ج10 - ف10
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
10- (يسوع يَظهَر لتلميذيّ عِمّاوس)
05 / 04 / 1945
على طريق جبليّة، رَجُلان مختلفيّ العمر، يسيران بخطى سريعة وهما يديران ظهرهما إلى أورشليم، الّتي تختفي مرتفعاتها أكثر فأكثر خلف القمم والوديان الأخرى الّتي تتوالى بتموّجات مستمرّة.
يتبادلان الحديث، والأكبر سنّاً يقول للآخر، الّذي يبدو أنّه في الخامسة والثلاثين مِن العمر على الأكثر: «صدّق أنّه كان مِن الأفضل التصرّف هكذا. أنا لديّ عائلة، وأنتَ أيضاً لديكَ عائلة. الهيكل جادّ. إنّه يريد حقّاً إنهاء المسألة. هل هو على صواب؟ هل هو على خطأ؟ لا أدري. أعلم أنّه واضح جدّاً عزمه على وضع حدّ تجاه كلّ ذلك وبشكل نهائيّ.»
«بل قل تجاه هذه الجريمة يا سمعان. أعطها اسمها الحقيقيّ، لأنّها على الأقلّ جريمة.»
«الأمر مشروط. محبّتنا تحرّضنا ضدّ السنهدرين. لكن ربّما... مَن يدري!»
«إطلاقاً. فالمحبّة تُنير، وهي لا تقود إلى الخطأ.»
«السنهدرين كذلك، فالكَهَنَة والرؤساء يحبّون أيضاً. إنّهم يُحبّون يهوه، الّذي أحبّه إسرائيل بأسره منذ أن أُقيم العهد بين الله والآباء. فإذاً المحبّة هي نور حتّى بالنسبة إليهم ولا تحمل على الخطأ!»
«محبّتهم ليست محبّة للربّ. نعم. إسرائيل لبث على هذا الإيمان منذ أجيال. إنّما قل لي: أيمكنكَ القول أنّه ما يزال إيماناً ما يقدّمه لنا رؤساء الهيكل، الفرّيسيّون، الكَتَبَة، الكَهَنَة؟ هل ترى؟ أنّهم بالذهب المكرّس للربّ، وذلك أصبح معلوماً، أو على الأقل هناك شكّ بأنّه كان يحدث، أنّهم بالذهب المكرّس للربّ قد دَفعوا للخائن، والآن هم يدفعون للحرّاس. دَفعوا للأوّل ليخون المسيح، وللآخرين كي يكذبوا. آه! لا أدري كيف اكتفت القدرة الأبديّة بزعزعة الأسوار وتمزيق حجاب الهيكل! أقول لكَ إنّني كنتُ أودّ أن يُدفَن غير المستنيرين الجدد تحت الأنقاض. كلّهم!»
«كِلْيوباس! ستكون كلّكَ انتقاماً.»
«أكون انتقاماً. إذ، على افتراض أنّه لم يكن سوى نبيّ، هل مِن المسموح قتل بريء؟ لأنّه كان بريئاً! أرأيتَه يوماً يرتكب إحدى الجرائم الّتي اتُّهِم بها لقتله؟»
«لا. ولا واحدة. ومع ذلك فقد ارتكبَ خطأ.»
«ما هو يا سمعان؟»
«خطأ عدم إظهار قدرته مِن أعلى صليبه، لتثبيت إيماننا ولمعاقبة الكفرة الـمُدَنِّسين. كان عليه أن يقبل التحدّي وينـزل عن الصّليب.»
«لقد فعل أكثر مِن ذلك. لقد قام مِن الموت.»
«أهذا صحيح؟ كيف قام؟ بروحه وحده أم بالروح والجسد؟»
«إنّما الروح أبديّ! لا يحتاج إلى أن يقوم!» يهتف كِلْيوباس.
