ج2 - ف3
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
3- (عِماد يسوع في نهر الأردن)
03 / 02 / 1944
كلام يسوع:
«ما كَتَبتِهِ في 30 كانون الثاني (يناير) يمكنه أن يَمنَح الفرصة لأصحاب الشكّ أن يتمادوا بـــ "لكن" و"إذاً" التي لهم. وأنا مَن سيجيب بدلاً عنكِ. لقد كَتَبتِ: "عندما أرى هكذا تتبدّد قواي الجسديّة وخاصّة القلبيّة". وحتماً سوف يقول "علماء المستحيل": "هذا دليل على أنّ ما يحدث معها بشريّ، لأنّ فائق الطبيعة يَمنَح دائماً القوّة وليس الضعف." فليُفَسِّروا لي إذاً لماذا أصحاب الانخطافات الكبيرة، بعد انخطاف تَعَدّوا خلاله القُدرات البشريّة بعد اختفاء الألم وثِقل المادّة الناجمة عن الجراح الداخليّة والنزوف الخطيرة، مُستمتِعِين بغبطة تجعلهم يَظهَرون رائعين حتّى بدنيّاً، فإنّهم، منذ توقّف الانخطاف، يَبقون مغشيّاً عليهم على الأرض لدرجة تدعو للاعتقاد بأنّ أرواحهم قد انفَصَلَت عنهم. وليُفَسِّروا لي كذلك لماذا، بعد ساعات مِن النزاع الـمُريع الذي هو صورة عن نزاعاتي، مثل نزاع خادمتي تيريزيا، وكما هي نزاعات القدّيسة جيمّا ونفوس أخرى كثيرة جَعَلَها حبّي وحبّها أهلاً لأن تحيا آلامي، وهؤلاء الأشخاص يستعيدون أو كانوا يستعيدون قوّة وتوازناً بدنيّين لا يمتلكهما أكثر الناس سلامة.
أنا سيّد الحياة والموت والصحّة والمرض. إنّني ألجَأ إلى خُدّامي وفقاً لمشيئتي، مثل خيط جميل يضحي لعبة بين يديّ. المعجزة فيكِ هي إحدى المعجزات في هذا المضمار. ففي الحالة البدنيّة التي أنتِ فيها، حالة تدوم بشكل عجائبيّ، كونكِ تستطيعين الوصول إلى هذه الغبطة دون أن تموتي فيها، مُتَحَمِّلة هذه الانتقالات بينما أنتِ في حالة مِن الوَهن يمنع آخرين حتّى مِن التفكير بالشكل الأكثر بدائيّة. المعجزة تَكمن في هذه الحيويّة التي تعود إليكِ في هذه الأوقات كما عادت في الأوقات التي كَتَبتِ فيها إملاءاتي أو إملاءات الأرواح الأخرى التي تحمل إليكِ كلامها السماويّ. المعجزة في هذه الاستعادة الحاصلة للقوّة، بعد أن استَهلَكَت الفرحة تلك البقيّة مِن الحيويّة التي تبقى لكِ للكتابة. ولكنّ هذه الحيويّة أنا الذي أنقلها إليكِ. إنّها مثل الدم الذي يَعبُر مِنّي إلى شرايينكِ الخَرِبَة، مثل موجة تصبّ على الشاطئ وترويه، فيبقى الشاطئ مرويّاً طالما الموجة تُبلّله، ثمّ يجفّ مِن جديد في انتظار موجة أخرى. مثل عمليّة تُفرّغكِ مِن دمي ريثما تأتي عمليّة نقل جديدة.
