ج9 - ف11

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

11- (الأربعاء السابق للفصح، II- الليل)

 

08 / 03 / 1945

 

«لقد قلتُ لكم: "كونوا متيقّظين، اسهروا وصلّوا حتّى لا تجدوا أنفسكم مثقلين بالنعاس". ولكنّي أرى عيونكم المتعبة تميل إلى الإغماض، وأجسادكم، دون إرادتكم، تسعى إلى وضعيّة الاستراحة. أنتم على حقّ، يا أصدقائي المساكين! إنّ معلّمكم قد طلب منكم الكثير هذه الأيّام، وأنتم متعبون للغاية. ولكن خلال بضعة ساعات، بضعة ساعات مِن الآن، ستسرّون لأنّكم لم تضيعوا ولا حتّى دقيقة واحدة بعيداً عنّي. ستسرّون لأنّكم لم ترفضوا شيئاً ليسوعكم؟ وعلى كلّ حال، هذه آخر مرّة أكلّمكم عن هذه الأمور المبكية. غداً سأكلّمكم عن المحبّة وسأجترح لكم معجزة كلّها محبّة. أعدّوا أنفسكم بتطهّر عظيم لتقبلّها. آه! كم يوافق الأنا الّذي لي بالأكثر أن أكلّمكم عن المحبّة أكثر مِن العقاب! كم هو عذب لي أن أقول: "أحبّكم. تعالوا. حلمتُ طوال حياتي بهذه الساعة!" ولكن مِن المحبّة أيضاً الحديث عن الموت. إنّه محبّة، لأنّ الموت مِن أجل مَن نحبّ هو أسمى إثبات للمحبّة. محبّة هي، لأنّ إعداد الأصدقاء الأعزّاء للفاجعة هو فطنة وَدودة تريدهم مستعدّين وغير مذعورين في تلك الساعة. محبّة هي، لأنّ ائتمان سرّ هو إثبات للتقدير الّذي يكنّه المرء للّذين يأتمنهم عليه. أعلم أنّكم انهلتم على يوحنّا بالأسئلة لمعرفة ما كنتُ أقوله له عندما لبثتُ معه بمفردي. ولم تصدّقوا أنّه لم يكن مِن كلام. ولكن هذا ما حدث. كفاني أن يكون أحد بجانبي...»

 

«إذاً، لماذا هو وليس آخر؟» يَسأَل الاسخريوطيّ بتعالٍ ساخط.

 

كذلك بطرس ومعه توما وفيلبّس يقولون: «نعم. لماذا له وليس للآخرين؟»

 

يسوع يجيب الاسخريوطيّ: «هل ترغب في أن تكون أنتَ؟ هل يمكنكَ المطالبة بذلك؟

 

