ج7 - ف212

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

212- (باتّجاه جبعون)

 

18 / 10 / 1946

 

إنّما لا يمكن ليسوع البقاء طويلاً مع أفكاره. فيوحنّا وابن عمّه يعقوب، ثمّ بطرس مع سمعان الغيور، يلحقون به للفت انتباهه إلى المشهد البانورامي الّذي يُرى مِن أعلى الرابية. وقد يكون ذلك بقصد تسليته، فيظهر جليّاً أنّه حزين جدّاً، إنّهم يستذكرون الأحداث الّتي حصلت في المناطق الواقعة تحت النظر. الرحلة إلى أشقلون... بيت الفلاّحين في سهل شارون، حيث أعاد يسوع النظر للعجوز أبي جملا ويعقوب... خلوة يسوع ويعقوب في الكرمل... القيصريّة البحريّة وأوريا غالاّ الشابة... اللقاء بسِنْتيخي... الوثنيّون في يافا... السارقون في مودين... معجزة الحصاد في بيت يوسف الذي مِن الرّامة... العجوز اللقّاطة صغيرة القدّ... نعم، كلّ الأمور المفرحة... إنّما الّتي فيها، بالنسبة للجميع أو بالنسبة إليه وحده، تمتزج دموع وذكرى ألم. هذا ما يلاحظه الرُّسُل ويتمتمون: «حقّاً في أمور الأرض كلّها هناك ألم. إنّها موضع تكفير...»

 

ولكن بالضبط كذلك إندراوس، الّذي انضمّ إلى المجموعة مع يعقوب بن زَبْدي، يلاحظ: «إنّها شريعة عادلة بالنسبة لنا نحن الخطأة. أمّا بالنسبة إليه، لماذا كلّ هذا الألم؟»

 

ويجري حِوار هادئ، ويبقى هكذا حتّى عندما ينضمّ الآخرون إلى المجموعة منجذبين بأصوات الأوّلين. ما عدا يهوذا المنشغل جدّاً وسط البسطاء، الّذين يعلّمهم مقلّداً صوت وحركات وفِكر المعلّم؛ ولكنّه تقليد مسرحيّ، مفخّم، يفتقر إلى حرارة الإقناع، ومستمعوه يقولونه له ذلك حتّى دون مواربة، وهذا ما يُغضِب يهوذا ويتّهمهم بغلاظة الذهن وبالتالي بعدم الفهم. ويُعلِن لهم أنّه يتركهم إذ «لا ضرورة لإلقاء جواهر الحكمة للخنازير.» وحينذاك يتوقّف، ذلك أن البسطاء، المذلولين، يرجونه أن يكون مشفقاً مع الإقرار بأنّهم «دونه مستوى كما أنّ الحيوان أدنى مستوى مِن الإنسان.»…

 

يسوع غير منتبه لما يقول الأحد عشر حوله، ذلك أنّه يستمع لما يقوله يهوذا، وما يسمعه لا يُسرّه بالتأكيد... ولكنّه يتنهّد ويصمت، إلى أن يثير برتلماوس اهتمامه بشكل مباشر، طارحاً مختلف وجهات النظر حول فكرة لماذا هو، البريء مِن الخطيئة، عليه أن يتألّم.

 

يقول برتلماوس: «أؤكّد أنّ هذا يحصل لأنّ الإنسان يكره مَن هو صالح. أتحدّث عن الإنسان الآثم، أعني الأكثريّة. هذه الأكثريّة تدرك أنّ بالمقارنة مع مَن هو بلا خطيئة، يبرز ذنبها أكثر، رذائلها، وبسبب امتعاضها تنتقم بجعل الصالح يتألّم.»

 

«أنا، مِن جهتي، أؤكّد أنّكَ تتألّم مِن التباين بين كمالك وبؤسنا. حتّى ولو لم يكن أحد يحتقركَ ولا بأيّ شكل، فسوف تتألّم بنفس الشكل، ذلك أنّه ينبغي لكمالكَ أن يختبر اشمئزازاً مؤلماً مِن خطايا البشر.» يقول يوضاس تدّاوس.

