ج4 - ف127
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
127- (يوم للاسخريوطيّ في الناصرة)
27 / 08 / 1945
بيت الناصرة هو الأكثر مواءَمة لارتقاء الروح. هناك السلام والصمت والنظام. تبدو القداسة وكأنّها تنبعث مِن حجارته، تفوح مِن نباتات حديقته، تُمطِر مِن السماء الصافية التي تغطّيه كقبّة سماويّة. في الحقيقة هي تَنبَثِق مِن التي تسكُنه وتتنقل فيه، بخفّة وصمت، بحركات فتيّة، سليمة، بِقَدَم خفيفة كالتي كانت لها يوم دَخَلَته عروساً، وبالابتسامة العَذبَة ذاتها المطمئنّة والحنونة.
إنّ أشعّة الشمس، في تلك الساعة الصباحيّة، تغطّي البيت مِن جهته اليمنى، حيث يتّكئ على أوّل تموّج للروابي، ووحدها قِمَم الأشجار تستفيد منها، وأوّلها أشجار الزيتون التي زُرِعَت لتُحافِظ على تماسك تربة المنحدر بجذورها، أشجار الزيتون التي صَمَدَت معوجّة، قويّة، والتي ترتفع أغصانها الأضخم نحو السماء وكأنّها تتضرّع طلباً لبركتها، أو كأنّها هي كذلك تصلّي مِن موقع السلام هذا، أشجار الزيتون تلك التي بقيت صامدة مِن بستان الزيتون الذي ليواكيم، الأشجار التي كانت في ذلك الحين كثيرة، وكانت تُواكِب طريق المسـافرين بالصلاة حتّى الحقول البعيدة حيث بستان الزيتون والحقول كانت مَرتَعاً للرّعي، وقد اقتَصَرَت اليوم على بضع شجرات باقية على حدود ملكيّة يواكيم المشوّهة.
بعدئِذ تستفيد منها شجرة اللوز وأشجار التفّاح، الكبيرة والقويّة، والتي تَفتَح على الحديقة مِظلّة أغصانها، وفي المرتبة الثالثة شجرة الرمّان التي تَنهَل مِن أشعّتها، وأخيراً شجرة التين الملاصقة للبيت عندما كانت الشمس تداعب الورود والخُضار الـمُعتَنى بها جيّداً في المساكب المستطيلة وعلى طول الأسيجة المتوضّعة تحت غطاء التعريشة المحمّلة بالعناقيد. النحل يطنّ، نقاط مِن ذَهَب تَطير على كلّ ما يمكن أن يَمنَحها عُصارات لذيذة وعَطِرة. هناك نبتة زهر عسل صغيرة تنقضّ عليها، وزهور أجهل اسمها، على شكل جُريسات، تُشكِّل طاقات، وهي في طريقها إلى الانغلاق ثانية -بدون شكّ هي زهور ليليّة- عِطرها نافِذ. تُسرِع النحلات في امتصاص رحيق تلك الزهور، قبل أن تلتوي بتلاتها لتغطّ في سبات التُّويج.
تَذهَب مريم بخفّة مِن أعشاش الحمام إلى النبعة الصغيرة التي تسيل قرب المغارة الصغيرة ومنها إلى البيت للاهتمام بشؤونه، ومع ذلك فهي تَجِد وسيلة لتتأمّل أثناء عملها بالزهور أو الحَمامات التي تقفز في الدروب أو تدور فوق البيت والحديقة.
يعود يهوذا الاسخريوطيّ وهو يَحمِل نباتات وفَسلات. «أحيّيكِ أيّتها الأُمّ. لقد أعطوني كلّ ما كنتُ أريدُه. وأسرعتُ حتّى لا تتأثّر، ولكنّني أتمنّى أن تَضرُب جذوراً مثل زهر العسل. وفي العام المقبِل سوف تكون لكِ حديقة تُشبِه سلّة زهور، وهكذا تتذكّرين يهوذا المسكين وإقامته هنا.» يقول هذا وهو يُخرِج مِن أحد الكيسين وبعناية نباتات مع جُذورها مُحاطة بِتُراب وأوراق نديّة، ومِن كيس آخر فَسلات.