«أعلم ذلك أنا أيضاً. ما كنتُ أقصده: إذا ما كان قد قام بطبيعته الإلهيّة المتفرّدة، الأقوى مِن كلّ مكائد الإنسان. لأنّ روحه قد عرف الآن المكائد عبر إرهاب الإنسان. لقد سمعتَ، أليس كذلك؟ مرقس قال بأنّه في جَثْسَيْماني، حيث كان يذهب ليصلّي عند الصخرة، كان هناك دم في كلّ مكان. ويوحنّا، الّذي تحدّث مع مرقس، قال له: "لا تجعل هذا الموضع يُداس لأنّ فيه دماً عَرِقَه الإنسان-الله". فإذا كان قد عَرِقَ دماً قبل أن يُعَذَّب، فلا بدّ أنَّه كان خائفاً مِن التعذيب!»
«يا لمعلّمنا المسكين!...» يصمتان حزينيَن.
يسوع ينضمّ إليهما ويسألهما: «عمّن كنتما تتحدّثان؟ في السكون كنتُ أسمع مقاطع مِن كلامكما. مَن قُتِل؟» يسوع مُحتَجِب تحت المظهر الـمُتواضع لمسافر فقير مستعجل.
الاثنان لا يتعرّفان إليه.
«أأنتَ مِن منطقة أخرى يا رجل؟ ألم تتوقّف في أورشليم؟ إنّ ثوبكَ الـمُغبرّ ونعليكَ على هذا الوضع يدلاّن على أنّهما لمسافر نشيط.»
«إنّني كذلك. آتي مِن بعيد جدّاً...»
«إذن لا بدّ أن تكون متعباً. وهل أنتَ ذاهب لمكان بعيد؟»
«بعيد جداً. أبعد بعد مِن المكان الّذي أتيتُ منه.»
«هل أنتَ في رحلة عمل؟ تجارة؟»
«عليَّ شراء عدد هائل مِن القطعان للسيّد الأعظم. عليَّ أن أجوب العالم لاختيار نعاج وحملان، وعليَّ أيضاً الذهاب بين القطعان البرّية، والّتي ما أن تُروَّض، ستصبح أفضل مِن تلك الّتي هي ليست برّية في الوقت الحاضر.»
«عمل صعب. وهل تابعتَ طريقكَ مِن دون أن تتوقف في أورشليم؟»
«لماذا تسألاني ذلك؟»
«لأنّكَ تبدو الوحيد الّذي يجهل ما حدث فيها خلال هذه الأيّام.»
«ما الّذي حدث؟»
«إنّكَ تأتي مِن بعيد ولذلك ربّما لا تعلم. على الرغم مِن أنّ طريقتكَ في الكلام تدلّ على أنّكَ مِن الجليل. لذا، حتّى لو كنتَ خادم مَلِك أجنبي أو ابن جليليّين مغتربين، فعليكَ أن تعرف، إذا كنتَ مختوناً، أنّ نبيّاً عظيماً ظهر منذ ثلاثة أعوام في وطننا، اسمه يسوع الناصريّ، قادر بالقول وبالفعل أمام الله وأمام الناس، والّذي كان يمضي واعظاً عبر كلّ البلد. وكان يقول عن نفسه إنّه المسيح. أقواله وصنائعه كانت تشير حقّاً إلى أنّها مِن ابن الله، كما كان يقول عن نفسه. إنّما فقط مِن ابنٍ لله. كلّ سماء... الآن أنتَ تعلم لماذا... إنَّما هل أنتَ مختون؟»
«أنا البِكر ومُكَرَّس للربّ.»
«إذاً تعرف دِيْننا؟»
«لا أجهل مقطعاً منه. أعرف الوصايا والممارسات. الهلاشا. الـمِدراشيم والهجّادا أعرفها كما أعرف عناصر الهواء، الماء، النار والنور، والّتي هي أوّل ما يُدرِكه الذكاء، الغريزة، حاجات الإنسان الّذي وُلِدَ للتوّ.»