 

«أنا، على العكس، أؤكّد بأنّكَ لكونكَ لستَ خالياً مِن الإنسانيّة، فأنتَ تتألّم مِن الجهد المبذول، في الجزء فائق الطبيعة، في مقاومة ثورات إنسانيّتكَ ضدّ أعدائكَ.» يقول متّى.

 

«وأنا، حتماً سوف أخطئ كوني غبيّاً، أقول إنّكَ تتألّم على العكس لرؤيتكَ أنّ محبّتكَ مرفوضة. لستَ تتألّم لعدم قدرتكَ على المعاقبة كما يمكن أن يرغب به الجانب البشريّ، ولكنّكَ تتألّم لعدم قدرتكَ على فِعل الخير كما تريد.» يقول أندراوس.

 

«أخيراً، أنا أؤكّد أنّكَ تتألّم لأنّ عليكَ أن تتألّم كلّ الألم لافتداء كلّ الألم. حيث لا تهيمن فيكَ واحدة مِن الطبيعتين، إنّما هاتان الطبيعتان هما متماثلتان فيكَ، مؤسّستان على توازن كامل، لتشكيل الضحية الكاملة، فائقة الطبيعة بشكل تملك معه القدرة على تهدئة الإساءة المرتكبة ضدّ الألوهة، إنسانيّة لدرجة إمكانيّة تمثيل الإنسانيّة وإعادتها إلى حالة البِلا دنس الّتي كانت لآدم الأوّل لإلغاء الماضي وتكوين إنسانيّة جديدة. إعادة خلق إنسانيّة جديدة تُوافق فِكر الله، أي إنسانيّة توجد فيها بالحقيقة صورة الله وشبهه ومصير الإنسان: امتلاك، إمكانيّة الطموح لامتلاك الله في ملكوته. ينبغي لكَ أن تتألّم بشكل فائق الطبيعة، وتتألّم، لكلّ ما تراه يجري وممّا يحيط بكَ، إذا أمكنني القول، في الإساءة الدائمة لله. وعليك أن تتألّم إنسانيّاً، وتتألّم، لتسحق فسق جسدنا الّذي سمّمه الشيطان. فبالألم التامّ للطبيعتين الكاملتين ستلغي بالتمام الإساءة لله، خطيئة الإنسان.» يقول الغيور.

 

يصمت الآخرون. يسألهم يسوع: «وأنتم، ألا تقولون شيئاً؟ بحسب رأيكم ما هو التحديد الأصحّ؟»

 

البعض يقفون مع الواحد، آخرون مع آخر. وحده يعقوب بن حلفى يصمت مع يوحنّا.

 

«وأنتما الإثنان، ألا توافقان أيّ واحد؟» يحفّزهما يسوع.

 

«لا. فنحن نجد في كلّها بعض الحقيقة، أو الكثير مِن الحقيقة. ولكنّنا نشعر بافتقارها للحقيقة الأصحّ.»

 

«وألا تعرفون إيجادها؟»

 

«ربّما أنا ويوحنّا قد وجدناها، إنّما يبدو لنا قولها وكأنّه تجديفاً إذ... إنّنا إسرائيليّان صالحان، ونخاف الله، تقريباً إلى حدّ عدم القدرة على ذكر اسمه. وبالتفكير أنّ، إذا ما كان إنسان مِن الشعب المختار، إنسان ابن الله، لا يمكنه تقريباً أن يلفظ الاسم المبارك ويبتدع بدائل لتسمية إلهه، فهل يمكن للشيطان التجرّؤ على الإساءة لله، ويبدو لنا ذلك فكراً تجديفيّاً. ومع ذلك، نشعر أنّ الألم لا يكفّ عن العمل تجاهكَ لأنّكَ الله، والشيطان يكرهكَ. يكرهكَ كما لا أحد. إنّكَ تجد الكراهية، يا أخي، لأنّكَ الله.» يقول يعقوب.

 

«نعم، تلقى الكراهية لأنّكَ المحبّة. ليس الفرّيسيّون، أو الرابّيين، ليس هذا أو ذاك، وليس لأجل هذا أو ذاك، هم يَهبّون لإيلامكَ. هي الكراهية الّتي تخترق الناس وتجعلهم يهبّون ضدّكَ، طافحين بالكراهية، لأنّكَ بمحبّتكَ تنتزع الكثير مِن الفرائس مِن الكراهية.» يقول يوحنّا.