«أشكركَ بحقّ يا يهوذا. لا يمكنكَ معرفة مدى سعادتي بوجود زهور العسل هذه بجانب المغارة الصغيرة. عندما كنتُ ما أزال صغيرة، هناك، عند طَرَف الحقول تلك، التي كانت ما تزال لنا، كانت هناك واحدة أجمل منها. كان اللبلاب وزهـر العسـل تغطّيها بأغصانها وزهورها مشكّلة ستاراً وملجأً للزنابق الصغيرة التي كانت تنمو حتّى داخل المغارة التي كانت مكسوّة بالخُضرة تحت شعيرات كزبرة البئر الناعمة. إذ إنّ نَبعاً كان هناك بالضبط... في الهيكل، كنتُ أُفكّر دائماً بتلك المغارة، وأقول لكَ، عندما كنتُ أصلّي أمام سـتار قدس الأقداس، أنا، عذراء الهيكل، لم أكن لِأَشعُر أكثر بوجود الله. وأكثـر مِن ذلك، ينبغي لي الاعتراف أنّني، هناك، كانت تعود إلى ذاكرتي كالحلم أحاديث روحي العذبة مع الربّ... ويوسف جعلني أجد هذه، مع سِلسال ماء، ليس لاستعمالاتي وحسب، إنّما أكثر مِن ذلك ليمنحني فرح الحصول على مغارة كانت نسخة عن الأخرى... لقد كان صالحاً، يوسف، حتّى في أدق الأمور... وزَرَعَ عندها زهر العسل، وشجرة اللبلاب التي ما تزال إلى الآن، بينما الأولى ماتت أثناء سِنيّ المنفى... ثُمّ زَرَعَ أخرى، ولكنّها ماتت منذ ثلاث سنوات. الآن، أنتَ زَرَعتَ مكانها. وها قد أَخَذَت تنمو، أترى؟ إنّكَ بستانيّ رائع.»
«نعم، فعندما كنتُ طفلاً، كنتُ أُحِبّ النباتات بشكل هائل، وكانت أُمّي تُعلِّمني كيفيّة العناية بها... والآن أستعيد طفولتي إلى جانبكِ، أيّتها الأُمّ، وأستعيد مهاراتي التي كانت لي آنذاك. لإرضائكِ. إنّكِ عَطوفة عليَّ للغاية!...» يُجيب يهوذا وهو يَعمَل بِيَد خبيرة في زرع النباتات في أمكنتها المناسِبة. ويذهب كي يَزرَع قُرب سياج زهور الليل كُتَلاً مِن الجذور التي لا أَعلَم إذا ما كانت زنبق الوادي أو زهوراً أخرى. «هنا ستكون على ما يرام» يقول وهو يَضرب طبقة رقيقة مِن التربة فوق الجذور المغروسة بواسطة مِعزَقة. «يجب ألّا تتعرّض كثيراً للشمس. لم يكن خادِم أليعازر يريد إعطائي إيّاها، ولكنّني ألححتُ كثيراً حتّى تنازَلَ لي عنها.»
«الياسمين الهندي هذا كذلك لم يكن يريد إعطاءه ليوسف. ولكنّه اشتَغَلَ لهم بالمجّان حتّى يؤمنّها لي. ولم تَكُفَّ عن النمو.»
«هي ذي المهمّة انتهت، أيّتها الأُمّ. سوف أسقيها وسيكون كلّ شيء على ما يرام.» يَسقي ثمّ يَغسِل يديه في النبع.
تَنظُر إليه مريم، بشـكل مختلف عن ابنها، وكذلك بشكل مختلف عن يهوذا في بعض ساعات الغضب. تُمعِن النَّظَر فيه، تُفكِّر، تدنو منه وتَضَع يدها على ذراعه وتَسأَله بلطف: «هل أنتَ أَحسَن حالاً الآن، يا يهوذا؟ أَعني بروحكَ.»
«آه! أيّتها الأُمّ! أَحسَن كثيراً! إنّي في سلام، وأنتِ تَرَين ذلك. أجِد المتعة والخلاص في الأمور المتواضعة وفي إقامتي إلى جانبكِ. عليَّ ألّا أخرُج أبداً مِن هذا السـلام، مِن هـذه الخَلوة. هنا... كَم العالم بعيد عن هذا البيت!...» ويَنظُر يهوذا إلى الحديقة والأشـجار والبيت الصغير... ويُكمِل: «ولكنّني لو كنتُ بقيتُ هنا لما أصبحتُ رسولاً أبداً، وأنا أريد أن أكون رسولاً...»
«ومع ذلك. ثِق أنّه مِن الأفضل لكَ أن تكون نَفْساً مستقيمة مِن أن تكون رسولاً غير مستقيم. إذا ما أدركتَ أنّ احتكاككَ بالعالم يجعلكَ تَضطَرِب، إذا ما أدركتَ أنّ المديح والتشـريفات التي يتلقّاها الرَّسول تسيء إليكَ، ارفض يا يهوذا. فالأفضل لكَ أن تكون مؤمناً بسيطاً في نَظَر يسوعي، مِن أن تكون رسولاً خاطئاً.»
