ج3 - ف28

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

28- (أغليّا في بيت مريم في الناصرة)

 

20 / 05 / 1945

 

تَعمَل مريم بهدوء على قطعة قماش. إنّه المساء. كلّ الأبواب مُوصَدة، مصباح ثلاثيّ الرؤوس ينير الغرفة الصغيرة في بيت الناصرة، وخاصّة الطاولة التي جَلَسَت العذراء إلى جانبها. قطعة القماش، وقد تكون شرشفاً، تتدلّى مِن الصندوق ومِن على ركبتيها حتّى الأرض، ومريم التي ترتدي الأزرق الداكن تبدو وكأنّها تَطلَع مِن كومة ثلج. إنّها وحيدة. تخيط ببراعة، رأسها منحن على شُغلها. والمصباح ينير قمّة رأسها، عاكساً ظلالاً ذهبيّة. وما بقي مِن الوجه في شبه ظلّ.

 

في تلك الغرفة المرتّبة جيّداً يسود الصمت الأعظم. وحتّى مِن الطريق، الخاوية أثناء الليل، لا يأتي أيّ صوت. ولا مِن الحديقة كذلك. والباب الثقيل الذي يُطلّ على الحديقة، مِن الغرفة التي تعمل فيها مريم وتتناول طعامها عادة وتستقبل الأصدقاء، مغلق. وهو يمنع حتّى صوت الينبوع الذي يصبّ مياهه في البركة. في الحقيقة إنّه الصمت الأكثر عمقاً. أودُّ معرفة أين يَنصَبّ تفكير العذراء بينما تعمل يداها بنشاط…

 

طَرْق رزين على الباب المفضي إلى الشارع. ترفع مريم رأسها وتُصغي... ولكنّ الطَّرْق كان خفيفاً لدرجة أنّ مريم تميل إلى الظنّ بأنّ ذلك مِن فعل حيوان ليلي، أو إنّ هواء هَزَّ الباب. وتَسأَل قبل أن تفتح: «مَن الطارق؟»

 

ويُجيب صوت ضعيف: «امرأة باسم يسوع، ارحميني.»

 

وتفتح مريم في الحال، حاملة المصباح لترى مَن تكون تلك الحاجَّة الزائرة. فترى كَومة قماش في تَشابُك لا يشفّ عنه شيء، تَشابُك فقير يبقى مُقوَّساً في انحناءة كبيرة عندما تقول: «السلام لكِ يا معلّمة!» وتكرّر أيضاً: «باسم يسوع ارحميني.»

 

«ادخلي وقولي لي ماذا تريدين. فأنا لا أعرفكِ.»

 

«لا أحد يعرفني، ويعرفني الكثيرون، يا معلّمة. الرذيلة تعرفني. والقداسة تعرفني. ولكنّني أحتاج الآن إلى الرحمة تفتح لي ذراعيها. وأنتِ الرحمة...» وتبكي.

 

«ولكن ادخلي... وقولي لي... لقد قُلتِ لي ما فيه الكفاية لأُدرِك أنّكِ بائسة... ولكن مَن تكونين، هذا ما لا أعرفه بعد. اسمكِ يا أختي...»

 

«آه! لا! ليس أختي! لا يمكن أن أكون أختكِ... فأنتِ أُمّ الخير... وأنا... أنا الشرّ ذاته...» وتبكي باستمرار وبشكل أقوى، داخل معطفها الذي يحجبها كليّة.

 

تضع مريم المصباح على مَقعَد، تأخذ بيد المجهولة الجاثية عند العَتَبَة وتُجبِرها على النهوض.

 

مريم لا تعرفها ... بينما أنا بلى. إنّها المرأة المحجّبة في منطقة "المياه الحلوة."

 

تَنهَض متواضِعة، مُرتجِفة، مُنتفِضة تبكي، وهي ما تزال متردِّدة في الدخول قائلة: إنّني وثنيّة يا معلّمة. وبالنسبة إليكم، مَعشَر اليهود، فإنّني قذارة حتى ولو كنتُ قدّيسة. ولكنّني قَذارة مُضاعَفة لأنّني فاجرة.»

 

«بما أنّكِ تأتين إليَّ، وحيث إنّكِ تبحثين عن ابني مِن خلالي، فلا يمكن أن تكوني سوى قلب تائب. وهذا البيت يستقبل كلّ ما يُسمّى ألماً.» وتسحبها إلى الداخل وتُغلِق الباب، وتعيد المصباح إلى الطاولة، وتقدّم لها مَقعَداً وهي تقول لها: «تكلّمي.»

 

ولكنّ المرأة المحجّبة لا تريد الجلوس. ومنحنية قليلاً تستمرّ بالبكاء. مريم أمامها، وديعة وجليلة، تنظر وهي تصلّي كي يَسكُن غَمّها. أراها تصلّي بكلّ كيانها بينما لا شيء فيها يوحي بأنّها تُصلّي: لا اليدان اللتان ما تزالان تمسكان يد المحجّبة الصغيرة، ولا الشفتان الـمُطبَقَتان.

