ج6 - ف87
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
87- (وداع في حبرون)
07 / 03 / 1946
وها هي حبرون وسط غاباتها وحقولها. لقد استَقبَلَت دخول يسوع بصيحات أوشعنا أطلَقَها أوائل مَن رآه، والذين ذَهَبَ بعض منهم لإعلان الحدث في كلّ القرية.
يَهرَع رئيس المجمع، ويهرع الذين جرت عليهم المعجزات العام الماضي وثمّ الوجهاء. وكلّ يريد استضافة الربّ. ولكنّ يسوع يقول شاكراً الجميع: «لا، لن أمكث سوى للوقت الذي أتحدّث فيه إليكم... فلنمضِ إذن إلى بيت المعمدان الفقير والمقدّس. لأحيّيه هو كذلك... إنّه أرض المعجزة. أنتم لا تعلمون ذلك.»
«آه! نحن نعلم، يا معلّم. والذين برئوا هناك هم فيما بيننا!...» يقول البعض.
«تماماً قبل العام الماضي كان أرض المعجزة. كان كذلك للمرّة الأولى منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، عندما أَخصَبَت نعمة الله الأحشاء الجافة لتجعل منها الشجرة لتفّاحة سابقي اللذيذة. وقد كان كذلك منذ اثنين وثلاثين عاماً، عندما قدّستُه بعمليّة سرّية بينما كنّا ما نزال، هو وأنا، ثمرتان تنموان في أحشاء عميقة. وثمّ حينما أَعَدتُ لوالد يوحنّا الكلام. ولكن، لعمليّات المتجسّد غير المولود بعد السرّية، تعود منذ سنتين معجزة عظيمة تجهلونها جميعاً. هل تذكرون المرأة التي كانت تسكن داخل هذا البيت؟...»
«مَن؟ أغليّا؟» يَسأَل البعض.
«هي. لقد أعدتُ لها الحياة، ليس لأحشائها، بل لنفسها التي جفّفتها الوثنيّة والخطيئة، وجعلتُها خصيبة بالاستقامة، بتحريرها ممّا كان يحتجزها، وقد ساعدتني إرادتها الصالحة. أقدّمها لكم كمثال. لا تتعثّروا. الحقّ أقول لكم إنّها تستحقّ أن تُروى كمَثَل ويُقتدى بها، ذلك أنّ قليلين في إسرائيل هُم الذين سلكوا هذا الكمّ مِن السُّبل التي سَلَكَتها هذه الخاطئة الوثنيّة لبلوغ منابع الله.»
«كنّا نظنّها هربت مع عشّاق آخرين... البعض كانوا يقولون إنّها قد تغيّرت، إنّها كانت صالحة... ولكنّنا كنّا نقول: "إنّها نزوة!" وقد كان هناك مَن كان يقول إنّها أتت إليكَ لكي... ترتكب الخطيئة...» يشرح رئيس المجمع.
«لقد أتت إليَّ بالفعل، ولكن لكي تخلص.»
«لقد ارتكبنا خطيئة بالحكم...»
«لهذا أقول لكم: "لا تدينوا".»
«وأين هي الآن؟»
«وحده الله يعلم. في توبة قاسية، بالتأكيد. صلّوا مِن أجل دعمها... أحيّيكَ، يا بيت قريبي وسابقي المقدّس! السلام لكَ! حتّى وإن كنتَ الآن فارغاً ومقفراً، دائماً السلام لكَ، يا بيت السلام والإيمان المقدّس!» يَدخُل يسوع، وهو يُبارِك، إلى الحديقة التي أصبحت بائرة، ويتقدّم وسط الأعشاب التي اجتاحتها. يحاذي ما كان ذات مرّة عريشة أو صفوفاً مِن أشجار الغار والشمشاد المرتّبة المستندة إلى الجدار، والتي هي الآن ركام انتفش باللبلاب وياسمين البر التي تخنقه. يمضي إلى العمق، صوب بقايا ما كان قبراً، ويمكث هناك.
يُشكّل الناس حلقة صامتة حوله.
«أبناء الله، يا شعب حبرون، اسمع!
لكي لا تضطَرِبوا ولا تدخلوا في خطأ الحكم على مخلّصكم كما فعلتم مع الخاطئة، أتيتُ أنا لأثبّتكم وأقوّيكم في الإيمان. أتيتُ لأعطيكم زاد كلمتي لتبقى نوراً فيكم في ساعات الظلمات، ولكي لا يجعلكم الشيطان تفقدون طريق السماء.
