ج2 - ف49
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
49- (لقاء يسوع مع لعازر في بيت عنيا)
21 / 01 / 1945
فجر صيفيّ نَيِّر جدّاً. بل أكثر مِن فجر. فلقد وُلِد النهار، وخَرَجَت الشمس مِن خطّ الأفق، وهي تَصعَد باستمرار، تبتسم للأرض الباسمة. فلم تبقَ عشبة لا تبتسم مع قطرة ندى متلألئة. تَحسَب نجوم الليل قد نُثِرَت متحوّلة إلى ذهب وجواهر على السُّوق كلّها والأوراق كلّها. هذا وحتّى الحصى التي تغطّي الأرض، حيث بريق الصوّان المجلَّل بالندى، تبدو وكأنّها مسحوق ماس أو هباب ذهب.
يسوع وسمعان يسيران عبر طريق صغيرة متفرعة عن الشارع الرئيسيّ مُشَكِّلة معه حرف V. ينطَلِقان صوب بساتين رائعة وحقول كتّان بارتفاع الإنسان، وقد حان وقت جنيها. وحقول أخرى أبعد منها لا تُبدي سوى احمرار خشخاش وسط اصفرار القمح.
«لقد أصبَحنا ضمن أملاك صديقي، أترى يا معلّمي؟ إنّ المسافة لم تكن لتتجاوز أحكام الشريعة، فأنا لم أكن لأسمح لنفسي بأن أخدعكَ. خلف بستان التفّاح هذا تصوينة سور الحديقة حيث المنزل. لقد جعلتُكَ تَصِل مِن هذه الطريق المختَصَرة بالذات لأحترم الحدود المدوّنة في الشريعة بالشكل الأمثل.»
«صديقكَ ثريّ جدّاً!»
«جدّاً، ولكنّه غير سعيد. لديه أملاك في أماكن أخرى.»
«أهو فرّيسيّ؟»
«أبوه لم يكن كذلك. أمّا هو... فإنّه مُراقِب متشدّد للشريعة. لقد قلتُ لكَ ذلك: إنّه إسرائيليّ حقيقيّ.»
يُتابِعان السير قليلاً، ثمّ ها هو جدار مَبنيّ، خلفه أشجار وأشجار لا يكاد يُرى البيت مِن خلالها. الأرض هنا مرتفعة قليلاً، ليس كثيراً لتسمح برؤية الحديقة الجميلة لدرجة أنّه يَجدر بنا بالأحرى أن نُطلِق عليها اسم منتزه.
يَدورَان مع زاوية الجدار الذي يستمرّ بالارتفاع ذاته، وقد تَدَلَّت مِن قمّته أغصان مغطّاة بالورود والياسمين الفوّاح والرائع مع التُّويجات التي تَبَلَّلَت بالندى. ثمّ تَظهَر بوّابة ثقيلة مِن الحديد المشغول. يَدقّ سمعان بمطرقة الباب البرونزيّة الثقيلة.
يَعترض يسوع: «ما يزال الوقت باكراً جدّاً للدخول يا سمعان.»
«آه! إنّ صديقي يستيقظ مع الشمس، لأنّه لا يَجِد متعة إلّا في بستانه ووسط كُتُبه. فالليل، بالنسبة له عذاب مبرّح. لا تتأخّر يا معلّم بمنحه فَرَحكَ.»
يَفتَح خادم البوابة.
«سلاماً يا أَشِير. أَخبِر معلّمكَ أنّ سمعان الغيور قد جاء مع صديقه.»
يَمضي الخادم مسرعاً بعد أن أدخَلهُما وهو يقول: «خادِمكُما يحيّيكُما. تفضّلا بالدخول، فإنّ بيت لعازر مفتوح للأصدقاء.»
سمعان الـمُعتاد على المكان يَدور، ليس باتّجاه الممرّ الرئيسيّ، إنّما باتّجاه ممرّ يتّجه صوب عريشة ياسمين عبر شريط مِن شجيرات الورد.
بالفعل فإنّ لعازر قد مَرَّ مِن هنا منذ لحظة، وهو ما يزال هزيلاً مصفرّاً مثلما كنتُ أراه دائماً مِن قَبل، بشـعره القَصير، قليل الكثـافة ودون تقصيبات. محلوق حتّى الذقن فقط. يرتدي كتّاناً ناصع البياض، يمشي بصعوبة كَمَن يتألّم مِن ساقيه. عندما يُشاهِد سمعان يُسَلِّم عليه بحرارة، ثمّ، على قدر استطاعته، يجري باتّجاه يسوع ويجثو مع انحناءة حتّى الأرض لتقبيل طـرف ثوبـه وهو يقـول: «لسـتُ أهلاً لمثل هذا الشَّـرَف. ولكن بمـا أنّ قداستكَ قد تَنَازَلَت إلى بؤسي، هلمّ يا سيّدي، تفضّل وادخل وكُن السيّد في منزلي الفقير.»