«حسناً، في هذه الحالة أنتَ تعلم أنّ إسرائيل كان قد وُعِدَ بالمسيح، إنّما كمَلِك قويّ يوحّد إسرائيل. أمّا هو، فعلى العكس، لم يكن كذلك...»
«كيف إذاً؟»
«هو لم يكن يتطلّع إلى سلطان أرضيّ. بل كان يعلن نفسه مَلِكاً لمملكة روحيّة وأبديّة. هو لم يُوَحِّد، بل على العكس، فقد قَسَّم إسرائيل، لأنّه الآن منقسم بين الّذين يؤمنون به والّذين يقولون إنّه شرير. في الحقيقة، هو لم يملك قماشة مَلِك، لأنّه لم يكن يريد سوى الوداعة والمغفرة. وكيف يمكن الهيمنة والانتصار بهذين السلاحين؟...»
«وإذن؟»
«وإذن... قبض عليه رؤساء الكَهَنَة وشيوخ إسرائيل وحكموا أنّه مستوجب الموت... متّهمينه، حقّاً، بجرائم لم تكن حقيقيّة. إنّ خطأه الوحيد هو أنّه كان صالحاً للغاية، صارماً للغاية...»
«إذا كان صالحاً للغاية، فكيف أمكنه أن يكون صارماً للغاية؟»
«قد أمكنه ذلك، لأنّه كان صارماً للغاية بقول الحقّ لرؤساء إسرائيل، وصالحاً للغاية بامتناعه عن فِعل معجزات موت ضدّهم، صاعقاً أعداءه الظالمين.»
«هل كان بقسوة المعمدان؟»
«حسناً... لا أستطيع الجزم. كان يوجّه انتقادات قاسية، إلى الكَتَبَة والفرّيسيّين، خصوصاً في الآونة الأخيرة، وكان يتوعّد جماعة الهيكل باعتبارهم موسومين بغضب الله. إنّما، إذا كان أحد ما خاطئاً وتاب، وإذا ما كان يرى في قلب ذلك الخاطئ توبة حقيقيّة، لأنّ الناصري كان يقرأ القلوب بأفضل مِن كاتب يقرأ نصّاً، حينئذ كان أكثر وداعة مِن أُمّ.»
«وهل سمحت روما بأن يُقتَل بريء؟»
«بيلاطس حَكَم عليه... لكنّه لم يكن يريد ذلك، وكان يقول عنه "بارّاً". إلاّ أنّهم هدّدوه بأن يشكوه لقيصر، فخاف. الخلاصة أنّه حُكِم عليه بالصّلب ومات على الصليب، وهذا، بالإضافة إلى الخوف مِن السنهدرينيّين، جعلنا نُحبط كثيراً. لأنّنا أنا كِلْيوباس بن كِلْيوباس، وهو سمعان، كِلانا مِن عِمّاوس، ونحن قريبان، لأنّني زوج ابنته الكبرى، كنّا تلميذَيّ النبيّ.»
«والآن لم تعودا كذلك؟»
«كنّا نأمل بأنّه سيكون هو مَن يحرّر إسرائيل وبأنّه أيضاً سوف يثبّت كلامه بمعجزة. على العكس!...»
