ج4 - ف178

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

178- ("يوحنّا الذي مِن عين دور، سوف تمضي إلى أنطاكية")

 

24 / 10 / 1945

 

إنّها صبيحة شتاء ماطرة. يسوع قد نَهَض، وهو الآن يعمل في مشغله. إنّه يصنع أشياء صغيرة. وفي إحدى الزوايا هناك نَول نسيج جديد، ليس كبيراً جدّاً، ولكنّه حسن التكوين.

 

تَدخُل مريم وبيدها كأس حليب ساخن. «اشرب يا يسوع. لقد مضى وقت طويل على نهوضكَ. الطقس رَطب وبارد...»

 

«نعم. إنّما، على الأقلّ، فقد تمكّنتُ مِن إنهاء كلّ شيء... أيّام العيد الثمانية كانت قَد شَلَّت العمل...» ويَجلِس يسوع على طاولة النّجارة، بقليل مِن المواربة، ويَشرَب الحليب، بينما تتأمّل مريم النَّول وتتلمّسه بيدها.

 

«هل تباركيه يا أُمّي؟» يَسأَل يسوع مبتسماً.

 

«لا، بل أتلمّسه لأنّكَ أنتَ صَنَعتَه. أمّا البركة فقد مَنَحتَه إيّاها وأنتَ تصنعه.كانت فكرة حسنة منكَ. سيكون مفيداً لسِنْتيخي. إنّها ماهرة جدّاً في النسيج. وسيفيدها في التقرّب مِن النساء والصبايا. ماذا فعلتَ غير ذلك، فقد رأيتُ شظايا خشب الزيتون، على ما يبدو لي، قرب الفرن؟»

 

«صنعتُ أشياء تفيد يوحنّا. أترين؟ علبة أقلام، وطاولة صغيرة للكتابة. ثمّ هذه الخزائن لاحتواء الكتب. لم أكن لأتمكّن مِن صنع هذا لو لم يكن سمعان بن يونا قد فَكَّرَ بالعربة الصغيرة. والآن أَصبَحَ بإمكاننا تعبئة هذه الأشياء كذلك... وهما سيفكّران بأنّني أحببتُهُما في هذه الأشياء الصغيرة...»

 

«تتألّم لإبعادهما، أليس كذلك؟»

 

«أتألّم مِن أجلي ومِن أجلهما. لقد انتظرتُ حتّى الآن لأحدّثهما... ولقد تأخّر سمعان عن الوصول مع بورفيرا... إنّه وقت التحدّث... أَلَم جَثَمَ على قلبي كلّ هذه الأيّام، وجَعَلَ أنوار مصابيح كثيرة حزينة... أَلَم عليَّ الآن أن أنقله إلى الآخرين... آه! يا أُمّي، كم وددتُ الاحتفاظ به لنفسي فقط!...»

 

«ما أطيبكَ يا بنيّ!» وتُداعِب مريم له يده لتواسيه. صَمْت، ثمّ يُعاوِد يسوع الكلام: «هل استيقَظَ يوحنّا؟»

 

«نعم، فلقد سَمِعتُ سُعاله. قد يكون في المطبخ يشرب الحليب. يا ليوحنّا المسكين!...» وتسيل دمعة على خدّ مريم.

 

يَنهَض يسوع: «أنا ماض إليه... عليَّ أن أقول له ذلك. مع سِنْتيخي سيكون الأمر أسهل... أمّا بالنسبة إليه... أُمّاه، اذهبي إلى مارغزيام وأيقظيه، وصلّي، بينما أتحدّث إلى هذا الرجل... فالأمر يُشبِه النَّبش في أحشائه. يمكن قَتله أو شلّه في حياته الروحيّة... يا له مِن ألم، يا أبتِ!... أنا ماض إليه...» ويَخرُج وهو مُنهَك حقّاً.

 

يسير الخطوات القليلة التي تفصل المشغل عن غرفة يوحنّا، وهي الغرفة ذاتها التي مات فيها يونان، أي غرفة يوسف. يُصادِف سِنْتيخي التي تعود ومعها حُزمة حطب تأخذها إلى الفرن، وتحيّيه، لا عِلم لها بشيء. ويُجيب على تحيّة اليونانيّة وهو شارد الذهن، ثمّ يقف ثابتاً يَنظُر إلى جنينة زنبق بَدَأَت أزرارها بالبزوغ. ولكنّني لا أخاله يراها... ثمّ يُقرّر. يلتَفِت ويَطرُق باب يوحنّا الذي يَفتَح فيُشرِق وجهه لدى رؤيته يسوع آتياً إليه.

 

«هل يمكنني الدخول إلى غرفتكَ قليلاً؟» يَسأَله يسوع.

 

«آه! يا معلّم! في أيّ وقت تشاء! قد كنتُ أُدوّن ما كنتَ تقوله أمس مساء حول الفِطنة والطّاعة. ويحسن أن تنظر إليه، إذ يبدو لي أنّني لم أحفظ جيّداً كلّ ما قُلتَه عن الفِطنة.»