 

«ما زالت واحدة مِن التعريفات العديدة تنقص. إبحثوا عن الفكرة الأصحّ. تلك الّتي مِن أجلها أنا موجود...» يقول يسوع لتشجيعهم.

 

لا أحد يصل إلى شيء. يفكّرون ويفكّرون. يستسلمون قائلين: «لا نجد...»

 

«الأمر في غاية البساطة. هو أمامكم على الدوام. يتردّد في كلام كتبنا، في أُطُر تاريخنا... هيّا، ابحثوا! في كلّ تعريفاتنا، هناك ما هو صحيح، إنّما تنقص العلّة الأولى. ابحثوا عنها، ليس في الحاضر، بل في الماضي الأكثر بُعداً، فيما قبل الأنبياء، قبل الأحبار، قبل إنشاء العالم...»

 

يفكّر الرُّسُل... ولكنّهم لا يصلون إلى شيء.

 

يبتسم يسوع. ثمّ يقول: «ومع ذلك، لو كنتم تتذكّرون كلامي، لكنتم تجدون السبب. ولكنّكم ما زلتم لا تستطيعون تذكّر كلّ شيء. ومع ذلك، ستتذكّرون يوماً. اسمعوا. فلنعد معاً عبر العصور، وصولاً إلى ما وراء حدود الزمن. إنّ الّذي أفسد روح الإنسان، أنتم تعرفونه. إنّه الشيطان، الحيّة، الخصم، العدوّ، الكراهية. سمّوه ما شئتم. ولكن لماذا أفسده؟ بسبب حسد عظيم: ذلك الّذي هو رؤية الإنسان مُعدّاً للسماء مِن حيث طُرد هو. لقد أراد للإنسان المنفى الّذي ناله. لماذا طُرد؟ لكونه قد ثار ضدّ الله. أنتم تعرفون ذلك. ولكن في أيّ شيء. في الطاعة. فالعصيان كان بداية الألم. وإذاً، أليس منطقيّاً بالضرورة، مِن أجل إعادة النظام -الّذي هو فرح دائماً- إلى نصابه، ينبغي أن تكون هناك طاعة كاملة؟ الطاعة صعبة، خاصّة إذا كانت تتعلّق بأمر بالغ الأهمّيّة. ما هو صعب يسبّب الألم لِمَن ينجزه. فكّروا إن أنا، الذي طلبت منّي المحبّة إن كنت أريد أن أعيد الفرح لأبناء الله، لا ينبغي لي أن أتألّم بشكل لا نهائيّ لإنجاز الطاعة لفِكر الله. عليّ إذاً التألّم للانتصار، لأمحو ليس خطيئة واحدة أو ألفاً، بل الخطيئة ذاتها مِن أعلى درجة، الّتي هي في الروح الملائكيّ للوسيفوروس أو في الّذي كان يحثّ آدم، التي كانت وستبقى على الدوام، إلى آخر إنسان، خطيئة عدم الطاعة لله. إنّ طاعتكم أيّها الناس، هي مقتصرة على القليل -الّذي يبدو لكم كثيراً جدّاً، بينما هو قليل للغاية- القليل الّذي يطلبه منكم الله. إنّه بعدله، يطلب منكم فقط ما يمكنكم إعطاءه.

أنتم، مِن مشيئة الله، تعرفون فقط ما يمكنكم إنجازه. أمّا أنا، فأعرف فِكره بالكامل، الأحداث الأعظم والأصغر. بالنسبة لي، لا حدود للمعرفة والإنجاز. العاشق المضحّي، إبراهيم الإلهي، الذي لا يوفّر الضحيّة وابنه. إنّه [الله] المحبّة غير الـمُشبَعَة والـمُساء إليها التي تتطلّب تكفيراً وتقدمة. ولو كنتُ أعيش ألف وألف سنة، لا يكون ذلك شيئاً إن لم أكن أستهلك الإنسان حتّى آخر تيلة فيه، كذلك كما لم يكن ليوجد شيء مِن الأبديّة كلّها لو لم أكن قد قلتُ "نعم" لأبي، مستعدّاً للطاعة، كما الله الابن وكما إنسان، للّحظة الّتي وجدها أبي مناسبة.

