ج7 - ف170

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

170- (شفقة هابيل الذي مِن بيت لحم تجاه أعدائه)

 

17 / 08 / 1946

 

«انهَضوا ولنَمضِ» يسوع يَأمر رُسُله النائمين بعمق على بعض القشّ -إنّه على الأرجح نبات مناقع (يُستعمل في صنع الحصر والسّلال) أكثر منه قشّ- المكدّس في حقل بجانب جدول ينتظر أمطار الخريف كي يَملأ مجراه بالماء.

 

الرُّسُل، الذين لا يزالون نصف نيام، يطيعون دونما كلام. إنّهم يُلَملِمون أكياسهم، يرتدون معاطفهم التي استخدموها كأغطية أثناء الليل، وينطلقون مع يسوع.

 

«أنذهب عبر الكرمل؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.

 

«لا، عبر سيفوريس. ومِن ثمّ سنسلك الطريق المؤدّي إلى مجدّو. لدينا بالكاد ما يكفي مِن الوقت....» يُجيب يسوع.

 

«نعم. والليالي أضحت رطبة جدّاً وباردة للنوم في الحقول حينما، لسبب ما، لا يستضيفنا أيّ منزل» يُعلّق متّى.

 

«البشر! ولكن كم يَنسون بسهولة!... يا ربّ؟. إنّما هل سيكون الأمر هكذا دوماً؟» يَسأَل أندراوس.

 

«دوماً.»

 

«فإذن! إذا كان الأمر هكذا معكَ، فعندما يحين دورنا في العمل، وحالما ندير ظهورنا، فكلّ شيء سوف يُمحَى» يقول توما مُحبَطاً.

 

«إنّما أنا أقول إنّ هناك مَن يَجعَل الناس يَنسون. لأنّ البشر، نعم، يَنسون بسهولة. لكنّهم لا يَنسون دائماً. أرى أنّنا نحن البشر نتذكّر الأمور التي تلقّيناها وتلك التي أعطيناها. أمّا عندما يتعلّق الأمر بكَ... فعلى العكس... إنّهم دوماً ذات الأشخاص الذين يَجهَدون في محو ذكراكَ» يقول بطرس.

 

«لا تحكم دون الحصول على أساس أكيد» يقول يسوع.

 

«يا معلّم، لديَّ الأساس!»

 

«لديكَ؟ ما الذي اكتَشَفتَه؟» يَسأَل الإسخريوطيّ باهتمام شديد، وبنفس الوقت آخرون يَسأَلون ذات السؤال. لكنّ يهوذا أكثر تَلَهُّفاً، أريد القول بأنّه قَلِق.

 

بطرس، الذي كان ينظر إلى يسوع، يستدير وينظر إلى يهوذا... نظرة متنبّهة، مُدَقِّقة، مُرتابة، ويظلّ صامتاً فيما ينظر إليه، للحظة. ثمّ يقول: «آه! لا شيء... وكلّ شيء، إذا كنتَ لا تنزعج مِن معرفة ذلك. فيكفي، إذا ما كنتُ مهتمّاً باستخدام كلّ الوسائل كي أنجح، أن أَهرَع وأُفشي الكثير مِن المعلومات لأولئك الذين يحكموننا، وإنّني على ثِقة مِن أنّ أحداً ما سيقع في المشاكل. لكنّني أُفضّل ألّا أنجح، في أن أحصل على مساعدة مِن تلك الجهة. في  المسائل المتعلّقة بالله أَقبَل فقط معونة الله، فقد أبدو بأنّني أُحوّل الدَّنَس إلى أمور الله الـمُستَخدَمَة... للحصول على مساعدتهم في سحق الزواحف. إنّهم زواحف بحدّ ذاتهم... و... ما كُنتُ لأثق بهم... إنّهم قادرون تماماً على سحق مَن تَـمَّت الوِشاية بهم والوُشاة على حدّ سواء... لذا... فأنا أتصرّف بمفردي. هو ذا!»