يَخفض يهوذا رأسه مستغرقاً في التفكير. تتركه مريم لأفكاره وتعود إلى البيت تهتمّ بشؤونه.
يبقى يهوذا بُرهة بِلا حَراك، ثمّ يتمشّى طولاً وعرضاً تحت التعريشة. ذراعاه متصالبتان ورأسه منخفض. يفكّر ويفكّر ويَشرَع في مناجاة نفسه ويقوم بحركات، لوحده... مناجاة غير مفهومة. ولكنّ الحركات هي حركات رجل تتصادم أفكاره بعنف. يبدو وكأنّه يَبتَهِل ويَدفَع، أو بالحريّ يتشكّى، أو إنّه يَلعَن شيئاً ما، منتَقِلاً مِن تعبير مَن يتساءل إلى تعبير رجل فَزِع ومَهموم، حتّى يَظهَر بأسوأ حالاته ويتوقّف فجأة هكذا في منتصف الدرب، ويبقى بُرهة بوجه شيطان حقيقيّ... ثمّ يَضَع يديه على وجهه ويفرّ إلى مُنحَدَر الزيتون، بعيداً عن نَظَر مريم. يبكي وهو يُخبّئ وجهه بيديه حتّى يهدأ، ويبقى جالساً، وظهره مُستَنِد إلى شجرة زيتون، مَذهولاً…
...لَمْ يَعُد الوقت صباحاً، بل هو نهاية غَسَق مؤثّر. تفتح الناصرة أبواب بيوتها الـمُوصَدة طوال النهار بسـبب حرارة النهار الصيفيّة، وأكثر مِن ذلك نهاراً شرقيّاً. النساء والرجال والأطفال يَخرُجون إلى الحدائق أو الشوارع التي ما تزال حارّة، إنّما لا شمس تَسطَع فيها، بحثاً عن النسيم، أو النبع، أو الألعاب أو محادثاتهم... في انتظار العشاء. تحيّات عظيمة، ثرثرات، صرخات وضحكات، بشكل يُحافِظ على الاحترام بين الرجال والنساء والأطفال.
يَخرُج يهوذا كذلك ويتوجّه إلى النبع حاملاً جِرار النحاس. يَراه الناصريّون ويُشيرون إليه بلقبه "تلميذ الهيكل"، الذي يَرنّ كالموسيقى في أُذُنيّ يهوذا. يَمرّ مُحيّياً بلطف، إنّما بتحفُّظ، إن لم يكن ما يزال ببعض مِن الكبرياء المتعالي، فهو قريب منه جدّاً.
«إنّكَ طيّب جدّاً مع مريم، يا يهوذا.» يقول له ناصريّ مُلتَحٍ.
«إنّها تستحق هذا وأكثر منه أيضاً. إنّها بحقّ امرأة عظيمة مِن إسرائيل. إنّكم سعداء لكونها مُواطِنة مِن بلدكم.»
مديح امرأة الناصرة يُعجِب كثيراً الناصريّين الذين يُردِّدون فيما بينهم ما قاله يهوذا.
وهو، في هذه الأثناء، وقد وَصَلَ إلى النبع، يَنتَظِر دوره ويُظهِر كياسة، حتّى إنّه يَحمِل جِرار عجوز لا تعود تنتهي مِن مباركته، وحتّى إنّه يملأ الماء لامرأتين كانتا مُرتَبِكَتين بطفل يحملانه على أذرعهما. وبِرَفع الخِمار قليلاً تُتَمتِمان: «فليكافئكَ الله.»
«حُبّ القريب هو الواجب الأوّل لصديق يسوع.» يقول الاسخريوطيّ وهو ينحني ويملأ جِراره ليعود بعدئذ إلى البيت.
وفي طريق عودته، يوقِفه رئيس معبد الناصرة وآخرون، يَدعُونه للتحدّث السبت الـمُقبِل.
«لقد مضى أسبوعان وأنتَ معنا ولم تُقدِّم أيّ تعليم غير كَياسة عظيمة لنا جميعاً.» يقول رئيس المعبد وهو يتشكّى، ومعه آخرون مِن كِبار البلدة.
«ولكن إذا لم يكن مُرضياً لديكم الاستماع إلى كلمة ابنكم الأعظم، فهل يمكن لكلمة تلميذه أن تكون مقبولة لديكم أبداً، خاصّة إذا كان يهوديّاً؟» يُجيب يهوذا.
