي، ورأسه مستند على ركبتيها، فوق ذراعه الذي ثناه. إنّها لا تتحرّك، وتنتظر مريم لِتُمرّر لها قِطَع القماش.
«يا للنوم البريء... إنّه يبتسم...» تُعلِّق مريم وهي تنحني على وجه النائم الصغير.
«مَن يدري بماذا يَحلُم؟» يقول سمعان مبتسماً.
«إنّه ولد ذكيّ جدّاً.» يقول يوحنّا. «يتعلّم بسرعة ويطلب تفسيرات واضحة. يطرح أسئلة دقيقة جدّاً ويريد إجابات واضحة. على كلّ شيء. أَذكُر أنّني كنتُ أرتَبِك أحياناً في الإجابة التي عليَّ أن أُعطيها. إنّها مفاهيم تَفوق سنّه، وكذلك إمكانيّاتي في الشرح.»
«نعم! في مثل هذا اليوم... هل تَذكُر يا يوحنّا؟ كان لديكَ تلميذان صعبان جدّاً، في ذلك اليوم! وجاهلان جدّاً!» تقول سِنْتيخي وهي تبتسم ابتسامة خفيفة وتُحدِّق بالتلميذ بِنَظَرها العميق.
يبتسم يوحنّا بدوره ويقول: «نعم. وَلَدَيكما مُعلِّم فاشل جدّاً، الذي كان عليه استدعاء المعلّمة الحقيقيّة لِتُقدِّم له المعونة... ذلك أنّني لم أكن قد وجدتُ في أيّ مِن الكُتُب الكثيرة التي قرأتُها الإجابة التي أُعطيها للصبيّ، يا للمُدرِّس الأحمق الذي كُنتُه. وهذا دليل على أنّني مُدرِّس ما أزال جاهلاً.»
«العِلم البشريّ هو أيضاً مِن الجهل يا يوحنّا. فليس الـمُدرّس، بل ما كان قد أُعطي له ليكون كذلك هو غير الكافي. يا للعِلم البشريّ المسكين! آه! كم يبدو لي مشوّهاً! وهذا يجعلني أُفكِّر بآلهة أسطوريّة كانت مُمجَّدة في اليونان. كان لا بد مِن المادّيّة الوثنيّة ليتمكّن المرء مِن الإيمان بأنّها طالما هي محرومة مِن الأجنحة، فإنّ النصر على الدوام هو مِن نصيب اليونانيّين! ولم تكن فقط الأجنحة مِن أجل النصر، بل الحرّيّة قد انتُزعَت منا... وقد كان الأجدر أن تكون لها أجنحة حسب اعتقادنا. لكان بالإمكان أن نعتقد بقدرتها على الطيران كي تخطف الصواعق السماويّة لترمي بها الأعداء. ولكنّها، في الحالة التي كانت فيها، فهي لم تكن توحي بالأمل، بل بالإحباط، بل بكلمة حزن. ولم أكن أستطيع رؤيتها دون ألم... كانت تبدو لي متألّمة، وقد حُطّ قدرها بذاك البتر. وهو رمز ألم وليس رمز فرح... هكذا كانت. وكما بالنسبة للنصر، فإنّ الإنسان يَفعَل بالعلم، إنّه يَبتر أجنحته، التي تُمكِّنه مِن بلوغ المعرفة الفائقة الطبيعة، مانحة المفاتيح لكشف أسرار ما هو قابل الإدراك والخَلق. لقد اعتقدوا ويعتقدون بإبقاءها أسيرة ببتر جناحيها... وبذلك هم لم يفلحوا سوى بجعلها قاصرة عقليّاً... فالعلم المجنَّح يُصبح حكمة. أمّا ببقائه على ما هو عليه، فإنّه ليس سوى فَهم جزئي.»
«وأُمّي، هل أجابَتكِ في ذلك اليوم؟»
«بوضوح كامل وكلمة عفيفة، يمكن أن يَستَمِع إليها صبيّ وبالِغان مُختَلِفا الجنس دون اضطرار أحدهم إلى الاحمرار.»
«حول ماذا كان الحديث؟»
«حول الخطيئة الأصليّة، يا معلّم. ولقد كَتَبتُ شرح والدتكَ لأتذكّره.» تقول سِنْتيخي، ويقول يوحنّا الذي مِن عين دور كذلك: «وأنا مثلها. أظُنُّها مِن الأمور التي سوف يَسألوننا عنها كثيراً، إذا ما مَضينا يوماً فيما بين الوثنيّين. إنّما أنا لا أُفكِّر في الذهاب إلى هناك الآن...»
