ج8 - ف39

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

39- (الوصول إلى أريحا)

 

11 / 03 / 1947

 

إنّ الجدران البيضاء لمنازل أريحا ونخلها هي بالفعل تبرز قبالة سماء ذات زُرقة كثيفة كالّتي للخزف أو المينا، حينما، عند أجمة أشجار أَثْل مشعثة، أكاسيا رقيقة، زعرور بريّ بأشواك طويلة، أشجار أخرى شائكة بمعظمها، والّتي تبدو أنّها قد انقلبَت إلى هناك مِن الجبل الوَعِر خلف أريحا، يلتقي يسوع مجموعة كبيرة إلى حدّ ما مِن التلاميذ يقودها مَنَاين. يبدون أنّهم ينتظرون، وهم كذلك بالفعل، ويقولون ذلك بعدما قاموا بتحيّة المعلّم، مضيفين بأنّ آخرين قد انتشروا في طرق أخرى للاستعلام، حيث إنّ التأخّر لليلة كاملة للوصول إلى أريحا كان قد أقلقهم.

 

«لقد أتيتُ إلى هنا معهم، ولن أترككَ إلى أن أعلم أنّكَ بأمان عند لعازر.» يقول مَنَاين.

 

«لماذا؟ هل هناك مِن خطر؟» يَسأَل يوضاس تدّاوس.

 

«أنتم في اليهوديّة… والإخطار تعرفونه. والكراهية أيضاً. وبالتالي تتوجّب الخشية مِن كلّ شيء.» يجيب مَنَاين، وملتفتاً إلى يسوع، يشرح: «لقد أحضرتُ معي الأكثر شجاعةً، إذ قد تمّ الافتراض بأنّهم إن لم يكونوا قد قبضوا عليكَ، فإنّكَ تمرّ مِن هنا. وقد عَوّلنا على شأننا كتلاميذ ورجال للتمكّن مِن إثارة الرهبة لدى الأشرار وفرض الاحترام تجاهكَ.»

 

بالفعل إنّ برفقته تلاميذ سابقين لغَمَالائيل، الكاهن يوحنّا، نيقولاوس الذي مِن أنطاكية، يوحنّا الذي مِن أفسس، ورجالاً أشدّاء آخرين في مقتبل العمر، متميّزين أكثر مِن العامّة، ممّن لا أعرفهم. مَنَاين يُعَرّف بالبعض منهم على عجالة، بينما لا يُعَرّف بآخرين. إنّهم رجال مِن كلّ مناطق فلسطين، بينهم مَن هم مِن بلاط هيرودس فيلبّس. إنّ صدى أسماء أعرق عائلات إسرائيل يتردّد هكذا على الطريق قرب الأجمة الشعثاء، حيث تهزّ الريح أوراق أشجار الأكاسيا وتحني فروع الزعرور البرّي.

 

«هيّا بنا. ألا يوجد أحد مع النسوة عند نيقي؟» يَسأَل يسوع.

 

«الرعاة. كلّهم ما عدا يوناثان، الّذي ينتظر يُوَنّا في قصرها في أورشليم. إنّما عدد تلاميذكَ قد تزايد بلا حدّ. البارحة كانوا حوالي خمسمائة ينتظرون في أريحا. بحيث أنّ خدّام هيرودس قد اضطربوا وأَعلَموا معلّمهم بذلك. وهو لم يكن يعلم إن كان ينبغي أن يرتجف أم أن يغضب. لكنّه مُؤَرَّق مِن ذكرى يوحنّا، ولم يعد يجرؤ على رفع يده على أيّ نبيّ…»

 

«جيّد! هذا لن يؤذيكَ!» يصيح بطرس ويفرك يديه بسرور.

 

«إنّما هو الأقل أهمّية. إنّه صنم يمكن لأيّ كان تحريكه على هواه، والّذي هو في متناول يده يُحسِن تحريكه.»

 

«ومَن يضبطه؟ أربّما بيلاطس؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«إنّ بيلاطس لا يحتاج إلى هيرودس كي يتصرّف. إنّ هيرودس خادم. والـمُقتَدِورن لا يتوجّهون إلى خدّام.» يجيب مَنَاين.