كان صباحاً بارداً مِن آذار [مارس]... كنتُ عابر سبيل مجهولاً على الطريق قرب النهر... متعباً، مغطّىً بالغبار، شاحباً بفعل الصوم، غير مشذّب اللحية، نعلي مثقوب، كنتُ شبيهاً بشحّاذ على دروب العالم... هو رآني... وعرف أنّي أنا مَن نزلت عليه حمامة النار الأزليّ. في هذا التجلّي الأوّل لي كُشِفَتْ بالتأكيد ذرّة واحدة مِن إلوهيّتي المتألّقة. والعينان اللتان فتحتهما توبة المعمدان، واللتان حفظهما الطهر ملائكيّتين، رأتا ما لم يره الآخرون. والعينان الطاهرتان حملتا تلك الرؤيا في تابوت عهد القلب، لتضمّاها مثل لؤلؤة في صندوق جواهر... ولما رمقتا بعد حوالي الشهرين المسافر الرثّ، تعرّفت نفسه عليّ... كنتُ حبّه، حبّه الأوّل والوحيد. والحبّ الأوّل والوحيد لا يُنسى. فالنَّفْس تشعر بمجيئه، حتّى وإن كان بعيداً، تشعر به مقبلاً مِن مسافات بعيدة، وترتعش فرحاً، وتوقظ العقل، وهذا يوقظ الجسد، كي يتشارك الكلّ في وليمة فرح التلاقي والتحابّ. وقد قال لي الفم المرتعش: "أحيّيكَ يا حَـمَل الله". آه! يا لإيمان الأطهار، كم أنتَ عظيم! كم تتجاوز العوائق كلّها! لم يكن يعرف اسمي. مَن أكون؟ مِن أين كنتُ آتياً؟ ماذا كنتُ أفعل؟ هل كنتُ ثريّاً؟ فقيراً؟ هل كنتُ حكيماً؟ جاهلاً؟ هل يهمّ الإيمان معرفة كلّ ذلك؟ هل تزيد الإيمان هذه المعرفة أو تنقصه؟ هو كان يؤمن بما كان السابق قد قاله له. ومثل نجم يرتحل بأمر الخالق، مِن سماء إلى أخرى، انفصل عن سمائه: المعمدان، مِن كوكبته. وأتى إلى سمائه الجديدة: المسيح، في كوكبة الحَمَل. لم يكن أكبر النجوم، ولكنّه أجملها والأكثر طهراً في كوكبة المحبّة.

 

مرّت سنوات ثلاث منذ ذلك الحين. النجوم، الكبيرة منها والصغيرة، انضمّت إلى كوكبتي ثمّ انفصلت عنها. البعض منها سقط ومات. والبعض صار مدخّناً بفعل أبخرة ثقيلة. أمّا هو فقد بقي ثابتاً بنقاء نوره بقرب نجمه القطبيّ. دعوني أنظر إلى نوره. نوران سيكونان في ظلمات المسيح: مريم ويوحنّا. ولكنّي بالكاد سأستطيع رؤيتهما، لأنّ ألمي سيكون عظيماً. دعوني أطبع في مقلتيّ هذه القزحيّات الأربع الّتي هي قِطع مِن السماء بين أهدابها الشقراء، كي أحملها معي، إلى حيث لا أحد سيمكنه المجيء، ذكرى مِن الطهارة. إنّ الخطيئة كلّها! كلّها على كتفيّ الإنسان! آه! آه! تلك القطرة مِن الطهر!... أُمّي! يوحنّا! وأنا!... الغرقى الثلاثة الطافون في غرق الإنسانيّة في بحر الخطيئة!

 

ستأتي الساعة الّتي فيها، أنا سليل ذرية داود، سأنوح بتنهيدة داود القديمة: "إلهي التفت إليّ. لماذا تركتني؟ صرخات الجرائم الّتي حملتُها عليّ عن الجميع أبعدتني عنكَ... أنا دودة، لم أعد إنساناً، عار البشر، وسَقْط عامّة الشعب." واسمعوا إشَعياء: "أسلمتُ جسدي للّذين كانوا يضربونه، وخديّ للّذين كانوا ينتفون لحيتي، لم أبعد وجهي عن الّذين كانوا يشتمونني ويغطّونني بالبصاق." واسمعوا داود مِن جديد: "أحاطت بي عجول كثيرة، ثيران كثيرة هاجمتني. فَغَروا عليّ أفواههم ليمزّقوني إرباً كأسود تفترس وتزأر. أنا كالماء انسكبتُ". ويكمل إشَعياء: "صَبَغتُ بنفسي ثيابي". آه ثيابي، مِن ذاتي صَبَغتُها، وليس مِن غيظي، ولكن بألمي وبمحبّتي لكم. مثل حجرَيّ الرحى، يعصرونني ويريقون دمي. لستُ مختلفاً عن العنقود الّذي يُعصَر، الّذي بجماله يدخل المعصرة، ويوم يعصر يصبح سحقاً بلا عصارة ولا جمال.