أنتِ، لِعِلمكِ، لستِ سوى لا شيء. إنّكِ كائن مسكين في حالة نزاع، وتَعمَلين لأنّني أنا أريد ذلك لغاية في نفسي. أنتِ مخلوقة مسكينة لا قيمة لكِ إلا بحبّكِ، ليست لكِ استحقاقات أخرى. حُبّ ورغبة في أن تكوني لغيركِ سبب حُبّ لإلهكِ. هذا هو الذي يُثَمِّن وجودكِ، وحُسن التفاني هو الذي يحافظ على حياتكِ، بينما بشريّاً كان المفروض أن يتحلّل كيانكِ منذ زمن في الموت. وشعوركِ بأنّكِ عُدتِ "شلواً" (حطاماً) كما تقولين، عندما تَوَقَّفتُ عن اصطحابكِ إلى حقول التأمّلات وعن الحديث معكِ ، لهو دليل لكِ وللآخرين على أنّ كلّ ما يحصل إنّما يحصل بإرادتي فقط. وإذا فَكَّرَ أحد بشريّاً أنّني بنفس الإرادة وبنفس الحبّ كنتُ سأستطيع شفاءكِ، وأنّها كانت الطريقة الـمُثلى للبرهان عن حبّي وحُسن التفاتي، أُجيب أنّني حافَظتُ دائماً على حياة خُدّامي طالما ارتأيتُ وجوب استمرار رسالتهم، ولكنّني لم أُؤَمِّن لهم قطّ حياة بشريّة سعيدة، لأنّ رسالتي إنّما تتحقّق فيَّ وبواسطة الألم، وأنّ، مِن ناحية أخرى، ليس لخُدّامي سوى رغبة واحدة مُشابِهة لرغبتي: التألّم مِن أجل الخلاص. فيجب إذن عدم التحدّث عن "تشتّت القُوى"، إنّما القول: "بعد أن يخفي صلاح يسوع حالتي في العاهة لـمَقاصِده ولفرحي، أعود لما يمنحني صلاحه أن أكون: 'المصلوبة بحبّه ولأجل حبّه'."
والآن انطَلِقي قُدُماً، بطاعة، مُفعَمَة بالحبّ.»
في ذات التاريخ: 03 / 02 / 1944
أرى سهلاً غير مأهول ولا نبات فيه. لا حقول مزروعة، بل بعض النباتات القليلة المتفرّقة هنا وهناك على شكل طاقات، مثل تجمّعات نباتيّة حيث في الأرض بعض العُمق، وهي هنا أقلّ جَدباً. هذه الأرض القاحلة وغير المزروعة هي على يميني، بينما الشمال خلفي، فهي بالنسبة لي تمتدّ باتّجاه الجنوب.
بالمقابل، إلى يساري أرى نهراً ضفّتاه منخفضتان، وهو كذلك يجري مِن الشمال إلى الجنوب. ومِن خلال حركة المياه البطيئة جدّاً أُدرِك أنّ ليس لـمَسيله ميول شديد، وأنّ هذا النهر يجري بحسب انخفاض السهل. فالمجرى هو بالكاد كاف ليمنَع ركود المياه وتَشَكُّل مستنقع. المياه غير عميقة: إنّه مَوقِع يسمح برؤية العُمق. حسب تقديري فإنّ عُمقه لا يتجاوز المتر أو المتر ونصف المتر على الأكثر. أظُنُّ أنّ عَرضه يبلغ حوالي العشرين متراً. أنا لا أملك الدقّة مِن خلال النَّظَر، فتقديراتي تقريبيّة. ومع ذلك فالمياه بلون اللازورد المائل قليلاً للاخضرار حول الضفّتين، حيث رطوبة الأرض تُحدِث شريطاً أخضراً كثيفاً يُمَتِّع العين التَّعِبة مِن كآبة انتشار الحجارة والرمال الممتدّة بغير حدود.
ذلك الصوت الداخليّ الذي حَدَّثتُكم عنه، والذي يُفسِّر لي ما يجب ملاحظته ومعرفته، يُنبّهني إلى أنّني أرى وادي الأردن. أُسمّيه وادياً لأنّها التسمية الطبيعيّة لموضع مَسيل نهر، إنّما هنا، فتبدو لي هذه التسمية غير دقيقة، لأنّ كلمة وادي تَفتَرِض وجود مُرتَفَعات في الجوار، وأنا لستُ أرى أثراً لذلك. باختصار، أجد نفسي قرب نهر الأردن، وهذه المساحة الخاوية التي أراها عن يميني هي صحراء يهوذا.