«انهض يا صديقي، وليكن سلامي معكَ.»
يَنهَض لعازر، ويُقَبِّل يديّ يسوع، ويَنظُر إليه بإجلال لا يخلو مِن فضول. ويَدخلون إلى البيت.
«كم انتظرتكَ بِلَهفَة يا معلّم! كلّ صباح، عند الفجر، كنتُ أقول: "اليوم سيأتي"، وكلّ مساء كنتُ أقول: "اليوم أيضاً لم يأتِ!"»
«لماذا كنتَ تنتظرني بكلّ هذا القلق؟»
«لأنّ... مَن تَرانا ننتظر نحن، نحن الإسرائيليّين، إن لم تكن أنتَ؟»
«أوَتؤمن أنّني أنا الـمُنتَظَر؟»
«لم يكذب عليَّ سمعان قطّ، وهو ليس ذاك الوَلَد الذي يتحمّس لسحابات كاذبة. فالسنّ والمعاناة أنضَجَاه مثل حكيم. وثمّ... حتّى ولو لم يكن قد تعرّف عليكَ بحقيقة كيانكَ، لكانت أفعالكَ تحدَّثَت عنكَ وأعلَنَتكَ "قدّيساً". فَمَن يفعل أفعال الله يجب أن يكون رَجُل الله. وأنتَ تفعلها. وتفعلها بالطريقة التي تُعلنكَ رَجُل الله. وهو، صديقي، قد أتى إليكَ منجذباً بشهرتكَ كمُجـتَـرِح للمعجزات، وحَصَلَ على المعجزة. وأَعلَم أنّ طريقكَ ممهورة بمعجزات أخرى كثيرة. لماذا لا أؤمن إذاً أنَّكَ الـمُنتَظَر؟ آه! كم هو عذب الإيمان بما هو صالح! كثيرة هي الأشياء غير الصالحة التي نُضطَرّ للتَّظاهُر بأنّنا نؤمن أنّها صالحة، حبّاً بالسلام، لعدم قدرتنا على تغيير أيّ شيء فيها؛ كثيرة هي الكلمات الخَدَّاعة التي تبدو إطراءات وتمجيداً ولُطفاً، بينما هي على عكس ذلك: تهكّم وشتيمة وسُمّ يُغَلِّفه العَسَل، نضطرّ للتَّظاهُر بأنّنا نؤمن بها مع عِلمنا بأنّها سُمّ وتهكّم وشتيمة... نضطرّ إلى ذلك، لأنّنا غير قادرين على فعل غير ذلك ونحن ضعفاء في مواجهة عالم كامل ذي قُدرة وسُلطان، ونحن وحدنا نُجابه عالَماً بأكمله، هو بمثابة العدوّ لنا... فلماذا جُعِل الإيمان بما هو صالح صعباً؟ ومِن جهة أخرى، فلقد بَلَغَت الأزمِنة مِلأها، ودلائل مِلء الأزمِنة موجودة. وما يَنقَص لتأكيد إيماننا ووضعه في مأمن مِن الشكّ، مَنوط بإرادتنا بالإيمان، وبطمأنة قلبنا في اليقين بأنّ الانتظار قد انتهى، وأنّ الـمُخَلِّص هنا، مَسيّا موجود... وهو الذي سوف يُعيد السلام لإسرائيل ولأبناء إسرائيل. هو الذي... يمنحنا أن نموت بسكون، بجعلنا نَعلَم بأنّنا قد افتُدينا، وأن يجعلنا نعيش دون هذا الهاجس الحزين بالنسبة لموتانا... آه! الأموات! لماذا نبكيهم إن لم يكن لأنّهم، إذ لم يعد لديهم أبناؤهم، فليس لهم أيضاً الآب والله؟»
«هل مضى وقت طويل على وفاة والدكَ؟»
«ثلاث سـنوات، وسـبع سـنوات على وفـاة والدتي... إلّا أنّني لم أعـد أبكيهم منذ بعض الوقت... فأنا أيضاً تأخذني الرغبة بأن أكون حيث أتمنّى أن يكونوا في انتظار السماء.»
«حينذاكَ لن يكون مَسيّا ضيفكَ ونزيلكَ.»