«شَكّكَ ظالِم ويُحزِننا. فإنّ دعوتنا صادقة. أنتَ تلميذ ويهوديّ، صحيح. ولكنّكَ مِن الهيكل. يمكنكَ إذن التحدّث، ففي الهيكل هناك العقيدة. وما ابن يوسف سِوى نجّار...»
«ولكنّه مَسيّا!»
«هو يقول ذلك... ولكن هل هذا صحيح؟ أو بالأحرى ألا يَهذي؟»
«ولكنّ قداسته، يا أبناء الناصرة! قداسته!» وقد صُدِم يهوذا بعدم إيمان الناصريّين.
«عظيمة هي، هذا صحيح. ولكنّ الفرق بينها وبين أن يكون مَسيّا!... ثمّ... لماذا لهجته قاسية إلى هذه الدرجة؟»
«قاسية؟ لا! بالنسبة إليَّ لا تبدو قاسية. إنّما بالأحرى هذا نَعم، إنّه صارم جدّاً ومتشدِّد كثيراً. لا يَدَع خطيئة مَخفيّة. لا يتردّد في التنديد بخيانة الأمانة... وهذا لا يُرضِي. إنّه يَضَع الإصبع على الجرح مباشرة، وهذا مؤلم. إنّما بقداسة. آه! بكلّ تأكيد! إنّه لا يتصرّف إلّا بهذا الشكل. لقد قلتُ له مرّات عديدة: "يا يسوع، إنّكَ تَجني على نفسكَ". ولكنه لا يريد الإقرار بذلك!...»
«إنّكَ تحبّه كثيراً، وبما أنّكَ على هذه الدرجة مِن الثقافة، فبإمكانكَ توجيهَهُ.»
«آه! مثقّف، لا... إنّما عَمَليّ، هذا، نعم. مِن الهيكل تَعلَمون!؟ أعرِف الأساليب. لديَّ أصدقاء. ابن حنان بالنسبة لي بمثابة الأخ. وحتّى إذا أردتم شيئاً مِن المجمع، فقولوه، قولوه... إنّما الآن فَدَعوني أحمل الماء إلى مريم التي تنتظرني مِن أجل العشاء.»
«عُد بعدها. على شُرفَتي، الطقس رطب. وستكون جلسة أصدقاء وسنتحدّث...»
«نعم. وداعاً.» ويَمضي يهوذا إلى البيت، حيث يعتذر لمريم على تأخّره لأنّ رئيس المعبد قد استوقَفَه هو وكبار البلدة. ويُنهي بقوله: «أرادني أن أتحدّث السبت الـمُقبِل... والمعلّم لَم يطلب منّي ذلك. فما قولكِ أنتِ أيّتها الأُمّ؟ أنتِ، وَجِّهيني.»
«التحدّث إلى رئيس المعبد... أم التحدّث في المعبد؟»
«هذا وذاك. أنا لا أريد التحدّث إلى أحد ولا مع أحد، لأنّني أَعلَم أنّهم ضدّ يسوع، ولأنّ التحدّث حيث هو الوحيد صاحب الحقّ بأن يكون المعلّم يبدو لي انتهاكاً للحُرمات. ولكنّهم أَلحّوا كثيراً! يريدون لقائي بعد العشاء... وأنا تقريباً وَعَدتُ. وإذا كنتِ تظنّين أنّني أستطيع، بكلامي، انتزاع روح مقاومة المعلّم مِنهم، المهمّة عسيرة، فأنا، رغم كون العبء ثقيلاً عليَّ، فسأذهب وأتحدّث. حسب إمكانياتي، مُحاوِلاً فقط أن أكون صبوراً جدّاً أمام عِنادهم. فلقد أدركتُ جيّداً أنّ لا جدوى مِن أن يكون المرء قاسياً. آه! لن أقع في الخطأ الذي ارتكبتُهُ في مرج ابن عامر! لقد حَزِن المعلّم! لَم يَقُل لي شيئاً، ولكنّني فهمتُ. لن أفعل ذلك. ولكنّني أريد مغادرة الناصرة بعد إقناعها أنّ المعلّم هو مَسيّا، ويجب الإيمان به وحبّه.»
يتكلّم يهوذا بينما هو جالس إلى الطاولة مكان يسوع، ويأكل ما حَضَّرَته مريم. وقد آلمني رؤية يهوذا جالساً في ذاك المكان، مُقابل مريم التي تَستَمِع إليه وتَخدِمه كأُمّ.