الطاعة ألم ومجد. الطاعة كالروح، لا تموت أبداً. الحقّ أقول لكم إنّ المطيعين الحقيقيّين يصبحون آلهة، إنّما بعد صراع دائم ضدّ ذواتهم، العالم والشيطان. الطاعة نور. كلّما كان المرء مطيعاً كلّما كان مستنيراً ويرى بوضوح. الطاعة صبر، وكلّما كان المرء مطيعاً، كلّما كان مُحتَمِلاً للأمور والأشخاص. الطاعة تواضع، وكلّما كان المرء مطيعاً، كلّما كان متواضعاً مع القريب. الطاعة محبّة، ذلك أنّها فِعل محبّة، وكلّما كان المرء مطيعاً، كلّما كانت الأفعال عديدة وكاملة. الطاعة بطولة. والبطل بالروح هو القدّيس، ساكن السماوات، الإنسان المؤلَّه. إذا كانت المحبّة هي الفضيلة الّتي فيها يجد المرء الله الواحد والثالوث، فالطاعة هي الفضيلة الّتي يجدني المرء فيها، أنا، معلّمكم. إجعلوا العالم يتعرّف على تلاميذي بالطاعة المطلقة لكلّ ما هو مقدّس. نادوا يهوذا. عندي شيئاً أقوله له كذلك...»

 

يهرع يهوذا. يشير يسوع إلى المشهد البانورامي الّذي يضيق طالما يتمّ النزول، ويقول: «مَثَل صغير لكم، أنتم معلّمي الأرواح المستقبليّين. سترون بأكثر وضوحاً كلّما ارتقيتم في طريق الكمال الـمُتعِبة والشاقّة. نحن، كنا قبلاً نرى سهليّ غير المستنيرين وشارون، بالإضافة لقرى كثيرة، لحقول وبساتين، حتّى اللازورد البعيد الّذي كان البحر الكبير، والكرمل الأخضر هناك، في العمق. الآن، لا نرى إلاّ الشيء القليل. الأفق يضيق، وسيضيق أكثر فأكثر حتّى يتلاشى في عمق الوادي. الأمر ذاته يحصل للروح الّذي ينحدر بدل أن يرتقي. وتصبح فضيلته وحكمته أكثر محدوديّة على الدوام، ويصبح حكمه قصير المدى على الدوام حتّى يضمحلّ. حينئذ يموت معلّم الروح عن رسالته. فلا يعود يميّز ولا يعود يستطيع القيادة. جيفة هو، وقد يُفسِد كما أفسد ذاته. الانحدار يشدّ أحياناً، يكاد يشدّ دائماً، لأنّ في الأسفل يوجد ما يُشبِع الأحاسيس. نحن كذلك، ننحدر إلى الوادي كي نجد الراحة والغذاء، ولكن إن كان ذلك ضروريّاً لجسدنا، فهو ليس ضروريّاً لإشباع الشهيّة الحسّيّة وكسل الروح بالانحدار إلى وديان الشهوانيّة المعنويّة والروحيّة. ليس هناك سوى وادٍ واحد يُسمَح ببلوغه، هو وادي التواضع. إنّما لأنّ الله ذاته ينحدر إليه ليحمل الروح المتواضع كي يرفعه إليه. فمَن يتواضع سوف يُرفَع. كلّ وادٍ آخر مميت، ذلك أنّه يُبعِد عن السماء.»

 

«أمن أجل هذا دعوتَني، يا معلّم؟»

 

«مِن أجل هذا. لقد تحدّثتَ كثيراً مع الّذين كانوا يسألونكَ.»

 

«نعم، ولم يكن ذلك مجدياً. فتفكيرهم أصلب مِن البغال.»

 

«وأنا، أردت أن أضع فكرة حيث تلاشى كلّ شيء. ذلك لكي تتمكّن مِن تغذية روحكَ.»