«هذا صحيح. فالآن أنا أوفر حظاً منهم لأنّني حاصل عليكَ... وقلبي، بهذا الفرح، مُفعَم بالسكون. ادخل يا معلّم، وهَب لي شرف أن أجعل مِن منزلي منزلاً لكَ. اليوم السبت، ولن أستطيع دعوة الأصدقاء على شرفكَ...»
«لستُ أرغب في ذلك. فأنا اليوم بكليّتي لِمَن هو صديق سمعان وصديقي.»
يَلِجون غرفة جميلة، الخُدَّام فيها مستعدّون لاستقبالهم. يقول لعازر: «أرجوكَ أن تتبعهم. ويمكنكما، في البدء، استعادة قواكما بتناول الفطور.» وبينما يمضي يسوع وسمعان إلى مكان آخر، يُصدِر لعازر أوامره للخُدَّام. أُدرِك أن المنزل ثريّ، وهو يعود لأحد السَّادة…
يَشرَب يسوع مِن الحليب الذي يُصِرّ لعازر، وبشكل قطعيّ، أن يَسقيه إيّاه بيده، قبل الجلوس لتناول الفطور.
لاحَظتُ أن لعازر يلتفت صوب سمعان ويقول له: «لقد وجدتُ الرَّجُل المؤهّل لأن يشتري أملاككَ، وبالسعر الذي حَدَّدَه مُعتَمَدكَ (وكيلكَ) تماماً، لا ينقص دراخما واحدة.»
«إنّما هل هو راضٍ بشروطي؟»
«نعم، لقد قَبِلَ بها كلّها، لكي يمتلك هذه الأراضي، وأنا مسرور؛ إذ، على الأقل، أعرِف مَن سوف يكون جاري. ومع ذلك، فكما أنَّكَ تريد ألّا تَحضُر البيع، كذلك هو يريد أن يَبقَى مجهولاً بالنسبة إليكَ. أرجوكَ الموافقة على تحقيق رغبته.»
«لا أجد مبرّراً لاعتراضي. أنتَ صديقي، وسوف تنوب عنّي... وكلّ ما سوف تفعله سيكون حسناً. يكفي ألّا يُرمَى خادِمي الأمين في الشارع... يا معلّم، إنّني أبيع، وحسب تقديري، فأنا سعيد بأن لا أعود أملك أيّ شيء يربطني بغير خدمتكَ. إنّما لديَّ خادِم مُسِنّ وأمين، هو الوحيد الذي بَقِيَ لي بعد شقائي. كما قلتُ لكَ سابقاً، كان يساعدني باستمرار أثناء إبعادي عن المجتمع. ولقد اعتنى بأملاكي كما لو كانت أملاكه الخاصّة، وذلك بأن جَعَلَها، بفضل لعازر، تؤول إليه، لحمايتي وتأمين احتياجاتي، منها. والآن وقد أضحى عجوزاً، فليس مِن العدل أن أتركه بلا مأوى، فقرّرتُ أن تؤول ملكيّة بيت صغير على حدود الأملاك إليه، مع قسم مِن قيمة بقية الأملاك، لقضاء حاجاته مستقبلاً. فالذين يتقدّم بهم السنّ، كما تعلم، هُم مثل اللبلاب، إذا ما عاشوا مدّة طويلة في مكان، فإنّهم يتألّمون ويعانون كثيراً مِن انتزاعهم منه. ولقد كان لعازر يريد أن يأخذه عنده، لأنّ لعازر رجل طيّب. إلّا أنّني فَضَّلتُ التصرّف هكذا. فبهذا الشكل تكون معاناة خادمي العجوز أقلّ...»
يُعَلِّق يسوع: «أنتَ أيضاً طيّب يا سمعان، ولو لم يكن هناك سوى المستقيمين أمثالك، لكانت رسالتي أكثر سهولة...»
فيسأل لعازر: «أتجد العالم حَروناً يا معلّم؟»
«العالم؟... لا. بل قوّة العالم: الشيطان. لو لم يكن هو سيّد القلوب، ولم يكن يملكها، لما كنتُ لَقيتُ مقاومة. ولكن الشرّ ضدّ الخير، ويجب أن أنتَصِر على الشرّ في كلّ واحد لأضع فيه الخير... وليس الجميع يريدون ذلك...»