الآن تُجيب: «يكون حسناً بالفعل أن يُدرِك الناصريّون الحقيقة ويتقبّلوها. أنا لا أمنعكَ. هيّا. ما مِن إنسان يستطيع القول إنّ يسوع يستحقّ الحبّ أفضل منكَ. فَكِّر كم يحبّكَ هو ويُظهِر هذا الحبّ بأن يعذركَ دائماً ويُرضيكَ كلّما استطاع ذلك... ولتمنحكَ هذه الفكرة الكلام والتصرّف المقدَّسَين.»
يَنتَهي العشاء بسرعة. ويذهب يهوذا يَسقي زهور الحديقة قبل غياب الشمس تماماً، ثمّ يَخرُج، تاركاً مريم على الشُّرفة، مُنشَغِلة في طيّ الغسيل الذي جفَّفَته.
ويهوذا، بعد تحيّة حلفى ومريم التي لحلفى اللذين يتبـادلان الحديث أمام باب بيت الأخيرة، يمضي مباشرة إلى بيت رئيس المعبد. فيجد هناك كذلك ابنيّ عم السيّد. بالإضافة إلى ستّة آخرين مِن الكِبار.
بعد تحيّات مُفخَّمة، يَجلس الجميع بوقار في مقاعد ذات مَسانِد، ويسترطِبون بالشراب الـمُنكَّه باليانسون أو النعناع. ويُفتَرَض أن يكون الشراب بارداً جدّاً نظراً لكون الإبريق المعدني مُتعرِّقاً بسبب فارق الحرارة بين السائل البارد والهواء الذي ما يزال حارّاً، رغم النسيم الذي يُحرِّك قِمم الأشجار قادماً مِن الروابي شماليّ الناصرة.
«إنّني مسرور لقبولكَ المجيء. أنتَ شـاب. وبعض التسلية مفيد.» يقول رئيس المعبد الذي يُراعي يهوذا كثيراً.
«كنتُ أخشـى أن أكون ثَقيـل الظـلّ بمجيئي قَبلاً. أنا أعرفكم مُحتَقِرين ليسوع وأتباعه...»
«مُحتَقِرون؟ لا. بل غير مؤمنين... ومجروحون بـ... فلنُسلِّم بذلك، بحقائقه المجردة جدّاً. كنّا نظنّكَ تَحتَقِرنا، ولم نكن ندعوكَ بسبب ذلك.»
«أحتقركم، أنا؟ ولكن بالعكس! أفهمُكم جيّداً جدّاً... هيه! نعم! ولكنّني أظنُّ أنّ الأمر سـينتهي بأن يَحلّ السلام بينكم وبينـه. بالنسبة إليه هذا يناسبه دائماً، وكذلك أنتم. بالنسبة إليه، لأنّه بحاجة إلى الجميع، أمّا بالنسبة إليكم، فلأنّه لا يناسبكم أن يُطلَق عليكم اسم أعداء مَسيّا.»
«أوتظنّ الأمر حقيقة هكذا؟» يَسـأَل يوسف بن حلفى. «فليس فيه شيء مِن الوَجه الملوكيّ الذي تمّ التنبّؤ لنا به. قد يكون ذلك بسبب تَذكُّرنا بأنّه كان نجّاراً... ولكن أين يَكمُن فيه الـمَلِك الـمُحرِّر؟»
«كذلك داود لم يَكُن يبدو سِوى راعٍ صغير. إنّما أنتم تَرَون أنّه لم يأتِ مَلِك أعظَم مِن داود. وسليمان نفسه، في كلّ مجده، لم يكن لِيساويه. إذ في النهاية لم يكن سليمان سوى استمرار لداود، ولم يكن أبداً مُلهَماً مثله. بينما داود! ولكن تأمّلوا وجه داود! إنّه عِملاق، ذو مُلك أضحى يُلامِس السماء. فلا ترتَكِزوا إذن على أصول المسيح لِتَشكّوا بِمُلكه. فداود مَلِك ورَاعٍ، أو بالأحرى رَاعٍ ثمّ مَلِك. ويسوع مَلِك ونجّار أو بالحريّ نجّار ثمّ مَلِك.»
«تتكلّم مثل رابّي. نشتمّ منكَ رائحة مَن تلقّى التعليم مِن الهيكل.» يقول رئيس المعبد. «وهل بإمكانكَ إعلام المجمع أنّني، أنا، رئيس المعبد، أحتاج إلى عَون الهيكل لأمر خاصّ؟»
«طبعاً! بكلّ تأكيد! مع أليعازر! تصوّر! ثمّ يوسف الذي مِن الأعيان، هل تعرفه؟ الغنيّ الذي مِن الرّامة. ثمّ صادوق، أحد الكَتَبَة... وبعد ذلك... ليس لكَ سِوى أن تتحدّث!»