إذا كان الكلام عن صحراء صحيحاً في تعيين هذا المكان غير المأهول والذي لا أثر فيه لعمل إنسان، فهو أقلّ تَناسُباً مع الفكرة التي نُكَوِّنها عن الصحراء. فهنا لا كثبان صحراويّة ملموسة، إنّما فقط أرض عارية مزروعة حجارة وفَضَلات، كما هي أراضي الطمي بعد الفيضان.
في البعيد، هناك مُرتَفَعات. أمّا قُرب نهر الأردن فسلام عظيم، بيئة خاصّة تتعدّى بيئة مَنظَر ريفيّ عاديّ، شيء يُذَكِّر بما يُخامِر الإحساس على ضفاف بحيرة ترازيمين (Trasimène). إنّه مكان يوحي بتحليق ملائكيّ وأصوات سماويّة. لا أُجيد التعبير عما أَختَبِره، إنّما لديَّ إحساس بأنّني أجد نفسي في مكان يُحادِث الروح.
أثناء هذه المشاهدات، أرى المشهد المليء بالناس على طول الضفّة اليمنى للأردن -اليمنى بالنسبة لي- هناك الكثير مِن الرجال بملابس مختلفة. يبدو البعض مِن عامّة الشعب، وآخرون مِن الأغنياء، وهؤلاء يُوجَد منهم عدد لا بأس به، ويبدو البعض مِن الفرّيسيّين بثيابهم المزيَّنة بالأهداب والشرائط.
في الوسط، رجل يقف على صخرة، وقد عرفتُهُ مِن النظرة الأولى: إنّه المعمدان، هذا على الرغم مِن أنّني أراه للمرّة الأولى. إنّه يتحدّث إلى الجمع، أؤكّد أنّ عِظتة تنقصها النعومة. لقد دعا يسوع يعقوب ويوحنّا "ابنيّ الرعد". ولكن ماذا يمكن أن نُطلِق على هذا الخطيب الـمُندَفِع الوَثَّاب؟ يمكن القول عن يوحنّا المعمدان بأنّه ضربة صاعقة، سيل جارف، هزّة أرضيّة، على ما هو عليه مِن الجدّية والصّرامة في حديثه وحركاته.
إنّه يتكلّم عن مجيء مَسيّا ويحثّ السامعين على تهيئة قلوبهم بتخليصها مِن كلّ ما يُثقِلها وبتقويم أفكارهم. ولكنّه كلام عنيف وقاسٍ. فليس للسابِق يد يسوع الليّنة لمعالجة جراحات القلوب. إنّه طبيب يعرّيهم ويَنبش ويُشذّب دون رحمة.
بينما أنا أَسمَعهُ -لا أنقل كلامه لأنّه كلام الإنجيليّين ذاته، ولكنّه يأتي في حديث دافِق- أرى يسوع يتقدّم على طول درب على امتداد الحافّة الـمُعشّبة والظليلة التي تحاذي نهر الأردن. هذا السبيل القرويّ، درب عرقوب أكثر منه طريق، يبدو أنّ القوافل والمسافرين قد خَطّوه على مدى سنوات وقرون بسيرهم عليه ليَصِلوا إلى موقع يقلّ فيه عمق المجرى فيسمح بالعبور. ويستمرّ الدرب على الضفّة الأخرى مِن النهر ليختفي في اخضرار الجانب الآخر.
يسير يسوع بمفرده، ببطء، وبينما هو يتقدّم يَصِل خلف يوحنّا. يتقدّم دون جَلَبَة وهو يستمع إلى الصوت المدوّي، صوت وَاعِظ التوبة في الصحراء، كما لو كان يسوع كذلك واحداً مِن الأشخاص الكثيرين الآتين إلى يوحنّا ليَعتَمِدوا ويستعدّوا بالتطهير لقدوم مَسيّا. لا شيء يميّز يسوع عن باقي الناس. يبدو بلباسه وكأنّه مِن عامّة الناس، سيّد بجمال سماته، إنّما لا إشارة إلهيّة تُميّزه عن الجمع.