 

وعن قلبي أقول مع داود: "صار مثل الشمع وذاب في صدري". آه! ما الّذي أصبحتَ عليه الآن أيّها القلب الكامل لابن الإنسان؟ أصبحتَ شبيهاً بالّذي أنهكَتْه حياة طويلة في العربدة وأفقدته حيويّته. يبست كلّ حيويّتي. ولساني لصق بحنكي بتأثير الحُمّى والاحتضار. وتقدّم الموت برماده الّذي يخنق ويعمي.

 

وأيضاً ما مِن رحمة! "تحيط بي عصبة، زمرة كلاب تحاصرني وتعضّني. وتقع العضّات فوق الجراح، وعلى العضّات ضربات العصيّ. لا مكان مِن جسدي لم يطله الألم، العظام تطقطق، وتتخلّع بتمزّق شنيع. لا أعرف أين أسند جسدي، الإكليل المخيف دائرة مِن نار تخترق رأسي. مُعلّق مِن يديّ ورجليّ المثقوبة. مرفوع أنا في الهواء، أعرض جسدي للعالم، ويمكن للجميع أن يحصوا عظامي"...»

 

«اصمت! اصمت!» يقول يوحنّا منتحباً.

 

«لا تقل المزيد! أنتَ تجعلنا نلفظ أنفاسنا!» يتوسّل ابنا العم.

 

أندراوس لا يتكلّم، ولكنّه يضع رأسه بين ركبتيه ويبكي بصمت. سمعان ممتقع. يبدو أنّ بطرس ويعقوب بن زَبْدي يتعذّبان. فيلبّس، توما، برتلماوس، يبدون ثلاثة تماثيل حجريّة تُعبّر عن الضيق.

 

يهوذا الاسخريوطيّ قناع مرعب، شيطانيّ. يبدو وكأنّه مدان قد فهم أخيراً ما فعله. فمه مفتوح ليطلق صرخة تدوّي في أناه دون أن تخرج مِن حلقه الّذي يضيق، عيناه كأنّهما لمجنون موسّعتان مذعورتان، الخدّان شاحبان تحت الستار الأسمر للحيته المحلوقة، شعره مشعث إذ إنّه مِن وقت لآخر يمرّر يده فيه، يتصبّب منه عرق بارد، ويبدو وكأنّه على وشك الإغماء.

 

متّى وهو يرفع بصره المذهول باحثاً عن معونة لعذابه، يراه ويقول: «يهوذا! هل تشعر بسوء؟... يا معلّم، يهوذا يتألّم!»

 

«وأنا أيضاً.» يقول المسيح. «إنّما أنا أتألّم بسلام. تحوّلوا أرواحاً [تروحنوا] لتتمكّنوا مِن تحمّل هذه الساعة. مَن كان مجرّد "لحم" لا يمكنه تحمّلها دون أن يصاب بالجنون…

 

يتكلّم داود أيضاً وهو يرى عذابات مسيحه: "ولم يسرّوا بعد، يتفرّسون فيّ هازئين ويقتسمون ما سلبوه منّي مقترعين على ردائي. أنا الشرّير. هذا حقّهم."

 