«إنّها الحقيقة. ليس الجميع يريدون ذلك! يا معلّم: ما هي الكلمات التي تَجِدها للخاطئ كي يتوب ويَخضَع لكَ؟ أَكَلِمات تأنيب قاس مثل تلك التي تملأ تاريخ إسرائيل تجاه الخَطَأَة، والتي كان آخِر مَن استَخدَمَها هو السابق، أم هي كلمات رحمة؟»
«بل أَجعَل الحبّ والرحمة يَفعَلان فِعلهما. ثِق، يا لعازر، أنّ نظرة حُبّ لها تأثير أقوى كثيراً، على مَن زَلَّ، مِن اللعنة.»
«وإذا كان الحبّ مُحتَقَراً؟»
«الإصرار أيضاً وأيضاً. الإصرار إلى أقصى حدّ. يا لعازر هل تعرف تلك الأراضي التي تنتشر فيها الرِّمال المتحركة التي تبتلع الـمُتغافِلِين؟»
«نعم، أعرِفها مِن خلال مطالعاتي -فـفي حالتي الصحيّة هذه أقرأ كثيراً وبشغف لتمضية ساعات الأرق الطويلة- أَعلَم بوجود بعضها في سورية وفي مصر وأخرى قرب بلاد الكلدانيّين، وأعرف أنّها تَعمَل كالـمِحجَم. عندما يقع فيها المرء تمتصّه. يقول أحد الرومانيّين إنّها أفواه الجحيم، تسكنها وحوش كافرة. هل هذا صحيح؟»
«ليس هذا صحيحاً. إنّها تشكيلات خاصّة مِن التربة الأرضيّة. الأولمب ليس في نطاقها. سوف يتوقّف الإيمان بالأولمب وتبقى هذه الأراضي. يمكن لتَطَوُّر الإنسان أن يُعطي تفسيراً للحَدَث أكثر مُطابَقَة للحقيقة، ولكنّه لا يستطيع جعلها تتلاشى؛ والآن أقول لكَ: مثلما عَرَفتَها مِن خلال مطالعاتكَ فقد استطعتَ كذلك قراءة كيف يمكن إنقاذ الذين يَسقطون فيها.»
«نعم. بواسطة حبل يُرمَى إليهم مع عصا طويلة، أو حتّى مع غصن. آنئذ تكفي هذه النجدة البسيطة لتمدّ الذي يغوص في الرمل بالقليل مِن العون اللازم له ليتحرّر، ويبقى مطمئنّاً هادئاً دون تَخبُّط ريثما تصل النجدة الأكثر نجاعة وفاعلية.»
«إذاً فالخاطئ هو ذاك الذي تَرَكَ ذاته مِلكاً للأرض الخَدَّاعَة، حيث السطح مغطّى بالورود، أمّا تحتها فوحل مُتَحَرِّك. هل تعتقد أنّه لو كان أحد يعرف ماذا يعني أن يضع ذرة واحدة مِن كيانه تحت سلطان الشيطان، أكان يفعلها؟ ولكنّه لا يعرف... وبعدها... إمّا أن يُشَلّ بخدر وسمّ الشرّ، وإمّا أن يُجنّ، ولكي يهرب مِن تأنيب الضمير لضياعه، يتخبّط، ويغوص في حمأة أخرى، ويُحدِث موجات متحرّكة ثقيلة بحركته غير الواعية، وهذه تُعَجِّل في ضياعه. الحبّ هو هذا الحبل، المرس، الغُصن الذي تتكلّم عنه. الإصرار، الإصرار... إلى أن يُدرِكها... كَلِمَة... عفو ومَغفِرة... مسامحة عظيمة عن الخطيئة... هذا فقط لإيقاف الهبوط وانتظار نجدة الله... يا لعازر، هل تعرف مدى مقدرة المغفرة؟ إنّها تَجلب الله إلى معونة الـمُنقِذ... أتقرأ كثيراً؟»
«كثيراً، لستُ أدري إذا ما كنتُ أفعل حسناً. إنّما المرض... وأشياء أخرى حَرَمَتني مِن إشباع الكثير مِن الرغبات الإنسانيّة... والآن ليس لي هواية سوى الزهور والكُتُب... الشجر وكذلك الخيل... أعرف أنّني أُنتَقَد. ولكن كيف يمكنني الذهاب إلى أراضيَّ بهذه الحال (ويَكشِف عن ساقيه المتضخّمتين والمعصوبتين.) مشياً أو على ظهر بغل؟ عليَّ استعمال عربة، وسريعة أيضاً. مِن أجل ذلك اشتريتُ الخيل وتعلَّقتُ بها، أُقِرّ بذلك. إنّما لو قُلتَ لي إنّ هذا شرّ... فسأبيعها.»