 

ينظر إليه يهوذا مذهولاً. لم يعرف إذا ما كان ذلك نعمة أم لوماً. الآخرون الّذين لم يكونوا قد انتبهوا لحديث يهوذا مع الّذين كانوا يتبعونهم، لم يدركوا أن يسوع يلوم يهوذا على كبريائه.

 

يُفضّل يهوذا أن يحوّل النقاش بحذر إلى منحى آخر ويَسأَل: «يا معلّم، ما رأيكَ؟ هؤلاء الرومان، مثل رجل بترا، هل سيتمكّنون مِن التوصّل إلى مذهبكَ، وهم الّذين يتّصلون بكَ بشكل محدود جدّاً؟ إسكندر هذا؟ لقد مضى... لم نعد نراه. وهؤلاء الآخرين كذلك. تحسب أنّ فيهم بحثاً غريزيّاً عن الحقيقة، ولكنّهم غارقون في الوثنيّة حتّى الـمِرفَق. هل سينجحون في استنتاج شيء مِن الصلاح؟»

 

«تريد القول في إيجاد الحقيقة؟»

 

«نعم يا معلّم.»

 

«ولماذا يُفتَرَض ألاّ ينجحوا؟»

 

«لأنّهم خطأة.»

 

«أما مِن خطأة غيرهم؟ أليس بيننا منهم؟»

 

«كثيرون، أفترض ذلك. ولكنّني لذلك بالتحديد أقول أنّه إن كنّا نحن، وقد اغتذينا بالحكمة والحقّ منذ عصور، خطأة ولا نتوصّل لأن نصبح أبراراً باتّباع الحقّ الّذي تمثّله أنتَ، فكيف سيتمكّنون مِن فِعل ذلك، وهم الـمُشبَعون مِن النجاسة كما هم عليه؟»

 

«يمكن لكلّ إنسان أن يلتقي ويمتلك الحق، أي الله، مهما تكن نقطة انطلاقه للوصول. عندما لا يكون هناك كبرياء في الفِكر وفساد في الجسد، بل بحث صادق عن الحقّ والنور، صفاء النيّة والانجذاب نحو الله، يكون المخلوق بالتأكيد على طريق الله.»

 

«كبرياء الفِكر... وفساد الجسد... يا معلّم... إذاً...»

 

«أَكمِل فكرتكَ الّتي هي جيّدة.»

 

يُراوغ يهوذا، ثمّ يقول: «إذاً فهم لا يستطيعون اللقاء بالله، لأنّهم مُنحطّون.»

 

«ليس هذا ما كنتَ تريد قوله يا يهوذا. فلماذا أسكتَّ فكرتكَ وضميركَ؟ آه! كم هو صعب على الإنسان أن يرتقي صوب الله! والعائق الأكبر هو في داخله، حيث لا يريد الاعتراف والتفكير بنفسه وبنقائصه. في الحقيقة كذلك غالباً ما يُفترى على الشيطان، بإلقاء كلّ سبب للانهيار الروحي عليه. ويُفتَرى كذلك على الله بأن تُنسَب إليه كلّ الأحداث. إنّ الله لا يغتصب أبداً حرّيّة الإنسان. ولا يمكن للشيطان أن يسود على إرادة ثابتة في الخير. الحقّ أقول لكم إنّ سبعين في المائة يخطئ الإنسان بمحض إرادته. و -لا يتمّ التفكير في ذلك، لكنّه هكذا- ولا ينهض مِن الخطيئة لأنّه يرفض فحص ضميره، وحتّى إذا ما ضميره، بحركة غير متوقّعة، يهبّ في داخله ويصرخ طالباً الحقيقة الّتي لم يرد الاقتداء بها، فالإنسان يخنق الصرخة هذه، يكبت هذا التنبيه الّذي ينتصب أمام فكره صارماً وحزيناً، ويجهد في تبديل فكرته الموحى بها بالصوت الـمُتَّهِم، ويأبى أن يقول على سبيل المثال: "فإذاً نحن، أنا، لا نستطيع بلوغ الحقيقة لأنّنا نملك كبرياء الفِكر وفساد الجسد". نعم، في الحقيقة، نحن لا نتقدّم على طريق الله لأنّ فينا كبرياء الفِكر وفساد الجسد، كبرياء هو في الحقيقة منافس لكبرياء الشيطان، لدرجة الحكم أو عرقلة أعمال الله، عندما تكون مُعاكِسة لمصالح البشر أو الفِرَق. وهذه الخطيئة تجعل إسرائيليّين كثيرين مدانين أبديّاً.»