 

يَدخُل يسوع إلى الغرفة الصغيرة، وقد رُتِّبت جيداً، حيث تمّت إضافة طاولة صغيرة لراحة المعلّم العجوز.

 

ينحني يسوع على الرقّ ويقرأ. «جيّد جدّاً، لقد أَحسَنتَ ترديدها.»

 

«كما ترى، كان يبدو لي أنّي أسأتُ التعبير في هذه الجملة: تقول على الدوام بوجوب عدم حمل هموم الغد فيما يخصّ جسد المرء، والآن القول بأنّ الفِطنة، حتّى في الأمور المتعلّقة بالغد، هي فضيلة. وقد كان يبدو لي ذلك خطأ واقعاً منّي طبعاً.»

 

«لا. لم تخطئ. هو بالضبط ما قُلتُه. فإنّ همّ الأنانيّ المبالَغ فيه والمتخوِّف، يختلف عن الاهتمام الفَطِن لدى البارّ. البُخل مِن أجل غد، قد لا نعيشه، خطيئة، بينما التقتير بقصد تأمين القُوت والحماية للأهل، في فترة الفاقة، ليس خطيئة. خطيئة هي عناية الأنانيّ بجسده، مُطالِباً كل من هم حَوله بتدبّر أموره، موفّراً كلّ عمل وكلّ تضحية، خوفاً على الجسد مِن أن يتألّم، إنّما لا تُعتَبَر خطيئة المحافظة على هذا الجسد مِن الأمراض التي لا طائل منها، والتي نُصاب بها بعدم احتراسنا، والتي تُشكِّل عبئاً على العائلة، وخسارة العمل المثمر لنا. فالله وَهَبَ الحياة. وهي عطيّة منه. وعلينا استخدامها بقداسة، دون تهوّر ولا أنانية. أترى؟ تقتضي الفِطنة أحياناً تصرّفات قد تبدو للبُلَهاء جُبناً أو عدم ثبات، بينما هي لا تعدو كونها مجرّد فِطنة تابعة لأحداث جديدة طرأت. مثلاً: لو كنتُ أرسلتُكَ الآن وسط أناس يمكن أن يُلحِقوا بكَ الأذى... أَهْل زوجتكَ مثلاً، أو حُرّاس المناجم حيث عملتَ، هل أكون أَحسَنتُ صُنعاً أم أسأتُه؟»

 

«أنا لا أودُّ الحُكم عليكَ، إنّما أقول إنّ مِن الأفضل إرسالي إلى مكان آخر، حيث لا خطر على القليل مِن الفضيلة الذي لديَّ أن يتعرّض لاختبار قاس جدّاً.»

 

«ها أنتَ تَحكُم بحكمة وفِطنة. لأجل ذلك لا أرسلكَ أبداً إلى بثينيا أو ميسيا، حيث كنتَ في السابق، ولا حتّى إلى سينتيوم، رغم أنّكَ، روحيّاً، تتمنّى الذهاب إلى هناك. قد تَجِد روحكَ تحت ضغط كبير مِن القَسوة البشريّة الذي يؤدّي إلى تراجعكَ روحيّاً. إذن فالفِطنة تقتضي عدم إرسالكَ إلى حيث لا تكون ذا فائدة، بينما أستطيع إرسالكَ إلى مكان آخر فيه مصلحة لي ولِنَفْس القريب ونفسكَ. أليس كذلك؟»

 

يوحنّا، الجاهل مصيره، لا يُدرِك تلميحات يسوع إلى إمكانيّة إرساله في مهمّة خارج فلسطين. يَدرس يسوع وجهه ويراه ساكناً، مُغتَبِطاً بالاستماع إليه، حاضراً للردّ: «بكلّ تأكيد يا معلّم، إنّني أكون أكثر فائدة في موضع آخر. أنا نفسي، منذ بضعة أيّام قُلتُ: "أودُّ لو أذهب وسط الوثنيّين، لأكون مِثالاً صالحاً حيث كنتُ مثالاً سيّئاً". وَلُمتُ نفسي على ذلك قائلاً: "وسط الوثنيّين، نعم، لأنّ لا تحفّظات لكَ هناك كما التي للآخرين الذين في إسرائيل. بينما في سينتيوم، لا، ولا حتّى على جبالها الـمُقفِرة، حيث عشتُ مثل محكوم عليه بالأشغال الشاقّة وذئب، في مناجم الرصاص، وفي مقالع الرُّخام النَّفيس. لا يمكنكَ الذهاب إلى هناك، ولا حتّى على سبيل التعطّش إلى التضحية المطلقة. فقلبكَ يَضطَرِب مِن جرّاء الذكريات الرهيبة، وإذا ما تعرَّفَ الناس عليكَ، فحتّى ولو لم يُلقوا بأنفسهم عليكَ، فسيقولون: "اصمت يا مُجرِم. لا يمكننا الاستماع إليكَ، وعبثاً يكون ذهابي إلى هناك". هذا ما قُلتُه لنفسي. وهي فكرة صائبة.»