آه! يا أيّتها الأرض، انظري إلى مسيحكِ! اعرفي أن تتعرّفي عليه، حتّى وإن يكن مُحطّماً هكذا. اسمعي، تذكّري أقوال إشَعياء وافهمي السبب، السبب الأعظم، الّذي لأجله أصبح هكذا، واستطاع الإنسان أن يقتل، أن يحيل كلمة الآب إلى هذه الحالة. "لا جمال له ولا بهاء، لقد رأيناه. هيئته كانت بغير جمال ولم نحبّه. مزدرى، كأحقر الناس، هو، رجل الأوجاع وقد اعتاد الألم، كان يستر وجهه. كان مذموماً ونحن لم نعبأ به". لقد كان جماله كفادي، قناع المعذّب هذا. أمّا أنتِ، أيّتها الأرض الغبيّة، كنتِ تفضّلين وجهه الصافي! "حقّاً قد أخذ عاهاتنا، وحمل أوجاعنا. ونحن نظرنا إليه وكأنّه أبرص، كأنّه ملعون مِن الله ومزدرى. وهو، على العكس، جُرح لأجل معاصينا. عليه وقع العقاب المحفوظ لنا، العقاب الّذي يعيد منحنا السلام مع الله. بجراحاته شفينا. كنّا كالنعاج الضالّة. كلّنا ضللنا الطريق القويم والربّ وضع عليه إثم جميعنا". إنّ الّذي، الّذين يفكّرون أنّهم نافعون لأنفسهم ولإسرائيل فليفقدوا أوهامهم. وكذلك الّذين يفكّرون أنّهم أقوى مِن الله. وكذلك الّذين يفكّرون أنّ ليس عليهم أن يكفّروا عن هذه الخطيئة فقط لأنّني تركتُهم يقتلونني طوعاً. أنا أكمل مهمّتي المقدّسة، الطاعة الكاملة للآب. لكنّ هذا لا يستبعد طاعتهم للشيطان وعملهم الشنيع. نعم. لقد ضُحّي بفاديكِ لأنّه هو أراد ذلك أيا أيّتها الأرض: "لم يفتح فاه يتوسّل عذاباً أقلّ، ولم ينطق بكلمة لعنة لقتلته. كشاة سيق إلى المسلخ ليُنحَر، وكحَمَل صامت ترك نفسه يساق إلى الّذي يجزّه."

 

"بعد إلقاء القبض عليه وإدانته رُفِع. لن تكون له ذريّة. كنبتة قد قُطع مِن أرض الأحياء. الله ضربه لأجل خطايا شعبه. ألن يبكيه أحد مِن ذرّيته مِن أرضه؟ ألن يكون له أبناء ذاك الّذي قُطِع مِن الأرض؟"

 

آه! أنا مَن أجيبكَ أيا نبيّ مسيحكَ. إن لم يكن لدى شعبي مِن دموع لأجل المقتول البريء، فملائكة الشعب السماويّ ستبكيه. إن لم يكن لرجولته مِن أبناء بشريّاً، لأن طبيعته لم تكن لتتّحد بجسد قابل للموت، فسيكون له أبناء وبأعداد كبيرة لذرّية ليست مِن لحم ودم حيوانيّ، بل ذرّية تكون لها حياة مستمدّة مِن محبّته ودمه الإلهيّ، ذرّية الروح تجعل سلالته أبديّة.

 

أيّها العالم، الّذي لا يفهم النبيّ، أفسّر لكَ المزيد. مَن هم الأثمة المرسلون لدفنه والغنيّ لموته. انظر أيّها العالم، إن كان واحد فقط مِن الّذين قتلوه قد نال السلام وحياة مديدة! هو، الحيّ، سرعان ما سيغادر الموت. ولكن، مثل أوراق تدفنها ريح الخريف واحدة إثر أخرى في حُفرة الثلم بعد نزعها بهبّات متكرّرة، فواحد إثر واحد سيرقدون قريباً في قبر قبيح مُعَدٍّ له؛ وواحد منهم إذ عاش لأجل الذهب، يمكنه، لو كان مسموحاً أن يوضع القذر حيث كان القدّوس، يمكنه أن يوضع حيث ما تزال رطوبة الجراح الّتي لا تحصى الّتي مِن الضحيّة المذبوح على الجبل.