 

«إنّما ألا تُلاحِظ بأنّكَ تُسيء إلى المعلّم؟»

 

«أنا؟ لماذا؟»

 

«لأنّه يعاشرهم.»

 

«هو مَن هو، وإذا ما كان يعاشرهم، فهو لا يقوم بذلك لمصلحة، بل كي يقودهم إلى الله. هو بوسعه فِعل ذلك... وهو يفعل ذلك. لكنّه لا يجري خلفهم... إنّكَ ترى بأنّ... هُم مَن عليهم المجيء إليه كي يَستَمِعوا إلى "الفيلسوف" كما يقولون. أمّا الآن فإنّهم لا يَرغَبون بذلك كالسابق، كما يبدو لي. وأنا لستُ أَذرُف الدموع.»

 

«لقد كنتَ تبدو أنتَ كذلك مسروراً في الفصح!»

 

«كان يبدو. الإنسان أحمق في الغالب. إنّما ما عاد يبدو كذلك الآن. وهو لم يعد كذلك. وأنا على حقّ»

 

«كمخلوق لا يَخلط المصالح البشريّة بالأمور الروحانيّة، فإنّكَ على حقّ يا سمعان. إنّما كرسول يَغتَبِط لابتعاد الآخرين عن النور، فلا، لستَ على حقّ. ولو كنتَ تُفكّر أنّ كلّ نَفْس تُكتَسَب للنور هي مَجد لمعلّمكَ، لما كنتَ تتكلّمَ هكذا» يقول يسوع.

 

يَنظُر يهوذا الإسخريوطيّ إلى بطرس بابتسامة تهكّمية. بطرس يُلاحِظها... لكنّه يَتَمالَك نفسه ولا يقول شيئاً.

 

يسوع يُلاحِظها أيضاً، ومُخاطِباً بطرس، إنّما وكأنّه يتكلّم مع الجميع، يقول: «اعلَموا، مع ذلك، أنّ الإفراط في الوَرَع الدينيّ، لغاية صالحة، هو أكثر قابليّة للتبرير مِن التعامل مع كلّ شيء بِخُلوّ البال لتحقيق هدف بشريّ. لقد قُلتُ لكم عدّة مرّات: إنّ الإرادة، صالحة كانت أو سيّئة، هي التي تُعطي وَزناً لفِعل ما. وفي هذه الحالة هي إرادة صالحة، حتّى ولو كانت غير كاملة في شكلها، وهي مُقاوَمة لاجتذاب ما هو بشريّ إلى ما هو فائق البشر، واجتذاب ما نعتبره دَنِساً إلى الله. إنّ تعصّبه ليس مُنصِفاً لأنّني إنّما جِئتُ مِن أجل الجميع. لكنّ حُكمه قريب جدّاً مِن الكمال عندما يُصرّح بأنّه في المسائل المتعلّقة بالله يجب اللجوء فقط لمعونته فائقة الطبيعة، مِن دون استجداء مُساعَدة بشريّة مَصلحيّة أو نَفعيّة.» وبهذا الحُكم الموضوعيّ فإنّ يسوع يَضَع حَدّاً للجِدال.

 

لقد اجتازوا مَجرى نهر آخر قد جَفَّفَته حرارة الصيف دون أن تبتلّ أقدامهم، وقد وَصَلوا إلى الطريق الرئيسيّة التي تؤدّي مِن سيكامينون [حيفا] إلى السامرة. أعتقد ذلك، إذا ما كُنتُ أتذكّر جيّداً المكان الذي رأيتُه سابقاً. إنّ الطريق مزدحمة جدّاً بسبب اقتراب العيد، وقد اتَّخَذَت منذ الآن المظهر النموذجي للطرق الفلسطينيّة عندما يكون التوجّه إلى الهيكل إجباريّاً. مسافرون، حمير، عربات تحمل أشخاصاً، مع خيام، أثاث منزليّ للتوقّف بين المراحل، وفي أورشليم نفسها، المكتظّة دوماً في الأعياد، لدرجة أنّه مِن المستحسن التخييم على التلال المحيطة، فيما إذا سمح الطقس بذلك.