 

«ترى إذن أنّكَ تمتلك الفِطنة كذلك. وأنا كذلك أمتلكها. لهذا وفَّرتُ عليكَ تعب الرسالة كما اختَبَرَها الآخرون، وجئتُ بكَ إلى هنا حيث الراحة والسلام.»

 

«آه! نعم! يا له مِن سلام! ليتني أعيش مائة عام هنا، سيكون هو هو على الدوام. إنّه سلام فائق الطبيعة. ولو مضيتُ فسأحمله معي، حتّى إلى الحياة الأخرى أحمله... ما زالت الذكريات تهزّ مشاعري، والإساءات تؤلمني، فأنا إنسان. ولكنّني لم أعد قادراً على الكُره، إذ قد أَصبَحَت الكراهية عقيمة هنا، وإلى الأبد، حتّى في آثارها السحيقة. لم يعد لديَّ نفور مِن المرأة، أنا الذي كنتُ أنظُر إليها وكأنّها أكثر حيوانات الأرض نجاسة وحقارة. أُمّكَ خارج الموضوع. فهي قد فَرَضَت عليَّ احترامها مُذ رأيتُها، ذلك أنّني رأيتُها مختلفة عن كلّ النساء. إنّها عِطر المرأة، إنّما المرأة القدّيسة. ومَن لا يحبّ عطر الزهور الأكثر طُهراً؟ ولكن كذلك النساء الأخريات، التلميذات الصالحات، العطوفات، الصابرات تحت حِمل همّهنّ الثقيل، كمريم التي لحلفى، وأليز، الكَريمات كمريم المجدليّة، تلك التي كان تَبدُّل حياتها مُطلَقاً؛ اللطيفات والطاهرات مثل مرثا وحنّة؛ الوَقورات والذكيّات، بالفِكر الرَّاجِح والثقة بالنَّفْس مثل سِنْتيخي، قد أَعَدنَ الوفاق بيني وبين المرأة. أعترف لكَ أنّ سِنْتيخي هي التي أُفَضِّل. شفافية روحها تجعلها عزيزة على قلبي، وتَشابُه الظروف: هي خادمة وأنا محكوم، كلّ هذا يتيح لي الاطمئنان إليها، وهو الـمُحرَّم عليَّ تجاه الأخريات نتيجة اختلافهنّ عنّي. فسِنْتيخي هي راحتي. لستُ أدري كيف أقول لكَ بالتحديد ما تكون بالنسبة إليَّ، وكيف أراها. أنا العجوز بالمقارنة بها، أراها كابنة، ابنة حكيمة ومجتهدة، كنتُ قد تمنّيتُ أن تكون لي... أنا، المريض الذي تداويه بحنان كثير، أنا، الرجل الحزين والمنعزل الذي بكيتُ أُمّي وافتقدتُها طوال حياتي، وبحثتُ عن المرأة-الأُمّ في كلّ النساء، دون أن أجدها، وها أنا أرى فيها الحلم الذي حلمتُ به، وعلى رأسي المتعب ونفسي الماضية إلى ملاقاة الموت، أُحِسُّ بحلول ندى الحنان الأموميّ... فَتَرى أنّني بإحساسي في سِنْتيخي بِنَفْس الإبنة والأمّ، أُحِسُّ فيها كمال المرأة، وبسببها، أَصفَح عن كلّ الإساءات التي حَصَلَت لي مِن المرأة. وإذا ما حَصَلَت الصدفة المستحيلة، وقامت زوجتي البائسة التي قَتَلتُها، أُحِسُّ أنّني أصفح عنها، فلقد أَصبَحتُ الآن أفهم النَّفْس الأنثويّة، سهلة العَطف، الحارّة عندما تَهِب ذاتها... إن يكن ذلك في الخير أَم في الشرّ.»

 

«يسرّني كثيراً أنّكَ وجدتَ كلّ هذا في سِنْتيخي. ستكون رفيقة صالحة لكَ في ما بقي مِن حياتكَ، وستفعلان معاً خيراً كثيراً. لأنَّني سوف أجعلكما تعملان معاً...»

 

يُمعن يسوع النَّظَر مجدّداً في يوحنّا. إنّما لا إشارة إلى استفاقة انتباه التلميذ الذي هو، مع ذلك، ليس سطحيّاً. أيّة رحمة إلهيّة تغشى حكمته حتّى اللحظة المحدّدة؟ لستُ أدري. جُلَّ ما أعرفه هو أنّ يوحنّا يبتسم قائلاً: «سوف نَعمل على خدمتكَ بأفضل ممّا نستطيع.»

 

«نعم. وأنا أكيد أنّكما سوف تفعلان ذلك دون مناقشة العَمل والمكان اللذين أُحدِّدهما لكما، حتّى ولو لم يكن ذلك هو ما تشتهيان...»