ستأتي قريباً ساعات تقول فيها قلوبكم وهي تئنّ كلام مزمور لآساف، المرنّم النبويّ، فتقولون: "اللهمّ لماذا أقصيتَنا على الدوام؟ لماذا استعر غضبكَ على غَنَم مرعاكَ؟" وستتمكّنون حينذاك مِن أن ترفعوا، كحقّ حماية، الفِداء الذي يكون آنذاك قد تمّ، والهتاف: "هذا هو شعبكَ وأنتَ افتديتَه!" لالتماس الحماية ضدّ الأعداء الذين يكونون قد فَعَلوا كلّ الفساد الممكن في قدس الأقداس الحقيقيّ حيث الله يُقيم، كما في السماء، في مسيح الربّ، والذين، بعد أن يكونوا في البداية قد قَتَلوا القدّوس، يَعمَلون بعد ذلك على هدم أسواره: مؤمنيه. أنّهم مُدنِّسو الله ومضطهِدوه بحق، أكثر مِن نبوخذنصّر وأنطيوخوس، وأكثر ممّن سيأتون فيما بعد، سيرفعون أيديهم ليقتلوني في كبريائهم غير المحدود الذي لا يقبل هداية، لا يريد الإيمان، المحبّة، والاستقامة، وكالخميرة في العجين، الذي ينتفخ ويفيض من الوعاء، يُصبِح حصن لأعداء الله.
أيّها الأبناء، اسمعوا! عندما تُضطَهَدون لأنّكم أحببتموني، حصّنوا قلبكم مفكّرين أنّني كنتُ قبلكم المضطهَد. تذكّروا أنّ في حلوقهم الآن هدير صيحة النصر، وأنّهم يهيّئون الرايات لكي تخفق في الهواء ساعة الانتصار، وأنّ على كلّ راية كذبة ضدّي أنا الذي سأبدو المهزوم، المسيء والملعون.
أتهزّون الرأس؟ ألا تصدّقون؟ حبّكم يمنعكم مِن التصديق...إنّ الحبّ لأمر عظيم!... قوّة عظيمة... وخطر عظيم! نعم، إنّه خطر. إنّ صدمة الواقع ساعة الظلمات سيكون عنفها فوق قدرة البشر على القلوب التي يعميها الحبّ الذي لا يكون قد انضبط فيها بشكل كامل. فلا يمكنكم التصديق بأنّني أنا، الـمَلِك، القدير، قد أكون تحت رحمة أناس لا يساوون شيئاً. لن يكون بإمكانكم تصديق ذلك حينئذ، ويُولَد شكّ: "هل كان هو حقّاً؟ وإن كان هو، كيف يمكن أن يُهزَم؟"
اجعلوا قلوبكم أكثر قوّة مِن أجل تلك الساعة! اعرفوا ذلك: "في لحظة" أعداء القدّوس يكسرون الأبواب، مُلقين كلّ شيء على الأرض، ومُضرِمين نار حقد على قدّيس الله؛ يحطّمون خيمة اسم الكلّيّ قدسه ويُلقونها أرضاً، قائلين في قلوبهم: "فلنوقف على الأرض كلّ أعياد الله، ذلك أنّ كون الله فيما بينكم عيد هو، قائلين: "لا يعد أحد يرى له راية، ولا يَعُد هناك نبيّ يعرفنا على حقيقتنا". ولكن سريعاً، بأكثر سرعة أيضاً، الذي عيّن حدود البحر، والذي سحق في المياه الرؤوس النجسة للتماسيح المكرّسة وعابديها، الذي فجّر الينابيع وأسال السيول وجفّف الأنهار الدائمة، الذي أوجد النهار والليل، الصيف والربيع، الحياة والموت، الذي أوجد كلّ شيء، سيُقيم مسيحه، كما قيل، وسيكون الـمَلِك. الـمَلِك للأبد. والذين يبقون ثابتين في الإيمان يملكون معه في السماء.
تذكّروا هذا. وعندما سترونني مرفوعاً ومُحتَقَراً، لا تتزعزعوا. وعندما تُرفَعون وتُحتَقَرون فلا تتزعزعوا.
آه! أيّها الآب! يا أبتاه! أرجوكَ باسم الذين تحبّهم وأحبّهم أنا. استجب لكلمتكَ، استمع إلى الذي يُقدّم نفسه كفّارة. لا تُسلِّم إلى الحيوانات نفوس الذين يسبّحونكَ بحبّهم لي، لا تنسَ إلى الأبد نفوس صغاركَ. أيّها الإله الصالح، حافظ على مواعيدكَ لأنّ الأماكن المظلمة في الأرض هي جحور ظلم منها يَخرُج الهلع لإخافة صغاركَ. أيّها الآب! آه! يا أبتاه! لا يمضينّ المتواضع الذي رجاؤه فيكَ وهو في الخزي! وليسبِّح الفقير والمعوز اسمكَ مِن أجل العون الذي تمدّه به!
قُم يا الله! أرجوكَ مِن أجل هذه الساعة، مِن أجل تلك الساعات! قُم يا الله! لأجل تضحية يوحنّا وقداسة أحباركَ وأنبيائكَ! لأجل تضحيتي، يا أبتي، احمِ هذا القطيع الذي هو قطيعكَ وقطيعي! امنحه النور في الظلمات، الإيمان والقوّة في مواجهة المضلِّلين! امنحه ذاتك أيّها الآب! امنحه ذاتنا، الآن، غداً وإلى الأبد وحتّى الدخول في ملكوتكَ! لنكن في قلوبهم حتّى اللحظة التي يكونون فيها حيث نحن إلى أبد الآبدين. وليكن كذلك!»