 

ثمّ، مِن الواضح جدّاً في عيد المظالّ هذا سفر عائلات بأكملها، ليس لأنّ المسافرين هم أكثر عدداً منه في الفصح والعنصرة، إنّما وحيث أنّهم مُجبَرون على العيش في الأكواخ لعدّة أيّام، فهم يَجلبون الأثاث المنزليّ الذي يتحاشون جَرّه خلفهم في مناسبات احتفاليّة أخرى. إنّها حقّاً هجرة شعب يندفع نحو العاصمة مِن كلّ الطرق، كما الدمّ، الذي يتدفّق نحو القلب مِن كلّ الأَورِدة.

 

لكي نفهم حتّى في هذا الزمن دِين إسرائيل المتشدّد، الشديد التماسك، الشديد الإحكام -لذلك فإنّ الإخوة في الدين يساعدون بعضهم أينما كانوا، يدفعهم المصير، وأيّاً يكن البلد الذي وُلِدوا فيه، فإنّ ذلك لا يمنع يهوديّاً آخر مِن بَلَد مختلف مِن الإحساس دوماً بأنّه أخ ومُواطِن لأخيه في الدين الذي يلتقي به- يجب التذكّر أنّهم، كمُشَتَّتين، مُضطَهَدين، مُحتَقَرين، بلا وطن حقيقيّ في الظاهر، لا يَشعُرون بشيء مِن ذلك على الإطلاق. إنّ لديهم وطنهم، ذاكَ الذي مَنَحَهم إيّاه يهوه، لديهم عاصمتهم: أورشليم، وهنا، مِن كلّ أَصقَاع العالم فإنّ أفضل ما في كَياناتهم يتلاقى: روحهم، قلبهم. هل خطئوا؟ هل عاقبهم الله؟ هل تحقّقت النبوءات؟ نعم، هذا صحيح. إنّهم لا يزالون يَحيون ذاك الدَّافِع السّاطع للأمل الـمُشرِق: إعادة بناء مملكة إسرائيل... والمسيا الذي ينبغي له أن يأتي... وفي الألم الذي يخشى فَقْدَ عَطف الله، وفي التساؤل الدائم: «هل كان يسوع الناصريّ هو المسيح الحقّ؟» إنّهم يُحاوِلون إعادة تشكيل أنفسهم كأُمّة في سبيل أن يَحظوا بهذا المسيا، إنّهم يَسعون للمحافظة على إيمانهم الرَّاسِخ بِدِينهم كي يَستَحِقّوا مغفرة الله ويَروا الوعد يتحقّق.

 

إنّني امرأة مسكينة، ولا أَفقَه شيئاً في المسائل السياسيّة، لم أهتمّ أبداً باليهود الـمُعاصِرين ومآسيهم، لا بل قد ضحكتُ عليهم في بعض الأحيان كونهم لا يزالون ينتظرون ذاك الذي أتى والذي صَلَبوه، لقد بَدَت لي دموعهم إلى حدّ ما كدموع التماسيح، إنّ سلوكهم لم يكن يبدو ولا يبدو لي محلّ استحقاق لما يَأمَلونه مِن الله: لا المسيح الذي لن يأتي إلاّ في اليوم الأخير، ولا حتّى إعادة لمّ شمل العِرق اليهوديّ الـمُشتّت في أُمّة مستقلّة. ومع ذلك، فالآن وحيث أنّني أرى بالروح آباء اليهود الـمُعاصِرين، أُدرِك مأساتهم القديمة وتشدّدهم، فَمَنشأ تَشَدُّدهم هذا الذي يَحتَفِظون به، أنّهم لا يَزَالون شعب الله، وبمشيئة الله هُم يتّجهون صوب الأرض الموعود بها لآبائهم، لِأَحبَارهم، وهم الذين قد التزموا بالشعائر الموسويّة على مدى مئات القرون، مُفَكِّرين بأورشليم، بهيكلها الذي يتألّق على جبل مورياح. هل مُنِعوا مِن الذهاب إلى هناك؟ بلى. لكنّهم يَذهَبون بالروح.