حينئذ يبدو يوحنّا وكأنّه قد أَحَسَّ بفيض روحانيّ خاصّ. يَلتَفِت ويتعرّف على الفور على مَنبَع هذا الفيض. فيهبط مسرعاً مِن على الصخرة التي كان يستخدمها كَمِنبَر، ويتوجّه طَلِق المحيّا صوب يسوع الذي وقف على بُعد أمتار مِن مجموعة مِن الناس، ويتّكئ على جذع شجرة.
يسوع ويوحنّا، كلّ منهما يُمعِن النَّظَر في الآخَر لحظة، يسوع بنظرته اللازورديّة اللطيفة للغاية، ويوحنّا بعينه القاسية السوداء القاتمة والـمُفعَمة بريقاً. يُشاهَد الإثنان وقد تَقارَبا، الواحد نقيض الآخر. كِلاهما عظيم -وهذا هو وجه الشّبه الوحيد- إنّما هما مختلفان بكلّ ما تبقّى. فيسوع أشقر، ذو شعر طويل ممشّط، سِحنته بيضاء عاجيّة وعيناه لازورديّتان، وثوبه بسيط إنّما مُوقَّر. بينما يوحنّا كثيف الشعر أسوده، يَنسَدِل على كتفيه متدرّجاً، ولحيته سوداء محلوقة بشكل ناعم، وهي تغطّي معظم وجهه ولكنّها لا تمنع مِن اكتشاف تقعّر خدّيه بفعل الصوم، وعيناه سوداوان مُنفَعِلَتان، بشرته برونزيّة بفعل الشمس وتقلّبات الجوّ، يغطّيها شعر كثيف، نصف عار، ثوبه مِن وبر الإبل، محصور عند الخصر بحزام مِن جلد، وهو يغطّي جذعه وبالكاد يَنزل إلى ما تحت خاصرتيه النحيلتين، تاركاً أضلاعه اليمنى مكشوفة، وقد غَطَّت الأضلاع قطعة قماش وحيدة لستر الجلد الذي لوَّحَه الجوّ. ولدى مقابلة بعضهما تحسبهما مُتوَحِّشاً يُقابِل ملاكاً.
وبعد أن يُمعِن يوحنّا نَظَرَه الثاقب به يهتف: «هوذا حَمَل الله. كيف يحصل هذا أن يأتي ربّي إليَّ؟»
فيُجيبه يسوع بهدوء: «لإتمام شعائر التوبة.»
«أبداً يا سيّدي. أنا مَن يجب أن آتي إليكَ لأتقدَّس، وأنتَ تأتي إليَّ؟»
وبينما يضع يسوع يده على رأس يوحنّا المنحني أمامه يُجيبه: «دعني الآن وما أفعل، فهكذا يُحسِن بنا أن نُتمّ كلّ برّ، وأن تقود شعائركَ الناس إلى السرّ العظيم، وأن يُعلَن لهم أن الأُضحية هي الآن في هذا العالم.»
يتأمّله يوحنّا بعين لَطَّفَت نظرتها دَمعة، ويسبقه إلى الضفّة، ويَنزَع يسوع معطفه وجلبابه، ومُحتَفِظاً بسروال له قصير، ينزل إلى الماء حيث يُوجَد يوحنّا، ويُعمّده يوحنّا بسكب ماء النهر على رأسه بواسطة فنجان يتدلّى مِن حزامه، يبدو وكأنّه صَدَفة أو نصف قَرعَة مُفَرَّغَة ومجَفَّفَة.
يسوع هو الحَمَل، بكلّ ما في هذه الكلمة مِن معنى. الحَمَل ببشرته البيضاء وبساطة سِماته ونعومة ولُطف نظرته.
بينما يَصعَد يسوع إلى الضفّة، وبعد أن يرتدي ثيابه يختلي للصلاة، ويُظهِره يوحنّا للجميع وهو يَشهَد أنّه تَعَرَّف عليه بإشارة محدّدة مِن روح الله تشير بشكل لا يَحتَمل الخطأ بأنّه هو الـمُخَلِّص.
أمّا أنا فقد أُخِذتُ بمنظر يسوع الذي يصلّي، ولم أعد أرى سوى هذا الوجه الذي بَرَزَ على أرض الضفّة الخضراء تلك.