 

إذ اتّهم بلا ذنب، فالله ينتقم له، ذلك أنّه لم يوجد في فمه غشّ ولا في قلبه إثم. لقد أنهكته الآلام. إنّما ما أن يُنهَك، وتقطع حياته بذبيحة التكفير، فسيبدأ مجده بالنسبة للّذين سيأتون في المستقبل. كلّ رغبات الله وإراداته المقدّسة بخصوصه ستتحقّق. وبسبب انقباضات نفسه، سيرى مجد شعب الله الحقيقيّ ويُسَرّ به. مذهبه السماويّ الّذي سيختمه بدمه، سيبرِّر كثيرين مِن بين النخبة، وسيأخذ عليه إثم الخطأة. ولذلك سيكون له جمهور عظيم، أيا أيّتها الأرض، هذا الـمَلِك غير المعروف الّذي هزء به الغادرون، والّذي لم تفهمه النخبة. ومع أتباعه سيتقاسم غنيمة المهزومين. سيتقاسم غنيمة الأقوياء، هو القاضي الوحيد للممالك الثلاث وللملكوت.

 

هو استحقّ كلّ شيء لأنّه أعطى كلّ شيء. سيُسلَم إليه كلّ شيء لأنّه أسلم حياته للموت وأُحصي مع الأثمة، هو الّذي كان بلا خطيئة. بلا خطيئة أخرى سوى محبّة كاملة وصلاح لامتناه. خطيئتان لا يغفرهما العالم، محبّة وصلاح دفعاه إلى أن يحمل خطايا كثيرين، مِن العالم بأكمله، وأن يصلّي مِن أجل الخطأة. مِن أجل كلّ الخطأة. حتّى أولئك الّذين أسلموه إلى الموت.

 

لقد أتممتُ كلامي. ليس لديّ شيء آخر أقوله. كلّ ما كنتُ أريد قوله لكم عن النبوءات المَسيّانيّة قد قيل. مِن ميلادي حتّى موتي، لقد سلّطتُ النور على كلّها، كي تعرفوني ولا تشكّوا. ولا يكون لكم عذر لخطيئتكم.

 

الآن لنصلِّ معاً. إنّه آخر مساء يمكننا فيه أن نصلّي هكذا، متّحدين كلّنا كحبّات العنب في العنقود الّذي يحملها. تعالوا. لنصلّ: "أبانا الّذي في السماوات، ليتقدّس اسمكَ. ليأتِ ملكوتكَ. لتكن مشيئتكَ كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. اترك لنا ديوننا كما نحن نتركها للمدينين لنا. لا تُدخِلنا1 في التجربة ولكن نجّنا مِن الشرّير. آمين".

 

"ليتقدّس اسمكَ". أيّها الآب، لقد قدّستُه. الرحمة لمن هو مِن مصدركَ.

 

"ليأتِ ملكوتكَ". مِن أجل إقامته أموت. ارحمني.

 

"لتكن مشيئتكَ". أَعِن ضعفي، أنتَ يا مَن خلقتَ جسد الإنسان وألبسته لكلمتكَ كيما أطيعكَ هنا على الأرض مثلما أطعتكَ دائماً في السماء. ارحم ابن الإنسان.

 

"أعطنا الخبز... خبزاً للنَّفْس، خبزاً ليس مِن هذه الأرض. لستُ أطلبه مِن أجلي. لم أعد محتاجاً إلاّ لتعزيتكَ الروحيّة. ولكن مِن أجلهم، أنا المستعطي، أمدّ يدي. وعمّا قليل سوف تُثقَب وتُعلّق، ولن تعود قادرة على أن تقوم بإشارة حبّ. أمّا الآن فما زالت تقدر، امنحني يا أبي أن أعطيهم الخبز الّذي يقوّي كلّ يوم ضعف أولاد آدم المساكين. إنّهم ضعفاء يا أبي، ذليلون هم، لأنّ ليس لهم الخبز الّذي هو قوّة، الخبز الملائكي الّذي يرَوحن الإنسان ويقوده إلى التألّه فينا.

 

"اترك لنا ديوننا"...»

 

يسوع الّذي تكلّم واقفاً وصلّى فاتحاً ذراعيه، يركع الآن ويرفع ذراعيه ووجهه نحو السماء. وجهاً ابيضّ مِن قوّة التضرّع وقُبلة القمر، وجهاً خطّته دموع صامتة.