 

إنّ الحِراب، الـمَدافِع، السجون، تَنفَع ضدّ الإنسان، لا ضدّ الروح. لا يمكن أن يَندَثِر إسرائيل، لأنّه يبقى في دِينه. دِين نَظَريّ، فرّيسيّ، شعائريّ مُجَرَّد مِن الحياة الحقيقيّة للدّين: تَوَافُق الروح مع الطقس المادّيّ؟ كلّ ما تريدون. إنّما حَولَ هذا الجسد الـمُفَتَّت الذي كان أُمّة، والذي هو الآن أجزاء لا حصر لها متناثرة على كلّ الأرض، هناك روابط فِكر، طُقوس، شرائع قديمة، آتية مِن الأنبياء والرابّيين، لحفظه متّحداً، ومثل منارة مرئيّة مِن كلّ أنحاء الأرض، يَسطع مكان: أورشليم، واسمها مثل نداء لجمعهم كلّهم مِن كلّ أركان العالم، إنّه مثل راية مُنبَسِطة لاستدعائهم، الذّكرى، الوَعد. لا. هذا الشعب لا يمكن أن تُسْكِته أيّة قُدرة بشريّة.

 

إنّ فيه قوّة أَعظَم مِن بشريّة. كلّ ذلك يُصبِح مَفهوماً عند النَّظَر إلى هذا الشعب وهو يَمضي في دروب مستحيلة. في فصول شاقّة، غير مُبالٍ بكلّ الـمَشقّات، مبتهجاً بفرح المضيّ إلى المدينة المقدّسة. كلّ ذلك يُصبِح مَفهوماً لدى رؤيتهم يَمضون، الأغنياء مع الفقراء، الأطفال مع المسنّين، مِن فلسطين أو مِن الشَّتات، نحو قلبهم: أورشليم. كلّ ذلك يصبح مفهوماً لدى سماعهم يُنشِدون تراتيلهم... وأنا، وأعترف بذلك، أتمنّى لو أنّنا نحن المسيحيّين والكاثوليك، قد كنّا مثلهم، وأن يكون لدينا تجاه قلب الكاثوليكيّة، روما، الكنيسة، ولذاك الذي يعيش فيها: بطرس الزمن الحاضر، مشاعر أولئك الناس الذين أراهم يَذهَبون ويَذهَبون ويَذهَبون، أتمنّى لو كان لدينا ما لديهم، إضافة إلى إيماننا الكامل لأنّه مسيحيّ.

 

سيُقال لي: «إنّهم مَليئون بالعيوب.» وماذا بشأننا؟ هل نحن بلا عيوب؟ بلا عيوب نحن الذين تَقَوُّينا بالنعمة والأسرار المقدّسة؟ نحن الذين يَتَعَيّن أن نكون: «كاملين كما أنّ الآب الذي في السموات هو كامل»؟

 

لقد خَرَجتُ عن الموضوع. إنّما، باتّباع مَسير الرُّسُل الـمُختَلِطين بجموع إسرائيل الأخرى، فإنّ فِكري كان يعمل…

 

وظَلَّ يعمل إلى أن ترى مجموعة مِن التلاميذ المعلّم ويحتشدوا حوله عند تقاطع طُرُق. مِن بينهم هابيل الذي مِن بيت لحم، الذي يرتمي في الحال عند قدميّ يسوع قائلاً: «يا معلّم، لقد صَلّيتُ للعليّ كثيراً كي يجعلني ألتقي بكَ. وقد فَقَدتُ الأمل. إنّما هو قد استجاب لي. أرجوكَ الآن أن تستجيب لتلميذكَ.»