 

بَدَأَ يوحنّا يُحِسُّ بما ينتظره. يتبدّل وجهه ولونه. يُصبِح أكثر جدّيّة ويَشحب لونه. عينه الوحيدة تُمعِن النَّظَر الآن وتستقصي وجه يسوع الذي يُتابِع: «هل تذكر يا يوحنّا ما قُلتُه لكَ يوماً، من أجل تهدئة شكوككَ في ما يخصّ غفران الله: "كي أجعلكَ تُدرِك الرّحمة، سوف أجعلكَ تقوم بأعمال رحمة خاصّة، ولأجلكَ سوف أروي أمثال الرحمة"؟»

 

«نعم. وكان هذا حقّاً. لقد أقنعتَني، وأَوكَلتَ إليَّ أعمال رحمة، أقول الأكثر دقّة كالصَّدَقات، وتعليم صبيّ، وفلسطينيّ ويونانيّة. هذا ما جَعَلَني أُدرِك أنّ الله عَلِمَ بتوبتي، ووَجَدَها حقيقيّة، حتّى إنّه عَهَد إليَّ بنفوس بريئة، أو نفوس تبغي الهِداية، لِأُعدُّها له.»

 

يُعانِق يسوع يوحنّا ويَجذِبه إليه، الحركة التي يمارسها عادة مع يوحنّا الآخر، وإذ يَشحَب للألم الذي عليه أن يُسبِّبه له، يقول: «الآن أيضاً يَعهَد الله إليكَ بمهمّة دقيقة ومقدّسة. مهمّة مفضَّلة. أنتَ فقط، الكريم، يا مَن لا ضِيق أُفُق لديكَ ولا تحفّظات، الحكيم، يا مَن وَهَبتَ ذاتكَ بشكل خاص لكلّ أنواع التجرّد والتّوبة لدفع ثمن ما بقي مِن التّطهير، ذلك الدَّين الذي كان ما يزال لله عليكَ، أنتَ فقط يمكنكَ أن تقوم بها. أيّ إنسان آخر كان سيرفضها، وهو على حقّ، لأنّه يَفتَقِر إلى ما هو واجب وضروريّ. ما مِن أحد مِن رُسُلي يَملك ما تملكه أنتَ ليذهَب ويُعدّ طُرُقَ الربّ... عدا ذلك، فإنّكَ تُدعى يوحنّا. ستكون إذن المتقدّم في مذهبي... سوف تُعِدّ الطُّرُق لمعلّمكَ... بل سوف تحلّ محلّ معلّمكَ الذي لا يستطيع الذهاب بعيداً جدّاً... (يقفز يوحنّا، ويُحاوِل التحرّر مِن ذِراع يسوع لِيَنظُر إليه مواجهة، ولكنّه لا ينجح في ذلك لأنّ عِناق يسوع لطيف، ولكنّه مُسيطِر، بينما فمه يَمنَح دَفق النّعمة...) ...الذي لا يمكنه المضيّ بعيداً جدّاً... إلى سورية... إلى أنطاكية...»

 

«ربّي!» يَهتف يوحنّا وهو يتحرَّر بِقوّة مِن عناق يسوع. «ربّي! أإلى أنطاكية؟ قُل لي إنّي أسأتُ الفَهم! قُل لي ذلك رأفة بي!...» إنّه واقف... وفي عينه الوحيدة كُلّ التوسُّل، كذلك وجهه الذي أَصبَحَ بلون الرَّماد، وفي شفتيه اللتين ترتجفان، وفي يديه المرتجفتين والممتدّتين إلى الأمام، ورأسه المنحني إلى الأرض، كما لو أنّ الخبر قد أنهكهُ.

 

ولكن يسوع لا يستطيع القول: «لقد أسأتَ الفَهم.» فيفتح ذراعيه، ويَنهَض بدوره، ليضمّ إلى قلبه المربّي العجوز، ويفتح ذراعيه ليؤكّد: «إلى أنطاكية، بلى. في بيت لعازر، مع سِنْتيخي. سوف تمضيان غداً أو بعد غد.»

 

حُزن يوحنّا مؤثّر جدّاً في الحقيقة. يُفلِت قليلاً مِن العِناق، ويَهتف في وجه يسوع، ووجهه تُبلّله الدموع التي تسيل على خدّيه النحيلين: «آه! لم تَعُد تريدني إلى جانبكَ!! ما الذي أَغضَبَكَ منّي، يا سيّدي؟» ثمّ يُفلِت تماماً، ويُلقِي بنفسه على الطاولة، يهزّه بكاء مؤثّر جدّاً، مُعذَّباً، تنتابه نوبات سُعال، غير مُبالٍ بكلّ ملاطفات يسوع، ومُتمتِماً: «تطردني، تطردني، ولن أراكَ بَعدُ أبداً...»

 

يتألّم يسوع بشكل جليّ ويُصلّي... ثمّ يَخرُج على مهل، ويَرى عند عَتَبَة باب المطبخ مريم مع مارغزيام، الذي فَزِع مِن ذلك البكاء... بالإضافة إليهما، هناك سِنْتيخي، المتفاجِئة هي كذلك. «يا أُمّي، تعالي هنا لحظة.»

 

تأتي مريم في الحال، شاحبة جدّاً. ويَدخُلان معاً. تنحني مريم على الرَّجُل الذي يبكي، كما لو كان طفلاً مسكيناً، وهي تقول: «حسناً، حسناً، يا وَلَدي المسكين! ليس هكذا! سوف تؤذي نفسكَ.»