«أيّ كلام كان قد قاله؟»
«لقد قلنا لكَ بأنّه قال: "أتيتُ إلى مملكة داود. أنا الـمَلِك المسالم"، وهلمّ جَرّا. وكان يقول: "تعالوا إلى الملكوت"، إنّما بعد ذلك لم يعطنا الملكوت. وكان يقول: "سأقوم مِن الموت في اليوم الثالث". الآن هو اليوم الثالث منذ أن مات، وحتّى إنّ اليوم الثالث انتهى، لأنّ الساعة التاسعة قد انقضت وهو لم يقم. بعض النسوة والحرّاس يقولون بأن نعم، لقد قام. إنّما نحن لم نره. الآن الحرّاس يقولون بأنّهم قالوا ذلك لتبرير سرقة الجثمان الّتي قام بها تلاميذ الناصريّ. إنّما التلاميذ!... كلّنا تركناه خوفاً حين كان حيّاً... وبالتأكيد نحن لم نسرقه الآن وهو ميت. والنسوة... مَن يصدقهنّ؟ هذا ما كنّا نتكلم عنه. وكنّا نريد أن نعرف إذا كان يقصد أنّه سيقوم فقط بالروح وقد عاد إلهيّاً، أم إنّه سيقوم بالجسد أيضاً. النسوة يقلن إنّ الملائكة -لأنهنّ يقلن إنهنّ رأين أيضاً الملائكة بعد الزلزال، وذلك ممكن، لأن أبراراً خرجوا مِن القبور يوم الجمعة- يقلن إنّ الملائكة قد قالوا بأنّه كما لو لم يمت أبداً. وهكذا بالفعل ما بدت كيفيّة رؤية النسوة إيّاه. إنّما اثنان منّا، رئيسان، ذهبا إلى القبر. كان فارغاً، كما قالت النسوة، ولم يروه هناك، ولا في أيّ مكان آخر. وذلك سَبَّب لنا حزناً عظيماً لأنّنا ما عدنا نعرف بماذا نفكّر!»
«آه! كم أنتما ساذجان وعَصيّان على الفهم! وكم أنتما بطيئان في الإيمان بكلام الأنبياء! أليس كلّ ذلك سبق أن قِيل؟ إنّ خطأ إسرائيل هو هذا: إنّه أساء تفسير مَلَكيَّة المسيح. لذلك لم يؤمنوا به. لذلك خافوه. لذلك تشكّان به الآن. في الأماكن المرتفعة، في الأماكن المنخفضة، في الهيكل وفي القرى، في كلّ مكان كان الناس يفكّرون بمَلِك تبعاً للطبيعة البشريّة. إنّ إعادة بناء مملكة إسرائيل لم تكن محدودة في فِكر الله، كما كانت في فكركم، لا في الزمن، ولا في المدى ولا في الوسائل.
ليس في الزمن: فكلّ الممالك، حتّى الأقوى، ليست أبديّة. تذكّروا الفراعنة الأقوياء الّذين اضطَهَدوا العبرانيّين أيّام موسى. كم سلالة حاكمة انقضت، ولم يبقَ منها سوى مومياءات بلا نَفْس تقبع في قعر النواويس السرّية! وتبقى ذكرى، إن ما زالت باقية، مِن سلطانهم الّذي لساعة، وحتّى أقلّ، إذا ما قسنا عصورهم بالزمن الأبديّ. أمّا هذا الملكوت فأبديّ.
في المدى: كان يُقال. مملكة إسرائيل، لأنّ أصل الجنس البشريّ انحدر مِن إسرائيل؛ لأنّه يمكن القول إنّ في إسرائيل، بِذار الله؛ وهكذا، بقولنا إسرائيل، كان المقصود: مملكة الّذين خلقهم الله. لكنّ مَلَكيَّة الـمَلِك المَسيّا ليست محدودة في امتداد فلسطين، بل تمتدّ مِن الشمال إلى الجنوب، مِن الشرق إلى الغرب، حيثما يوجد كائن يملك روحاً في جسده، أي حيثما يوجد إنسان. فكيف كان يمكن لواحد أن يجمع في ذاته كلّ الشعوب المتناحرة في ما بينها، ويجعل منها مملكة واحدة، مِن دون إهراق أنهار دم، ومِن دون إخضاعها كلّها باضطهاد المحاربين الجائر؟ وكيف كان يمكنه إذاً أن يكون الـمَلِك المحبّ للسلام الّذي تكلّم عنه الأنبياء؟
في الوسائل: قلتُ، إنّ الاضطهاد هو الوسيلة البشريّة لتحقيق ذلك. أمّا الوسيلة الفائقة للبشر فهي المحبّة. الاضطهاد محدود دوماً لأنّ الشعوب تنتهي إلى الثورة ضدّ الـمُضطَهِد. أمّا المحبّة فغير محدودة لأنّها محبوبة، وحتّى ولو لم تكن محبوبة، وكانت عُرضة للاستهزاء، وبما أنّها أمر روحيّ، فلا يمكن أبداً مهاجمتها مباشرة. والله، اللامتناهي، يريد وسائل تشبهه. يريد ما ليس له نهاية، لأنّه أزليّ: الروح، ما يعود إلى الروح؛ ما يقود إلى الروح. وهذا كان الخطأ: أنّ البشر تخيّلوا فكرة مسيحانيّة مغلوطة في الأساليب وفي الشكل.