 

أخيراً تتوقّف الدموع. تمسح المرأة وجهها بوشاحها وتقول بعدئذ: «ومع ذلك لم آت مِن بعيد جدّاً لأظلّ مجهولة. إنّها ساعة افتدائي، وينبغي لي أن أكشف عن نفسي مِن أجل... مِن أجل أن أُظهِر لكِ كَم مِن الجراح تُدمي قلبي. و... أنتِ أُمّ... أُمّه... وسوف ترحمينني.»

 

«نعم يا ابنتي.»

 

«آه! نعم! ناديني يا ابنتي!... لقد كانت لي أُمّ... وقد تَرَكتُها... وقيل لي إنّها ماتت مِن الغَمّ... وكان لي أب... وقد لَعَنَني... وهو يقول للناس في المدينة: "لم يعد لي ابنة."» (وتَجهَش بالبكاء. ومريم، مِن ألمها، تصبح شاحبة. ولكنّها تضع يدها على رأس تلك لمواساتها.) وتُكمِل المرأة: «لن أجد مَن يناديني يا ابنتي!... نعم، هكذا، لاطِفيني هكذا، كما كانت تفعل أُمّي... عندما كُنتُ ما أزال طاهرة وصالحة... اسمحي لي أن أُقبِّل هذه اليد وأمسح بها دموعي، فدموعي وحدها لا تغسلني. كم بكيتُ منذ أن أَدرَكتُ!... وفي السابق بكيتُ أيضاً. فإنّه لأمر فظيع ألّا نكون سوى جسد مُباع، مُهان مِن قِبَل الرجل. ولكنّ بكائي آنذاك لم يتعدَّ كونه شكاوى حيوان عُومِل بخشونة وهو يكره ويثور ضدّ الذي يعذّبه ويلطّخه أكثر باستمرار، إذ... كنتُ أُبدِّل العشّاق، ولكنّ البهيميّة هي ذاتها على الدوام... ومنذ ثمانية أشهر وأنا أبكي... إنّما لأنّني أَدرَكتُ... أَدرَكتُ شقائي وقذارتي. وهذه أنا مغطاة بها، مُشبَعة منها، حتّى أصابني الغثيان... ولكنّ دموعي الأكثر وعياً على الدوام ما زالت لا تغسلني. إنّها تمتزج بقذارتي ولا تغسلها. آه! أيّتها الأُمّ! امسحي دموعي. وسوف أتطهّر بشكل أستطيع معه التقرّب مِن مُخلِّصي!»

 

«نعم، يا ابنتي، نعم. اجلسي هنا معي، وتكلّمي بسكون. اتركي كلّ ذلك الثِّقل هنا، في حضني كأُمّ.» وتجلس مريم.

 

ولكنّ المرأة تنـزلج عند قدميها، وتريد أن تتكلّم هكذا. تبدأ بهدوء: «أنا مِن سيراكوزا... عمري ستّ وعشرون سنة... كنتُ ابنة قهرمان. يمكن القول إنّه وكيل لسيّد رومانيّ كبير. كُنتُ ابنته الوحيدة. كُنتُ أعيش سعيدة. وكنّا نقطن فيلّا جميلة جدّاً قرب الشاطئ، كان والدي قهرمانهاً. كان صاحب الفيلّا يأتي مِن وقت إلى آخر أو تأتي زوجته وأولاده... وكانت معاملتهم لنا جيدة، وقد كانوا لطيفين معي. كانت الفتيات يلعبن معي... وكانت أُمّي سعيدة... وقد كانت فخورة بي. كُنتُ جميلة... وذكيّة... وناجحة في كلّ شيء... ولكنّني كُنتُ أحبّ الأشياء التافهة أكثر مِن الأشياء الصالحة. وفي سيراكوزا مسرح كبير. مسرح كبير... وجميل... وواسع... تجري فيه الألعاب والتمثيليّات الضاحكة... وفي مسرحيّات الكوميديا الضاحكة والتراجيديا الحزينة التي تُقَدَّم فيه، يُستَخدَم الإيماء كثيراً. فيُعَبِّرون برقصاتهم الصامتة عما تقوله الجوقة. لا تعرفين... ولكن حتّى بالأيدي وبحركات الجسم يمكن التعبير عن مشاعر الإنسان التي تُحرِّكها بعض الأهواء... وفي ميدان مُجاوِر للمسرح يتمّ تدريب مراهقين ومراهقات على مهنة الإيماء. وينبغي أن يكونوا في جمال الآلهة، ورشاقة الفراشات... وكُنتُ أحبُّ كثيراً الذهاب إلى رابية تُطلّ على ذلك المكان، والنَّظَر إلى رقصات الإيماء. ثمّ كُنتُ أعيدها في الحقول الـمُزهِرة، على رمل أرضي الأشقر، وفي حديقة الفيلّا. كُنتُ أبدو كتمثال فنّي أو بالحريّ كنسمة تطير لشدّة ما كُنتُ أعرف التثبّت في الوضعيات التمثاليّة، أو الطيران بشكل لا أكاد فيه ألامس الأرض. وكانت صديقاتي الثريّات معجبات بي.. وكانت أُمّي فخورة لذلك...»