 

يَرفَع يوحنّا وجهه المضطَرِب ويَهتف: «إنّه يُبعِدني!... سوف أموت وحيداً في البعيد... آه! كان بإمكانه الانتظار بضعة أشهر، ويَدَعني أموت هنا. لماذا هذا العقاب؟ ما الخطيئة التي اقترفتُ؟ هل سبّبتُ لكَ المتاعب؟ لماذا مَنحي هذا السلام ومِن ثمّ... مِن ثمّ...» ويعود ليرتمي على الطاولة، وهو يبكي بشكل أشدّ، ويَنهَج…

 

ويضع يسوع يده على كتفيه الهزيلين اللذين ينتفضان، ويقول: «أويمكنكَ الاعتقاد بأنّني لو كنتُ أستطيع ذلك، ما كنتُ احتفظتُ بكَ هنا؟ آه! يوحنّا! على طريق الربّ هناك ضرورات رهيبة! وأوّل المتألّمين منها هو أنا. أنا الذي أحمل ألمي وألم كلّ العالم. انظر إليَّ يا يوحنّا. انظر إذا ما كان وجهي هو وجه مَن يُبغِضكَ، مَن قَد تَعِب منكَ... تعال هنا، بين ذراعيَّ، واسمع قلبي كم يخفق مِن الألم. اسمعني، يا يوحنّا، ولا تُسئ فَهمي. هذه، هي الكفّارة التي يفرضها الله عليكَ لِيَفتَح لكَ أبواب السماء. اسمع...» يُنهِضه ويَلفُّه بذراعيه. «اسمع... أُمّي، اخرجي لحظة مِن فضلكِ... والآن وقد أصبحنا بمفردنا، اسمع. أنتَ تَعلَم مَن أكون. هل تؤمن إيماناً ثابتاً أنّني الفادي؟»

 

«كيف لا أؤمن؟ فأنا مِن أجل ذلك كنتُ أودُّ البقاء معكَ، على الدوام، حتّى الممات...»

 

«حتّى الممات... كم سيكون موتي رهيباً!...»

 

«موتي أنا، أقول، موتي أنا!...»

 

«موتكَ سيكون هادئاً، مُشَدَّد العزيمة بوجودي الذي يبثّ فيكَ اليقين مِن حبّ الله، وبحبّ سِنْتيخي، إضافة إلى تهيئتكَ لانتصار الإنجيل في أنطاكية. أمّا موتي! فتراني وقد تحوَّلتُ إلى كوم مِن اللحم المثخن بالجراح، المغطّى بالبصاق، الـمُهان، وقد سُلِّم إلى شرذمة هائجة، مُعلَّق على صليب، ليموت كمجرم... فهل يمكنكَ أنتَ أن تحتمل هذا؟»

 

يوحنّا الذي، لدى كلّ جزء مِن تفاصيل ما سيكون مِن آلام يسوع، يُتمتِم: «لا، لا!» يَصرُخ: «لا» قويّة ويُضيف: «أعود إلى كراهية البشريّة... إنّما أنا، فسأكون قد مُتُّ، لأنّكَ شابّ و...»

 

«لن أُعيِّد سِوى عيد أنوار واحد بعد.»

 

يُحملِق فيه يوحنّا فَزِعاً…

 

«قُلتُ لكَ ذلك سرّاً، لأشرح لكَ أنّ أحد الأسباب التي مِن أجلها أُرسِلكَ إلى البعيد، هو هذا. ولن تكون الوحيد الذي يَحظَى بِمِثل هذا المصير. كلّ الذين لا أريد لهم أن يَضطَرِبوا بشكل يفوق قدراتهم، سوف أُبعِدهم سَلَفاً. وهل يبدو لكَ ذلك تقصيراً في الحبّ؟...»

 

«لا، يا إلهي الشّهيد... إنّما أنا، مع ذلك، فَعَليَّ ترككَ... والموت بعيداً.»

 

«باسم الحقّ الذي أنا هو، أعدكَ بأنّني سأكون منحنياً على وِسادة نِزاعكَ.»

 

«وكيف، إذا ما كنتُ أنا بعيداً جدّاً، وإذا كنتَ تقول لي إنّكَ أنتَ لا تأتي إلى البعيد؟ تقول ذلك كي تصرفني وأنا أقلّ حُزناً...»