ما هي الـمَلَكيَّة الأسمى؟ مَلَكيَّة الله. أليس كذلك؟ إذاً هذا الرائع، هذا العمانوئيل، هذا القدّوس، هذا البذرة الأسمى، هذا القويّ، أبو الدهر الآتي هذا، أمير السلام هذا، هذا الله الـمُساوي للّذي يأتي منه، لأنّه هكذا دُعي، وهكذا هو مَسيّا، ألا تكون له مَلَكيَّة مشابهة لـمَلَكيَّة مَن وَلَدَه؟ نعم، سينالها. مَلَكيَّة روحيّة تماماً وأبديّة، مُنـزَّهة عن العنف والدم، مُنـزَّهة عن الخيانات والمظالم. مَلَكيّته هو! تلك الّتي تمنحها الرحمة الأبديّة أيضاً للمساكين، لتكريم كلمته ومسرّته.
إنّما ألم يقل داود إن هذا الـمَلِك القادر امتلك تحت قدميه كلّ شيء ليقوم له مقام الـمِرقاة؟ ألم ينطق إشَعياء بكلّ آلامه وألم يُعدِّدها داود، ويمكن القول، أيضاً كلّ عذاباته؟ ألم يُقَل أنّه هو المخلّص والفادي، الّذي بمحرقته سيُخلّص الإنسان الخاطئ؟ ألم يكن مُوَضَّحاً، ويونان هو الرّمز لذلك، أنّ جوف الأرض النَّهِم سيبتلعه لثلاثة أيّام، ومِن ثمّ يَخرج منه كما خرج النبيّ مِن بطن الحوت؟ وألم يَقل هو: "هيكلي، أي جسدي، في اليوم الثالث بعد أن يدمّر، سيُعاد بناؤه بذاتي (أي بالله)؟" وماذا كنتما تعتقدان؟ أنّه بسحر سيعيد رفع أنقاض الهيكل؟ لا. لم يكن يقصد الجدران، بل كان يقصد نفسه. والله وحده كان يستطيع إقامة نفسه بنفسه مِن الموت. هو رفع الهيكل الحقيقيّ: جسده جسد الحَمَل. الـمُضحَّى به، كما تلقّى موسى الأمر والنبوءة، لتحضير "الانتقال" مِن الموت إلى الحياة، مِن العبوديّة إلى الحريّة، للبشر أبناء الله وعبيد الشيطان.
تتساءلان: "كيف قام؟" أجيب: قام بجسده الحقيقيّ وبروحه الإلهيّ الّذي يسكنه، كما في كلّ جسد فانٍ تسكن النَّفْس، كمَلِكة في القلب. هكذا قام بعدما كابد كلّ الآلام ليُكفّر عن كلّ شيء، ويرفَعَ الإساءة الأصليّة، والإساءات اللامتناهية الّتي تنجزها البشريّة كلّ يوم. قام كما كان يُقال تحت سِتار النبوءات. أتى في موعده، أذكّركما بدانيال، ضُحّي به في موعده. واسمعا وتذكّرا، أنّه في الوقت المتنبّأ به بعد موته سوف تُدَمَّر المدينة القاتلة لله.