 

«ومَن إذن؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«الهيكل.» يقول بثقة شخص مع مَنَاين.

 

«لكنّ هيرودس ملعون هو بالنسبة للهيكل. إنّ خطيئته…»

 

«إنّكَ بغاية السذاجة رغم معرفتكَ وعمركَ أيا برتلماوس! ألا تعلم إذن أنّ الهيكل يُحسِن التغاضي عن أمور كثيرة، كثيرة جدّاً، في سبيل بلوغ غاياته؟ لهذا لم يعد جديراً بالوجود.» يقول مَنَاين بإيماءة احتقار شديد.

 

«أنتَ إسرائيليّ. لا ينبغي لكَ أن تتحدّث هكذا. إنّ الهيكل هو دوماً الهيكل بالنسبة لنا.» يحذّره برتلماوس.

 

«لا. إنّه جثّة نسبة لما كان عليه. والجثة تستحيل جيفة نَجِسة حين يمضي وقت طويل على موتها. لهذا أرسل الله الهيكل الحيّ. كي نتمكّن مِن أن نسجد أمام الربّ دون أن يكون ذلك تمثيلاً إيمائيّاً نَجِساً.»

 

«أُصمت!» يهمس لمَنَاين شخص آخر معه، لأنّه يتكلّم بوضوح شديد. وهو واحد مِن أولئك الّذين لم يُعَرّف بهم، والّذي يلبث متستّراً كلّيّاً.

 

«ولماذا عليَّ أن أصمت إذا ما كان قلبي يتكلّم هكذا؟ هل تظنّ بأنّ كلامي يمكن أن يؤذي المعلّم؟ إن كان الأمر كذلك فسأصمت، وليس لسبب آخر. حتّى لو حكموا عليَّ فسوف أُحسِن قول: "إنّ هذا هو فكري، ولا تعاقبوا أحداً آخر سواي."»

 

«مَنَاين على حقّ. كفى صمتاً بدافع مِن خوف. لقد آن أوان أن يحسم كلّ واحد أمره، مع أو ضدّ، وأن يُفضي بما في قلبه. إنّني أفكّر مثلكَ أيا أخي بيسوع. وإن كان يمكن لذلك أن يتسبّب بموتنا، فسنموت معاً ونحن ما نزال نعترف بالحقيقة.» يقول استفانوس باندفاع.

 

«كونوا حذرين! كونوا حذرين!» يحثّ برتلماوس. «فالهيكل هو دوماً الهيكل. قد يخطئ، فهو حتماً غير كامل، لكنّه… هو… بعد الله، ما مِن إنسان أعظم وما مِن قوى أعظم مِن عظيم الكَهَنَة والسنهدرين… إنّهما يمثّلان الله، وعلينا أن نرى ما يمثّلانه، لا ما هما عليه. هل يمكن أن أكون مخطئاً يا معلّم؟»

 

«أنتَ لستَ مخطئاً. ففي كلّ هيئة يجب معرفة اعتبار الأصل فيها. وفي هذه الحالة هو الآب الأزلي، الّذي أسّس الهيكل والتراتبيّة، الطقوس وسلطة الأشخاص المنوط بهم تمثيله. ويجب أن نُحسِن ترك الحكم للآب. فهو يعلم متى وكيف يتدخّل. كيف يتصرّف بحيث أنّ الفساد، بتفشّيه، لا يفسد كلّ البشر ويجعلهم يَشُكّون بالله… وفي هذا عرف مَنَاين رؤية الصواب، برؤيته سبب مجيئي في هذا الوقت. وأخيراً يجب أن تُلَطّف مِن تصلّبكَ يا برتلماوس، بروح مَنَاين الـمُجَدِّدة، حتّى يكون الكيل صحيحاً وبالتالي أسلوب الحكم. إنّ كلّ مغالاة هي مضرّة على الدوام، لمن تتأتّى منه، لمن يتلقّاها، أو لمن تُشكّكه، وإن لم يكن روحاً مستقيماً، فيستغلّها ضدّ الإخوة للوشاية بهم. إنّما هذا فِعل قايين، ولن يقوم به أبناء النور، كونه عمل للظلمات.»