 

«يُوَنّا امرأة خُوزي، والتي كانت تموت عند أسفل جبل لبنان، رأتني، وقد كنتُ بعيداً جدّاً، ولم تكن تعرفني بعد، ومِن هناك أعدتُها إلى حياة الأرض البائسة. ثِق بأنّها، يوم موتي، سوف تندم على أنّها عاشت!... أَمّا بالنسبة إليكَ، يا بهجة قلبي، في هذه السنة الثانية للمعلّم، سوف أفعل أكثر. سوف آتي لأحملكَ في السّلام، مُحمِّلاً إيّاكَ مهمّة القول للّذين ينتظرون: "ساعة الربّ قد أتت. كما يأتي الآن الربيع على الأرض، كذلك سينبت لنا ربيع الفردوس". إنّما لن آتي فقط حينذاك... سآتي، ستشعر بي على الدوام... أنا، أستطيع ذلك، وسوف أفعل. سوف تمتلك المعلّم في داخلكَ، كما لم تمتلكني أبداً. ذلك أنّ بإمكان الحبّ الاتّصال بِمَن يُحبّ، وبشكل محسوس إلى حدّ ما، حتّى إنّه لا يَمسّ فقط الروح، بل الحواسّ ذاتها. هل أنتَ أكثر اطمئناناً الآن يا يوحنّا؟»

 

«نعم يا سيّدي. ولكن يا له مِن ألم!»

 

«ومع ذلك لا تثور...»

 

«أثور؟ أبداً! فأفقدكَ تماماً. أقول في صلاتي الربّانية (أبانا): لتكن مشيئتكَ.»

 

«كنتُ أَعلَم أنّكَ فَهِمتَني...» يُقبِّله على وجنتيه اللتين تسيل عليهما الدموع المستمرّة، رغم كونها قد هَدَأَت.

 

«هل تَدَعني أُسلِّم على الصبيّ؟... فهذا ألم آخر... أَحبَبتُه كثيراً...» وتسيل الدموع بأكثر إدراراً…

 

«نعم، سأناديه في الحال... وأنادي سِنْتيخي. هي كذلك سوف تتألّم... عليكَ مساعدتها، فأنتَ الرَّجُل...»

 

«نعم يا ربّ.»

 

يَخرُج يسوع ، بينما يوحنّا يبكي ويتلمّس جدران وأغراض الغرفة الـمُضيفة الصغيرة.

 

تَدخُل مريم ومعها مارغزيام.

 

«آه! أيّتها الأُمّ! هل سَمِعتِ؟ أكُنتِ على عِلم بذلك؟»

 

«كُنتُ على عِلم، وكُنتُ حزينة... ولكنّني أنا كذلك انفصلت عن يسوع... وأنا الأُمّ...»

 

«صحيح!... تعال هنا يا مارغزيام. تَعلَم أنّني أرحل، وأنّنا لن نعود نرى بعضنا؟...» هو يُريد أن يكون شجاعاً، ولكنّه يَحمِل الصبيّ بين ذراعيه، يَجلِس على حافّة السرير، ويبكي، يبكي على الرأس البُنّي لمارغزيام المستعدّ للاقتداء به.

 

يَدخُل يسوع مع سِنْتيخي التي تَسأَل: «لماذا كلّ هذه الدموع يا يوحنّا؟»

 

«إنّه يُبعِدنا، ألا تَعلَمين ذلك؟ ألستِ تَعلَمين بعد؟ إنّه يُرسِلنا إلى أنطاكية!»

 

«وإذن؟ ألم يقل: حيثما اجتَمَع اثنان باسمه يكون هو وسطهما؟ هيّا يا يوحنّا! أنتَ، ربّما تكون قد اخترتَ مصيركَ بنفسكَ حتّى الآن، ولذلك فإنّ فرض إرادة، حتّى ولو كانت ناجمة عن فِعل حُبّ، قد أفزعكَ. أمّا أنا... فقد تعوَّدتُ تَقبُّل المصير المفروض عليَّ مِن آخَر. ويا له مِن مصير!... لذلك فأنا الآن أَخضَع عَن طِيب خاطر لهذا القَدَر الجديد. ولِمَ لا أخضع؟ فأنا لم أَثُر على عبوديّة استبداديّة إلّا حينما كانت ممارَسَتها تَمسّ نَفْسي. فهل تَرى أنّ عليَّ الآن الثورة ضدّ عبوديّة الحبّ هذه التي لا تجرح، بل تَسمو بنفسنا وتُنعِم علينا بلقب وحقيقة أن نكون خُدّامه؟ هل أنتَ خائف مِن الغد لأنّكَ تتألّم؟ أنا سوف أعمل مِن أجلكَ. هل أنت خائف مِن البقاء وحيداً؟ ولكنّني لن أترككَ أبداً. كُن على يقين مِن ذلك. لا هدف لي آخر في هذه الحياة، سوى محبّة الله والقريب. وأنتَ القريب الذي يَعهَد الله به إليَّ. ففَكِّر إذا ما سوف تكون عزيزاً على قلبي!»

 

«لن تكونا في حاجة إلى العمل مِن أجل المعيشة، لأنّكما تكونان في بيت لعازر. ولكنّني أنصحكما باستخدام أساليب التعليم لتقريب الناس منكم. أنتَ كمعلّم، وأنتِ، يا امرأة، بأشغالكِ النسائيّة. فهذا يفيد الرسالة ويُضفِي معنىً على أيّامكما.»

 

«هذا ما سيكون، يا سيّدي.» تُجيب سِنْتيخي بِحَزم.