«إذاً غداً كُن ضيفي. سوف نتحدّث.»
«ضيفكَ. لا. فأنا لا أترك تلك المرأة القدّيسة والحزينة التي هي مريم. لقد أتيتُ متعمّداً مرافقتها...»
«ما بها قريبتنا إذن؟ نحن نَعلَم أنّها تتمتّع بصحّة جيّدة وسعيدة بفقرها...» يقول سمعان بن حلفى.
«نعم، فنحن لا نتركها.» يقول يوسف بن حلفى متنهّداً. «أُمّي على الدوام بجانبها، وأنا وكذلك زوجتي. رغم أنّني... رغم أنّني لا أستطيع أن أَغفر لها ضَعفها تجاه ابنها، وكذلك ألم أبي الذي، بسبب يسوع، مات ولم يكن أمام سريره سوى اثنين مِن أولاده. ثمّ! ثمّ!... ولكنّ مشاكل العائلة لا يُنادَى بها على رؤوس الأشهاد!»
«إنّكَ على حقّ. يتمّ الحديث عنها بصوت منخفض وبالسرّ، ليباح بها إلى قَلبٍ صديق. ولكن هكذا يكون هناك الكثير مِن الألم! أنا كذلك لي مشاكلي كتلميذ... ولكن لا نتحدثنّ عنها!»
«بالعكس، فلنتحدّث عنها! ماذا هناك؟ أهي مشاكل تواجه يسوع؟ نحن غير موافِقين على سلوكه، ولكنّنا مع ذلك أهل. ومؤهَّبين للتضامن معه ضدّ أعدائه. تكلّم!» يقول أيضاً يوسف.
«مشاكل؟ لا! كنت أتكلّم هكذا... ثمّ إنّ آلام التلميذ كثيرة جدّاً! ليس فقط الألم مِن طريقة تَعامُل المعلّم مع الأصدقاء والأعداء، جانياً على نفسه، إنّما كذلك لرؤية أنّه غير محبوب. أودُّ لو أنّكم تحبّونه جميعكم...»
«ولكن كيف العمل؟ أنتَ نفسكَ تَقولها! له أسلوب في التصرّف… لَمْ يَكُن هكذا عندما غَادَر أُمّه.» يقول مُعتَذِراً رئيس المعبد. «أنتم جميعاً، أليس ذلك صحيحاً؟»
يُؤكِّد الجميع برزانة قائلين الكثير عن حسنات يسوع أيّام زمان، فهو الصَّامِت، الوديع، والمتحفِّظ الرَّصين.
«مَن كان بإمكانه التفكير بأنّه يُمكِن أن يُصبِح رجلاً بالصفات التي هو فيها الآن؟ البيت والأهل كانوا كلّ شيء بالنسبة إليه. والآن؟» يقول ناصريّ كبير السن.
يتنهّد يهوذا: «يا للمرأة المسكينة!»
«ولكن في النهاية، ماذا تَعرِف؟ تكلّم.» يَصرُخ يوسف.
«ولكن لا شيء أكثر ممّا تَعرِف. هل تظنّ أنَّ تركها وحيدة هو أمر مُستحب بالنسبة إليها؟»
«لو كان يوسف يتصرّف كأبيكَ لما حَصَلَ هذا.» يقول ناصريّ آخر مسنّ كذلك بأسلوب الحِكَم.
«لا تُفكِّر هكذا أيّها الرجل. يكون الأمر نفسه عندما تسيطر علينا بعض... الأفكار!» يقول يهوذا.
يَجلب أحد الخُدّام بعضاً مِن المصابيح ويضعها على الطاولة، فالليل بلا قمر، رغم كلّ لمعان النجوم. ومع النور تُجلَب مشروبات أخرى يُريد رئيس المعبد تقديمها مباشرة إلى يهوذا.
«شكراً. فلن أمكُث طويلاً. لديَّ واجبات تجاه مريم.» يقول يهوذا وهو يَنهَض. ويَنهَض ابنا حلفى كذلك قائِلَين: «نأتي معكَ، فطريقنا واحدة...» وبعد تحيّات عظيمة يفترق الجمع، ويبقى رئيس المعبد مع الستّة الكبار.
لقد أضحَت الطُّرقات مُقفِرة وصامتة. مِن شُرفات البيوت تَصِل أصوات هَمَسات البالِغين الخافتة. الأطفال نائمون في أسرّتهم الصغيرة، وكذلك لم تَعُد تُسمَع رجرجات أصواتهم كالعصافير الفَرِحة. ومِن شُرفات البيوت الأكثر ثراء تأتي مع الأصوات وَمَضَات مصابيح الزيت.