 

«لسنا جميعنا هكذا، مع ذلك.»

 

«لا. ما زالت هناك أرواح صالحة في كلّ الفئات. أكثر عدداً هم بين المتواضعين مِن الشعب، أكثر منه بين العلماء والأغنياء. إنّما يوجد. ولكن كم يوجد؟ كم، بالنسبة إلى شعب فلسطين هذا الّذي أبشّره منذ حوالي ثلاث سنوات وأغمره بالإحسانات الّتي أُنهِك ذاتي لأجلها؟ توجد نجوم في ليلة غائمة أكثر مِن الأرواح في إسرائيل المصمّمة على المجيء إلى ملكوتي.»

 

«والوثنيّون، هؤلاء الوثنيّون، هل يأتون؟»

 

«ليس جميعهم، إنّما كُثُر. وكذلك وسط تلاميذي أنفسهم، لا يثبت جميعهم إلى المنتهى. ولكن دعونا ألّا ننشغل بالثمار الّتي تسقط عن الأغصان لفسادها! فلنسعَ، ما أمكن، إلى عدم تركها تفسد، بالوداعة، الثبات، الملامات والغفران، الصبر والمحبّة. بعد ذلك، عندما يقولون "لا" لله وللإخوة الّذين يريدون خلاصهم، وعندما يرتمون بين ذراعيّ الموت، الشيطان، ويموتون غير تائبين، فلنخفض رؤوسنا ونقدّم لله ألمنا لعدم تمكّننا مِن منحه الفرح بخلاص هذه النَّفْس. كلّ معلّم يعرف هذه الانكسارات. وتساهم هي كذلك في قهر كبرياء المعلّمين الروحيّين واختبار ثباتهم في رسالتهم. يجب ألاّ يُتعِب الانكسار إرادة المربّي الروحيّ، بل بالعكس يجب أن يدفعه إلى العمل أكثر وأفضل في المستقبل.»

 

«لماذا قلتَ لقائد العشرة أنّكَ ستراه على أحد الجبال؟ كيف ستتمكّن مِن معرفته؟»

 

ينظر يسوع إلى يهوذا نظرة طويلة وغريبة، حيث يمتزج الحزن بالابتسامة، ويقول: «لأنّه سيكون واحداً مِن الحاضرين لدى ارتفاعي، وسيقول لعظيم أحبار إسرائيل كلمة حقّ صارمة. ومنذ تلك اللحظة، سيبدأ مسيرته الأكيدة صوب النور. إنّما ها نحن في جبعون. فليمضِ بطرس مع سبعة آخرين للإعلان عنّي. سأتحدّث في الحال لأصرف سكان القرى المجاورة الّذين يتبعونني. الآخرون يمكثون معي إلى ما بعد السبت. أنتَ يا يهوذا، أُمكث مع متّى، سمعان وبرتلماوس.»

 

(لم أتعرّف في قائد العشرة على أحد الجنود الحاضرين أثناء الصلب. إنّما ينبغي لي القول كذلك أنّني، إذ كنتُ مأخوذة بملاحظة يسوع فلم أنتبه لهم. بالنسبة لي،كانوا مجموعة جنود مصطفّين في الخدمة، ليس أكثر. عدا ذلك، عندما استطعتُ ملاحظتهم لأنّ «الكلّ قد تمّ.»، كان هناك نور ضعيف لدرجة أنّ الوجوه المعروفة جدّاً وحدها كان يمكن التعرّف عليها. أفكّر مع ذلك، بحسب كلام يسوع، أنّه الجنديّ الّذي قال لغَمَالائيل كلاماً لا أتذكّره، ولا يمكنني التحقّق لأنّني وحدي ولا يمكنني الحصول على دفتر الآلام من أحد.)