 

تتكلّم المرأة المحجّبة وتتذكّر وتستعيد رؤية الماضي كما في حلم، وتبكي. والنحيب يقطع أقوالها.

 

«ذات يوم... كان ذلك في أيّار (مايو)... وكانت سيراكوزا تعجّ بالأزهار. والاحتفالات كانت قد انتهت منذ وقت قريب، وكُنتُ قد بقيتُ متحمّسة لرقصة قُدِّمت على المسرح...حيث أَخَذَني معلّميّ إليه مع البنات. وكان عمري آنذاك أربع عشرة سنة... وكان على ممثّلات الإيماء، في تلك الرقصة، أن يلعبن دور حوريّات الربيع وهي تركض لتقديم فروض العبادة لسيريس. وكنّ يرقصن وهنّ مُتَوَّجات بالورود، ولابِسات الورود... فقط الورود. إذ إنّ ثيابهنّ كانت مجرّد وِشاح خفيف جدّاً، شبكة خيط عنكبوت نُثِرَت عليها الورود... وفي رقصتهنّ كنّ كالفراشات لشدّة ما كُنَّ يركضن بخفة. وكانت أجسادهنّ الرائعة تَظهَر مِن خلال الأوشحة الرقيقة الـمُزهِرة التي كانت تُشكّل أجنحة خلفهنّ... دَرَستُ تلك الرقصة... وذات يوم... ذات يوم...» وتبكي المرأة المحجّبة بشكل أعنف... ثمّ تتابع: «كُنتُ جميلة، وما زلتُ. انظري.» وتنتصب واقفة، وبسرعة ترمي وشاحها إلى الخلف، وتَنـزَع معطفها. وأنا، بَقيتُ مَشدوهة مذهولة، إذ إنّني أرى أغليّا تَبرُز، مِن الأقمشة التي أزاحَتها، جميلة جدّاً في ثوبها المتواضع وتسريحتها البسيطة ذات الجدائل، دون حليّ، ومِن غير أقمشة ثمينة، زهرة حقيقيّة مِن لحم، هيفاء ومتكاملة بوجه رائع، حنطيّ، وعينين مخمليّتين إنّما مليئتين ناراً.

 

تعود لتجثو أمام مريم: «كُنتُ جميلة، ولتعاستي كُنتُ مجنونة. في ذلك اليوم لَبِستُ أوشحة رقيقة، بنات معلّميّ ساعَدنني. كُنّ يحببن رؤيتي أرقص. لَبِستُ في زاوية مِن الشاطئ الأشقر، مقابل البحر الأزرق. وعلى الشاطئ، المقفر في ذلك الموضع، كانت أزهار برّية، بيضاء وصفراء، بعطر اللوز النافذ وعطر الونيلية، ومِن الحمضيّات كانت تَرِد كذلك هَبَّات مِن العطر النافذ، فلقد كانت تفوح روائح ورود سيراكوزا وكذلك البحر والرمل. وكانت الشمس تنشر روائح كلّ الأشياء... انتابَني شعور مُبهَم مِن الذُّعر. كُنتُ أُحِسُّ أنّني حوريّة، أنا كذلك، وكُنتُ أُقدِّم فروض العبادة... لِمَا؟ أَلِلأرض الخصيبة؟ أَلِلشمس التي تخصبها؟ لستُ أدري. وثنيّة بين الوثنيّين، أظنّني كُنتُ أعبُد الشهوة، مَلِكي المستَبدّ، الذي لم أكن أُفكّر أنّه فيَّ، ولكنّه كان شديد التأثير أكثر مِن آلهة... تَكَلَّلتُ بالورود التي كُنتُ قد أخذتُها مِن الحديقة... ورقصتُ... كُنتُ سكرانة مِن النور والعطور، ومِن الرغبة والمتعة في أن أكون شابّة رشيقة وجميلة. رقصتُ... وشوهِدتُ. رأيتُهُ، كان ينظر إليَّ. ولكنّني لم أخجل مِن الظهور عارية أمام عينيّ رجل نَهِمَتين. على العكس، لقد استمتعت بمتابعة طيراني... متعة أن أكون مثيرة للإعجاب، وهذا ما كان يمنحني حقيقة أجنحة... وكان انهياري. وبعد ثلاثة أيّام ذَهَبَ معلّميّ إلى بيتهم في الوطن روما وبقيتُ وحيدة. ولكنّني لم أبقَ في البيت... فتلك العينان المعجبتان كَشَفَتا لي عن شيء آخر غير الرقص... كشفتا لي عن الشهوة والجنس.»

 

وتَصدُر عن مريم حركة لا إراديّة تنمّ عن الاشمئزاز، تُلاحِظها أغليّا. «آه! إنّكِ طاهِرة، وقد أكون بالنسبة إليكِ كائناً مُقرِفاً...»