يَسير ابنا حلفى ويهوذا بضعة أمتار صامتين، ثُمّ يَقِف يوسف ويُمسِك يهوذا مِن ذراعه قائلاً له: «اسمع. رأيتُ أنّكَ تَعلَم شيئاً ولكنّك لم تُرِد الكلام أمام الغرباء. إنّما الآن، معي أنا، عليكَ أن تقول. إنّني بِكر البيت ولي الحقّ وعليَّ واجب معرفة كلّ شيء.»
«وأنا أتيتُ إلى هنا وفي نيّتي أن أقول لكم وأحمي المعلّم ومريم وأخويكم وسمعتكم. إنّه أمر مؤلم قوله وسماعه، مؤلم كثيراً فِعله، لأنّه يبدو ضرباً مِن الجاسوسيّة. ولكنّني أرجوكما أن تَفهَماني. الأمر ليس كذلك. هو ليس سِوى حُبّ وحكمة. أعرِف أموراً كثيرة أنتم كذلك لستم تجهلونها. حَصَلتُ عليها مِن أصدقائي في الهيكل. أعرِف أنّها خطيرة على يسوع وكذلك على سُمعة العائلة الطيّبة. حاولتُ جَعل المعلّم يُدرِكها، ولكنّني لم أُفلِح. بل على العكس! كلّما نصحتُهُ ازداد سوء سلوكه، جالِباً لنفسه المزيد مِن الانتقادات والكراهية. وذلك لأنّه قدّيس لِدرجة لا يمكنه معها إدراك ماهيّة العالم. ولكن في النهاية، مُحزِن جدّاً رؤية شيء مقدّس يَموت بسبب تهوّر مؤسِّسه وقلّة فطنته.»
«ولكن، في النهاية، ماذا هناك؟ قُل كلّ ما لديكَ. ونحن سوف نتدبّر الأمر. أليس كذلك يا سمعان؟»
«بالتأكيد. إنّما يبدو لي مستحيلاً أن يقوم يسوع بأيّ أمر متهوِّر، وضدّ رسالته...»
«ولكن إذا كان هذا الشاب الصالح، الذي مع أنّه يُحبّ يسوع، يقولها!؟ أترى كيف أنتَ؟ دائماً هكذا! مُرتاب، متردِّد. تتركني دائماً وحدي في اللحظات الحَرِجة. أنا، بمواجهة كلّ العائلة. إنّكَ لا تَرحَم حتّى سمعتنا، ولا أخانا المسكين الذي يُدمِّر نفسه!»
«لا! يُدمِّر نفسه، لا! ولكنّه يَجني على نفسه، هو كذلك.»
«تكلّم، تكلّم!» يلحّ يوسف، بينما سمعان وهو في حيرة، يُحافِظ على الصمت.
«أقول لكما... ولكنّني أريد أن أكون متأكّداً بأنّكما لن تَذكُرا اسمي أمام يسوع... أَقسِما.»
«نُقسِم بالحجاب المقدّس. تكلّم.»
«وما سوف أقوله لكما، لا تقولاه حتّى إلى أُمّكما، ولا حتّى إلى إخوتكما.»
«كُن مطمئنّاً مِن صَمتنا.»
«وهل سَتَصمُتان أمام مريم؟ لكيلا تُسبِّبا لها الألم. كما أفعل أنا بصمتي، فواجبٌ هو السَّهَر على سلام هذه الأُمّ المسكينة...»
«سوف نَصمُت مع الجميع. نُقسِم لكَ على ذلك.»
«إذن اسمعا، يسوع لا يَقِف عند حدّ في معاشرته للوثنيّين، للعَشَّارين وللزواني، وفي إهانته للفرّيسيّين وكبار القوم الآخرين. ولكنّه يفعل الآن أموراً غير معقولة بالحقيقة. تَصوَّرا أنّه ذَهَبَ إلى بلد الفلسطينيّين وجَعَلَنا نتجوّل مُصطَحِبين معنا تَيساً أسود. والآن جَعَلَ أحد الفلسطينيّين في عداد التلاميذ. وقَبلاً، ذاك الطفل الذي اصطَحَبَه؟ لا تعلمان ما كانت ماهيّة التعليقات؟ وبالضبط، منذ بضعة أيّام، استَقبَلَ فتاة يونانية، هي عبدة هاربة مِن سيّدها الرومانيّ. وثمّ أحاديث تمسّ الحكمة. بالنتيجة، إنَّه يبدو كالمجانين ويجني على نفسه. في بلد الفلسطينيّين أقحَمَ نفسه حتّى في احتفال للسَّحَرَة، داخِلاً في منافسة مباشرة معهم. لقد انتَصَرَ فيها، ولكنّ... إنّ الكَتَبَة والفرّيسيّون يكرهونه بالأساس. فما الذي سيحصل فيما لو تناهت تلك الأمور إلى أسماعهم؟ فواجبكم التدخّل ومنعه...»