 

ما يزال يوحنّا، ومعه الصبيّ بين ذراعيه، يبكي بهدوء. مارغزيام يُداعِبه…

 

«هل ستتذكّرني؟»

 

«على الدوام يا يوحنّا، وسوف أُصلّي مِن أجلكَ... حتّى... انتظر لحظة...» ويَخرُج راكضاً.

 

تَسأَل سِنْتيخي: «وكيف سنذهب إلى أنطاكية؟»

 

«بحراً. هل أنتِ خائفة؟»

 

«لا يا سيّدي. إنّكَ أنتَ مَن يُرسِلنا، وهذا سوف يحمينا.»

 

«سوف تذهبان مع سمعان وسمعان الآخر وأَخَويَّ وابنيّ زَبْدي وأندراوس ومتّى، مِن هنا وحتّى بتولمايس [عَكّا] على عربة، حيث ستُوضَع الصناديق ونَول صَنَعتُه لكِ يا سِنْتيخي، وبعض الأغراض المفيدة ليوحنّا...»

 

«أنا، كنتُ قد تصوّرتُ شيئاً ما لدى رؤيتي الصناديق والثياب، وهيّأتُ نفسي للفراق. العيش هنا كان جميلاً جدّاً!...» وبكاء حَبَسَه كَسر صوت سِنْتيخي. ولكنّها تَتماسَك لِتَدعَم شجاعة يوحنّا. وتَسأَل بصوت استعاد ثباته: «متى سنمضي؟»

 

«حين وصول الرُّسُل، وقد يكون غداً.»

 

«إذن، لو سمحتَ، فسأرتّب الثياب في الصناديق. أعطِني كُتُبكَ يا يوحنّا.»

 

أظنُّ أنّ سِنْتيخي ترغب في أن تكون وحدها لتبكي... ويُجيب يوحنّا: «خُذيها... وفي هذه الأثناء أَعطِني تلك اللُّفافة ذات الشريط الأزرق.»

 

يعود مارغزيام ومعه وعاء العسل.

 

«خُذ يا يوحنّا. ستأكله عِوضاً عنّي...»

 

«ولكن لا، يا وَلَدي! لماذا؟»

 

«لأنّ يسوع قال إنّ مقدار ملعقة عسل مُقدَّس يمكنه أن يمنح السلام والأمل لمحزون. أنتَ حزين... وأنا أعطيكَ كلّ العسل لتكون لكَ كلّ المواساة.»

 

«ولكنّ تضحياتكَ قد كَثُرَت يا وَلَدي.»

 

«آه، لا! في صلاة يسوع نقول: "لا تُدخِلنا1 في تجربة، لكن نَجِّنا مِن الشرّير". وقد كان هذا الوعاء بالنسبة إليَّ تجربة... وكان بإمكانه أن يكون شرّاً، لأنّه كان بإمكانه جعلي أَنكُث بعهدي ونَذري. وهكذا لا أعود أراه... وهذا أسهل... وأظنُّ أنّ الله يُساعِدكَ بواسطة هذه التضحية الجديدة. إنّما لا تعد تبكي. ولا أنتِ كذلك، يا سِنْتيخي...»

 

بالفِعل، إنّ اليونانيّة تبكي الآن بدون صوت، بينما هي تَجمَع كُتُب يوحنّا. إنّ مارغزيام يلامسهما، الواحد تِلو الآخر، برغبة كبيرة في البكاء، هو كذلك. ولكنّ سِنْتيخي تَخرُج حاملة لفائف كثيرة، وتتبعها مريم ومعها وعاء العسل.

 

يبقى يوحنّا مع يسوع الجالس إلى جانبه والصبيّ القابع بين ذراعيه. إنّه هادئ، إنّما مُنهَك.

 

«ثَبِّت كتابتكَ الأخيرة في اللفافة.» ينصحه يسوع. «أظنّكَ تريد إعطاءها لمارغزيام...»

 

«نعم... فأنا لديَّ نُسخة أخرى... هاكَ أيّها الصبيّ، إنّ هذا كلام المعلّم. قاله عندما كنتَ غائباً، وكلام آخر كذلك... كنتُ أريد الاستمرار في كتابته مِن أجلكَ، لأنّ الحياة أمامكَ... ومَن يدري كم ستُبشِّر... أمّا أنا فلم يَعُد بإمكاني فِعل ذلك... الآن أنا مَن سيبقى بدون كلامه...» ويَشرع بالبكاء بشدّة.

 

مارغزيام لطيف ورجوليّ في مظهره الجديد. يتعلّق بِعُنق يوحنّا ويقول: «الآن أنا مَن سيكتبه مِن أجلكَ، وسأُرسِله لكَ... أليس كذلك يا معلّم؟ هذا ممكن، أليس كذلك؟»

 

«بكلّ تأكيد، هذا ممكن. وسيكون فِعل ذلك مِن قَبيل المحبّة العظيمة.»

 

«سأفعلها. وعندما أكون غائباً سأجعل سمعان الغيور يفعلها. إنّه يحبّني كثيراً، وهو يحبّكَ كثيراً، وسيفعلها لِيُظهِر لنا المحبّة. لا تعد تبكي إذن. بعد ذلك سآتي لأراكَ، أنا... فحتماً لن تذهب إلى البعيد البعيد...»