 

إنّ ذاك، المتستّر كلّياً بردائه، بحيث بالكاد يمكن رؤية عينيه السوداوين، المتّقدتين للغاية، الّذي حَذَّر مَنَاين مِن الاستفاضة بالكلام، يركع أمام يسوع ويمسك يده قائلاً: «إنّكَ صالح يا معلّم. لقد عرفتُكَ متأخّراً جدّاً، أيا كلمة الله! لكن ما يزال الوقت مناسباً كي أحبّكَ كما تستحقّ، إن لم يكن كي أخدمكَ لوقت طويل كما أردتُ، كما أودُّ الآن.»

 

«لا يكون الوقت متأخّراً جدّاً أبداً بالنسبة إلى ساعة الله. إنّها تأتي في الوقت المناسب، وهو يمنح الوقت اللازم، وفقاً لمشيئته، لخدمة الحقّ.»

 

«ولكن مَن يكون؟» يتهامس الرُّسُل فيما بينهم، ويَسأَلون التلاميذ عن ذلك. بلا جدوى. لا أحد يعلم مَن هو، أو إن كان يعلم ذلك فهو لا يريد الإفصاح عنه.

 

«مَن هو يا معلّم؟» يَسأَل بطرس حينما يتمكّن مِن الاقتراب مِن يسوع، الّذي يسير وسط المجموعة، وخلفه النسوة، أمامه التلاميذ، إلى جانبيه ابنا عمّه، ومن حوله الرُّسُل.

 

«هو نَفْس يا سمعان، لا شيء أكثر مِن هذا.»

 

«لكن… أتثق به إن لم تكن تعلم مَن يكون؟»

 

«إنّني أعلم مَن يكون. وأعرف قلبه.»

 

«آه! فهمتُ! الأمر كما كان بالنسبة لـِمُحجّبة المياه الحلوة… لن أسأل شيئاً آخر بعد…» وبطرس مسرور لأنّ يسوع، إذ يبتعد عن يعقوب، يأخذه إلى قربه.

 

لقد وصلوا إلى أريحا. مِن باب الأسوار تخرج الجموع الّتي تهتف بالهوشعنات، وبصعوبة يتمكّن يسوع مِن التقدّم كي يجتاز المدينة للمضيّ إلى عند نيقي، الّتي هي خارج أريحا مِن الجهة المقابلة. يرجونه أن يتكلّم. الأطفال يُرفَعون إلى الأعلى، ليجعلوا منهم سياجاً حيّاً ومتعذّراً اجتيازه، مُعوّلين على محبّة يسوع للأطفال. يصيحون: «يمكنكَ التكلّم. لقد هرب إلى أورشليم، ويشيرون فيما يقولون ذلك إلى قصر هيرودس البديع والمقفل.

 

مَنَاين يؤكّد: «هذا صحيح. لقد رحل في الليل، بصمت. إنّه خائف.»

 

إنّما لا شيء يوقف يسوع الّذي يتقدّم وهو يقول: «هدوءاً! هدوءاً! مَن به معاناة أو آلام فليأتِ إلى عند نيقي. مَن يريد سماعي فليأتِ إلى أورشليم. إنّني هنا الحاج. مثلكم كلّكم. سوف أتكلّم في بيت الآب. سلام! سلام وبركة! سلام!»

 

إنّه انتصار صغير بالفعل، تمهيدٌ لدخول أورشليم، الّتي أضحت قريبة جدّاً.

 

إنّ غياب زكّا يدهشني حتّى اللحظة الّتي أراه فيها، واقفاً عند حدود ملكيّة نيقي، وسط أصدقائه ومع الرّعاة والتلميذات. الكلّ يهرعون للقاء يسوع ويسجدون، ويواكبونه فيما، مباركاً إيّاهم، يجتاز البستان متوجّهاً صوب المنزل الـمُضيف.