«لا يا لعازر، ليست هذه الأمور هي التي تُفسِد. ما يُفسِد إنّما هو ما يجعل الروح تضطرب ويُبعِدها عن الله.»
«هو ذا، يا معلّم، أَمر كنتُ أودُّ معرفته. أَقرَأ كثيراً. ليس لي سلوى سوى ذلك. أُحِبّ المعرفة... أعتقد أنّه، في النهاية، التثقُّف أفضل كثيراً مِن فِعل الشرّ، والقراءة أفضل مِن... مِن فِعل أشياء أخرى. ولكنّني لستُ أَقرَأ كِتابَاتنا فقط. أحبّ كذلك معرفة عالَم الآخرين. تستهويني روما وأثينا. فالآن أعرف كم أصاب إسرائيل مِن السوء عندما أُفسِدت العلاقة مع الآشوريّين والمصريّين، وكم أَلحَق بنا مِن الضرر الحُكّام الذين أضفوا الطابع الهلّيني. لستُ أدري إذا ما أمكَنَ لشخصيّة متميّزة إلحاق ضرر بنفسها أكثر مِمّا ألحَقَه يهوذا بنفسه وبنا نحن أبناءه. إنّما أنتَ، فما رأيكَ بذلك؟ أودُّ لو تُعَلّمني أنتَ، أنتَ يا مَن لستَ رابّي وحسب، ولكنّكَ الكَلِمَة، الحكمة والإلهيّ.»
يَنظُر إليه يسوع لدقائق بإمعان، نظرة خارقة، وفي الوقت ذاته بعيدة. يبدو أنّه مِن خلال جسد لعازر يتفحّص قلبه، وبذهابه إلى أبعد مِن ذلك أيضاً يرى مدى المعرفة...أخيراً يتكلّم: «هل تَختَبِر اضطراباً مِن خلال ما تَقرَأ؟ هل هذا يُبعِدكَ عن الله وشريعته؟»
«لا يا معلّم. بل على العكس، هذا يدفعني إلى مقارنة حقيقتنا بزيف الوَثَن. أُجابِـهُها وأتأمّل في أمجاد إسرائيل، بَرَرَته والأحبار والأنبياء، وبالوجوه الـمُبهَمَة في القصص الغريبة. أُقارِن فَلسَفَتنا، إذا أمكننا إطلاق هذا الاسم على الحِكمة التي تَنطق بها النصوص المقدّسة، مع فلسفة اليونان والرومان الفقيرة، حيث توجد شرارات، ولكنّها لا تربو إلى كونها شعلة، الشعلة التي تلتَهِب وتَلمَع، والتي إنّما هي في أسفار حكمائنا. وبعدئذ، بأكثر إجلالاً، أنحني بالروح لأعبُد إلهنا الذي يتكلّم بإسرائيل بواسطة أفعال وأشخاص وكتاباتنا.»
«إذاً تَابِع القراءة... فذلك سوف يفيدكَ في معرفة العالم الوثنيّ... تابع. يمكنكَ المتابعة. فليس لديكَ خميرة الشرّ ومفسدة الروح. تستطيع إذاً القراءة وبدون خوف. الحبّ الحقيقيّ الذي لديكَ لإلهكَ يجعل البِذار الدنيويّة التي يمكن للقراءة أن تُدخِلها إليكَ عقيمة. في كلّ أفعال الإنسان هناك إمكانيّة خير أو شرّ حسب الطريقة التي تتمّ بها. الحبّ ليس خطيئة، إذا ما أَحبَبنا بقداسة. العمل ليس بخطيئة، إذا ما عَمِلنا حينما ينبغي العمل. الربح ليس خطيئة إذا ما اكتفينا بالربح الحلال الشريف. التثقّف ليس خطيئة إذا كنا، بالثقافة، لا نَقتُل فينا فكرة الله. بينما خدمة الهيكل ذاتها خطيئة، إذا ما تمّ القيام بها للمنفعة الشخصيّة. هل أنتَ مُقتَنِع يا لعازر؟»
«نعم يا معلّم. لقد طَرَحتُ هذه الأسئلة ذاتها على آخرين كثيرين، ولكنّهم انتَهوا باحتقاري... إنّما أنتَ، فإنَّكَ تَهِبني النور والسلام. آه! لو كان العالم كلّه يسمعكَ!.. هلمّ يا معلّم. بين الياسمين توجد ظلال وسكون. وممتعة هي الاستراحة في ظلالها النديّة في انتظار المساء.»
يَخرُجون. وينتهي كلّ شيء.