 

«آه! كم هو بعيد! مئات الأميال... وسأموت قريباً.»

 

خاب أَمَل الصبيّ وثَبَطت عزيمته. ولكنّه يعود ليتمالك نفسه بصفاء الطفل الجميل الذي يبدو له كلّ شيء سهلاً. «كما تذهب أنتَ إلى هناك، سوف أتمكّن أنا مِن الذهاب مع أبي. ثمّ... سوف نتكاتب. وعندما يقرأ المرء الصفحات المقدّسة، فكأنّه يكون مع الله، أليس كذلك؟ إذن، فعندما يقرأ المرء رسالة ما فكأنّه يكون مع مَن يُحبّ، ومَن كَتَبَها. هيّا بنا، تعال معي جانباً...»

 

«نعم، هيّا بنا يا يوحنّا. عمّا قريب سيصل إخوتي مع الغيور. فلقد أَرسَلتُ في طلبهم.»

 

«هل يَعلَمون ذلك؟»

 

«ليس بعد. أَنتَظِر حضور الجميع لأقول ذلكَ...»

 

«حسناً يا سيّدي. هيّا بنا...»

 

ويَخرُج مِن غرفة يوسف عجوزاً منحنياً تماماً، حتّى يبدو أنّه يُحيّي كلّ نبتة وكلّ شجرة والبِركة والمغارة، بينما هو يتوجّه صوب الـمَشغَل، حيث توضِّب مريم وسِنْتيخي الأغراض والثياب داخل الصناديق بِصَمت…

 

وهكذا يَجِدهم سمعان ويوضاس ويعقوب، صامتين وباكين، يَنظُرون... ولكنّهم لا يطرحون الأسئلة، ولم أتوصّل إلى فَهم ما إذا أدرَكوا الحقيقة.

 

يقول يسوع:

 

«لكي أحدّد للقراء مكاناً، كنتُ قد عيّنت مكان سجن يوحنّا بالأسماء المستخدمة حالياً. هناك مَن اعتَرَض على ذلك. وها إنّني الآن أُحدِّد: "بيثينيا أو ميسيا Bithynie أو Mysie" مِن أجل الذين يَبغُون التسميات القديمة. ولكنّ هذا الإنجيل هو مِن أجل البسطاء والصغار، وليس مِن أجل الأحبار الذين، لدى الغالبيّة منهم، هذا الأمر غير مقبول ولا طائل منه. البُسطاء والصغار سَيُدرِكون تسمية "الأناضول" "ِAnatolie"  أكثر مِن "بيثينيا وميسيا". أليس كذلك يا يوحنّاي الصغير، يا مَن تبكين لألم يوحنّا الذي مِن عين دور؟ إنّما هناك كثيرون على شاكلة يوحنّا الذي مِن عين دور في العالَم! إنّهم الإخوة المحزونون الذين جعلتُكِ تتألّمين مِن أجلهم العام الماضي.. ارتاحي الآن، يا يوحنّاي الصغير، يا مَن لا ولن تُرسَلي بعيداً عن المعلّم، بل على العكس، ستكونين على الدوام أكثر قرباً.

 

وبذلك تنتهي السنة الثانية مِن التبشير والحياة العلنيّة: سَنَة الرحمة... ولا يمكنني إلّا أن أُردِّد الشكوى التي كانت لدى انتهاء السنة الأولى. ولكنّها لا تعني الناطقة باسمي، التي، رغم كلّ العوائق تستمرّ في عملها. في الحقيقة لن يكون "العُظماء" بل "الصّغار" هُم الذين سيتَّبِعون دروب البطولة، غامِرين إيّاها بتضحياتهم، حتّى الـمُثقَلين منهم بأمور كثيرة. "الصّغار" أعني البُسَطاء، الوُدَعاء، أنقياء القلوب والعقول. "الصّغار". وأقول لكم، أيّها الصّغار، أقول لكم، يا روموالدو ويا ماريّا ومعكما كلّ الذين يُشبِهونَكما: "تعالوا إليَّ لتسمعوا أيضاً وعلى الدوام الكَلِمَة الذي يُكلِّمكم لأنّه يُحبّكم، والذي يُكلِّمكُم ليبارككم. ليكن سلامي معكم".»

----------

1- الجمعية العامة للمؤتمر الأسقفي الإيطالي في الدورة 72 بتاريخ (15 نوفمبر 2018) في بيانها الختامي: (رابط البيان)، وافقت على تعديل المقطع الأخير من صلاة الأبانا ليصبح: "لا تتركنا نتعرّض للتّجربة" (Non abbandonarci alla tentazione). بدلاً مِن: "لا تُدْخِلنا في تجربة" (Non ci indurre in tentazione). وقد صادق قداسة البابا فرنسيس على هذا التعديل ضمناً في المقابلة العامّة يوم (الأربعاء 1 مايو 2019‏). (رابط المقابلة).

 

--- نهاية الجزء الرابع ---