أنصحكما بأن تفعلا هذا. اقرأا الأنبياء، بالنَّفْس وليس بالروح المتكبّر، مِن بداية الكتاب إلى كلمات "الكَلِمة" المضحّى به؛ تذكّرا السابق الّذي كان يصفه بالحَمَل، تذكّرا ما كان مصير حَمَل موسى الرمزيّ. الّذي به خلص أبكار إسرائيل، وبذلك الدم سوف يُخَلَّص أبكار الله، أي الّذين بإرادتهم الصالحة يتكرَّسون للربّ. تذكّرا وافهما مزمور داود المسيحانيّ والنبيّ إشَعياء المسيحانيّ. تذكّرا دانيال، استعيدا في ذاكرتكما، إنّما ارفعاها مِن الوحل إلى الزُرقة السماويّة، كلّ الكلام عن مَلَكيَّة قدّوس الله، فتفهمان أنَّ ما مِن علامة أكثر صحّة وأكثر قوّة كانت لتُمنَح لكما أكثر مِن هذا الانتصار على الموت، مِن هذه القيامة الّتي حقّقها بنفسه. تذكّرا أنّ الأمر كان ليناقض رحمته ورسالته أن يُعاقِب مِن على الصليب هؤلاء الّذين كانوا قد عَلَّقوه عليه. كان لا يزال المخلّص، حتّى لو كان المصلوب الـمُحتَقَر والـمُسَمَّر على خشبة! مصلوبة كانت الأطراف، إنّما روحه وإرادته كانا حرّين. وبهما أراد أن ينتظر، لإعطاء أولئكَ الخطأة الوقت ليؤمنوا وينادوا دمه عليهم، ليس بصيحات تجديفيّة، بل بتأوّهات ندامة.
الآن قام. لقد أتمّ كلّ شيء. كان مجيداً قبل تجسّده. والآن أصبح مُمَجَّداً ثلاثة أضعاف، حيث بعدما تلاشى خلال أعوام كثيرة في جسد، ضحّى بنفسه، رافعاً الطاعة إلى كمال القدرة على الموت على الصّليب لإتمام مشيئة الله. ومجيداً جدّاً، بجسده الممجَّد، الآن يصعد إلى السماء، ويدخل المجد الأبديّ، بادِئاً الـمُلكَ الّذي لم يفهمه إسرائيل. وإلى هذا الملكوت، وبشكل أكثر إلحاحاً مِن أيّ وقت، بمحبّته، والسلطان الممتلئ به، هو يدعو قبائل العالم. وكلّ الشعوب، كما رأى ذلك وتنبّأ أبرار إسرائيل والأنبياء، كلّ الشعوب ستأتي إلى المخلّص. ولن يعود هناك يهود أو رومانيّون، إسكيتيّون أو أفارقة، إيبيريّون أو كلتيّون، مصريّون أو فريجيّون. أراضي ما وراء الفرات ستتّحد بمنابع النهر الأبديّ. أهل الاصقاع الشماليّة سيأتون إلى جانب النوميديّين إلى ملكوته، وستسقط الأعراق والألسُن. ولن يعود للتقاليد وألوان البشرة والشعر وجود، إنّما سيكون هناك شعب لا مُتناه مُتألّق ونقيّ، لغة واحدة، محبّة واحدة. سيكون ملكوت الله، ملكوت السماوات. مَلِك أزليّ: الـمُضحّى به القائم مِن الموت. رعايا أبديّون: الّذين يؤمِنون بإيمانه. آمِنا، في سبيل أن تنتميا إليه.
ها هي عِمّاوس أيّها الصديقان. أنا ذاهب إلى أبعد مِن ذلك. ليس مسموحاً التوقّف للمسافر الّذي عليه قطع درب طويل.»