 

«ماذا تريد يا هابيل؟ لنذهب إلى هناك، عند طرف الحقل. يوجد أناس كُثُر هنا، ونحن نُسبّب الإزعاج.»

 

يَذهَبون كلّهم جماعةً إلى الـمَوضِع الذي حدّده يسوع، وهنا يقول هابيل ما يريد قوله.

 

«يا معلّم، لقد خَلَّصتَني مِن الموت ومِن الافتراء، وقد جَعَلتَني واحداً مِن تلاميذكَ. أتحبّني كثيراً إذن؟»

 

«كيف يمكنكَ أن تَسأَل ذلك؟»

 

«إنّني أسألكَ كي أكون وَاثِقاً مِن أنّكَ ستستجيب لرجائي. عندما خَلَّصتَني، أَصدَرتَ بحقّ أعدائي عقاباً رهيباً. أنتَ أَصدَرتَه، إذن هو بالتأكيد عادِل. لكن، آه! يا ربّ! إنّه رهيب جدّاً! لقد بَحَثتُ عن أولئك الرجال الثلاثة. كنتُ أبحث عنهم في كلّ مرّة كنتُ آتي فيها لرؤية أُمّي: في الجبال، في الكهوف في بلدتي. ولكنّني لم أجدهم أبداً.»

 

«لماذا بحثتَ عنهم؟»

 

«كي أُحدّثهم عنك يا ربّ. بحيث بإيمانهم بكَ، يَبتَهِلون إليكَ كي يَنالوا المغفرة والشفاء. لقد وَجَدتُهم فقط خلال الصيف، لكنّهم لم يكونوا معاً. أحدهم، ذاك الذي كان يكرهني بسبب أُمّي، انفصل عن الآخَرَين اللذين مَضَيا صعوداً أكثر بعد، نحو جبال يفتائيل الأكثر ارتفاعاً. لقد قالا لي أين يقيم... وقد حَصَلتُ على الأثر مِن رُعاة بيت لحم الذين استضافوكَ في تلك الليلة. فالرُّعاة يتجوّلون كثيراً مع قطعانهم، وهم يَعلَمون الكثير مِن الأمور. لقد كانوا يَعلَمون أنّ الأبرصين اللذين كنتُ أبحث عنهما كانا في جبل النبع الحلو. وقد ذهبتُ إلى هناك. آه...» الرعب يرتسم على وجه الشاب، الذي لا يزال فتيّاً.

 

«تابع.»

 

«لقد عرفاني. لكنّني لم أتمكّن مِن التعرّف على مُواطِنيَّ في ذِينكَ الـمَسخَين... لقد نادياني... وقد تَرَجّياني، كما لو كنتُ إلهاً... الخادم على وجه الخصوص قد أثار شَفَقَتي، بسبب ندامته الصادقة. هو لا يريد سوى مغفرتكَ يا ربّ... أَشِير أيضاً يريد أن يُشفَى. لديه أُمّ عجوز يا ربّ، أُمّ عجوز تموت مِن الغَمّ في البلدة...»

 

«والآخَر؟ لماذا انفَصَلَ؟»

 

«لأنّه شيطان. المذنب الرئيسيّ، لقد كان بالأساس زانياً عندما أَصبَحَ قاتلاً، لقد حَرَّض أَشِير، أَفسَدَ خادم يوئيل الذي هو ساذج بعض الشيء وسهل الانقياد، وهو يستمرّ بكونه شيطاناً. مِن فمه تَخرُج الكراهية والتجاديف، في قلبه الحقد والقسوة. لقد رأيتُه هو كذلك... كنتُ أريدُ إقناعه بأن يكون صالحاً. فانقَضَّ عليَّ مثل نسر، ولم أجد لي خلاصاً إلّا بالهروب، بما أنّني فتيّ وبصحّة جيّدة، فقد كنتُ قادراً على الركض بسرعة ولمسافة لا بأس بها. لكنّني لم أفقد الأمل بتخليصه. سوف أعود... مرّة، مرّتين، بقدر ما يجب مع المعونة والمحبّة، وسوف أجعله يحبّني. هو يظنّ أنّني أذهب كي أَسخَر مِن بؤسه. لكنّني أذهب لإعادة بنائه. وإذا ما تَمَكَّنَ مِن أن يحبّني، فسوف يُنصِت إليَّ، وإذا ما أَنصَتَ لي فسوف ينتهي به المطاف للإيمان بكَ. هذا ما أريده. آه! لقد كان الأمر سهلاً مع الآخَرَين لأنّهما تأمَّلا وفَهِما بنفسيهما. والخادم قد أَصبَحَ المعلّم البسيط للآخَر، لأنّ به إيماناً كبيراً، ورغبة عظيمة للمغفرة. تعال يا ربّ! لقد وَعَدتُهما بأن آخذكَ إليهما حينما ألقاكَ.»