وبما أنّه لم يكن مِن معجزات تُجتَرَح، يمرّ يسوع وسط صفوف الجمع المنتشي ويُبارِك مستمعيه الواحد تلو الآخر. يعاود المسير تحت الشمس العالية حيث أوراق الأشجار تجعلها محتملة وكذلك نسيم الجبل. في الخلف، يتحدّث الرُّسُل جماعة فيما بينهم.
يتحدّثون دون توقّف. «يا لهذه الخُطَب! تجعل المرء يرتجف!» يقول برتلماوس.
«ولكن كم هي حزينة! تجعل المرء يبكي!» يتنهّد أندراوس.
«هيه! إنّه وداعه. أنا على حقّ. هو ماض حقيقة إلى العرش.» يهتف يهوذا الاسخريوطيّ متعجّباً.
«العرش؟ هوم! يبدو لي أنّه يتحدّث عن اضطهاد وليس عن مجد!» يقول بطرس.
«ولكن لا ! زمن الاضطهادات انتهى! آه! أنا سعيد!» يهتف الاسخريوطيّ.
«أفضل لكَ! أنا أودّ لو أكون ما أزال في الزمن الذي كنّا فيه غير معروفين، منذ سنتين... أو في "المياه الحلوة"... أنا خائف مِن الأيّام الآتية...» يقول يوحنّا.
«لأنّ لكَ قلب شادن (ضعيف)... أمّا أنا فلقد أصبحتُ أرى المستقبل... مَواكِب!... مُنشِدين!... شعباً ساجداً!... إكرام الأمم الأخرى!... آه! قد حانت الساعة! جِمال مديان وجموع تأتي مِن كلّ مكان... ولن يكونوا المجوس الثلاثة المساكين... بل كثرة... إسرائيل عظيمة مثل روما... متجاوزة أمجاد المكابيّين، وتلك التي لسليمان... كلّ الأمجاد... وهو، مَلِك الـمُلوك... ونحن أصدقاؤه... يا الله تعالى! مَن يمنحني القوّة في تلك الساعة؟... ليت أبي كان ما يزال حيّاً!...» يهوذا متحمّس. وجهه يشعّ عندما يَذكُر المستقبل الذي يحلم بعيشه…
يسوع متقدّم جدّاً. ولكنّ الـمَلِك المستقبليّ بحسب يهوذا، يتوقّف، وإذ كان عَطِشاً، يضمّ يديه ليأخذ الماء مِن جدول ويشرب... كطير الغابة أو الحَمَل أثناء الرعي. ثمّ يلتفت ويقول: «هنا ثمار برّيّة. فلنقطف منها لنخفّف مِن جوعنا...»
«هل أنتَ جائع يا معلّم؟» يَسأَل الغيور.
«نعم» يُقرّ يسوع بتواضع.
«بالطبع! أمس مساء أعطيتَ كلّ شيء لذاك البائسّ!» يهتف بطرس.
«ولكن لماذا لم تشأ التوقّف في حبرون؟» يَسأَل فليبّس.
«لأنّ الله يدعوني إلى مكان آخر. أنتم، لا تعلمون.»
يَرفَع الرُّسُل أكتافهم ويشرعون بقطف الثمار الصغيرة التي ما تزال خضراء مِن على الأشجار البرّية المبعثرة على سفوح الجبال. يبدو أنّها تفّاحات برّية صغيرة. ويتغذى بها مَلِك الـمُلوك ورفاقه الذين يُكشِّرون بسبب حمازة (حموضة) الثمرة البرّية والخضراء. يسوع، مستغرقاً، يأكل ويبتسم.
«تكاد تثير سخطي!» يصرخ بطرس.
«لماذا؟»
«لأنّه كان بإمكانكَ أن تكون بحال جيّدة وتُرضي الناس في حبرون، وأنتَ، على العكس، تؤذي بطنكَ وتضرس أسنانكَ بهذا السمّ المرّ والأكثر حموضة مِن العُشب بالأملاح!»
«آه! لديَّ أنتم الذين تحبّونني! وعندما سأُرفَع وأعطش وأجوع، سأفكّر آسفاً بهذه الساعة، بهذا الطعام، بكم أنتم الذين معي الآن، والذين حينذاك...»
«ولكن حينذاك لن تعطش ولن تجوع! فالـمَلِك له كلّ شيء! وسنكون لكَ أقرب أيضاً!» يهتف الاسخريوطيّ.
«أنتَ تقول ذلك.»
«وهل تظنّ أنّ ذلك لن يكون، يا معلّم؟» يَسأَل برتلماوس.
«لا يا برتلماوس. عندما رأيتُكَ تحت التينة، كانت ثمارها خضراء لدرجة أنّ لو قطفها أحد ما لاحترق لسانه وحلقه... إنّما ثمار التين الخضراء وثمار هذه الأشجار ستكون أشهى مِن العسل مقارنة مع ما سيكون عليه أمر رفعي... هيّا بنا...» ويُعاوِد المسير أوّلاً، في المقدّمة، متأمّلاً، بينما يُثرثِر الاثنا عشر في الخلف دون توقّف.