 

«تكلّمي، تكلّمي يا ابنتي. فالأفضل أن يكون هذا الحديث لمريم وليس له. فمريم هي البحر الذي يَغسل...»

 

«نعم، الأفضل أن يكون لكِ، وهذا ما قُلتُه لنفسي كذلك، عندما عَلِمتُ أنّ له أُمّاً... إذ، في البداية، لدى رؤيتي إيّاه مختلفاً كثيراً عن أي رجل آخر، الوحيد الروحانيّ، الذي روح هو كلّه، -فلقد أصبحتُ أَعلَم أنّ الروح موجود، وما هو- في البداية لم أكن أستطيع القول ممّا هو مجبول ابنكِ، طاهراً هكذا مِن كلّ شهوة، مع كونه إنساناً، وقد كُنتُ أُفكّر في نفسي أنّ لا أُمّ له، إنّما هو قد هَبَطَ هكذا إلى الأرض ليُنقِذ الشقاوات الفظيعة والتي أنا أَعظَمها…

 

كُنتُ أعود كلّ يوم إلى ذلك الموضع على أمل رؤية ذلك الإنسان مِن جديد، الشاب الأسمر الجميل... وبعد مدّة رأيتُهُ... كَلَّمَني، وقال لي: "تعالي معي إلى روما. سآخذكِ إلى القصر الملكيّ وتكونين دُرَّة روما." قُلتُ: "نعم، سوف أكون زوجتكَ الوفيّة. تعال إلى بيت أبي." فأَخَذَ يضحك ساخِراً وقَبَّلني. قال: "لا ليس زوجة، بل إنّما آلهة، وأنا كاهنكِ، وسأكشف لكِ عن أسرار الحياة والمتعة." كُنتُ مجنونة، كُنتُ فتيّة، ولكن رغم كوني فتيّة لم أكن أجهل ما هي الحياة... كُنتُ ماكرة. كُنتُ مجنونة، ولكنّني لم أكن قد أصبحتُ فاسدة... وأثار عرضه اشمئزازي. أَفلَتُّ مِن بين يديه، وهَرَعتُ إلى البيت... ولكنّني لم أُكلّم والدتي في ذلك... ولم أعرف أن أقاوم الرغبة في أن أراه مِن جديد... قُبلاته جَعَلَتني أُجنّ كثيراً... وعُدتُ. وما أن عُدتُ إلى ذلك الشاطئ المنعزل حتّى عانَقَني، وهو يُقبِّلني بهياج، أَمطَرَني بقبلاته وكلامه الغَزَليّ وأسئلته: "أليس كلّ شيء في هذا الحبّ؟ أليس أكثر متعة مِن رباط الزواج؟ ماذا تريدين بعد؟ هل يمكنك العيش دونه؟"

 

آه! أيّتها الأُمّ!... وهربتُ في ذلك المساء ذاته مع ذاك الارستقراطيّ الـمَقيت. وصرتُ ممسحة يدوسها بحيوانيّته... وليس آلهة، بل حمأة. ليس جوهرة، بل سماداً. لم يكشف لي عن الحياة، بل عن قذارة الحياة والعار والقَرَف والألم والخَجَل والبؤس الذي لا نهاية له، حتّى إنّني لم أعد أَملِك نفسي... وثمّ... الهبوط التام. وبعد ستّة أشهر مِن الفُجور، بعد أن سَئِم منّي، انتَقَلَ إلى علاقات حبّ جديدة، وأصبحتُ أنا في الشارع. استَغَلّيتُ مواهبي كراقصة... وكُنتُ قد عَرفتُ آنذاك أنّ أُمّي قد ماتت مِن الغَمّ. ولم يَعُد لديَّ بيت ولا أب... فاستَقبَلَني معلّم رقص في صالته الرياضيّة. جَعَلَني أفضل... واستَغَلَّني... ورماني كزهرة في مجرى كلّ الفنون الشهوانيّة، في خضمّ الوسط الارستقراطيّ الرومانيّ الفاسد. والزهرة التي كانت قد تلوَّثَت سَقَطَت في بؤرة فساد. وكانت عشر سنوات مِن الانحدار في الهوّة، نحو الأسفل باستمرار. ثمّ أتوا بي إلى هنا لإمتاع هيرودس في أوقات فراغه، وقد صرتُ تابعة لمعلّم جديد. آه! لم يُكَبَّل كلب بالسلاسل أكثر مِن أيّ واحدة مِنّا! وما مِن مُربّي كلاب أكثر وحشيّة مِن رجل يملك امرأة! أيّتها الأُمّ... إنّكِ ترتَعِشين! أُرعِبكِ!»

 

ووَضَعَت مريم يدها على صدرها كما لو أنّها تلقَّت ضربة. ولكنّها تجيب: «لا، ليس أنتِ. ما يرعبني هو الشرّ الذي يهيمن على الأرض. تابعي أيّتها الابنة المسكينة!»