 

«هابيل، إنّ جُرمهما كان عظيماً، جرائم عِدّة في آن معاً. والوقت الذي كَفَّرا به قصير جدّاً...»

 

«لقد كان عذابهما عظيماً، كذلك توبتهما. تعال.»

 

«هابيل، لقد كانا يريدان لكَ الموت.»

 

«لا يهمّ يا ربّ. أريد لهما الحياة.»

 

«أيّة حياة؟»

 

«الحياة التي تَمنَحها، حياة الروح، المغفرة، الفِداء.»

 

«هابيل، لقد كانا قايِيَنكَ، لقد كَرِهاكَ كما لم يكرهكَ أحد. كانا يريدان حرمانكَ مِن كلّ شيء: حياتكَ، شرفكَ وأُمّكَ...»

 

«لقد أَحسَنا إليَّ، لأنّني بفضلهما حَظيتُ بكَ. إنّني أحبّهما لتلك الهبة، وأسألكَ أن تَهِبهما أن يكونا حيث أكون، وسط أتباعكَ. أريد خلاصهما كما خلاصي، بل أكثر، لأنّ خطيئتهما أَعظَم.»

 

«ما الذي تُقدّمه لله مقابل خلاصهما، إذا ما سَأَلَكَ تقدمة؟»

 

هابيل يُفكّر لبرهة... ثمّ يقول بثقة: «حتّى ذاتي. حياتي. أن أَخسَر بعض الطين كي أمتلك السماء. خسارة سعيدة. ربح عظيم لا محدود: الله، السماء. وخاطِئَين يَخلصان: بِكرا القطيع الذي آمُل أن أقوده وأقدّمه لكَ يا ربّ.»

 

يسوع يقوم بحركة لم يقم بمثلها أبداً علانيّة هكذا. إنّه ينحني، لأنّه أطول قامة بكثير مِن هابيل، ويُمسك برأسه بين يديه، ويُقبّل فمه قائلاً: «ليكن ذلك»، على الأقل أعتقد بأنّ هذا ما يَعنيه بـ «ماران أتا». ويُضيف: «لأجل مشاعركَ، ليكن لكَ بحسب الطَّلَب الذي في كلامكَ. تعال معي. سوف تقودني. يوحنّا، تعال معي. وأنتم جميعاً يمكنكم المتابعة، إلى عين غنيم عبر طريق مجدو. سوف تنتظرونني هناك، في حال لم تلتقوا بي قبلها.

 

«وسوف نُبشّر بكَ وبعقيدتكَ» يقول الإسخريوطيّ.

 

«لا. سوف تنتظرون فقط. تَصَرَّفوا مثل مُسافِرِين بَارِّين مُتَواضِعين، ولا شيء آخر. وكُونوا مثل الإخوة لبعضكم البعض. وفي طريقكم سوف تَمُرّون بفلّاحي جيوقانا لتعطوهم ما لديكم، وتقولوا لهم أنّه، إذا كان ذلك ممكناً، فإنّ المعلّم سوف يمرّ بيزرعيل عند فجر بعد الغد. اذهبوا. ليكن السلام معكم.»