«لماذا يا يوحنّا؟»
«لأنّني لن أعيش طويلاً.»
«ولكن هل تمضي إلى هناك عن طيب خاطر؟»
«أكثر مِن كثيرين في إسرائيل، لأنّ لا تحيُّز لديَّ. وأيضاً... نعم، وأيضاً مِن أجل هذا. فقد كنتُ مِثالاً سيّئاً وسط الوثنيّين في سينتيوم وفي أناتولي. إنّي أودُّ التوصُّل إلى فِعل الخير حيث كنتُ قد فعلتُ الشرّ. الخير الذي أودُّ فِعله: أن أحمل كلمتكَ إلى هناك، أن أُعرّفهم عليكَ... ولكن هذا شرف عظيم... أنا لا أستحقّه.»
يَنظُر إليه يسوع وهو يبتسم، ولكنّه لا يقول شيئاً بهذا الخصوص. يَسأَل: «أما مِن أسئلة أخرى لديكَ لتطرحها عليَّ؟»
«أنا لديَّ سؤال. لقد خَطَرَ ببالي ذات مساء، عندما كنتَ تتحدّث عن البطالة مع الصبيّ. ولقد حاولتُ أن أَجِد له إجابة، دون جدوى. وكنتُ أنتظر السبت لأسألكَ عنه، عندما تتوقَّف اليدين عن العمل وترتفع نفسنا بين يديكَ إلى الله.» تقول سِنْتيخي.
«اطرحي الآن سؤالكِ، بينما ننتظر ساعة الاستراحة.»
«ها هو يا معلّم. لقد قلتَ إنّ أحداً إذا ما فَترَ في العمل الروحيّ، يُصاب بالوَهن ويصبح عُرضة لأمراض الروح. أليس كذلك؟»
«نعم، يا امرأة.»
«الآن يبدو لي ذلك متناقضاً مع ما سمعتُهُ منكَ ومِن أُمّكَ حول الخطيئة الأصليّة، تأثيراتها علينا، والتحرّر مِن هذه الخطيئة بواسطتكَ. لقد علّمتُماني أنّ الخطيئة الأصليّة تُمحى بالفِداء. لا أظنّني أُخطئ إذا قلتُ إنّها ستُمحى، ولكن ليس لدى الجميع، إنّما فقط لدى الذين سيؤمنون بكَ.»
«صحيح.»
«سأَدَع إذن الآخرين جانباً، وآخذ واحداً من المخلَّصين. أَعتَبِر بأنّه بعد مفاعيل الفداء، لم يعد للخطيئة الأصليّة أثر في نفسه، التي تعود إلى حال النعمة كما كان الأبوان الأوّلان. أفلا يمنحها هذا حينئذ طاقة، بحيث لا يمكن أن يعتريها أيّ خمول؟ سوف تقول: "الإنسان يرتكب كذلك خطايا شخصيّة". لا بأس، لكنّها هي كذلك ستمحى بتأثير فدائِكَ. لست أسألك كيف. إنّما أفترض أنّه للشهادة بأنّ الفِداء وُجد بالحقيقة -ولستُ أدري كيف سيحدث، رغم أنّ كلّ ما يتعلّق بكَ في الكتاب المقدّس يجعل المرء يرتعد، وآمل أن يكون ذلك حول ألم رمزي، محصور في حدود معنوية، على ألّا يكون الألم المعنوي زائفاً، بل إنّما تشنّج قد يكون مريعاً أكثر مِن التشنّج العضويّ- أفترض أنّكَ سوف تترك وسائل ورموزاً. كلّ الديانات لديها منها، وتُدعى آنذاك أسراراً... والمعموديّة الحاليّة المعمول بها في إسرائيل، هي إحداها، أليس كذلك؟»
«نعم. وسوف تكون في دِيني كذلك، إنّما تحت تَسميات مختلفة عن التي تُطلِقين، علامات لِفِدائي تُمارَس على النُّفوس لتطهيرها، وتقويتها، وإنارتها، وحمايتها، وتغذيتها ومنحها الغفران.»