 

«أتى بي إلى الخليل... هل كُنتُ حرّة؟ هل كُنتُ ثريّة؟ نعم، لأنّني لم أكن في السجن، ولأنّني كُنتُ مُثقَلَة باللآلئ. ولا، لأنّني لم أكن أستطيع رؤية أحد غير الذين يريدني هو أن أراهم، كما لم أكن أستطيع أن أكون حرّة نفسي.

 

وفي أحد الأيّام وَفَدَ إلى الخليل رجل: الرجل هو ابنكِ. وكان ذاك البيت عزيزاً على قلبه. عرفتُ ذلك ودَعَوتُه إلى الدخول. ولم يكن شَمّاي هناك... وكُنتُ آنذاك قد سَمِعتُ، مِن خلال النافذة، كلاماً، ورأيتُ شَخصَاً قَلَبَ كياني رأساً على عقب. ولكن، أقسم لكِ أيّتها الأُمّ، أنّه ليس الجسد هو الذي دَفَعَني صوب يسوعكِ. بل كان شيئاً كَشَفَه لي هو، فَدَفَعَني إلى العَتَبَة، مُحتَقِرة كلّ التسليات السوقيّة لأقول له: "ادخل". وهذا الشيء كان نَفْسي التي أُعطيتُ تُجلّيها لي. فلقد قال لي: "اسمي يعني الـمُخلِّص. أُخلِّص الذين لديهم رغبة حقيقيّة بأن يَخلصوا. أُخلِّص بتعليم المرء أن يكون طاهراً، وأن يريد الألم إنّما مع النـزاهة، يريد الخير بأيّ ثمن. أنا مَن يبحث عن الضالّين، مَن يمنح الحياة. أنا الطُّهر والحقّ". قال لي إنّني أنا أيضاً أملك نَفْساً أنا قَتَلتُها بطريقة حياتي. ولكنّه لم يلعنّي، ولم يسخر منّي. ولم يشح نَظَرهُ إليَّ ولو للحظة! أوّل رجل لا يتفرَّس فيَّ بنظرة نَهِمة، ذلك أنّ لعنة رهيبة فيَّ تجعلني أَجذُب الرجل... وقال لي إنّ مَن يبحث عنه يجده لأنّه يتواجد حيث تكون الحاجة إلى الطبيب والأدوية. ومضى. ولكنّ كلماته رَسخَت هنا ولم تعد تخرج. لقد قال لي إنّ اسمه الـمُخلِّص كما ليبدأ عمليّة شفائي. وقد بَقيَت لي كلماته، وكذلك تلك التي للرُّعاة أصدقائه. وخَطوتُ الخطوة الأولى بأن أَعطَيتُهم الهبة وطلبتُ منهم الصلاة... ثمّ... هربتُ…

 

آه! يا له مِن هروب مقدَّس! فلقد هربتُ مِن الخطيئة للبحث عن الـمُخلِّص. ذهبتُ أبحث عنه، متأكّدة مِن أنّني سأجده، لأنّه هو كان قد وَعَدَني بذلك. أَرسَلوني إلى رجل اسمه يوحنّا، قائلين لي إنّه هو. ولكنّه لم يكن هو. وَجَّهَني أحد اليهود إلى منطقة المياه الحلوة. وكُنتُ أعيش مِن الذهب الذي كان لديَّ منه الكثير، خلال الأشهر التي كُنتُ أبحث فيها عنه، كُنتُ مضطرّة لإخفاء وجهي كي لا يُعيدني أحد، ولأنّ، في الحقيقة، كانت أغليّا مدفونة تحت هذا الوِشاح. أغليّا القديمة ميتة. وتحت هذا الوِشاح كانت نفسها المجروحة والنازفة تبحث عن طبيبها. وقد اضطُرِرتُ مرّات كثيرة إلى الهروب مِن الرجل الذي يطاردني رغم التخفّي في ثوبي. حتّى أحد أصدقاء ابنكِ…

 