 

«اغفر لابنكَ أيا أبتِ إن قَصَّر تجاهكَ في شيء. أمام كمالكَ قد أبدو ناقصاً أيضاً، أنا، مسيحكَ، الّذي أثقله الجسد. أمام الناس... لا. ذكائي الفَطِن يؤكّد لي أنّني عملتُ مِن أجلهم كلّ شيء. ولكن أنتَ اغفر ليسوعكَ... أنا أيضاً أغفر. لكي تغفر لي أنا أغفر. كم عليّ أن أغفر! كم!... ومع ذلك أغفر. للحاضرين، للتلاميذ الغائبين، لأولئك أصحاب القلب الأصمّ، للأعداء، للساخرين، للخائنين، للقتلة، لقاتلي الله... ها قد غفرتُ لكلّ البشريّة. فيما يخصّني، أيا أيّها الآب، أعتبر أنّ كلّ ديون الإنسان للإنسان لاغية. لمنح ملكوتكَ للجميع أموت، ولا أريد أن تُحسب الخطيئة ضدّ المحبّة المتجسّدة للإدانة. لا؟ تقول لا؟ إنّه ألمي. هذه الـ "لا" تسكب في قلبي أوّل جرعة مِن الكأس المريع. ولكن أيّها الآب الّذي أطعتُه على الدوام، أقول لكَ: "ليكن كما تشاء".

 

"لا تُدخِلنا1 في التجربة". آه! إن شئتَ، فأنتَ قادر أن تُبعد الشيطان عنّا! فإنّه هو التجربة الّتي تحرّض الجسد، العقل، القلب. هو الـمُضِلّ. أبعده يا أبي! فليجعله رئيس ملائكتكَ، لصالحنا، يهرب، ذاك الّذي مِن الميلاد إلى الموت، يهدّدنا! آه أيّها الآب القدّوس، ارحم أبناءكَ!

 

"نجّنا، نجّنا مِن الشرّير!" أنتَ قادر على ذلك. نحن هنا نبكي... السماء جميلة للغاية ونحن نخشى أن نفقدها. أنتَ تقول: "قدّيسي لا يمكن أن يفقدها". ولكنّي أريدكَ أن ترى فيّ الإنسان، بِكر البشر. أنا أخوهم. أصلّي مِن أجلهم ومعهم. أيّها الآب، الرحمة! آه! الرحمة!...»

 

ينحني يسوع وصولاً إلى الأرض. ثمّ ينهض: «هيّا بنا. فلنسلّم على بعضنا هذا المساء. غداً مساءً لن تكون لنا إمكانيّة لذلك. سنكون في غاية الاضطراب، ولا محبّة حيث الاضطراب. فلنتبادل قبلة السلام. غداً... غداً يكون كلٌّ لنفسه... هذا المساء ما زلنا قادرين على أن يكون الواحد للكلّ والكلّ للواحد.»

 

ويقبّلهم واحداً فواحداً، مبتدئاً ببطرس، ثمّ متى، سمعان، توما، فيلبّس، برتلماوس، الاسخريوطيّ، ابنيّ العم، يعقوب بن زَبْدي، أندراوس وأخيراً يوحنّا، الّذي يبقى مستنداً عليه أثناء الخروج مِن جَثْسَيْماني.

----------

1- الجمعية العامة للمؤتمر الأسقفي الإيطالي في الدورة 72 بتاريخ (15 نوفمبر 2018) في بيانها الختامي: (رابط البيان)، وافقت على تعديل المقطع الأخير من صلاة الأبانا ليصبح: "لا تتركنا نتعرّض للتّجربة" (Non abbandonarci alla tentazione). بدلاً مِن: "لا تُدْخِلنا في تجربة" (Non ci indurre in tentazione). وقد صادق قداسة البابا فرنسيس على هذا التعديل ضمناً في المقابلة العامّة يوم (الأربعاء 1 مايو 2019‏). (رابط المقابلة).