«يا سيّد، أنتَ أكثر ثقافةً مِن رابّي. لو لم يكن هو ميتاً، لقلنا إنّه هو الّذي كلّمنا. نودّ أيضاً أن نسمع منكَ حقائق أخرى وأكثر تَوَسُّعاً. فنحن الآن خَرُوفان بلا راعٍ، وقد تشتّتنا بفعل عاصفة حقد إسرائيل، ولم نعد قادريَن على إدراك كلمات الكتاب. أتريد أن نأتي معكَ؟ أُنظُر: تعلّمنا أنتَ بعد لإكمال عمل الـمعلّم الّذي انتُزِع منّا.»
«لقد حظيتُما به لوقت طويل، ألم تستطيعا أن تنالا ثقافة كاملة؟... أليس هذا معبداً؟»
«بلى. وأنا كِلْيوباس بن كِلْيوباس، رئيس المعبد، الميت بالفرح الّذي حصل عليه كونه عرف المسيح.»
«ولم تنجح بعد في الإيمان بجلاء؟ لكنّها ليست غلطتكم. بعد الدم ما تزال تنقص النار. ومِن ثمّ ستؤمنون لأنّكم ستفهمون. وداعاً.»
«أيا سيّد، المساء يدنو والشمس تشرع بالمغيب. متعب أنتَ، وعطشان. ادخل. امكث معنا. سوف تُكلّمنا عن الله فيما نتقاسم الخبز والملح.»
يدخل يسوع ويخدمانه بالضيافة العبرانيّة المعتادة، مقدّمَين له الشراب والماء لقدميه المتعبتين.
ثمّ يجلسون إلى المائدة، والاثنان يرجوانه أن يقدّم لأجلهما الطعام.
ينهض يسوع، ممسكاً الخبز في راحتيّ يديه، ورافعاً عينيه نحو سماء المساء الحمراء، يقدّم الشكر على الطعام ويجلس. يقسم الخبز ويعطي منه إلى مضيفَيه، وفيما يفعل ذلك يكشف عمّا هو عليه: القائم مِن الموت.
ليس القائم مِن الموت المتألّق الّذي ظهر للآخرين الأعزّاء عليه جدّاً، بل هو يسوع ملؤه الجلال، بجروح واضحة جدّاً على يديه الطويلتين: زهرية حمراء فوق بياض جلده العاجيّ. يسوع مفعم بالحياة في جسده المعاد تكوينه، إنّما هو حقّاً الله في جلال نظرته ومظهره كلّه.
يتعرّف إليه الاثنان ويسقطان على ركبتيهما... إنّما حين يجرؤان على رفع وجهيهما، لم يكن باقياً منه سوى الخبز المقسوم.
يأخذان الخبز ويُقَبّلانه. كلّ يأخذ قطعته، وبعد أن يلفّها في قماش، يضعها كذخيرة على صدره.
يبكيان قائليَن: «كان هو! ولم نتعرّف إليه، ومع ذلك ألم تشعر بأن قلبكَ كان يحترق في صدركَ بينما كان يكلّمنا ويشرح لنا الكُتُب؟»
«بلى. والآن يبدو لي أنّني أراها مجدّداً. وفي النور الآتي مِن السماء، نور الله. وأرى أنّه هو المخلّص.»
«لنذهب. أنا لم أعد أشعر بالجوع والتعب. هيّا لنذهب ونقول ذلك لأتباع يسوع، في أورشليم.»
«لنذهب. آه! لو أمكن لأبي العجوز التمتّع بهذه الساعة!»
«إنّما لا تقل ذلك! هو تمتّع بذلك أكثر منّا. إنّ البارّ كِلْيوباس قد رأى بروحه ابن الله يدخل السماء، مِن دون الحجاب الّذي استخدمه الآن إشفاقاً على ضعفنا الجسدي. هيّا! لنذهب! سوف نصل في منتصف الليل، إنّما إذا شاء هو ذلك، فسوف يساعدنا على العبور. فإذا فتح أبواب الموت، فبإمكانه بالتأكيد فتح أبواب الأسوار! هيّا!»
وفي المغيب الأرجواني تماماً، يمضيان على عَجَل باتجاه أورشليم.