في منطقة المياه الحلوة كُنتُ أعيش كالحيوان: فقيرة إنّما سعيدة. الأمطار والنَّهر طَهَّرَتني أقلّ مِن كلامه. آه! لم تَضِع منها كلمة واحدة. غَفَرَ مَرَّة لِقاتِل، فسَمِعتُ وكُنتُ على وشك أن أقول له: "اغفر لي أنا أيضاً". ومرّة أخرى تحدَّثَ عن البراءة الضائعة... آه! يا لها مِن دموع ندم! ومرّة أخرى شفى مصاباً بالبرص... وكُنتُ على وشك أن أصرخ: "طَهِّرني مِن خطيئتي..." ومرّة أخرى شفى مجنوناً كان رومانيّاً... وبكيتُ... وقال إنّ الأوطان تزول ولكنّ السماء باقية. وذات مساء عاصِف، استَقبَلَني في البيت... ثمّ جَعَلَني أَجِد مسكناً بواسطة الوكيل... وجَعَلَ طفلاً يقول لي: "لا تبكي"... آه! يا لطيبته وصلاحه! وآه! يا لشقائي! الاثنان عظيمان لدرجة أنّني لم أجرؤ على حَمل شقائي لأضعه عند قدميه... رغم أنّ أحد أتباعه أَعلَمَني، ليلاً، عن الرحمة اللامتناهية التي لدى ابنكِ. ثمّ تَعرَّضَ إلى شِراك الناس الذين كانوا يريدون رؤية الخطيئة في الرغبة التي كانت لدى نَفْس تشتهي أن تُولَد مِن جديد. ومضى مُخلِّصي... وأنا انتظرتُه... إنّما كان ينتظره كذلك انتقام أناس أقلّ أهليّة منّي للنظر إليه. فأنا قد أخطأتُ، كوثنيّة، ضدّ نفسي، بينما هم يخطئون، وهم يعرفون الله، ضدّ ابن الله... وضَرَبوني، وقد جَرَحَني اتهامهم أكثر مِن الحجارة، ولقد جَرَحوا نفسي المسكينة أكثر مِن جَرح الجسد، بأن قادوها إلى اليأس.

 

آه! العِراك الرهيب مع ذاتي! ممزَّقة، نازفة دماً، مجروحة، حرارتي مرتفعة، محرومة مِن طبيبي، دون سقف، دون قوت، نَظَرتُ إلى الخلف وأمامي... كان الماضي يقول لي : "عودي". والحاضر يقول لي: "اقتلي نفسكِ". أمّا المستقبل فكان يقول لي: "تحلّي بالرجاء". ورَجَوتُ... ولم أقتل نفسي. كُنتُ سأفعلها لو هو طَرَدَني، ذلك أنّني لم أعد أريد أن أكون كسابق عهدي!... وجَرجَرتُ نفسي حتّى إحدى البلدات بحثاً عن مأوى... ولكنّني عُرِفتُ. وكحيوان اضطررتُ للفرار هنا وهناك، وأنا مُلاحَقَة على الدوام، ملعونة دائماً لأنّني كُنتُ أبغي أن أكون شريفة نزيهة، ولأنّني كُنتُ قد خَيَّبتُ أمل الذين كانوا يريدون ضرب ابنكِ بواسطتي. وصَعَدتُ بمحاذاة النهر حتّى الجليل، وأتيتُ هنا... ولم تكوني في البيت. ذهبتُ إلى كفرناحوم، وكنتِ قد مَضَيتِ منها لتوّكِ. ولكنّ رجلاً عجوزاً رآني، وهو أحد أعدائه، وجَعَلَني موضوع اتّهام منه لابنكِ، وبما أنّني كُنتُ أبكي دونما ردّة فعل، قال لي... قال لي: "كلّ شيء ممكن أن يتبدَّل بالنسبة إليكِ إن رضيتِ أن تكوني عشيقتي وشريكتي في اتّهام الرابّي الناصريّ. يكفي أن تقولي أمام أصدقائي إنّه كان عشيقكِ..." وهَرَبتُ كَمَن رأى أفعى تَخرُج مِن دَغل زهور.

 

وبذلك أَدرَكتُ أنّه مِن غير الممكن لي تَعَقُّب أثره... وأتيتُ في إثركِ. ها أنا ذا: دوسيني بقدميكِ، فلستُ سِوى وحل. اطرديني فأنا الخاطئة. سَمِّيني باسمي: العاهِرة. وسأتقبّل منكِ كلّ شيء، ولكن ارحميني يا أُمّاه. خذي نفسي المسكينة الـمُلوَّثَة واحمليها إليه. إنّها لخطيئة أن أضع فجوري بين يديكِ. إنّما ليس له سوى هذا المكان يلقى فيه الحماية مِن العالم الذي يريده، ويُصبح توبة. قولي لي كيف يمكن أن أتصرَّف. قولي لي ماذا ينبغي لي فِعله. قولي لي ما هي الوسائل التي يجب أن أتَّبِعها كي لا أعود أغليّا. ما الذي ينبغي لي أن أبتره فيَّ؟ ماذا عليَّ أن أنزع من ذاتي كي لا تعود فيَّ خطيئة ولا غواية، كي لا يعود فيَّ ما أخشاه مِن ذاتي ومِن الرجل؟ هل ينبغي لي نَزع عينيّ؟ هل ينبغي لي حرق شفتيَّ؟ هل ينبغي لي أن أقصَّ لساني؟ فالعينان والشفتان واللسان كانت هي وسائلي في فِعل الشرّ. لم أعد أريد الشرّ، وأنا مستعدّة لمعاقبة نفسي ومعاقبة تلك الوسائل بالتضحية بها. أَوَتريدينني أن أنزَع هذين الحَقوين النَّهِمَين اللَّذَين دَفَعاني إلى ضروب مِن الحبّ الفاسد؟ تلك الأحشاء الشَّرِهة التي أخشى يَقَظَتها على الدوام؟ قولي لي، قولي لي كيف العمل لننسى أنّنا نِساء، وكيف العمل لنُنسي الآخرين أنّنا نِساء؟»

 

مريم مضطربة. إنّها تبكي وتتألّم، ولكن دلالات ألمها الوحيدة هي دموعها التي تسقط على التائبة.