«هذا خطير، خطير جدّاً. ولكن كيف كان يمكننا معرفته؟ نحن هنا... وحتّى الآن، كيف يمكننا معرفته؟»
«ومع ذلك فمهمّتكم التدخّل ومنعه. الأُمّ أُمّ، وهي طيّبة للغاية. ينبغي لكم ألّا تتركوه هكذا. لا مِن أجله ولا مِن أجل العالم. وثمّ هذا الإصرار في طرد الشياطين... فإنّ شائعات تدور الآن بأنّ بعلزبول هو الذي يساعده. فتبيّنوا إذا ما كان ذلك يعود عليه بالفائدة. وثمّ! ولكن مَلِك يمكنه أن يصبح إذا كانت الجموع منذ الآن يسخرون منه أو هم يُصدَمون؟»
«ولكن... هل يَفعَل حقيقة هذه الأشياء؟» يَسأَل سمعان غير مُصدِّق.
«اسألاه عن ذلك، هو. وسيقول لكما بأن نَعم، فهو يَصِل إلى حدّ التباهي بها.»
«عليكَ أن تُنذِرنا...»
«بالطبع سوف أفعل! عندما سأرى أمراً جديداً، سوف أُخطِركُما. إنّما أرجوكما! الصّمت الآن ودائماً ومع الجميع!»
«لقد أَقسَمنا على ذلك. متى تَرحَل؟»
«بعد السبت. فلم يَعُد مِن سبب للبقاء هنا. لقد قُمتُ بواجبي.»
«ونحن نشكركَ لذلك. هيه! كنتُ أقول إنّه تغيّر! وأنتَ، يا أخي، لم تكن تريد أن تُصدِّقني... أترى أنّني على حقّ؟» يقول يوسف بن حلفى.
«أنا... أنا ما زلتُ متردّداً في تصديق ذلك. في النهاية يوضاس ويعقوب ليسا غَبيّين. فلماذا لم يقولا لنا شيئاً؟ لماذا لا يتحسّبان للأمر إذا كانت هذه الأمور تَحدُث فعلاً؟» يقول سمعان بن حلفى.
«أيّها الرجل، لن تُهينَني بعدم تصديقكَ كلامي؟!» يُجيب يهوذا غاضباً.
«لا!... ولكن... هذا يكفي. أعذرني إذا ما قلتُ لكَ: سأؤمن حينما أرى.»
«حسناً. قريباً سوف تَرَى وسيكون لزاماً عليكَ أن تقول لي: "كنتَ على حقّ". على كلّ حال، وصلنا إلى بيتكم. أترككم. الله معكم.»
«ليكن الله معكَ، يا يهوذا. و... أَنصِت. أنتَ كذلك لا تَقُل هذا لآخرين. حفاظاً على شرفنا...»
«لن أقوله حتّى للهواء. وداعاً.»
يَدخُل البيت مسرعاً ويَصعَد إلى الشُّرفة حيث مريم، يداها على ركبتيها، تتأمّل السماء المكتظّة بالنجوم، وعلى بريق السراج الصغير الذي أناره يهوذا ليصعد السلّم، تَظهَر دموع تَلمَع على خدَّي مريم.
«لماذا تبكين أيّتها الأُمّ؟» يَسأَل يهوذا باهتمام قَلِق.
«لأنّه يبدو لي أنّ العالم يَعجّ بالفِخاخ أكثر ممّا هي عليه السـماء بالنجوم . فِخـاخ ليسوعي...» ويُمعِن يهوذا النَّظَر إليها بانتباه واضطراب. ولكنّها تُضيف بهدوء: «ولكنّ الذي يعزّيني هو حُبّ التلاميذ... أَحِبّوه كثيراً، يسوعي... أَحِبّوه... هل تريد البقاء يا يهوذا؟ أنا سوف أنزل إلى غرفتي. لقد نامت الآن مريم التي لحلفى بعد تهيئتها الخميرة للغد.»
«نعم، أبقى. حَسن هنا.»
«السلام معكَ يا يهوذا.»
«السلام معكِ يا مريم.»