«وإذن؟ إذا ما مُنِحَت كذلك الغفران عن الخطايا الشخصيّة، فإنّها ستكون في حال النعمة على الدوام... فكيف ستكون إذاً ضعيفة ومعرَّضة للأمراض الروحيّة؟»
«أورِد لكِ مثالاً للمقارنة: لنأخذ مثلاً طفلاً مولوداً مِن أبوين سليمين تماماً، سليماً معافى وقويّاً هو كذلك. ليس فيه أيّ عيب خُلُقيّ، وراثيّ. بنيته تامّة مِن حيث الهيكل العظميّ والأعضاء. يتمتّع بدم سليم. وبالنتيجة، لديه كلّ ما يؤهّله لكي ينمو قويّاً وسليماً، لأنّ الأُمّ كذلك لديها حليب وافر ومغذٍّ. ولكنّه منذ اللحظة الأولى لحياته أُصيبَ بمرض خطير للغاية، لم يُعرَف سببه. مرض مميت حقّاً. شُفي منه بصعوبة، بفضل رحمة الله الذي حَفظ له حياته، التي كانت على وشك أن تُفارِق جسده الصغير. إذن، أتظنين بعد هذا أنّ الطفل سيبقى قويّاً كما لو أنّه لم يُصَب بذاك المرض؟ لا، سوف يُصاب بضعف دائم. حتّى ولو لم يكن ظاهراً، فإنّه سيبقى، وسيجعله عرضة لأمراض كان سيتجنّبها لو لم يُصَب بالمرض. أحد أعضائه لن يكون تامّ السلامة كالسابق. وسيكون دمه أقلّ مقاومة وأقلّ نقاء مِن السابق، كلّ ذلك يجعله يتعرّض بسهولة لبعض الأمراض التي، إذا ما أدرَكَتهُ، يُصبح مريضاً مِن جديد.
الأمر ذاته في المجال الروحيّ. سوف تُمحى الخطيئة الأصليّة لدى الذين يؤمنون بي. ولكنّ الروح سيحتفظ بميل إلى الخطيئة، التي لم تكن لتبقى فيه لولا الخطيئة الأصليّة. فَمِن أجل هذا يجب السهر والعناية بالروح بشكل مستمرّ، تماماً كما تفعل أُمّ حريصة على طفلها الصغير الذي تحبّه بشكل متميّز على أَثَر مرض طفوليّ. فإذن يجب تحاشي البطالة، وأن يكون المرء فاعلاً ونشيطاً على الدوام في تمتين الفضائل. وإذا ما سَقَطَ أحدهم في هاوية الكسل أو الفتور، فسيكون سهلاً على الشيطان أن يغويه. وكلّ خطيئة جَسيمة، لأنّها تُشبِه نَكسة جَسيمة، فهي تجعله معرَّضاً دائماً للإصابات بالآفات وبموت الروح. بينما على العكس، إذا ما أَصبَحَت إرادة الذي نال الفِداء مُساعِدة للنعمة بنشاط ودأب، فإنّه حينذاك يحفظ نفسه. وليس هذا وحسب، بل إنّه ينمو مع الفضائل التي اكتسبها هذا الإنسان، القداسة والنعمة! يا لها مِن أجنحة آمنة للطيران صوب الله! هل فهمتِ؟»
«نعم يا سيّدي. أنتَ، أعني الثالوث القدوس، تَمنَح الإنسان الأساس الذي يَلزَمه. وعلى الإنسان، بعمله وانتباهه، أن يتفادى الانهيار. فَهِمتُ. كلّ خطيئة جسيمة تُدمِّر النعمة، أي صحّة الروح. العلامات التي ستتركها لنا تعيد الصحّة. صحيح، ولكنّ الخاطئ العنيد الذي يرفض الصراع ضدّ الخطيئة، يُصبِح، في كلّ مرّة، أكثر ضعفاً، حتّى ولو نال الغفران في كلّ مرّة. يجب إذن الصراع لتفادي الفَناء. شكراً يا سيّدي... مارغزيام يستيقظ. لقد تأخر الوقت...»
«نعم، فلنصلِّ جميعنا معاً، ثمّ فلنمضِ إلى النوم.»
يَنهَض يسوع، ويقتدي به الجميع، حتّى الصبيّ الذي ما يزال شبه نائم. وتصدح «الأبانا» بقوّة وتناغُم في الغرفة الصغيرة.