 

«أودُّ لو يُغفَر لي قبل أن أموت. أودُّ لو أموت وليس في ذاكرتي سوى مُخلِّصي. أودُّ لو أموت وحِكمته صديقتي... ولا يمكنني التقرّب إليه لأنّ العالم يترصَّدنا، هو وأنا، ليُلفِّق لنا التهمة...» وتبكي أغليّا وهي مرميّة على الأرض كَخِرقة مَزِقة حقيقيّة.

 

وتنهَض مريم، وهي تتمتم حزينة: «كم هو صعب أن يكون فادياً!»

 

أغليّا التي تَسمَع تلك التمتمة تئنّ: «أرأيتِ؟ أترين أنّني أوحي لكِ كذلك بالاشمئزاز؟ الآن أنا أمضي. كلّ شيء قد انتهى بالنسبة إليَّ!»

 

«لا يا ابنتي. لا لم ينته. بالنسبة إليكِ الآن هي البداية. اسمعي أيّتها النَّفْس المسكينة. لستُ أئِنُّ بسببكِ، بل بسبب العالم غليظ القلب. أنا لا أدعكِ تَرحَلين، بل أستَقبِلكِ، أيّتها السنونو المسكينة التي جَعَلَتها العاصفة ترتطم بجدراني. سأقودكِ إلى يسوع، وهو يُشير ويَدُلُّك على طريق الفداء...»

 

«لن يكون لي رجاء... العالم على حقّ. لا يمكن أن يُغْفَر لي.»

 

«مِن قِبَل العالم، لا. أمّا مِن قِبَل الله فبَلَى. دعيني أحدّثكِ عن الحبّ الأعظم الذي وَهَبَني ابناً أمنَحهُ للعالم. لقد أَخرَجَني مِن الجهل المغبوط لبتوليّتي الـمُكَرَّسة، لينال العالم المغفرة. لقد أسال دمي، ليس دم الولادة، بل دم القلب، بإظهاره لي أنّ ابني هو الضحيّة الكبرى. انظري إليَّ يا ابنتي، ففي هذا القلب جرح كبير، يئنّ منذ ثلاثين سنة ونيّف. وهو يتعاظم أكثر فأكثر ويُضنيني. هل تعلمين الاسم الذي يُطلَق عليه؟»

 

«الألم.»

 

«لا. بل الحبّ. إنّه ذلك الحبّ الذي يستَنـزِفني لكي لا يبقى الابن وحيداً في صنع الخلاص. إنّه الحبّ الذي يضع فيَّ النار لأُطهِّر الذين لا يجرؤون على الذهاب إلى ابني. إنّه الحبّ الذي يمنحني الدموع أغسل بها الخَطَأة. كُنتِ تريدين ملاطفاتي، وأنا أعطيكِ دموعي التي تجعلكِ الآن بيضاء لكي تتمكّني مِن النَّظر إلى ربّي. لا تبكي هكذا. فلستِ الخاطئة الوحيدة التي تأتي إلى السيّد وتعود مُفتَداة. كانت هناك أُخرَيات، وستكون هناك أُخرَيات.

 

هل تَشكّين أنّ بإمكانه هو أن يغفر لكِ؟ ولكن ألا ترين أنّ كلّ ما جرى لكِ هو إرادة سِريّة للصَّلاح الإلهيّ؟ مَن ذَهَبَ بكِ إلى اليهوديّة؟ مَن قادكِ إلى بيت يوحنّا؟ مَن وضعكِ على النافذة ذاك الصباح؟ مَن أشعَلَ نوراً ليضيء كلماته؟ مَن منحكِ القُدرة على إدراك أنّ المحبّة إذا اتَّحَدَت بصلاة مَن يتلقّى معروفاً، تحصل على العَون مِن الله؟ مَن منحكِ القُدرة على الهرب مِن منـزل شَمّاي؟ مَن وهبكِ القُدرة على المثابرة في الأيّام الأولى لحين وصوله؟ مَن أتى بكِ إلى طريقه؟ مَن جعلكِ قادرة على حياة التوبة لتطهير نفسكِ أكثر فأكثر؟ مَن جَعَلَ منكِ نَفْس شهيدة، نَفْس مؤمنة، نَفْساً مُثابِرة ونَفْساً طاهرة؟…

 

نعم، لا تهزّي رأسكِ. هل تظنّين أنّ لا طاهر إلّا مَن لم يعرف الشهوة؟ أتعتقدين أنّ النَّفْس لم يَعُد بإمكانها أبداً أن تعود عذراء وجميلة؟ آه! يا ابنتي! ولكن بين طهارتي التي هي بمجملها نعمة مِن الربّ، وزُهدكِ البطوليّ للعودة إلى قمّة طهارتكِ الضائعة، ثِقي بأنّ التي لكِ هي الأعظم. فإنّكِ أنتِ التي تَبنينها: ضدّ الشهوة والحاجة والعادة. بالنسبة إليَّ هي عطيّة طبيعيّة كالتنفّس. بينما أنتِ، فإنّه ينبغي لكِ أن تقمعي الجسد، وبفاعليّة، في فِكركِ وعواطفكِ، لكي لا تتذكّري، لا تشتهي، لكي لا تعاودي الكَرَّة. أمّا أنا... آه! هل يمكن لطفلة عمرها ساعات أن تكون لها شهوة الجسد؟ هل تستحقّ أجر عدم ممارستها لها؟ هكذا هي الحال بالنسبة إليَّ. لستُ أعلَم ما هو هذا الجوع المأساويّ الذي جَعَلَ مِن الإنسانيّة ضحيّة. أنا لا أعرف غير الجوع الفائق القداسة لله. أمّا أنتِ فلم تكوني تعرفينه، ولقد تَعَلَّمْتِه بنفسكِ. أمَّا أنتِ، فالجوع الآخر المأساويّ والفظيع، قد قَمَعتِه وكَبَحتِه بحبّ الله، حبّكِ الوحيد الآن. فابتسمي يا ابنة الرحمة الإلهيّة! فإنّ ابني يجعل منكِ ما قاله لكِ في الخليل. وها هو قد فَعَلَها. فأنتِ الآن مُخَلَّصة لأنّ لديكِ الإرادة الصادقة بخلاصكِ، لأنّكِ تَعَلَّمْتِ الطُّهر والألم والخير. لقد عادت الحياة إلى نفسكِ. نعم. تلزمكِ كلمته لتقول لكِ باسم الله: "مغفورة لكِ خطاياكِ". أنا لا يمكنني قولها، لكنّني أعطيكِ قُبلتي كوعد، كبداية مغفرة…

 

أيّها الروح الأزليّ، قليل منكَ موجود دائماً في مريمكَ! فاسمح بأن تَنثُركَ، أيّها الروح الـمُبَرِّر، على الإنسانة التي تبكي وترجو. باسم ابننا، يا إله الحبّ، خلِّص التي تنتظر الخلاص مِن الله. والنعمة التي قال لي الملاك إنّ الله ملأني منها، فلتحل بشكل عجائبيّ على هذه وتُثبّتها حتى يبرئها يسوع، الـمُخلِّص المبارَك، الكاهن الأعظم باسم الآب والابن والروح…

 

لقد حَلَّ الليل يا ابنتي، وأنتِ تَعِبَة ومُنهَكَة. تعالي. استريحي. وغداً ترحلين. سوف أرسلكِ إلى عائلة يتحلّى أفرادها بالنـزاهة، ذلك أنّ أناساً كثيرين يأتون هنا الآن. وسأعطيكِ ثوباً كالذي لي تماماً. فيعتبرونكِ إسرائيليّة. ينبغي لي أن أقابل ابني في اليهوديّة، فالفصح قد اقتَرَب، وفي مطلع شهر نيسان (أبريل) سوف نكون في بيت عنيا. سوف أتحدَّث عنكِ آنذاك. تعالي إلى بيت سمعان الغيور. سوف تجدينني هناك وآخذكِ إليه.»

 

ما زالت أغليّا تبكي، ولكن بهدوء. جَلَسَت على الأرض. وجَلَسَت مريم كذلك مِن جديد. تضع أغليّا رأسها على ركبتني مريم وتُقبِّل يدها... ثمّ تئنّ: «سوف يتعرّفون عليَّ...»

 

«آه! لا تخافي. كان ثوبكِ حينذاك معروفاً جدّاً. إلّا أنّني سوف أهيّئكِ لهذه الرحلة التي ستقومين بها نحو المغفرة. وسوف تكونين مثل العذراء الماضية إلى إبراز نذورها: مُختَلِفة وغير معروفة وسط الجمع الجاهل للشعائر. تعالي. لديَّ غرفة صغيرة قرب غرفتي. وقد أَوَت قدّيسين وحجّاجاً راغبين في التوجّه إلى الله. وستأويكِ أنتِ كذلك.»

 

تهمّ أغليّا بأخذ معطفها ووشاحها.

 

«دعيها، إنّها ثياب أغليّا المسكينة التائهة. وهي لم تعد موجودة... ينبغي ألّا يبقى منها حتّى هذا الثوب. لقد تلقّى حقداً كثيراً... والحقد يؤذي كالخطيئة.»

 

تَخرُجان إلى الحديقة المظلمة، وتَدخُلان على غرفة يوسف الصغيرة. تُنير مريم المصباح الموضوع على الطاولة الصغيرة، وتُلاطِف كذلك التائبة، وتُغلِق الباب. وبمصباحها الثلاثيّ تضيء لنفسها لترى أين يمكن أن تضع معطف أغليّا الممزّق لكي لا يراه أحد مِن الزوّار في الغد.